أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-5-2019
41365
التاريخ: 6-5-2019
30044
التاريخ: 7-5-2019
3442
التاريخ: 9-8-2019
2258
|
قال تعالى : {وجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( 138 ) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ( 139 ) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ( 140 ) وإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الأعراف : 138-141] .
قال تعالى : {وجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف : 138-139] .
أخبر الله سبحانه عن أحوال بني إسرائيل ، فقال {وجاوزنا ببني إسرائيل} : أي : قطعنا بهم {البحر} يعني النيل : نهر مصر ، بأن جعلنا لهم فيه طرقا يابسة ، حتى عبروا ، ثم أغرقنا فرعون وقومه فيه {فأتوا} أي : فمروا {على قوم يعكفون على أصنام لهم} أي : يقبلون عليها ، ملازمين لها ، مقيمين عندها ، يعبدونها . قال قتادة : كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولا بالرقة ، وقال ابن جريج : كانت تماثيل بقر . وذلك أول شأن العجل .
{قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} أي : أنصب لنا شيئا نعبده ، كما لهم أوثان يعبدونها ، وهذا كفر ربما قاله الجهال من قومه ، دون المؤمنين الأخيار ، وإنما قالوا ذلك ، لأن الانسان يحن إلى ما يراه لغيره ، فيحب أن يكون له مثل ما لغيره . وفي هذا دلالة على عظيم جهلهم بعدما رأوا الآيات المترادفة ، والمعجزات ، من حيث توهموا أنه يجوز عبادة غير الله تعالى ، ولم يعرفوا أن المجعول لا يكون إلها وأن الأصنام لا تكون آلهة . ويمكن أن يكونوا قد ظنوا أنه يجوز أن يتقرب إلى الله تعالى بعبادة غيره ، وإن اعتقدوا أنه لا يشبه الأشياء ، ولا تشبهه ، ولم يكونوا مشبهة كما حكى الله سبحانه عن المشركين أنهم قالوا : {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} .
{قال إنكم قوم تجهلون} هذه حكاية عما أجابهم به موسى عليه السلام ، أي :
تجهلون ربكم ، وعظمته ، وصفاته ، ولو عرفتموه حق معرفته ، لما قلتم هذا القول ، عن الجبائي . وقيل : تجهلون نعمة ربكم فيما صنع بكم ، عن ابن عباس .
{إن هؤلاء} يعني القوم الذين عبدوا الأصنام {متبر} أي : مدمر ، مهلك {ما هم فيه} من عبادة الأصنام ، {وباطل ما كانوا يعملون} أي : باطل عملهم ، لا يجدي عليهم نفعا ، ولا يدفع عنهم ضرا ، فكأنه بمنزلة من لم يكن من هذا الوجه .
فالبطلان : انتفاء المعنى بعدمه ، أو بأنه لا يصح معتقده ، فالأول : كبطلان البناء بالهدم ، والثاني : كبطلان إله آخر مع الله ، لأنه لا يصح في عدم ، ولا وجود .
{قال} يعني : قال موسى لقومه بعد ازرائه على الأصنام ، وعلى من كان يعبدها : {أغير الله أبغيكم} أي : ألتمس وأطلب غير الله لكم ، فحذف حرف الجر ، فوصل الفعل بقوله : {واختار موسى قومه} أي : من قومه {إلها} أي :
معبودا تعبدونه سوى الله {وهو فضلكم على العالمين} أي : على عالمي زمانكم ، عن الحسن ، والجبائي . وقيل : معناه وهو سبحانه خصكم بفضائل لم يعطها أحدا غيركم ، وهو أن أرسل إليكم رجلين منكم ، لتكونوا أقرب إلى القبول ، وخلصكم من أذى فرعون وقومه على أعجب وجه ، وأورثكم أرضهم ، وديارهم ، وأموالهم .
± {قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ( 140 ) وإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الأعراف : 139-141] .
