المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4878 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24



نماذج من كتابات المستشرقين وأعمالهم حول سيرة الرسول وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم)  
  
8891   10:03 صباحاً   التاريخ: 23-1-2019
المؤلف : الشيخ فؤاد كاظم المقدادي
الكتاب أو المصدر : الإسلام و شبهات المستشرقين
الجزء والصفحة : 149- 177
القسم : العقائد الاسلامية / مقالات عقائدية /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-07-2015 1866
التاريخ: 1-07-2015 8036
التاريخ: 2-08-2015 1838
التاريخ: 1-07-2015 1648

لمّا كان الثقل الثاني من الدين الإسلامي بعد القرآن الكريم هُم أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وأصلُهم البارز ومبدأهم الأوّل وعمود نورهم المقوّم ، هو الرسول محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، كان ثاني ما اهتمّ به المُستشرقون من موضوعات هذا الدين [بعد القرآن الكريم] .

فتناول الكثير منهم شخصيّاتهم وسيرتهم بطريقةٍ مليئةٍ بالشيطَنة والخبث والتزوير ، مُستترين بستار البحث والنقد العلميّين ، خصوصاً أنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وأهل بيته ( عليهم السلام ) رسموا تاريخ هذا الدين وترجموه في الواقع، حركةً تغييريّةً شاملة عملت على استئصال جذور الجاهليّة والظلم والانحراف ، وأماطت اللثام عنها ، وكشفت مواطن الحق مِن الباطن ، وما هو لله منه وما هو للشيطان...لتُميّز البشريّة طريق الهُدى مِن طريق الضلال ، لا من خلال المفاهيم والنظريّات فحسب ؛ لأنّها قد لا تسلم من التحريف والتلبيس عند التطبيق ، بل من خلال المصاديق المعصومة التي تكشف عن الإرادة الحقيقيّة لله سبحانه وتعالى في خطابه للبشريّة وتشريعاته لنُظم حياتهم وترشيد مسيرتهم نحو السعادة والكمال المطلق .

وكان محور محاولات المُستشرقين في تناول السيرة النبويّة هو إسقاط هذا الثقل في واقع المسلمين ، منضمّاً إلى الثقل الأوّل وهو القرآن الكريم ، وبذلك ينهار البناء الإسلامي بكلّ أبعاده الفكريّة والسياسيّة... ومن أجل ذلك راحوا يتتبّعون مفردات التاريخ الإسلامي ؛ لاستقصاء موارد الشذوذ ومواطن التزوير في السيرة النبويّة ، التي أحدثها وعّاظ السلاطين ومرتزق الحكام المنحرفين ، كخلفاء بني أُميّة وخلفاء بني العبّاس ، وتسليط الضوء عليها إظهارها على أنّها السيرة الفعليّة للرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، ثمّ يبدأ استثمار ذلك عند تأسيس بحثٍ نقدي لشخصيّة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لتحقيق هدفين :

الأوّل : إبراز تهافت وتناقض في سيرته وصولاً لنفي نبوّته وعالميّته ، وتقرير أنّه ليس إلاّ رجلُ إصلاحٍ قومي ، استثمر النصرانيّة واليهوديّة وأمثالهما وأضاف إليها من عنده ؛ لتنسجم مع مجتمعه وظرفه الزماني والمكاني .

والثاني : وصمُ السنّة النبويّة بالاختلاق والوضع ، ومِن ثمّ الدعوة إلى عدم حجّيتها كمصدر أساسي من مصادر التشريع في الإسلام ، ولم تكن هذه المُعطيات جزافاً ، بل هي إفراز طبيعي للصراع المُحتدم بين الإسلام والصليبيّة ، وقد كان للنتائج التي تمخّضت عنها الحروب الصليبيّة طعم العلقم في حلوق الأوربيّين لا ينسونه أبداً .

ويتحدّث الكاتب المسلم ( ليوبولد فايس ) ـ ( محمّد أسد ) ـ عن التجربة المُرّة التي استحالت مُعضلة في مناهجهم يصعب تجاوزها ، فيقول : ( فيما يتعلّق بالإسلام فإنّ الاحتقار التقليدي أخذ يتسلّل في شكل تحزّبٍ غير معقول على بحوثهم العلميّة ، وبقي هذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أوربّا والعالم الإسلامي ـ مُنذ الحروب الصليبيّة ـ غير معقودٍ فوقه جسر ، ثمّ أصبح احتقار الإسلام جزءاً أساسيّاً في التفكير الأوربّي ، والواقع أنّ المستشرقين الأوائل في الأعصر الحديثة كانوا مُبشّرين نصارى يعملون في البلاد الإسلاميّة ، أمّا تحامل المستشرقين على الإسلام فغريزةٌ موروثة ، وخاصّة طبيعيّة تقوم على المؤثّرات التي خلّفتها الحروب الصليبيّة بكلّ ما لها من ذيول في عقول الأوربيّين ) .

لقد كشفت أقلام الكثير من المستشرقين عن الحقد والغريزة العدائيّة الموروثة ، تجاه الإسلام والمسلمين ونبيّهم نبيّ الرحمة محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، حتّى كالوا من الشتائم ما يربأ قلمنا عن تناوله ، لولا أنّنا بصدد تعريتهم وكشف مخطّطاتهم الخبيثة التي تنسج تحت ستار العلم والمعرفة .

فهذا ( المونيسنيور كولي ) يقول في كتابه ( البحث عن الدين الحق ) : ( برَز في الشرق عدوٌّ جديد هو الإسلام ، الذي أُسّس على القوّة وقام على أشدّ أنواع التعصّب ، ولقد وضع محمّدٌ السيف في أيدي الذين تبعوه وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق ، ثمّ سمح لأتباعه بالفجور والسلب ، ووعَد الذين يهلكون في القتال بالاستمتاع الدائم بالملذّات في الجنّة ، وبعد قليل أصبحت آسيا الصغرى وإفريقيا واسبانيا فريسةً له ، حتّى ايطاليا هدّدها الخطر وتناول الاجتياح نصف فرنسا ، لقد أُصيبت المدنية...

ولكن انظر : ها هي النصرانيّة تضع بسيف ( شارل مارتل ) سدّاً في وجه سيل الإسلام المُنتصر عند بوابّات ( بواتييه ) ثمّ تعمل الحروب الصليبيّة في مدى قرابة قرنين تقريباً ( 1099 ـ 1254م ) في سبيل الدين ، فتدجّج أوربّا بالسلاح وتنمّي النصرانيّة .

وهكذا تقهقرت قوّة الهلال أمام راية الصليب ، وانتصر الإنجيل على القرآن ، وعلى ما فيه من قوانين الأخلاق الساذجة ) .

أمّا ( المسيو كيمون ) فيقول في كتابه ( ميثولوجيا الإسلام ) : ( إنّ الديانة المحمّديّة جذامٌ نشأ بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكا ذريعاً ، بل هو مرضٌ مروّع وشللٌ عام ، وجنونٌ ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل ، ولا يُوقظهُ منهما إلاّ ليسفك الدماء ويدمن معاقرة الخمور ويجمح في القبائح .

وما قبر محمّد في مكّة [!](1) إلاّ عموٌد كهربائي يبثّ الجنون في رؤوس المسلمين ويُلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الصرع [الهستريا] والذهول العقلي ، وتكرار لفظ ( الله... الله...) إلى ما لا نهاية وتعوّد عادات تنقلب إلى طِباع أصيلة ككراهيّة لحم الخنزير ، والنبيذ ، والموسيقى ، وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في الملذّات ) .

وتستمرّ أقلام الحقد الاستشراقي المُشبع بالدوافع التبشيريّة والاستعماريّة تسطّر ـ جزافاً ـ أوصافاً ومقولات رخيصة ، بحقّ الرسول محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) دون مراعاةٍ لأيّ حقيقة تاريخيّة ، أو قاعدة من قواعد الطرح العلمي ، فقد كتب الدكتور ( غلاوو ) في نهاية الباب الرابع من كتابه ( تقدّم التبشير العالمي ) الذي نشره في نيويورك سنة 1960م : ( إنّ سيف محمّد والقرآن أشدّ عدوٍّ وأكبرُ معاندٍ للحضارة والحريّة والحق ، ومن العوامل الهدّامة التي اطّلع عليها العالم إلى الآن ) .

ويستمرّ في نقدهِ الوضيع لشخصيّة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيقول : ( كان محمّدٌ حاكماً مطلقاً ، وكان يعتقد أنّ من حقّ الملك على الشعب أنْ يتبع هواه ويفعل ما يشاء ، وكان مجبولاً على هذهِ الفكرة ، فقد كان عازماً على أنْ يقطع عنق كلّ من لا يوافقه في هواه ، أما جيشه العربي فكان يتعطش للتهديم والتغلب ، وقد أرشدهم رسولهم أنْ يقتلوا كلّ من يرفض اتّباعهم ويبعد عن طريقهم ) ! .

