أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-1-2019
1376
التاريخ: 11-9-2019
1599
التاريخ: 7-4-2021
4511
التاريخ: 24-4-2020
2053
|
سياسة معاوية وخلفائه
إن معاوية ومن ضرب على قالبه وغراره فَطِنوا بثقوب بصائرهم إلى استعمال كل ما فيه القوة والحياة لملكهم من شتى العناصر في أنفسهم وولاتهم وسائر شعبهم، والآن نريد أن ندرس بإيجاز الأسس التي باتباعها تم النجاح في تشييد البيت الأموي، والتي باضطرابها والتنكب عن سنتها وطبيعتها كان ضياعه وفناؤه.
(1) اصطناع الأحزاب بالمال
قال ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء: «إن أحمد بن يوسف الكاتب قال لأبي يعقوب الخُرَيمي: مدائحك لمحمد بن منصور بن زياد — يعني كاتب البرامكة — أشعر من مراثيك فيه وأجود! فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء، وبينهما بون بعيد.»
واستطرد ابن قتيبة فقال: «وهذه عندي قصة الكميت في مدحه بني أمية وآل أبي طالب، فإنه كان يتشيع وينحرف عن بني أمية بالرأي والهوى، وشعره في بني أمية أجود منه في الطالبيين؛ ولا أرى علة ذلك إلا قوة أسباب الطمع، وإيثار النفس لعاجل الدنيا على آجل الآخرة.»
صدق ابن قتيبة فيما ذهب إليه؛ فإن أثر المال في النفس الإنسانية غير قليل، وإن أثره في اصطناع الأحزاب السياسية لما لا يحتاج إلى تدليل؛ وقد جُبلت النفوس على حبِّ من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
ولقد كان معاوية كيِّسًا فذًّا في استعمال المال واكتساب رضا الجمهور، وكذلك كان كل من ائتمَّ بهديه وسنته في البذل والعطاء، وفي التوسعة على مَن آزرهم وعمِل على نصرتهم، ومدِّ ظلهم وتثبيت عرشهم؛ فقد زاد معاوية في العطاء لمن شهد مواقعه، كما فرض الأعطية للشعراء، غاضًّا طرفه عمَّا في ذلك من إغضاب المحافظين من رجال الدين؛ إذ كان همه أن يمتلك الأبواق المداحة، ويسترضيها بهباته ونواله، لتنشر في الآفاق ذكره، وترفع إلى السماكين فضله، حتى قصده الشعراء وانتجعوه، وناصروه وظاهروه، وحتى علم الخاص والعام أنه إن مدحه أثراه، وإن استرفده أغناه، وإن ناصره راشه وأعلى مكانه، فأضحى نُجعة الروَّاد ومقصدهم، وموئل القُصَّاد ومَنهَلَهم، وكانت الزوجة تستحث عزمات زوجها أن يَهرَع إليه ليصيب من نوافله، وليعود إليها بنوائله، كما كانت تُرغِّب بعلها أن يبيع إبله وأن يفترض في العطاء بشعره.
وقد حكى لنا أبو الفرج الأصفهاني شيئًا من ذلك في أخبار جبيهاء (1) الأشجعي في خبر طويل انتهى بأن قال جبيهاء الأشجعي قصيدته التي فيها:
قالت أنيسة: دع بلادك والتمس دارًا بطيبة ربة الآطامتُ *** كتب عيالُك في العطاء وتفترض وكذاك يفعل حازمُ الأقوام
وهنالك مسألة مهمة من سياستهم في اصطناع الأحزاب، وإلجام الأفواه بالمال، وفرض العطاء للشعراء الذي ظل معمولًا به إلا في أيام عمر بن عبد العزيز، ذلك أنهم كانوا يتملكون رقاب المسلمين بإقراض من شاءوا من مال الصدقة، ويكتبون صكًّا عليهم، ونحن نعلم أن الدَّين همٌّ بالليل ومذلةٌ بالنهار.
ويذكر لنا الأغاني في باب أخبار جعفر بن الزبير ما فرضه له سليمان بن عبد الملك إذ أمر له بألف دينار في دينه، وألف دينار معونة على عياله، وبرقيق من البيض والسودان، وبكثير من طعام الجاري، وأن يُدان من الصدقة بألفي دينار.