ثم خاطب الله سبحانه بني إسرائيل الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال لهم على وجه الامتنان عليهم ، بما أنعمه على أسلافهم : {وإذ أنجيناكم} أي : واذكروا إذ خلصناكم {من آل فرعون يسومونكم} أي : يولونكم إكراها ، ويحملونكم إذلالا {سوء العذاب يقتلون أبناءكم} أي : يكثرون قتل أبنائكم {ويستحيون نساءكم} أي : يستبقونهم للخدمة ، والمهنة ، {وفي ذلكم} أي : وفي ما فعل بكم من النجاة {بلاء} أي : نعمة {من ربكم عظيم} قدرها . وقيل : معناه في تخليته إياكم وقوم فرعون ، ابتلاء عظيم ، وقد مضى تفسير هذه الآية في سورة البقرة .
_______________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 346-348 .
{وجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} . جاء في بعض الروايات ان موسى بقي ثلاثة وعشرين عاما يجاهد فرعون من أجل كلمة التوحيد وتحرير بني إسرائيل من الاضطهاد ، وقد شاهدوا المعجزات الباهرة التي ظهرت على يد موسى ، وأخيرا رأوا انفلاق البحر بضربة من عصا موسى ، وكيف جعل منه اثني عشر طريقا يبسا لكل سبط من بني إسرائيل طريق معلوم ، وأيضا رأوا كيف انطبق البحر على فرعون وجنوده ، شاهدوا ذلك كله ، وقبل أن تمضي فترة ينسون فيها ما رأوه من المعجزات وقعت أبصارهم على قوم وثنيين يعبدون الأصنام ، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم صنما يعبدونه ، طلبوا هذا ، وهم يعلمون ان موسى رسول اللَّه ، وان مهمته الأولى الدعوة إلى التوحيد ، ومحاربة الشرك ، ويعلمون أيضا ان اللَّه أغرق فرعون وجنوده لشركه ، قال بعض المفسرين : لو انهم بأنفسهم اتخذوا لهم آلهة لكان الأمر أقل غرابة من أن يطلبوا إلى رسول رب العالمين أن يتخذ لهم آلهة ، ولكنما هي إسرائيل .
{إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} . بدأ موسى (عليه السلام) جوابه قومه بأنهم من أهل الحماقة والجهالة ، وثنى بإخبارهم ان نهاية المشركين وعبدة الأوثان إلى الخسران والهلاك .
{قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} . مر تفسيره في الآية 47 من سورة البقرة ج 1 ص 95 . وعلى أية حال ، فإن تفضيلهم على فرعون وقومه لا يعد منقبة وفضيلة .
{وإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} . تقدم نظيره في الآية 49 من سورة البقرة ج 1 ص 99 .
____________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 388-389 .
قوله تعالى : ﴿وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم﴾ الآية ، العكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم .
ذكره الراغب في المفردات ، وقولهم : ﴿اجعل لنا إلها كما لهم آلهة﴾ أي كما لهم آلهة مجعولة .
كان بنو إسرائيل على شريعة جدهم إبراهيم (عليه السلام) ، وقد خلا فيهم من الأنبياء إسحاق ويعقوب ويوسف ، وهم على دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله سبحانه وحده لا شريك له المتعالي عن أن يكون جسما أو جسمانيا يعرض له شكل أو قدر غير أن بني إسرائيل كما يستفاد من قصصهم كانوا قوما ماديين حسيين يجرون في حياتهم على أصالة الحس ولا يعتنون بما وراء الحس إلا اعتناء تشريفيا من غير أصالة ولا حقيقة ، وقد مكثوا تحت إسارة القبط سنين متطاولة ، وهم يعبدون الأوثان فتأثرت من ذلك أرواحهم وإن كانت العصبية القومية تحفظ لهم دين آبائهم بوجه .
ولذلك كان جلهم لا يتصورون من الله سبحانه إلا أنه جسم من الأجسام بل جوهر ألوهي يشاكل الإنسان كما هو الظاهر المستفاد من التوراة الدائرة اليوم ، وكلما كان موسى يقرب الحق من أذهانهم حولوه إلى إشكال وتماثيل يتوهمون له تعالى ، لهذه العلة لما شاهدوا في مسيرهم قوما يعكفون على أصنام لهم استحسنوا مثل ذلك لأنفسهم فسألوا موسى (عليه السلام) أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة يعكفون عليها .