أمّا ( سفاري ) الذي ترجم معاني القرآن سنة ( 1752م ) ، فيعتقد ( أنّ محمّداً لجأ إلى السلطة الإلهية لكي يدفع الناس إلى قبول هذهِ العقيدة ، ومن هنا طالب بالإيمان به كرسول الله ، وقد كان هذا اعتقاداً مزيّفاً أملته الحاجة العقليّة...). وبنفس المنطق يقول ( جويليان ) في كتابه ( تاريخ فرنسا ) :

( إنّ محمّداً ، مؤسّس دين المسلمين ، قد أمر أتباعه أنْ يُخضعوا العالم وأنْ يبدلّوا جميع الأديان بدينه هو ،....ماذا كان حال العالم لو أنّ العرب انتصروا علينا ؟ إذن لكنّا مسلمين كالجزائريّين والمراكشيّين ) .

وعلى نفس المنوال كانت كتاباتهم عن أئمّة أهل بيت النبوّة ( عليهم السلام ) ، نذكر أدناه نماذج منها : منها ما أورده المستشرق ( تسترشتين K. V. Zettersteen ) عن ( ابن تيمية ) في دائرة المعارف الإسلاميّة تحت مادّة ( ابن تيمية ) طعناً في عصمة الإمام عليّ ( عليه السلام ) ، من ( أنّ عليّ بن أبي طالب أخطأ ثلثمِئة مرّة )(2) .

وبهدف الانتقاص والنيل من شخصيّة ومقام الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، توالت افتراءات العديد من المستشرقين في اتّهام الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، واختلاق الأكاذيب حول أخلاقه الشخصيّة وسيرته ومواقفه الرساليّة ، وعلى رأسها إبرام الشبهات حول حقيقة صلحه مع معاوية بن أبي سفيان .

وكان في مقدّمة هؤلاء المستشرقين ( بروكلمان ) و( راويت رونلدسن ) و( هوكلي ) و( ساكيس ) .

على أنّ أكثرهم افتراءً ودسّاً وتحاملاً ، حاقداً فيما قال هو المستشرق ( لامنس H. Lammens ) المعروف بعدائه للإسلام وحقده على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأهل بيته الطاهرين ( عليهم السلام ) ، ومن مفترياته المليئة بالعبارات التجديفيّة ، الكاشفة عن سقوط منهجه العلمي إلى حضيض السبِّ والشتائم الرخيصة ، ما جاء تحت مادّة ( الحسن ) بن عليّ بن أبي طالب ، الذي خالف فيه بشكلٍ فاضحٍ المعقولَ والمنقولَ من ثوابت التاريخ الإسلامي في حقّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) .

كقوله : (... إنّ الصفات الجوهريّة التي كان يتّصف بها الحسن هي الميل إلى الشهوات ، والافتقار إلى النشاط والذكاء ، ولم يكن الحسن على وفاق مع أبيه وإخوته ، وقد انفق خير سنيّ شبابه في الزواج والطلاق ، فأُحصيَ له حوالي المِئة زيجة عدّاً ، وأُلصِقَت به هذه الأخلاق السائبة لقب المِطلاق ، وأوقعت عليّا في خصومات عنيفة .

وأثبت الحسن كذلك أنّه مبذّر كثير السرَف ، فقد اختصّ كلاً من زوجاته بمَسكن ذي خدم وحشم ، وهكذا ترى كيف كان يُبعثر المال أيّام خلافة عليّ التي اشتدّ عليها الفقر ، وشهد يوم صفّين دون أنْ تكون له فيها مشاركة ايجابيّة ، ثمّ هو إلى ذلك لم يهتمّ أيّ اهتمام بالشؤون العامّة في حياة أبيه .

وترك له معاوية أنْ يحدّد ما يطلبه جزاء تنازله عن الخلافة ، ولم يكتف الحسن بالمليونَيّ درهم التي طلبها معاشاً لأخيه الحسين ، بل طلب لنفسه خمسة ملايين درهم أُخرى ودخل كورة في فارس طيلة حياته ، وعارض أهل العراق بعد ذلك في تنفيذ الفقرة الأخيرة من هذا الاتّفاق ، بَيد أنّه أُجيب إلى كلّ ما سأله حتّى أنّ حفيد النبيّ اجترأ فجاهر بالندم ، على أنّه لم يُضاعف طلبه ، وترك العراق مشيّعاً بسخط الناس عليه ليقبع في المدينة .

وهناك عاد إلى حياة اللهو واستسلم للملذّات ، ووافق معاوية على أنْ يدفع نفقاته ولم يطلب في مقابل ذلك إلا أمراً واحداً ، هو ألا يخلّ الحسنُ بأمن الدولة ، وكان قد أجبره من قبل على الجهر بتنازله عن الخلافة في اجتماعٍ عُقِد في ( أذرح ) ولم يعد معاوية يشغل باله به ، ذلك أنّه كان واثقاً من قُعود همّته وإيثاره للدِعة .

ومع هذا فقد استمرّ الانقسام في البيت العلوي ، ولم يكن الحسن على وفاق مع الحسين وإنْ اجتمعا على مناهضة ابن الحنفيّة وغيره من أبناء عليّ .

وتوفّي الحسن في المدينة بذات الرئة ، ولعلّ إفراطه في الملذّات هو الذي عجّل بمنيّته . وقد بُذلت محاولة لإلقاء تبعة موته على رأس معاوية ، وكان الغرض من هذا الاتّهام وصم الأمويّين بهذا العار ، وتبرير لقب الشهيد أو ( سيّد الشهداء ) الذي خُلِع على ابن فاطمة هذا...(3) .

ولم يجرؤ على القول بهذا الاتّهام الشنيع جهرةً سِوى المؤلّفين من الشيعة ، أو أولئك الذين كان هواهم مع العلويّة بنوعٍ خاص، وقد أعطى هذا الاتّهام في الوقت نفسه فرصة للإيقاع بأسرة الأشعث بن قيس المُبغضة من الشيعة ، لما كان لها من شأن في الانقلاب الذي حدث يوم صفّين ، وما كان معاوية بالرجل الذي يقترف إثماً لا مبرّر له .

كما أنّ الحسن كان قد أصبح مسالماً منذ أمدٍ طويل ، وكانت حياته عبئاً على بيت المال الذي أبهظته مطالبه المتكرّرة ، ومن اليسير أنْ نعلّل ارتياح معاوية وتنفّسه الصعداء عندما سمِع بمرضِ الحسن )(4) .

ومن أقوالهم وآرائهم الجزافيّة التي تكشف عن سطحيّة معلوماتهم وعدم استقصائهم لحقائق تاريخ أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ما أورده ( تسترشتين K. V. Zettersteen ) في دائرة المعارف الإسلاميّة تحت مادّة ( جعفر ) بقوله : ( جعفر بن محمّد ، ويلقّب أيضاً بالصادق ، سادس الأئمّة ألاثني عشريّة.. وخلف في الإمامة أباه محمّداً الباقر ، ولم يكن له شأن في عالم السياسة ، ولكنّه عُرِف بدرايته الواسعة بالحديث ، ويُقال أيضاً : إنّه اشتغل بالتنجيم والكيمياء وغيرهما من العلوم الخفيّة ، أمّا المؤلّفات التي تحمل اسمه فقد دُسّت عليه فيما بعد...)(5) .

بهذا المنهج وبهذه الروح المُتعصّبة ، تناولوا شخصيّة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) وسيرتهم ، فكانت المعطيات رؤىً واستنتاجات ما أنزل الله بها من سلطان ، يصوّرونها وكأنّها حقائقٌ ثابتة ويقينٌ راسخ ، رغم أنّها بُنيت أساساً على الوهم الذي تستحيل معهُ رؤية الحقائق بحجمها الطبيعي ؛ لأنّها انبثقت عن زاوية ضيّقة مترعة بالتعصّب ، ونظر إليها من خلال خلفيّة سلبيّة مُسبقة ، جعلت منهم ينتقون لبناء نظريّتهم عن الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وأهل بيته ( عليهم السلام ) الشاذّ الغريب ممّا نُقِل عنهم صلوات الله عليهم ، بل واختلاق الأكاذيب والافتراءات عليهم .

ويُمكننا وضع اليد على الكثير من مصاديق ذلك في كتاباتهم ومؤلّفاتهم ، ونكتفي بالإشارة لأهمّ أنماط هذه المصاديق المُنحرفة، التي تضمّنتها نظريّتهم عن الرسول محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) :

أولاً : تتبّع الشاذّ والضعيف من الأخبار الواردة عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وأهل بيته ( عليهم السلام ) وعن سيرتهم وتاريخهم : وهذه الأخبار غالباً ما تكون من تلك التي عُرِفت بالإسرائيليّات ، أو من الموضوعات في ظلّ الحكومات التي كانت تُعادي أهل بيت النبوّة ( عليهم السلام ) ، وبإبرازها دون المشهور والموثوق منها ؛ لكي يتمّ لهم الأساس الذي يبنون عليه نظريّتهم عن سيرة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) .