على أنه قد يعترض علينا بأن الحادثة التي قدمناها حادثة فردية لا يصح أن تتخذ قاعدة عامة، أو أن يستنبط منها وقوع مثيلاتها وذيوع نظيراتها.
بيد أن الأغاني يُجهِز على هذا الاعتراض؛ إذ يثبت ما نصه: «كان السلطان بالمدينة إذا جاء مال الصدقة أدان مَن أراد من قريش منه، وكتب صكًّا عليه يستعبدهم به ويختلفون إليه ويدارونه، فإذا غضب على أحد منهم استخرج ذلك منه، حتى كان هارونُ الرشيد، فكلمه عبد الله بن مصعب في صكوك بقيت من ذلك على غير واحد من قريش، فأمر بها فأحرقت.»
فمثل هذا التصرف في استرضاء الناس واستعبادهم، وفي إقراضهم المال ليكونوا أولياء، وتعجيزهم وإرهاقهم إن جنحوا لمناوأة ولاة الأمور أو منافستهم، له آثاره من خير وشر في المصلحة الحزبية لبيت بني أمية، طبقًا لما يبديه الزعماء من حنكة وحزم وإصابة لمواقع الصواب.
وبعد، فإن هذا السلاح الماضي في يد الأقوياء لهو أشد مضاء في القضاء على الضعفاء إذا أساءوا استعماله؛ لأنه قد يُبذَل لشراء مثل «الذلفاء» وغيرها من القيان، ولأنه قد يبذله الشباب من الخلفاء في ضروب الخلاعة والاستهتار، فيكون معول هدم ودمار، كما حصل لمحمد الأمين وأمثال محمد الأمين.
وإنا لنرى في أخريات هذا البيت ذي الأثر الكبير في تحول المدنية العربية أن بعض الخلفاء نقص الناس العطاء؛ فعانوا ضيقًا بعد سعة، وشظفًا بعد رفاهية. وشر السياسات أن تصيب صاحب عيش رغيد بإضاقة وحرمان، وأن تنزل به غضاضة التقتير والعسر.
ولننظر ما يقوله اليعقوبي عن خليفة من هذا الطراز: طراز الإضاقة في أرزاق الناس، وعنوان اضمحلال الدولة إذا آذن نجمها بالأفول؛ وآل أمرها إلى الإفلاس.
يقول اليعقوبي عن يزيد بن الوليد بن عبد الملك: إنه سُمِّي يزيد الناقص لأنه نقص الناس من أعطياتهم، واضطربت عليه البلدان، وكان ممن خرج عليه العباس بن الوليد بحمص، وشايعه أهل حمص، وبشر بن الوليد بقنِّسرين، وعمر بن الوليد بالأردن، ويزيد بن سليمان بفلسطين، وساعد العباس أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية وسليمان بن هشام.
يريد اليعقوبي أن يقول من غير شك: إن هؤلاء الأمراء انتهزوا غضب الجند لنقصان الأعطية فثاروا.
ليس هذا فحسب، بل إن سياسة بعض الخلفاء دفعتهم إلى حرمان مدن بحذافيرها من عطائها، كما حصل لأهل مكة والمدينة إذ حُرموا سنة كاملة، في حين نرى معاوية قد زاد عطاء أهل البيت مثل الحسن والحسين وعبد الله بن عباس إلى ١٠٠٠٠٠٠ درهم في السنة؛ فضاعفها مائتي مرة عن حساب ديوان عمر بن الخطاب.
أفلا يجدر بنا بعد ما أسلفناه أن نقتنع بأن المال كان سببًا قويًّا لبناء بيت معاوية، وأن المال نفسه كان — إلى حد غير قليل — سببًا له خطره وقيمته في انهيار هذا البناء!
(2) العمال
قال زياد: ما غلبني معاوية قط إلا في أمر واحد؛ طلبت إليه رجلًا من عُمالي كسر عليَّ الخراج، فلجأ إليه، فكتبت إليه: «إن هذا فساد عملي وعملك»، فكتب إلي: إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة: لا نلين جميعًا فيمرح الناس في المعصية، ولا نشتد فنحمل الناس على المهالك، ولكن تكون أنت للشدة والفظاظة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة.
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج حين استأذنه في أخذ تلك الصبابة من المال التي تترك لأصحاب الأراضي يتعللون بها، ولتكون لهم ردءًا وظهيرًا إذا نزلت بساحتهم النوائب والجوائح، قال: «لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك، وأبقِ لهم لحومًا يعقدون بها شحومًا.»