فلم يجد موسى (عليه السلام) بدا من أن يتنزل في بيان توحيد الله سبحانه إلى ما يقارب أفهامهم على قصورها فلا مهم أولا على جهلهم بمقام ربهم مع وضوح أن طريق الوثنية طريق باطل هالك ثم عرف لهم ربهم بالصفة ، وأنه لا يقبل صنما ولا يحد بمثال كما سيجيء .
قوله تعالى : ﴿إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون﴾ المتبر من التبار وهو الهلاك ، والمراد بقوله :﴿ما هم فيه﴾ سبيلهم الذي يسلكونه وهو عبادة الأصنام والمراد بقوله : ﴿ما كانوا يعملون﴾ أعمالهم العبادية ، والمعنى أن هؤلاء الوثنية طريقتهم هالكة وأعمالهم باطلة فلا يحق أن يميل إليه إنسان عاقل لأن الغرض من عبادة الله سبحانه أن يهتدي به الإنسان إلى سعادة دائمة وخير باق .
قوله تعالى : ﴿قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين﴾ ﴿أبغيكم﴾ أي أطلب لكم وألتمس ، يعرف ربهم ويصفه لهم ، وقوله : ﴿أغير الله أبغيكم إلها﴾ فيه تأسيس أن كل إله أبغيه لكم بجعل أو صنع فإنما هو غير الله سبحانه ، والذي يجب عليكم أن تعبدوا الله ربكم بصفة الربوبية التي هي تفضيله إياكم على العالمين .
فكأنهم قالوا : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فقال : كيف ألتمس لكم ربا مصنوعا وهو غير الله ربكم ، وإذا كان غيره فعبادته متبرة باطلة ؟ فقالوا : فكيف نعبده ولا نراه ولا سبيل لنا إلى ما لا نشاهده؟ كما يقوله عبدة الأصنام .
فقال : اعبدوه بما تعرفونه من صفته فإنه فضلكم على سائر الأمم بآياته الباهرة ودينه الحق وإنجائكم من فرعون وعمله ، فالآية - كما ترى - ألطف بيان وأوجز برهان يجلي عن الحق الصريح للأذهان الضعيفة التعقل .
___________________________
1 . تفسير الميزان ، ج8 ، ص 238-240 .
الاقتراح على موسى بصنع الوثن :
في هذه الآيات إشارة إلى جانب حساس آخر من قصّة بني إسرائيل التي بدأت في أعقاب الإنتصار على الفرعونيين ، وذلك هو مسألة توجه بني إسرائيل إلى الوثنية التي بحثت بداياتها في هذه الآيات ، وجاءت نتيجتها النهائية بصورة مفصّلة في سورة طه من الآية (86) إلى (97) ، وبصورة مختصرة في الآية (148) فما بعد من هذه السورة .
وفي الحقيقة فإنّه مع انتهاء قصة فرعون بدأت مشكلة موسى الداخلية الكبرى ، يعني مشكلته مع جهلة بني إسرائيل ، والأشخاص المتعنتين والمعاندين. وكانت هذه المشكلة أشدّ على موسى عليه السلام وأثقل بمراتب كثيرة ـ كما سيتّضح من قضية مواجهته لفرعون والملأ وهذه هي خاصية المشاكل والمجابهات الداخلية .
في الآية الأولى : {وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ} أي النيل العظيم .
ولكن في مسيرهم مرّوا على قوم يخضعون للأصنام {فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ} .
و «عاكف» مشتقّة من مادة «العكوف» بمعنى التوجه إلى شيء وملازمته المقارنة لاحترامه وتبجيله .
فتأثّر الجهلة الغافلون بهذا المشهد بشدّة إلى درجة قالوا لموسى من دون إبطاء : يا موسى اتّخذ لنا معبودا على غرار معبودات هؤلاء {قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} .
فانزعج موسى عليه السلام من هذا الاقتراح الأحمق بشدّة ، وقال لهم : {قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} .
بحوث
وهنا لا بدّ من الانتباه إلى نقاط :
1 ـ الجهل منشأ الوثنية
يستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ منشأ الوثنية هو جهل البشر بالله تعالى من جانب ، وعدم معرفته بذاته المقدسة وأنّه لا يتصور له شبيه أو نظير أو مثيل .
ومن جانب آخر جهل الإنسان بالعلل الأصلية لحوادث العالم الذي يتسبب أحيانا في أن ينسب الحوادث إلى سلسلة من العلل الخرافية والخيالية ومنها الأصنام .