وبهذا الصدد يقول ( جواد عليّ ) في كتابه ( تاريخ العرب في الإسلام ) : ( لقد أخذ المستشرقون بالخبر الضعيف والموضوع في بعض الأحيان وحكموا بموجبه واستعانوا بالشاذّ والغريب ، فقدموه على المعروف والمشهور )(6) ، وقد مهّد لذلك قيام بعضهم بإصدار كتب عن السنّة النبويّة ، ومعاجم مفهرسة لألفاظ الحديث دُسّت فيها الأخبار والتقارير الشاذّة والمردودة ضمن سياق الصحيح ، لتسوغ معها ويختلط أمرها فيعتمد القارئ أو الباحث عليها على أنّها من السنّة النبويّة ، كما فعلهُ المستشرق ( فينسنك ) في كتابه ( كنوز السنّة ) ومعجمهِ المفهرس لألفاظ الحديث .

ومن ذلك نقلهم للروايات الكاذبة حول زوجات الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب ( عليهما السلام ) كرواية ( السبعين والتسعين ، وغيرها من الروايات التي تصف الإمام الحسن ( عليه السلام ) بأنّه مطلاق ، وأنّ والده كان يقول : لا تزوّجوا ولدي الحسن فإنّه مطلاق ، فلا مصدر لها ، إلاّ المدائني وأمثاله من الكَذَبة كما يبدو من أسانيدها ، والمدائني والواقدي وغيرهما من المؤرّخين القدامى قد كتبوا التاريخ في ظلّ الحكومات التي كانت تناهض أهل البيت ، وتعمل بكلّ ما لديها من الوسائل على تشويه واقعهم وانتقاصهم ، ولم يكن حكّام الدولة العباسيّة بأقلّ سوءاً وتعصّباً من أسلافهم الأمويّين ، فقد شاركوهم في وضع الأحاديث التي تسيء إلى العلويّين ، وكانوا يحقدون على الحسنَين بصورةٍ خاصّة ؛ لأنّ أكثر الثائرين على الظلم كانوا من أولاد الحسن وأحفاده .

الذين ألصقوا بالحسن كثرة الزواج والطلاق هؤلاء الثلاثة : المدائني ، والشبلنجي ، وأبو طالب المكّي في قوت القلوب ، وعنهم أخذَ المستشرقون ، أمّا عليّ بن عبد الله البصري المعروف بالمدائني ، والمُعاصر للعباسيّين فهو من المتّهمين بالكذِب في الحديث .

وجاء في ميزان الاعتدال للذهبي أنّ مسلماً في صحيحه قد امتنع عن الرواية عنه ، وأنّ ابن عدِي قد ضعّفه ، وقال له الأصمعي : والله لتتركنّ الإسلام وراء ظهرك ، وكان من خاصّة أبي إسحاق الموصلي ، وقد تبعه لثرائه ، ويروي عن عوانة بن الحكم المتوفّى سنة 158 والمعروف بولائه لعثمان والأمويّين .

ونصّ ابن حجر في لسان الميزان أنّ عوانة كان يضع الأخبار لبني أميّة ، وجاء في معجم الأُدباء أنّه كان مولى لسمرة بن حبيب الأموي ، أمّا صاحب لسان الميزان فقد قال : إنّه كان مولىً لعبد الرحمان بن سمرة بن حبيب الأموي ، هذا بالإضافة إلى أنّ أكثر رواياته من نوع المراسيل ، كلّ ذلك ممّا يبعث على الاطمئنان بأنّ رواية السبعين ، التي لم يروِها غير المدائني من موضوعاته لمصلحة الحاكمين أعداء العلويّين .

أمّا رواية التسعين فقد أرسلها الشبلنجي في كتابه نور الأبصار ولم ينسبها لأحد ، والشبلنجي في كتابه المذكور لم يتحرّ الصحيح في مرويّاته وأخباره كما يبدو ذلك للمتتبّع فيه ، والمرسل إذا لم يكن مدعوما بشاهد من الخارج أو الداخل لا يصلح للاستدلال ، في حين أنّ الشواهد والقرائن ترجّح بأنّه من صنع الحاقدين على أهل البيت .

وأمّا رواية المكّي في قوت القلوب فهي أقرب إلى الأساطير من غيرها ؛ لأنّها لم ترد على لسان أحدٍ من الرواة ، وأبو طالب المكّي كان مصابا بالهستيريا كما نص على ذلك معاصروه، وحينما وفد على بغداد وجد البغداديون في حديثه هذياناً وخروجاً عن ميزان الاعتدال والاستقامة)(7) .

ومثله ما ألصقوه ، على أساس الروايات الشاذّة والمختلقة ، من تهم شنيعة وشُبهاتٌ ظالمة للإمام الحسن ( عليه السلام ) ، حول صلحه مع معاوية بن أبي سفيان ، وقد ردّ عليها علماءُ مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) وكثير من المفكّرين الإسلاميّين والمنصفين من أهل العلم والتخصّص ، ومن أبرزهم العلاّمة المحقّق الإمام السيّد ( عبد الحسين شرف الدين الموسوي ) في مقدّمته لكتاب ( صلح الحسن ) للشيخ راضي آل ياسين ، التي جاء فيها :

(.. نشَط معاوية في عهد الخليفتين الثاني والثالث ، بإمارته على الشام عشرين سنة ، تمكّن بها في أجهزة الدولة ، وصانع الناس فيها وأطمعهم به فكانت الخاصّة في الشام كلّها مِن أعوانه ، وعظم خطره في الإسلام ، وعُرِف في سائر الأقطار بكونه مِن قُريش ـ أسرة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ وأنّه من أصحابه ، حتّى كان ـ في هذا ـ أشهر من كثير من السابقين الأوّلين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، كأبي ذر وعمّار والمقداد وأضرابهم ) .

هكذا نشأت ( الأمويّة ) مرّة أُخرى ، تغالب الهاشميّة باسم الهاشميّة في علنها ، وتكيد لها كيدها في سرّها ، فتندفع مع انطلاق الزمن تخدع العامّة بدهائها ، وتشتري الخاصّة بما تغدقه عليه من أموال الأمّة ، وبما تؤثرهم به من الوظائف التي ما جعلها الله للخوَنة مِن أمثالهم ، وتستغلّ مظاهر الفتح وإحراز الرضا من الخلفاء .

حتّى إذا استتب أمر ( الأمويّة ) بدهاء معاوية ، انسلّت إلى أحكام الدين انسلال الشياطين ، تدسّ فيها دسّها ، وتفسد إفسادها ، راجعة بالحياة إلى جاهليّة تبعث الاستهتار والزندقة ، وفق نهجٍ جاهلي ، وخطّة نفعيّة ، ترجوها ( الأمويّة ) لاستيفاء منافعها ، وتستخرها لحفظ امتيازاتها .

والناس ـ عامّة ـ لا يفطنون لشيء من هذا ، فإنّ القاعدة المعمول بها في الإسلام ـ أعني قولهم : الإسلام يجبّ ما قبله ـ ألقت على فظائع ( الأمويّة ) ستراً حجبها ، ولا سيّما بعد أنْ عفا عنها رسول الله وتألفها ، وبعد أنْ قرّبها الخلفاء منهم ، واصطفوها بالولايات على المسلمين ، وأعطوها من الصلاحيّات ما لم يعطوا غيرها من ولاتهم ، فسارت في الشام سيرتها عشرين عاما {لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] ولا ينهون .

وهذا ما أطغى معاوية ، وأرهف عزمه على تنفيذ خططه ( الأمويّة ) ، وقد وقف الحسن والحسين من دهائه ومكره إزاء خطرٍ فظيع ، يهدّد الإسلام باسم الإسلام ، ويطغى على نور الحقّ باسم الحق ، فكانا في دفع هذا الخطر أمام أمرين لا ثالث لهما : إمّا المقاومة ، وإمّا المسالمة .

وقد رأيا أنّ المقاومة في دور الحسن تؤدّي لا محالة إلى فناء هذا الصفّ المدافع عن الدين وأهله ، والهادي إلى الله عزّ وجل ، وإلى صراطه المستقيم ، إذ لو غامر الحسن يومئذٍ بنفسه وبالهاشميّن وأوليائهم ، فواجه بهم القوّة التي لا قِبل لهم بها مصمّما على التضحية ، تصميم أخيه يوم ( الطف ) لانكشفت المعركة عن قتلهم جميعاً ، ولأنتصرت ( الأمويّة ) بذلك نصراً تعجز عنه إمكانيّاتها ، ولا تنحسر عن مثله أحلامها وأُمنياتها ، إذ يخلو بعدهم لها الميدان ، تمعن في تَيهها كلّ إمعان ، وبهذا يكون الحسن ـ وحاشاه ـ قد وقع فيما فرّ منه على أقبح الوجوه ، ولا يكون لتضحيته أثر لدى الرأي العام إلاّ التنديد والتفنيد ؛ لأنّ معاوية كان يطلب الصلح ملحّا على الحسن بذلك ، وكان يبذل له من الشروط لله تعالى وللأُمّة كلّ ما يشاء ، يناشده الله في حقن دماء أمّة جدّه .