بمثل هذه السياسة بين العمال والخلفاء، وبمثل اختيار معاوية وغير معاوية؛ كهشام وعبد الملك، لعمال ذوي كفاية ودهاء، وحذق وحسن بلاء؛ كزياد ومَن على شاكلته، أتيح لمعاوية وخلفاء معاوية تبوُّء عرش المملكة العربية قوي الأركان لا تعتصره العواصف والأعاصير، ثابتًا لا تزعزعه ثورات الخوارج ولا حروب المنافسين.
كانت الدولة أيام معاوية، أيام بنائها وتشييدها، أيام تلك المصاعب الكأداء التي اعتورت سبيلهم، وتلك الشدائد التي تُشيب وتُفزع، وتقض المضاجع، وتجتث من النفوس آمالها، ومن العزمات مضاءها، ومن القلوب بأسها — كانت الدولة يومئذ غنية بالكفايات، خصبة بمهرة العمال وحذاق الولاة. ولعلها سُنَّة طبيعة أن يكون دور بناء العروش والممالك خصبًا برجاله الكُفاة، كما يكون دور انحلالها قاحلًا عقيمًا في كل شيء، وإن كانت الأمم وهي تتقطع أنفاسها قد لا تخلو ممن لا يألو جهدًا في سبيل إقالتها من عثرتها، وإنهاضها من سقطتها.
ألم يكن إلى جانب معاوية في عصر البناء أصحاب الكفايات النادرة من العمال والولاة أمثال: عمرو بن العاص وزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة الذين يقول فيهم بعض النقاد: «ما رأيت أثقل حلمًا ولا أطول أناة من معاوية، ولا رأيت أغلب للرجال ولا أبذَّ لهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص، ولا أشبه سرًّا بعلانية من زياد، ولو كان المغيرة في مدينة لها ثمانية أبواب لا يُخرَج من باب منها إلا بالمكر؛ لخرج من أبوابها كلها.»
على أنه يجدر بنا أن نصور حالة الولاة الكُفاة أيام القوة، وما آل إليه أمرهم بعد ذلك حتى أضحوا يتقربون إلى الخلفاء بالهدايا والألطاف والرشا مع عَسْف الرعية والكيد لها، ولنترك لليعقوبي التكلم عن الحالة الأولى، ولابن الأثير بيان الثانية، ثم نردف ذلك ببعض الحقائق التاريخية لكي يتاح لنا بعدئذ أن نطمئن إلى تقدير هذا العنصر — عنصر العمال — وأنه لا يقل عن المال قوة وأثرًا، سواء أكان ذلك في البناء أم في الهدم، أما البناء فبحسن اختيار العمال وكفاياتهم، وأما الهدم فبعسف الولاة وخرقهم، وسوء اختيارهم، وقلة بضاعتهم في تدبير الممالك وسياسة الناس.
قال اليعقوبي في معرض كلامه عن زياد بن أبيه بعد أن وصف ما له من دهاء وحيلة وصولة: «كان زياد يقول: مِلاكُ السلطان أربعُ خلال: العفاف عن المال، والقرب من المحسن، والشدة على المسيء، وصدق اللسان، وكان زياد أول من بسط الأرزاق على عماله ألف درهم ألف درهم، ولنفسه خمسة وعشرين ألف درهم، وكان يقول: ينبغي للوالي أن يكون أعلم بأهل عمله منهم بأنفسهم.»
وبعد أن ضرب اليعقوبي الأمثال على معرفة زياد بدخائل رعيته قال مصورًا رأي زياد فيما يتطلبه بعض الشئون العامة من الصفات فيمن يتولاه: كان زياد يقول: «أربعة أعمال لا يليها إلا المسنُّ الذي قد عض على ناجذه: الثغر، والصائفة، والشُّرط، والقضاء، وينبغي أن يكون صاحب الشرط شديد الصولة، قليل الغفلة، وينبغي أن يكون صاحب الحرس مُسنًّا عفيفًا مأمونًا لا يطعن عليه، وينبغي أن يكون في الكاتب خمس خلال: بُعدُ غور، وحسن مداراة، وإحكام للعمل، وألا يؤخر عمل اليوم لغد، والنصيحة لصاحبه، وينبغي للحاجب أن يكون عاقلًا فطنًا قد خدم الملوك قبل أن يتولى حجابتهم.»