ومن جانب ثالث جهل الإنسان بما وراء الطبيعة ، وقصور فكره إلى درجة أنّه لا يرى ولا يؤمن إلّا بالقضايا الحسية .
إن هذه الجهالات تضافرت وتعاضدت ، وصارت على مدار التأريخ منشأ للوثنية وعبادة الأصنام ، وإلّا فكيف يمكن أن يأخذ إنسان واع فاهم عارف بالله وصفاته ، عارف بعلل الحوادث ، عارف بعالم الطبيعة وعالم بما بعد الطّبيعة. قطعة من الصخر منفصلة من الجبل مثلا ، فيستعمل قسما منها في بناء بيته ، أو صنع سلالم منزله ، ويتخذ قسما آخر معبودا يسجد أمامه ، ويسلّم مقدراته بيده.
والجدير بالذكر أنّنا نقرأ في كلام موسى عليه السلام في الآية الحاضرة كيف يقول لهم : أنتم غارقون في الجهل دائما ، (لأنّ تجهلون فعل مضارع ويدل غالبا على الاستمرارية) وبخاصّة أن متعلق الجهل لم يبيّن في الآية ، وهذا يدل على عمومية المجهول وشموليته.
والاغرب من كل ذلك أنّ بني إسرائيل بقولهم {اجْعَلْ لَنا إِلهاً} أظهروا أن من الممكن أن يصير الشيء التافه ثمينا ـ بمجرّد اختيارهم وجعلهم ووضع اسم الصنم والمعبود عليه ـ وتوجب عبادته التقرب إلى الله ، وعدم عبادته البعد عنه تعالى ، وتكون عبادته منشأ للخير والبركة ، واحتقاره منشأ للضرر والخسارة ، وهذه هي نهاية الجهل والغفلة .
صحيح أنّ مقصود بني إسرائيل لم يكن إيجاد معبود يكون خالق العالم ، بل كان مقصودهم هو : اجعل لنا معبودا نتقرب بعبادته إلى الله ، ويكون مصدرا للخير والبركة ، ولكن هل يمكن أن يصير شيء فاقدا للروح والتأثير مصدرا للخيرات والتأثيرات بمجرّد تسمّيته معبودا وإلها؟ هل الدافع لذلك العمل شيء سوى الجهل والخرافة ، والخيال الواهي والتصور الخاوي ؟! (2)
2 ـ أرضية الوثنية عند بني إسرائيل
لا شك أنّه كانت لدى بني إسرائيل ـ قبل مشاهدة هذا الفريق من الوثنيين ـ أرضية فكرية مساعدة لهذا الموضوع ، بسبب معاشرتهم الدائمة للمصريين الوثنيين ، ولكن مشاهدة هذا المشهد الجديد كان بمثابة شرارة كشفت عن دفائن جبلّتهم ، وعلى كل حال فإنّ هذه القضية تكشف لنا أنّ الإنسان إلى أيّ مدى يتأثر بعامل البيئة ، فإنّ البيئة هي التي تستطيع أن تسوق الإنسان إلى الله ، كما أنّ البيئة هي التي تسوقه إلى الوثنية ، وأنّ البيئة يمكن أن تصير سببا لأنواع المفاسد والشقاء ، أو منشأ للصلاح والطهر. (وإن كان انتخاب الإنسان نفسه هو العامل النهائي) ولهذا اهتم الإسلام بإصلاح البيئة اهتماما بالغا .
3 ـ الكفرة بالنعم في بني إسرائيل
الموضوع الآخر الذي يستفاد من الآية بوضوح ، أنّه كان بين بني إسرائيل أشخاص كثيرون ممن يكفرون النعمة ولا يشكرونها ، فمع أنّهم رأوا كل تلك المعاجز التي أتي بها موسى عليه السلام ، ومع أنّهم تمتعوا بكل تلك المواهب الإلهية التي خصّهم الله بها ، فإنّه لم ينقص عن هلاك عدوهم فرعون ونجاتهم من الغرق برهة من الزمن حتى نسوا كل هذه الأمور دفعة واحدة ، وطلبوا من موسى أن يصنع لهم أصناما ليعبدوها!!