وقد أعلن طلبه هذا فعلمه المعسكران ، مع أنّ الغلبة كانت في جانبه لو استمرّ القتال ، يعلم ذلك الحسن ومعاوية وجنودهما ، فلو أصرّ الحسن ـ والحال هذه ـ على القتال ، ثمّ كانت العاقبة عليه لعذله العاذلون وقالوا فيه ما يشاؤون .

ولو اعتذر الحسن يومئذٍ بأنّ معاوية لا يفي بشرط ، ولا هو بمأمون على الدين ولا على الأمّة ، لمَا قَبل العامّة يومئذٍ عذره ، إذ كانت مغرورة بمعاوية كما أوضحناه ، ولم تكن الأمويّة يومئذٍ سافرة بعيوبها سفوراً بيّناً بما يؤيّد الحسن أو يخذل معاوية ، لاغترار الناس بمعاوية وبمكانته من أُولي الأمر الأوّلين ، لكنْ انكشف الغطاء ، في دور سيّد الشهداء فكان لتضحيته ( عليه السلام ) من نصرة الحق وأوليائه آثاره الخالدة .

ومن هنا رأى الحسن ( عليه السلام ) أنْ يترك معاوية لطغيانه ، ويمتحنه بما يصبو إليه من الملك ، لكن أخذ عليه في عقد الصلح ، أنْ لا يعدو الكتاب والسنّة في شيء من سيرته وسيرة أعوانه ومقوّية سلطانه ، وأنْ لا يطلب أحداً من الشيعة بذنبٍ أذنبه مع الأموية ، وأنْ يكون لهم من الكرامة وسائر الحقوق ما لغيرهم من المسلمين ، وأنْ ، وأنْ ، وأنْ . إلى غير ذلك من الشروط التي كان الحسن عالماً بأنّ معاوية لا يفي له بشيء منها ، وأنّه سيقوم بنقائضها .

هذا ما أعدّه ( عليه السلام ) لرفع الغطاء عن الوجه ( الأموي ) المموّه ، ولصَهر الطلاء عن مظاهر معاوية الزائفة ، ليبرز حينئذٍ هو وسائر أبطال ( الأمويّة ) كما هُم جاهليّين ، لم تخفق صدورهم بروح الإسلام لحظة ، ثأريّين لم تُنسِهم مواهب الإسلام ومراحمه شيئاً من أحقادِ بدرٍ وأُحد والأحزاب .

وبالجملة فإنّ هذه الخطّة ثورةٌ عاصفة في سلمٍ لم يكن منه بُد ، أملاه ظرفُ الحسن ، إذ التبس فيه الحقّ بالباطل ، وتسنّى للطغيان فيه سيطرةٌ مسلّحةٌ ضارية .

وما كان الحسن ببادئ هذه الخطّة ولا بخاتمها ، بل أخذها فيما أخذه من إرثه ، وتركها مع ما تركه من ميراثه ، فهو كغيره من أئمّة هذا البيت ، يسترشد الرسالة في إقدامه وفي إحجامه ، امتُحن بهذهِ الخطّة فرضَخ لها صابراً محتسباً وخرجَ منها ظافراً طاهراً ، لم تُنجّسه الجاهليّة بأنجاسها ، ولم تُلبسه من مُدلهمّات ثيابها .

أخذ هذه الخطّة من صلح ( الحديبيّة ) فيما أثَر من سياسة جدّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وله فيه أسوةٌ حسنة ، إذ أنكر عليه بعضُ الخاصّة مِن أصحابه كما أنكر على الحسن صُلح ( ساباط ) بعض الخاصّة من أوليائه ، فلم يهن بذلك عزمه ، ولا ضاق به ذرعه .

تهيّأ للحسن بهذا الصلح أنْ يَغرس في طريق معاوية كميناً من نفسه ، يثور عليه من حيث لا يشعر فيُرديه ، وتسنّى له به أْن يلغم نصر الأمويّة ببارود الأمويّة نفسها ، فيجعل نصرها جفاء ، وريحا هباء .

لم يطل الوقت حتّى انفجرت أُولى القنابل المغروسة في شروط الصلح ، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره ، إذ انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة ، فقال ـ وقد قام خطيباً فيهم ـ : ( يا أهل العراق ، إنّي والله لم أُقاتلكم لتصلّوا ولا لتصوموا ، ولا لتزكّوا ، ولا لتحجّوا ، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وانتم كارهون .

ألا وأنّ كلّ شيء أعطيته للحسن بن عليّ جعلته تحتَ قدمَيَّ هاتين !) .

فلمّا تمّت له البيعة خطب فذكر عليّاً فنال منه ، ونال من الحسن ، فقام الحسين ليردّ عليه ، فقال له الحسن : ( على رسلك يا أخي ) .

ثمّ قال ( عليه السلام ) فقال : ( أيها الذاكر عليّاً ! أنا الحسنُ وأبي عليّ ، وأنتَ معاوية وأبوك صخر ، وأُمّي فاطمة وأُمّك هند، وجدّي رسولُ الله وجدّك عتبة ، وجدّتي خديجة وجدّتك فتيلة ، فلعنَ الله أخملنا ذكراً وألأَمَنا حسباً ، وشرّنا قديماً ، وأقدمنا كفراً ونفاقاً !) .

فقالت طوائف من أهل المسجد : ( آمين ) .

ثمً تتابعت سياسة معاوية ، تتفجّر بكلّ ما يُخالف الكتاب والسنة مِن كلّ منكرٍ في الإسلام ، قتلاً للأبرار ، وهتكاً للأعراض ، وسلباً للأموال ، وسجناً للأحرار ، وتشريداً للمصلحين ، وتأييداً للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته ، كابن العاص ، وابن شعبة ، وابن سعيد ، وابن ارطاة ، وابن جندب ، وابن السمط ، وابن الحكَم ، وابن مرجانة ، وابن عقبة ، وابن سميّة الذي نفاه عن أبيه الشرعي عبيد ، وألحقه بالمسافح أبيه أبي سفيان ليجعله بذلك أخاه ، يسلّطه على الشيعة في العراق ، يسومهم سوء العذاب ، يذبّح أبناءهم ، ويستَحيي نساءهم ، ويفرّقهم عباديد ، تحت كلّ كوكب ، ويحرق بيوتهم ، ويصطفي أموالهم ، لا يألو جهداً في ظلمهم بكلّ طريق .

ختم معاوية منكراته هذه بحمل خليعه المهتوك على رقاب المسلمين ، يعيث في دينهم ودنياهم ، فكان من خليعه ما كان يوم الطف ، ويوم الحرّة ، ويوم مكّة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق !.

هذه خاتمة أعمال معاوية ، وإنّها لتلائم كلّ الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة .

ومهما يكن من أمر ، فالمهم أنّ الحوادث جاءت تفسيرَ خطّة الحسن وتجلوها ، وكان أهمّ ما يرمي إليه سلام الله عليه ، أنْ يرفع اللثام عن هؤلاء الطغاة ، ليحوّل بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جدّه من الكيد .

وقد تمّ له كلّ ما أراد ، حتّى برح الخفاء ، وآذن أمر الأمويّة بالجلاء .

وبهذا استتب لصنوه سيّد الشهداء أنْ يثور ثورته التي أوضح الله بها الكتاب ، وجعله فيها عبرة لأولي الألباب .

وقد كانا ( عليهما السلام ) وجهين لرسالة واحدة ، كلّ وجه منهما في موضعه منها ، وفي زمانه من مراحلها ، يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازنه بالتضحية في سبيلها .

فالحسن لم يبخل بنفسه ، ولم يكن الحسين أسخى منه بها في سبيل الله ، وإنّما صان نفسه ، ويجنّدها في جهادٍ صامت ، فلمّا حان الوقت كانت شهادة كربلاء شهادة حسنيّة ، قبل أنْ تكون حسينيّة .

وكانا ( عليهما السلام ) كأنّهما متّفقان على تصميم الخطّة : أنْ يكون للحسن منها دورَ الصابر الحكيم ، وللحسين دور الثائر الكريم ، لتتألّف من الدورين خطّة كاملة ذاتَ غرضٍ واحد .

وقد وقف الناس ـ بعد حادثتَي ساباط والطف ـ يمعنون في الأحداث فيَرَون في هؤلاء الأمويّين عصبةً جاهليّةً منكرة ، بحيث لو مثّلت العصبيّات الجلفة النذلة الظلُوم لم تكن غيرهم ، بل تكون دونهم في الخطر على الإسلام وأهله .

نعم أدرك الرأي العام بفضل الحسن والحسين وحكمة تدبيرهما ، كلّ خافيةٍ من أمر ( الأمويّة ) وأُمور مسدّدي سهمها على نحوٍ واضح .