ثم انظر ما آل إليه الأمر أيام الوليد بن يزيد الذي رغب في اكتساب قلوب الناس بعد نفورها، وإرضائها بعد تبرمها، وإيناسها بعد وحشتها، بأن يزيد في أعطياتهم، ويضاعف أرزاقهم، بيد أن معين المال قد نَضبَ أو كاد، والخزانة قد استنزفتها الملاذُّ وحروب الخوارج وإخماد الفتن، فعمد إلى بيع الولايات.
وإن ابن الأثير ليخبرنا في حوادث سنة خمس وعشرين ومائة، أن الوليد قد ولَّى نصر بن سيار خُراسان كلها وأفرده بها، ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فاشترى منه نصرًا وعماله، فرد إليه الوليدُ ولايةَ خراسان، وكتب يوسف إلى نصر يأمره بالقدوم ويحملُ معه ما قدر عليه من الهدايا والأموال، وأن يُقدم معه عماله أجمعين. ثم قال: وكتب الوليد إلى نصر يأمره أن يتخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة، وأن يجمع له كل صُنَّاجة بخراسان، وكل باز وبرذون فارهٍ، ثم يسير بكل ذلك بنفسه في وجوه أهل خراسان.
ثم انظر ما يقوله الأغاني من عامل لعبد الملك بن مروان على خراسان، وهو أمية بن عبد الملك الذي كتب إليه يقول: «إن خراج خراسان لا يفي بمطبخي»، وما أثبته القاضي ابن خلِّكان في تاريخه عن أبي خالد يزيد بن أبي المثنى عمر بن هبيرة والي مروان بن محمد على العراق من أن رزقه كان ستمائة ألف درهم.
هذا إلى ما نزل بأهل الذمة وغيرهم من العسف وزيادة الضرائب، وما كان من تخلية أصحاب الأراضي لها بغير حرث ولا زرع، وما كان من مبالغة العمال في إهداء الخلفاء، ونزوعهم إلى جمع الثروة واختزان المال؛ فإنك بعد كل هذا تطمئن معي إلى الاقتناع بأن العمال الكفاة مصدر قوة في بناء الممالك، وعنصر يُحفلُ به في مادة حياتها، وأنهم عنوان مهابتها وصولتها، وأن الولاة الظلمة الضعاف مصدر ويل وثبور، وأداة هدم وتخريب وانتثار وفناء.
وإنا نسوق هنا كلمة لبعض بني أمية — حين سئل عن سبب زوال ملكهم — لا تخلو من عظة واعتبار، قال: «… قلة التيقظ، وشُغلنا بلذاتنا عن التفرُّغ لمهماتنا، ووثقنا بكُفاتنا فآثروا مرافقهم علينا، وظلَم عُمالنا رعيتَنا ففسدت نياتُهم لنا، وحُمل على أهل خراجنا فقلَّ دخلُنا، وبطل عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم أعداؤنا فأعانوهم علينا، وقصَدنا بُغاتنا فعجزنا عن دفعهم لقلة أنصارنا، وكان أوَّلُ زوال ملكنا استتار الأخبار عنا، فزال ملكنا عنا بنا.»
(3) الوجهة الدينية
إن سنة معاوية في بناء دولته لم تكن — مع ما نعلمه من ترخُّصه في إقامة الحدود في بعض الأحوال لضرورات سياسية — سنة استهانة بالدين، ولا إمعان في ازدرائه أو الخروج عن جلِّ مظاهر الاحتشام الديني الخليقة بمن يسوس أمور الدين والدنيا، هذه سنة معاوية وطريقته في سياسة الملك، أما خلفاؤه فقد تنكب جلُّهم سُنتَه الحكيمة، وأطلقوا لشهواتهم العنان فيما ينبغي أن يكون خلفاء المسلمين وأئمتهم بنجوةٍ منه، وقد كان لذلك آثاره في الدولة من حيث تأثر أخلاقها القومية، وما أصابها من انحلال وضعف، ومن تفكك وفتور. وسنعالج تصوير هذه العوامل بإيجاز واقتضاب في كلمتنا هذه؛ فلا نفرد لكل منها بابًا وإن كنا نعلم أنه يترتب على توضيحنا لهذه الأصول فائدة جُلَّى، بيد أن اتساع نواحي الموضوع وتشعب فروعه ومختلف أبوابه، كل ذلك يلزمنا إلزامًا اتباع ما رسمنا لأنفسنا من القصد والاعتدال.