ونقرأ في نهج البلاغة أنّ أحد اليهود اعترض على المسلمين عند أمير المؤمنين عليه السلام قائلا : ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه. فردّ عليه الإمام صلوات الله عليه قائلا : «إنّما اختلفنا عنه لا فيه ، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، فقال إنّكم قوم تجهلون».
أي أنّنا اختلفنا في الأحاديث والأوامر التي وصلت إلينا عن نبيّنا ، لا أنّنا اختلفنا حول النّبي ونبوته ، (فكيف بألوهية الله) ولكنّكم ما إن خرجتم من مياه البحر إلّا واقترحتم على نبيّكم أن اجعل لنا آلهة كما للوثنيين آلهة ، وقال موسى : إنّكم قوم تجهلون.
وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسى عليه السلام ـ لتكميل حديثه لبني إسرائيل ـ قال : إنّ هذه الجماعة الوثنية التي ترونها سينتهي أمرها إلى الهلاك ، وإن عملهم هذا باطل لا أساس له {إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
فعمل هذه الجماعة باطل ، وجهودهم غير منتجة ، كما أن مصير مثل هؤلاء القوم وكل قوم وثنيين ومشركين هو الهلاك والدمار. (لأنّ «متبّر» مشتقّة من التبار أي الهلاك).
ثمّ تضيف الآية التوكيد : إنّ موسى عليه السلام {قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ}.
يعني إذا كان الدافع إلى عبادة الله هو حسّ الشكر ، فجميع النعم التي ترفلون فيها هي من الله ، وإذا كان الدافع للعبادة والعبودية كون هذه العبادة منشأ لأثر ما ، فإنّ ذلك أيضا يرتبط بالله سبحانه ، وعلى هذا الأساس مهما يكن الدافع ، فليس سوى الله القادر المنّان يصلح للعبادة ومستحقا لها.
وفي الآية اللاحقة يذكر القرآن الكريم إحدى النعم الإلهية الكبرى التي وهبها الله سبحانه لبني إسرائيل ، ليبعث بالالتفات إلى هذه النعمة الكبرى حسّ الشكر فيهم ، وليعلموا أن اللائق بالخضوع والعبادة هو الذات الإلهية المقدسة فحسب ، وليس هناك أي دليل يسوّغ لهم الخضوع أمام أصنام لا تضر ولا تنفع شيئا أبدا .
يقول في البداية : تذكّروا يوم أنجيناكم من مخالب آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم دائما {وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ}.
و «يسومون» مشتقّة من مادة «سوم» وتعني في الأصل ـ كما قال «الراغب» في «المفردات» ـ الذهاب في طلب شيء ، كما يستفاد من القاموس تضمنه لمعنى الاستمرار والمضّي أيضا ، وعلى هذا يكون معنى {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ} أنّهم كانوا يعذبونكم بتعذيبات قاسية باستمرار.
ثمّ تمشيا مع أسلوب القرآن في بيان الأمور بتفصيل بعد إحمال شرح هذا العذاب المستمر ، وهو : قتل الأبناء ، واستبقاء النساء للخدمة والاسترقاق {يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ ، وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ}.
وقد كان في هذا اختبار عظيم من الله لكم {وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}.
وسياق الآية يكشف عن أن هذه العبارة قالها موسى عليه السلام عن الله لنبي إسرائيل عند ما رغبوا بعد عبورهم بحر النيل في الوثنية وعبادة الأصنام.
صحيح أنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر الرّسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنّ التّفسير الأوّل يحتاج إلى تقدير شيء بأن يقال : إن الآية كانت في الأصل هكذا : قال موسى : قال ربّكم ... وهذا خلاف الظاهر.
ولكن مع الالتفات إلى أنّه لو كان المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لانقطع ارتباط الآية بما يسبقها وما يلحقها بصورة كاملة ، وكانت هذه الآية كالجملة المعترضة ، يبدو للنظر أن التّفسير الأوّل أصح.
هذا ولا بدّ ـ ضمنا ـ من الالتفات إلى أن نظير هذه الآية مرّ في سورة البقرة الآية (49) مع فارق جدا بسيط ، ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (49) من سورة البقرة .
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 485-489 .
2. مرّت أبحاث أخرى حول تاريخ الوثنية في تفسير الآية (258) سورة البقرة .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|