أدرك ـ فيما يتّصل بالأمويّين ـ أنّ العلاقة بينهم وبين الإسلام إنّما هي علاقة عِداءٍ مُستحكَم ، ضرورة أنّه إذا كان المُلك هو ما تَهدِف إليه الأمويّة ، فقد بلغه معاوية ، وأتاحه له الحسن ، فما بالها تلاحقه بالسمّ وأنواع الظلم والهضم ، وتتقصّى الأحرار الأبرار من أوليائه لتستأصل شأفتهم وتقتلع بذرتهم ؟!..

وإذا كان المُلك وحده هو ما تهدف إليه الأمويّة ، فقد أُزيح الحسين من الطريق ، وتمّ ليزيد ما يُريد ، فما بالها لا تكفّ ولا ترعوي ، وإنّما تُسرف أقسى ما يكون الإسراف والإجحاف في حركةٍ من حركات الإفناء على نمطٍ من الاستهتار ، لا يُعهد في تاريخ الجزّارين والبرابرة !!..)(8) .

ثانياً : ردّ سيرة الرسول محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ومعطياتها إلى أُصول نصرانيّة أو يهوديّة : فقد كتب المُستشرق ( درمنغهام ) في ذلك قائلاً : ( إنّه في إحدى الرحلات إلى الشام ، التقى بالراهب بُحيرى في جوار مدينة بُصرى ، وإنّ الراهب رأى فيه علامات النبوّة على ما تدلّه عليه أنباء الكُتب الدينيّة . وفي الشام عرفَ محمّد أخبار الروم ونصرانيّتهم وكتابهم ، ومناوأة الفرس من عبّاد النار لهم وانتظار الوقيعة بهم ) .

ويستطرد درمنغهام في محاولته لإثبات تأثير النصرانيّة على سيرة الرسول محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيقول : (... لم تكن المضاربات الجدليّة لتصرفه عن التأثر بغير الحوادث ودروسها ، وحوادثٌ أليمةٌ ـ كَوفاة أبنائه ـ جديرةٌ بأنْ تستوقف تفكيرهُ ، وأنْ تصرفه كلّ واحدةٍ منها إلى ما كانت خديجة تتقرّب به إلى أصنام الكعبة ، وتنحر لهُبَل واللات والعزّى ومناة الثالثة الأُخرى ، تريد أنْ تفتدي نفسها من ألم الثكل ، فلا يفيد القربان ولا تجدي النحور...

لا ريب إنْ كانت عبادة الأصنام قد بدأت تتزعزع في النفوس ، تحت ضغط النصرانيّة الآتية من الشام مُنحدرةً إليها من الروم ، ومن اليمن ، متخطّية إليها من خليج العرب ( البحر الاحمر من بلاد الحبشة ) . ويستمرّ درمنغهام في نظريّته لتنصير سيرة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في قومه فيقول : (... فلمّا كانت سنة 610م أو نحوها كانت الحالة النفسيّة التي يُعانيها محمّد على أشدّها ، فقد أبهظت عاتقهُ العقيدة بأنّ أمراً جوهريّاً ينقصهُ وينقص قومه ، وأنّ الناس نَسوا هذا الأمر الجوهري ، وتشبّث كلٌ بصنم قومهِ وقبيلته ، وخشيَ الناس الجنّ والأشباح والبوارح ، وأهملوا الحقيقة العليا ، ولعلّهم لم ينكروها ، ولكنّهم نسوها نسياناً هو موت الروح... ولقد عرف أنّ المسيحيّين في الشام ومكّة لهم دين أُوحيَ به (!) وأنّ أقواماً غيرهم نزلت عليهم كلمة الله ، وأنّهم عرفوا الحقّ ووَعَوه أنْ جاءهم علم من أنبيّاء أُوحي إليهم به ، وكلّما ضلّ الناس بعثت السماء إليهم نبيّاً يهديهم إلى الصراط المستقيم ، ويذكرهم بالحقيقة الخالدة .

وهذا الدين الذي جاء بهِ الأنبياء في كلّ الأزمان دين واحد ، فكلّما أفسده الناس جاءهم رسول من السماء يقوّم عوجهم ، وقد كان الشعب العربي يومئذٍ في أشدّ تيهاء الضلال ، أما آن لرحمة الله أنْ تظهر فيهم مرّة أُخرى وأنْ تهديهم إلى الحق ؟ )(9) .

ويتحدّث عن هذا التزوير للحقائق التاريخيّة الأُستاذ جواد عليّ قائلاً : ( إنّ معظم المستشرقين النصارى هُم مِن طبقة رجال الدين ، أو ممّن تخرّج من كليّات اللاهوت ، وهُم عندما يتطرّقون إلى الموضوعات الحسّاسة من الإسلام يُحاولون جهد إمكانهم ردّها إلى أصل نصراني . وطائفة المستشرقين من اليهود يُجهدون أنفسهم لردّ كل ما هو إسلامي وعربي لأصلٍ يهودي ، وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء )(10) .

وفي كتابٍ آخر عمل مستشرق وهو قسّيس انجليكاني على عقد عدّة مقارنات ليظهر إن الإسلام كان حقّاً صورة غير محكمة أو مشوهة للنصرانيّة(11) .

ثالثاً : اعتماد منهج كيفي مناقض للمنهج العلمي في تناول السيرة الشريفة للرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) : وإلى ذلك أشار الدكتور جواد عليّ من أنْ ( كيناني ) وهو من كِبار المستشرقين الأوائل الذين كتبوا عن حياة محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، كان يعتمد منهجاً معكوساً في البحث يذكّرنا بكثير من المختصّين الجُدد في حقل التاريخ الإسلامي ، والذين يعملون وفْق منهج خاطئ من أساسه ، إذ أنّهم يتبنّون فكرة مُسبقة ثمّ يجيئون إلى وقائع التاريخ لكي يستلّوا منها ما يؤيّد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك ، فلقد كان ( كيناني ) ذا رأيٍ وفكرة ، وضع رأيه وكونه في السيرة قبل الشروع في تدوينها .

فلمّا شرع فيها استعان بكلّ خبر من الأخبار ظفر به ، ضعيفها وقويّها ، وتمسّك بها كلّها ولا سيما ما يُلائم رأيه . لم يُبال بالخبر الضعيف ، بل قوّاه وسنده وعدّه حجّة وبنى حكمه عليه ، ومَن يدري فلعلّه كان يعلم بسلاسل الكذِب المشهورة والمعروفة عند العلماء ، ولكنّه عفا عنها وغضَّ نظره عن أقوال أولئك العلماء فيها ؛ لأنّه صاحب فكرة يريد إثباتها بأيّة طريقةٍ كانت ، وكيف يتمكّن من إثباتها وإظهارها وتدوينها ، إذا ترك تلك الروايات وعالجها معالجةَ نقدٍ وجرحٍ وتعديل على أساليب البحث الحديث ؟)(12) .

وأشار أيضاً ( ايتين القيم ) إلى بعض الآراء حول هذا المنهج قائلاً : (لقد أصاب الدكتور سنوك هرمزونية بقوله :

( إنّ سيرة محمّد الحديثة تدلّ على أنّ البحوث التاريخيّة مقضيٌّ عليها بالعقم ، إذا سُخّرت لأيّه نظريّةٍ أو رأيٍ سابق ) . هذه حقيقة يَجمل بمستشرقيّ العصر جميعاً أنْ يضعوها نصب أعينِهم ، فإنّها تشفيهم من داء الأحكام السابقة ، التي تكلّفهم من الجهود ما يُجاوز حدّ الطاقة فيصلون إلى نتائج لا شكّ خاطئة ، فقد يحتاجون في تأييد رأيٍ من الآراء إلى هدم بعض الأخبار وليس هذا بالأمر الهيّن ، ثمّ إلى بناء أخبار تقوم مقام ما هدموا ، وهذا أمرٌ لا ريب مستحيل .

إنّ العالم في القرن العشرين يحتاج إلى معرفة كثير من العوامل الجوهريّة ، كالزمن والبيئة والإقليم والعادات والحاجات والمطامع والميول إلى آخره ، لا سيّما إدراك تلك القُوى الباطنة ، التي لا تقع تحت مقاييس المعقول والتي يعمل بتأثيرها الأفراد والجماعات )(13) .

وهناك المئات من مفردات المنهج الكيفي والتفسير على ضوء المسبقات والخلفيّات الخاصّة للنصوص التاريخيّة ، في العديد من مؤلّفات وكتابات المستشرقين خصوصاً الأوائل منهم ، فمثلاً ( بروكلمان )(14)، لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، في أشدّ ساعات محنته ، لكنّه يقول : ( ثمّ هاجم المسلمون بني قريظة الذين كان سلوكهم غامضاً على كلّ حال )(15)... أمّا ( إسرائيل ولفنسون ) فيتغاضى عن حادثة نعيم بن مسعود في معركة الخندق ، كسببٍ في انعدام الثقة بين المشركين واليهود .