لسنا بحاجة — على ما نظن — إلى تصوير أخلاق من فيهم الكفاية من خلفاء معاوية من ناحية الدين والخلق العام؛ لأن فيما عالجناه من تحليل أخلاق معاوية الغُنية والكفاية.
نريد الآن أن ندرس تلك الناحية العكسية، ناحية أولئك الخلفاء الذين لم يبالوا التقاليد الدينية فازدروا طقوسها، مع ما كان فيهم من ضعف وما بهم من خرق.
إن يزيد بن معاوية، ويزيد بن عبد الملك، والوليد بن يزيد، أما ابن معاوية فقد أصاب اليعقوبي سدرة الصواب حين وصفه بأنه حلف نسوة، وصاحب ملاهٍ، ويكفي أن ندرس حياته — مع أن الدولة كانت في إبان قوتها وميعة شبابها — لنقتنع بأنها كانت بمثابة معاون هدم وتخريب، وإن في إلمامنا بما كان من مسلم بن عقبة الذي انتهك المدينة لمقنعًا بما نقول؛ لقد كان جند يزيد بعد واقعة الحرة وغيرها يطلبون إلى الرجل القرشي أن يبايع ليزيد، لا من ناحية اقتناعه الديني طبعًا، ولا بدافع الترغيب والمال، ولا بسياسة الرقة واللطف التي قد يُنال بها أكثر مما ينال بالشدة والعنف؛ بل من ناحية السيف والإرهاب، يجب أن يبايع وأنفه راغم، ويجب أن يبايع مع ما يرى من انتهاكهم المدينة، كانت جند يزيد تقول للقرشي: بايع على أنك عبد قن ليزيد، فإن أبَى ضُرب عنقه، فكانت مقتلة ذريعة، ثم انظر ما كان من حصارهم مكة التي إذا قال قائلها: «يا أهل الشام، هذا حرم الله الذي كان مأمنًا في الجاهلية يأمن فيه الطير والصيد، فاتقوا الله يا أهل الشام.» صاح الشاميون: «الطاعة الطاعة .»
لنترك يزيد جانبًا محيلين القارئ إلى ما في الأغاني وغيره من كتب الأدب والتاريخ، ولنردد الطرف في حياة يزيد بن عبد الملك، فنجد أبا الفرج الأصفهاني يذكر لنا، في غير موضع من حياة سلَّامة القس وحبابة وغيرهما، شيئًا لا يستهان به عن إسرافه في تهتكه، فينقل لنا عن المدائني قوله: قدِم يزيد بن عبد الملك المدينة في خلافة سليمان، فتزوج سعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان على عشرين ألف دينار، وربيحة بنت محمد بن علي بن عبيد الله بن جعفر على مثل ذلك، واشترى الغالية بألف دينار.
وفي رواية محمد بن سلام أنه اشتراها بأربعة آلاف دينار، ويقول في موضع آخر: إن رسل يزيد بن عبد الملك قدمت المدينة فاشتروا سلامة المغنية من آل رمانة بعشرين ألف دينار.
ولعلك تميل إلى مقابلة هذه الروايات مع تعدد رواتها بتحفظ المؤرخ العلمي الذي لا يقنعه إلا الوسائل التحليلية المؤيدة لصدق الرواية، على أنك تستطيع ذلك باطلاعك على ما يقوله اليعقوبي مثلًا عن طريقة جباية المال، وعلى ما كتبه يزيد بن عبد الملك إلى عمر بن هبيرة، وهو عامله على العراق، يأمره أن يمسح السواد، فمسحه سنة ١٠٥، ولم يمسح السواد منذ مسحه عثمان بن حنيف في زمن عمر بن الخطاب حتى مسحه عمر بن هبيرة، فوضع على النخل والشجر، وأضرَّ بأهل الخراج، ووضع على التانئة،(2) وأعاد السخر والهدايا وما كان يؤخذ في النيروز والمهرجان، ليس هذا فحسب، بل انظر إلى تعلله في فرض الغرامات المالية على كبار رجال الدولة لا لجرم إلا أن نفوسهم حدثتهم أن يتزوجوا بعض آل البيت، فإن عبد الله بن الضحاك بن قيس الفهري، عامِلَه على المدينة، كان قد خطب لنفسه فاطمة بنت الحسين بطريقة جافة، فعزله يزيد عن المدينة وولاها عبد الواحد بن عبد الله النصري، وكتب إليه أن يأخذه بأربعين ألف دينار ويعذِّبه، ففعل ذلك، ويقول المؤرخ الذي نقلنا عنه: إن عبد الله بن الضحاك قد رُئي وفي عنقه خرقة صوف يسأل الناس. ولم يكتف يزيد بن عبد الملك بهذا، بل عزل عمال عمر بن عبد العزيز جميعًا، ونحن نعلم مَن هو عمر، وما عدله وما رقابته عماله، ويكفينا أن نذكر ما كان منه مع يزيد بن المهلب عامله على خراسان، فقد قال له عمر: «إني وجدت لك كتابًا إلى سليمان تذكر فيه أنه اجتمع قبلك ألفُ ألفٍ، فأين هي؟ فأنكرها ثم قال: دعني أجمعها، قال: أين؟ قال: أسعى إلى الناس، قال: تأخذها منهم مرة أخرى!» ثم ولَّى خراسان الجراح بن الحكمي.