رابعاً : تصوير مواقف الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من اليهود وقبائل العرب الجاهليّة ، على أنّها ظلمٌ وتعسّف . ومن أمثلة ذلك ما أشار إليه المستشرق ( اسرائيل ولفنسون ) بصدد مهاجمة يهود بني النضير ، حيث إنّه لا يقرّ بما قاله مؤرّخو الإسلام ، من أنّ سبب إعلان الحرب على يهود بني النضير هو محاولتهم اغتيال الرسول محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )، فيقول : (... لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذِبها بعدم وجود ذكر لها في سورة الحشر التي نزلت بعد إجلاء بني النضير .

والذي يظهر لكلّ ذي عينين أنّ بني النضير لم يكونوا ينوون الغدر بالنبيّ واغتياله على مثل هذه الصورة ؛ لأنّهم كانوا يخشون عاقبة فعلهم من أنصاره ، ولو أنّهم كانوا ينوون اغتياله غدراً لما كانت هناك ضرورة لإلقاء الصخرة عليه من فوق الحائط ، كان في استطاعتهم أنْ يفاجئوه وهو يُحادثهم إذ لم يكن معه غير قليلٍ من أصحابه )(16) .

أمّا المستشرق ( فلهاوزن ) فيقول : ( لم يبقَ الإسلام على تسامحه بعد بدر ، بل شرَع في الأخذ بسياسة الإرهاب في داخل المدينة ، وكانت إثارة مشكلة المنافقين علامة على ذلك التحوّل... أمّا اليهود فقد حاول أنْ يُظهرهم بمظهر المعتدين الناكثين للعهد ، وفي غضون سنوات قليلة أخرج كلّ الجماعات اليهوديّة أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة ، حيث كانوا يكوّنون جماعات متماسكة كالقبائل العربيّة ، وقد التمس لذلك أسباباً واهية...)(17) .

ويتعاطف المستشرق ( مرجليوث ) مع اليهود ، ويرى أنّ اقتحام خيبر محضَ ظلمٍ نزل باليهود لا مبرّر له على الإطلاق(18).. ويُؤاخذ المستشرق ( نولدكه ) القبائل العربيّة ، على عدم تحالفهم الدقيق في مواجهة الرسول محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ويتمنّى ( لو أنّ القبائل العربيّة استطاعت أنْ تعقد بينها محالفات عربيّة دقيقة ضدّ محمّد ؛ للدفاع عن طقوسهم وشعائرهم الدينيّة ، والذود عن استقلالهم ، إذن لأصبح جهادَ محمّد جندهَم غير مجدٍ ، إلاّ أنّ عجز العربي عن أنْ يجمع شتات القبائل المتفرّقة قد سمح له أنْ يخضعهم لدينه ، القبيلة تلو الأُخرى ، وأنْ ينتصر عليهم بكلّ وسيلة ، فتارةً بالقوّة وتارةً بالمحالفات الوديّة والوسائل السلميّة )(19) .

خامساً : تصوير سيرة النبيّ محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على أنّها نتاج بيئته : يقول المستشرق ( جب ) :

( إنّ محمّداً ككلّ شخصيّة مُبدعة ، قد تأثّرت بضرورات الظروف الخارجيّة عنه المحيطة به ، من جهة أُخرى قد شقّ طريقاً جديداً بين الأفكار والعقائد السائدة في زمانه ، والدائرة في المكان الذي نشأ فيه... وقليل ما هو معروف ـ على سبيل التأكيد ـ عن حياته وظروفه المبكّرة... ولكن الشيء الذي يصحّ أنْ يُبحث ماضيه الاجتماعي....

لقد كان أحد سكان ( مدينة ) غير رئيسيّة ، وليس هناك ما يصحّ أنْ يصوّره بأكثر من أنّه ( بدوي ) ، شارك في الفكرة والنظرة في الحياة التي كانت للبدو الرُحّل من الناس ، و( مكّة ) في ذات الوقت لم تكن خلاءً بعيداً عن صخب العالم ، وعن حركته في التعامل ، بل كانت مدينة ذات ثروة اقتصاديّة ، ولها حركة دائبة كمركز للتوزيع التجاري بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسّط .

و( سكّانها ) مع احتفاظهم بطابع البساطة العربيّة الأوليّة في سلوكهم ومنشآتهم ، اكتسبوا معارفَ واسعةً بالإنسان والمدن ، عن طريق تبادلهم الاقتصادي والسياسي مع العرب الرحل ، ومع الرسميّين من رجال الإمبراطوريّة الرومانيّة ، وهذه التجارب قد كوّنت في زعماء مكّة ملَكات عقليّة ، وضروباً من الفطنة وضبط النفس لم تكن موجودةً عند كثير من العرب .

ثمّ إنّ ( السيادة الروحيّة ) التي اكتسبها المكّيون من قديم الزمان على العرب الرحّل ، زادت قوّةً ونموّاً بفضل الإشراف على عدد من ( المقدّسات الدينيّة ) التي وجِدت داخل مكّة وبالقرب منها ، وانطباع هذا الماضي الممتاز لـ ( مكّة ) ، يمكن أنْ نقف على أثره واضحاً في كلّ ادوار حياة محمّد...

وبتعبيرٍ إنساني : إنّ محمّداً نجح لأنّه كان واحداً من المكّيّين!... ولكن بجانب هذا الازدهار في ( مكة ) ، كانت هناك ناحية أُخرى مظلمة خلّفتها تلك الشرور المعروفة لجماعة اقتصاديّة ثريّة ، فيها فجوات واسعة من الغنى والفقر ! هذه الناحية ، هي ناحية الإجرام الإنساني الذي تمثّل في الأرقّاء والخدَم وفي الحواجز الاجتماعيّة... وواضح من دعوة محمّد الصارخة إلى مكافحة الظلم الاجتماعي ، أنّ هذه الناحية كانت سبباً من الأسباب العميقة لثورته الداخليّة ( النفسيّة ))!(20)

ويستطرد ( جب ) في محاولته لإثبات أنّ الاتّجاه الديني للرسول محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، وسعْيه لإنشاء حكومة دينيّة وجماعة دينيّة ، إنّما كان بتأثير الطابع القدسي الديني لمكّة وزعامتها الدينيّة لباقبي المدن العربيّة الأُخرى ، وارتباط وضعها الاقتصادي بهذه الزعامة الدينيّة ، الذي أدّى إلى وقوع الصراع بينهم وبين الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من أجل ذلك ، فيقول ( جب ) : ( ولكن نواة هذه الثورة النفسيّة لم تظهر في صورة ( إصلاح اجتماعي ) ، بل بدلاً من ذلك دفعته إلى ( اتجاه ديني ) أعلنه في اعتقادٍ ثابت لا يتأرجح : بأنّه رسولٌ من الله ، لينذر أتباعه بإنذار الرسُل الساميّين القديم : توبوا ، فجزاء الله حق !!. وكل ما وُجِد بعد ذلك كان نتيجةً منتظرة للتصادم بين هذا الاعتقاد ( بأنّه رسول ) وبين الكفر به ، ومعارضته من فريقٍ بعد فريق....

وهناك حقيقة واحدة مؤكّدة ( في تاريخه ) وهي : أنّ الدافع له كان ( دينيّاً ) على الإطلاق ، فمن بدء حياته كداعٍ كانت نظرته إلى الأشخاص والأحداث وحكمه عليها نظرة تأثر فيها ، بما عنده من صورة عن الحكومة الدينيّة وأغراضها في عالم الإنسان !!.. ومحمّد في البداية ، لم يكن نفسه على علمٍ بأنّه صاحب دعوةٍ إلى دين جديد ! بل كانت معارضة المكّيّين له ، وخصومتهم له من مرحلةٍ إلى أُخرى ، هي التي قادته أخيراً وهو بالمدينة ـ بعد أنّ هاجر إليها ـ إلى إعلان الإسلام كجماعة دينيّة جديدة ، بإيمانها الخاص ، وبمنشآتها الخاصّة .

... ويبدو أنّ معارضة المكّيّين له لم تكن محافظتهم وتمسّكهم بالقديم ، أو بسبب عدم رغبتهم في الإيمان ، بل ترجع أكثر ما ترجع إلى أسباب سياسيّة واقتصاديّة ، لقد تملّكهم الخوف من آثار دعوته ، التي تؤثّر على ازدهارهم الاقتصادي وبالأخص تلك الآثار التي يجوز أنْ تلحق ضرراً بالقيمة الاقتصاديّة لمقدّساتهم... وبالإضافة إلى ذلك ، فإنّ المكيّين قد تصوّروا ـ أسرع ممّا تصوّر محمّدٌ نفسه ـ أنّ قبولهم لتعاليمه ربّما يُمهّد لنوعٍ معقّد من السلطة السياسيّة داخل جماعتهم ، التي كانت تحكمها فئة قليلة حتّى ذلك الوقت )(21) .

سادساً : يقول الدكتور ( رشدي فكار ) : إنّ محاولة المستشرقين تحقيق مخطّطاتهم بالنفاذ من باب السيرة النبويّة ، والتعامل معها كتراث بشري دنيوي ، لا كمعتبِر لوحي السماء . وقد قام المستشرق ( جولد صيهر ) بدور رئيس في التشكيك بصدق السنة النبويّة ، حيث ادّعى هو وغيره أنّها جُمِعت بعد وفاة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بوقتٍ طويل ، وهذا يفقدها الكثير من مصداقيّتها ، بل راح إلى أبعد من ذلك ، فادّعى أنّ الحديث النبوي هو نتيجة لتطوّر المسلمين .

أمّا المستشرق ( الفريد غيوم ) في كتابه ( الحديث في الإسلام ) والمستشرق ( تريثون ) في كتابه ( الإسلام عقيدة وعمل ) ، فقد حاول كل منهما الطعن في طرق جمع السنة المطهرة ، زاعمين أنّ السنة النبويّة الصحيحة لم يُكتب لها البقاء ؛ لأنّها لم تدوّن ، بل كانت تُتناقل شفاهةً بين الأفراد لمدّة قرنين من الزمان(22) .

ويشير المستشرق ( درمنغهام ) إلى هذه الادّعاءات ، ويذكر لنا نمطاً آخر منها فيقول : ( من المؤسف حقّاً أنْ غالى بعض هؤلاء المتخصّصين ـ من أمثال ( موبر ) و( مرجليوث ) و( نولدكه ) و( سبرنجر ) و( دوزي ) و( كيتاني ) و( مارسين ) و( غريم ) و( جولد صيهر ) و( غود فروا ) وغيرهم ـ في النقد أحيانا ، فلم تزل كتبهم عاملَ هدمٍ على الخصوص ، ومن المُحزن ألاّ تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبيّةً ناقصة...

ومن دواعي الأسف أنْ كان الأب ( لامانس ) ، الذي هو من أشهر المستشرقين المعاصرين من أشدّهم تعصّباً ، وأنّه شوّه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبيّ الإسلام ، فعند هذا العالِم اليسوعي أنّ الحديث إذا وافق القرآن كان منقولاً عن القرآن ، فلا أدري كيف يُمكن تأليف التاريخ ، إذا اقتضى تطابق الدليلين تهادمهما بحكم الضرورة ، بدلاً من أنْ يؤيّد أحدهما الأخر ؟)(23) .

والأكثر غرابة هو موقف بعض المستشرقين من القرآن كمصدر أساسي من مصادر السيرة النبويّة ، فهم ينفون الكثير من وقائع السيرة إذا لم تكن واردة في القرآن الكريم ، وهم بعبارةٍ أُخرى ، يريدون أنْ يُوهموا بهذه الحجّة أنّ عمليّة انتقائهم المغرضة لبعض وقائع السيرة ، وترك البعض الأخر ـ بهدف هدم هذه السيرة ونفيها ـ لم يكن جزافاً ، بل كان على أساس الاتّكاء على المصدر الفيصل لدى المسلمين ، في بيان حقائق دينهم ونبيّهم .

ومن الأمثلة على ذلك ما يدّعيه المستشرق ( شبنغلر )(24) من أنّ اسم النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ورد في أربع سوِر من القرآن هي آل عمران والأحزاب ومحمّد والفتح ، وكلّها سوِر مدنيّة ، ومِن ثمّ فإنّ لفظة ( محمّد ) لم تكن اسم علَم للرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قبل الهجرة ، وإنّما اتّخذه بتأثير قراءته للإنجيل واتّصاله بالنصارى(25) ، ومن الأمثلة أيضاً ما أشار إليه المستشرق ( إسرائيل ولفنسون ) ـ الذي مرّ ذكره ـ بصدد مهاجمة يهود بني النضير ، من أنّ مؤرّخي المسلمين يذكرون سبباً آخر لإعلان الحرب على هذه الطائفة اليهوديّة ، ذلك هو محاولتهم اغتيال الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).

ويدّعي ( ولفنسون ) أنّ المستشرقين يقولون بغير ذلك فيقول : ( لكنّ المستشرقين ينكرون صحّة هذه الرواية ويستدلّون على كذبها بعدم وجودِ ذكرٍ لها في سورة الحشر ، التي نزلت بعد إجلاء بني النضير )(26) .

ويُعتبر ما ذكره ( مونتغمري وات ) ـ بصدد تثبيت الشبهات وتكريس الشكوك حول معطيات السيرة النبويّة ، ومصداقيّتها القدسيّة ، على أساس الدليل والحجّة القاطعة ـ قناعاً يقنع به ذلك المنهج الاعتباطي المُغرض ؛ لأنّه هو نفسه لم يلتزم بما قاله ، وكشف من خلال كتاباته زيف ادّعائه وحقيقة منهجه الكيفي ، ممّا يجعلنا نتحفّظ من قوله : ( إذا أردنا أنْ نصحّح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدد ( محمّد ) ، فيجب علينا في كلّ حالة من الحالات لا يقوم الدليل القاطع على ضدّها أنْ نتمسّك بصلابة بصدقه ، ويجب أنْ لا ننسى أيضاً أنّ الدليل القاطع يتطلّب لقبوله أكثر من كونه ممكناً ، وأنّه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه )(27) .

سابعاً : الانطلاق من المنطق الوضعي العلماني ، وطريقة التفكير الأوربيّة في تناول السيرة الشريفة للنبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) : حاول المستشرقون أنْ يخترقوا السيرة النبويّة ، ويُخضعوا حياة نبيّ الإسلام ( محمّد) ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) لعلوم الغربيّين في التربية والسيكولوجيا(28) .

إنّ المنطق الوضعي العلماني والرؤية الأوربيّة في منهج البحث التاريخي أدّى إلى أنْ تقع مجموعة من المستشرقين في تزوير وتحريف الحقائق التاريخيّة ، منها قولهم : ( إنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لم يكن يخطو خطوةً واحدة ، وهو يعلم مسبقاً ما الذي يليها...) ، أي إنّه كان يتحرّك وفق ما تمليه عليه الظروف الراهنة من متطلّبات ولوازم ، دونما أيّ تخطيط شمولي وأُفقٍ عالمي ، كما هو وارد في القرآن الكريم ومتواتر فيما نُقل من السيرة النبويّة .

ومن أبرز من تبنّى هذه المقولة هو المستشرق ( فلهاوزن ) ومجموعته الاستشراقيّة ، إذ قالوا بإقليميّة دعوة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) للإسلام في عصرها المكّي ، وإنّه لم ينتقل إلى المرحلة العالميّة ـ في العصر المدني ـ إلاّ بعد أنْ أتاحت له الظروف ذلك ، ولم يكن ليفكّر بذلك من قبل .

وقد أشار المستشرق ( سير توماس أرنولد ) إلى هذه الرؤية الخاطئة لدى زملائهِ بقوله : ( من الغريب أنْ ينكر بعض المؤرّخين أنّ الإسلام قد قُصد به مؤسّسه في بادئ الأمر ، أنْ يكون ديناً عالميّاً برغم هذه الآيات البيّنات )(29) .

وقد سبقَت الإشارة إلى أنّ المستشرق الفرنسي ( دينيه ) ، الذي أعلن إسلامه قال في هذا الصدد أيضاً : ( إنّه من المتعذّر إنْ لم يكن من المستحيل ، أنْ يتجرّد المُستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم نزعاتهم المختلفة ، وإنّهم لذلك قد بلغ تحريفهم لسيرة النبيّ والصحابة مَبلغاً يُخشى على صورتها الحقيقيّة من شدّة التحريف فيها ، ورغم ما يزعمون من أتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد ، فإنّا نلمس من خلال كتاباتهم محمّداً ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يتحدّث بلهجةٍ ألمانيّة إذا كان المؤلّف ألمانيّاً ، وبلهجةٍ إيطاليّة إذا كان الكاتب إيطاليّاً .

وهكذا تتغيّر صورة محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بتغيّر جنسيّة الكاتب ، وإذا بحثنا في هذهِ السيرة عن الصورة الصحيحة فأنا لا نكاد نجد لها من أثر .

إنّ المستشرقين يقدّمون لنا صوراً خياليّة هي أبعد ما تكون عن الحقيقة ، إنّها أبعد عن الحقيقة من أشخاص القصص التأريخيّة التي يؤلّفها أمثال ( وولتر سكوت ) و( الكسندر دوماس ) .

وذلك أنّ هؤلاء يصوّرون أشخاصا من أبناء قومهم ، فليس عليهم إلاّ أنْ يحسبوا حساب اختلاف الأزمنة ، أمّا المُستشرقون فلم يمكنهم أنْ يلبسوا الصورة الحقيقيّة لأشخاص السيرة فصوّروهم حسب منطقهم الغربي وخيالهم العصري...) .

ولتقريب الفكرة يضرب ( دينيه ) مثلاً عكسيّاً : ( ما رأي الأوربيّين في عالم مِن أقصى الصين يتناول المتناقضات ، التي تكثر عن مؤرّخي الفرنسيّين ويمحصّها بمنطقه الشرقي البعيد ، ثمّ يهدم قصّة ( الكاردينال ريشيليو )(30) كما نعرفها ليعيد إلينا ريشيليو آخر له عقليّة كاهن من كهنة بكّين وسماته وطباعه ؟

إنّ مستشرقي العصر الحاضر قد انتهوا إلى مثل هذه النتيجة ، فيما يتعلّق برسمهم الحديث لسيرة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، ويُخيّل الينا أنّنا نسمع محمّداً ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يتحدّث في مؤلّفاتهم إمّا باللهجة الألمانيّة أو الانجليزيّة أو الفرنسيّة ، ولا نتمثّلهُ قط بهذه العقليّة والطباع التي ألصقت به ، يحدّثُ عُرباً باللغة العربيّة ) ، ويختم هذا المستشرق المسلم كلامه بالقول : ( إنّ صورة نبيّنا الجليلة التي خلّفها المنقولٍ الإسلامي ، تبدو أجمل وأسمى إذا قيست بهذه الصورة المصطنعة الضئيلة ، التي صيغت في ظلال المكاتب بجهدٍ جهيد)(31) ، وأخيرا فإنّ هذا النمط من أنماط النماذج المختارة في العقليّات الاستشراقيّة والمصبّات الموضوعيّة ، التي وقع الجهد الاستشراقي عليها ، يكشف لنا بوضوح مدى التعصّب والمنهجيّة المغرضة ، والدوافع التبشيريّة والاستعماريّة في وقائع الحركة الاستشراقيّة وأعمال المستشرقين ، فكانت النتائج التي تمخضّت والمعطيات التي أُفرِزت ذات ثلاثة أبعاد أساسيّة :

الأوّل : كان بمثابة مسح ميداني للشرق الإسلامي فكريّاً وحضاريّاً .

الثاني : التشويه الموضوعي للفكر الإسلامي والحضارة القائمة عليه ، بهدف منع تأثّر المجتمع الأوربّي به ، إضافةً إلى تكوين ارتكاز ذهني عن تخلّف المسلمين وجهلهم المركّب ليكون مبرّراً لاستعمارهم .

الثالث : النيل من العقائد الإسلاميّة ( في القرآن وفي الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )... إلخ ) ، وتشويه حقائقها بهدف نفي قدسيّتها من نفوس المسلمين ، وبذلك يمكن فكّ الارتباط بينهم وبين معتقداتهم ، ليتم الجانب السلبي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلاميّة .

وبهذه الأبعاد أو قل المقدّمات الثلاث تتهيّأ الأرضية المناسبة لقيام أوربّا بالغزو التبشيري والاستعماري للشرق الإسلامي فكريّاً وسياسيّاً وعسكريّاً ، فيبرز الجانب الايجابي من عمليّة التغيير للمجتمعات الإسلامية إلى الواقع .

ــــــــــــــــــــــ

(1) قبر رسول الإسلام محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في المدينة المنوّرة وليس في مكّة المكرّمة .

(2) دائرة المعارف الإسلاميّة : 1: 112 .

(3) اعرضنا عن ذكر هذا المحذوف لما فيه من إساءة فاحشة بحقّ الإمام الحسن (عليه السلام) لا يليق بنا إيرادها .

(4) دائرة المعارف الإسلاميّة : 7 : 400 .

(5) دائرة المعارف الإسلاميّة : 6 : 473 .

(6) عليّ ، جواد ـ ( تاريخ العرب في الإسلام ) ـ الجزء الأوّل ـ ص8 ـ 11 من موضوع ( السيرة النبويّة ) .

(7) الحسني ، هاشم معروف ـ سيرة الأئمّة الاثني عشر ـ 1 : 554 ـ 557 .

(8) لمزيد من التفصيل في أسرار صلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) راجع : آل ياسين ، الإمام الشيخ راضي ـ صلح الحسن ( عليه السلام ) .

(9) درمنغهام ، أميل ـ ( حياة محمّد) عن رشيد رضا ، محمّد ( الوحي المحمّدي ) ص100 ـ ص108 .

(10) علي ، جواد ـ ( تاريخ العرب في الإسلام ) ـ الجزء الأوّل (السيرة النبويّة ) ص9 ـ 11 .

(11) د . خليل ، عماد الدين ـ ( المستشرقون والسيرة النبويّة ) ـ مجلّة منار الإسلام العدد 7 .

(12) علي ، جواد ـ ( تاريخ العرب في الإسلام ) ـ الجزء الأوّل ( السيرة النبويّة ) ص95 .

(13) القيم ، ايتين ـ ( الشرق كما يراه الغرب ) ـ المقدّمة ص43 ـ 44 .

(14) بروكلمان ، كارل ( pockelmann 1868 ـ 1956م ) : مستشرق ألماني يُعتبر أحد أبرز المستشرقين في العصر الحديث . أشهر آثاره : ( تاريخ الأدب العربي ) في خمسة مجلّدات ( 1898 ـ 1942م ) ، و( تاريخ الشعوب والدول الإسلاميّة )( عام 1939م ) ، وقد نقلهُ إلى العربيّة نبيّه أمين فارس ومنير البعلبكّي / عن البعلبكّي ، منير ـ موسوعة المورد ـ المجلّد الثاني ص120 .

(15) بروكلمان ، كارل ـ ( تاريخ الشعوب الإسلامية ) ص53 ـ 54 .

(16) ولفنسون ، إسرائيل ـ ( تاريخ اليهود في بلاد العرب ) ـ ص130 ـ 137 .

(17) فلهاوزن ، يوليوس ـ ( الدولة العربيّة وسقوطها ) ـ ص15 ـ 16 .

(18) الدكتور خليل ، عماد الدين ـ ( المستشرقون والسيرة النبويّة ) مجلّة منار الإسلام ـ العدد 7 .

(19) نولدكه ، ثيودور ـ ( تاريخ العالم للمؤرّخين ) الجزء 8 ـ ص11 .

(20) جب ، ( المذهب المحمّدي ) ص47 .

(21) جب ، ( المذهب المحمّدي ) ـ ص27 ـ 29 .

(22) الجندي ، أنور ـ ( أبرز أهداف المستشرقين ) ـ مجلّة منار الإسلام ـ العدد 8 السنة 14.

(23) درمنغهام ، إميل ـ ( حياة محمّد ) ـ المقدّمة ص8 ، 10 ـ 11 .

(24) شبنغلر ، ( أوزوولد Spengler Oswald 1880 ـ 1936م ) : فيلسوف ألماني قال بأنّ الحضارات تولد وتنضج ثمّ تموت كالكائنات الحيّة سَواء بسواء ، وأنّ الحضارة الغربيّة المعاصرة هي في طريقها إلى الموت ، وبأنّ حضارة أُخرى جديدة من آسيا سوف تحلّ محلّها ، أهمّ آثاره : ( انحطاط الغرب ) وهو يقع في مجلّدين .

عن البعلبكّي ، منير ـ موسوعة المورد م9 ص101 .

(25) علي ، جواد . ( تاريخ العرب في الإسلام ) الجزء الأول ص78 وهوامشها ، ويمكننا أنْ ننقض على ( شبنغلر ) هذا فنسأله : إذا كان النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قد التقط اسم محمّد من خلال قراءته لنبوءات الإنجيل ، = فأين إذن ( محمّد ) الحقيقي الذي بُشر به في كتب النصارى ؟

(26) ولفنسون ، إسرائيل ـ ( تاريخ اليهود في بلاد العرب ) ـ ص135 ـ 137 .

(27) وات ، مونتغمري ـ ( محمّد في مكّة ) ـ ص94 .

(28) الجندي ، أنور ـ ( أبرز أهداف المستشرقين ) ـ مجلّة منار الإسلام العدد 8 ـ السنة 14 .

(29) أرنولد ، سير توماس ـ ( الدعوة إلى الإسلام ) ـ ص48 .

(30) ( ريشيليو ) ، آرمان جان دوبليسي ( 1585 ـ 1642م ) كاردينال وسياسي فرنسي ، كبير وزراء لويس الثالث عشر والحاكم الفعلي لفرنسا ( 1628 ـ 1642م ) قضى على نفوذ نبلاء الإقطاع ونفوذ البروتستانت السياسي . سعى إلى إذلال آل هابسبورغ في حرب الأعوام الثلاثين . أجرى إصلاحات ماليّة وعسكريّة وتشريعيّة ، وشجّع التجارة ، ورعى الفنون ، وأنشأ الأكاديميّة الفرنسيّة . عن البعلبكّي ، منير ـ ( المورد ) ـ الجزء الثامن ـ ص150 .

(31) دينيه ، إيتين ـ ( محمّد رسول الله ) ـ ترجمة عبد الحليم محمود ـ المقدّمة ص27 ـ 28، 43 ـ 44 .




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.