•••
فمن أمثال ما قدمناه نستطيع أن نقتنع بأن روايات صاحب الأغاني عن إسرافه قريبة من الواقع إن لم تكن صحيحة لا مبالغة فيها ولا غبار عليها، ثم لننظر الآن إلى أي مدًى كان هذا الصنف من الخلفاء تحت تأثير عشيقاتهم من القيان والمغنيات، وما كان لهنَّ من سلطان في أمور الدولة وتولية العمال وعزلهم؛ فإن ذلك يفيدنا في تفهمنا دور الانتقال الذي نحن فيه تفهُّمًا هو — في نظرنا — أشد اعتبارًا من الاعتماد على رأي المؤرخين وسردهم للحوادث بغير عناية ولا استقراء للنفسية العربية، وخاصة في أبهاء الخليفة، وحبذا العناية بها، سواء أكانت في بيت الخليفة أم في بيت العامل أم عند الرعية، فإن لدراستها ومراقبة تحولها نفعًا وكبير جدوى.
ينقل لنا أبو الفرج الأصفهاني عن المدائني أن حَبَابة — وهي عالِيةُ القَينة — «غلبت على يزيد وتبنَّى بها عمر بن هبيرة، فعلت منزلته حتى كان يدخل على يزيد في أي وقت شاء، وحسَد ناس من بني أمية مسلمةَ بن عبد الملك على ولايته، وقدحوا فيه عند يزيد وقالوا: إن مسلمة إن اقتطع الخراج لم يحسن، يا أمير المؤمنين، أن يعيشه، وأن يستكشف عن شيء لسنِّه وخِفَّته، وقد علمتَ أن أمير المؤمنين لم يدخل أحدًا من أهل بيته في الخراج، فوقَر ذلك في قلب يزيد وعزم على عزله. وعمل ابن هبيرة في ولاية العراق من قبل حَبَابة، فعملت له في ذلك، وكان بين ابن هبيرة والقعقاع بن خالدة عداوة، وكانا يتنازعان ويتحاسدان، فقيل للقعقاع: لقد نزل ابن هبيرة من أمير المؤمنين منزلة؛ إنه لصاحب العراق غدًا! فقال: ومَن يُطيق ابن هبيرة؟ حبابة بالليل وهداياه بالنهار! مع إنه وإن كان بلغ فإنه رجل من بني سكين، فلم تزل حبابة تعمل له في العراق حتى وليها.»
مثل هذا الخبر له قيمته التاريخية في تعرف حال الدولة العربية في ذلك الحين، ولو جاز لنا أن نحلل لنظرنا طويلًا في قول القعقاع بن خالد: «ومن يطيق ابن هبيرة؟ حبابة بالليل وهداياه بالنهار، مع أنه وإن كان بلغ فإنه رجل من بني سكين.» فإنه لا يفيدنا في تفهم وقوع الخليفة تحت سلطان عشيقته، ولا في قبوله للرشا فحسب، بل يفيدنا فهم تحول العصبيات العربية الأخيرة، ومبلغ نظر العربي إلى سواه.
أما استخفاف الوليد بن يزيد بالدين، وخمرياته التي فاقت خمريات يزيد بن معاوية، والتي نرى أن لها أثرًا كبيرًا في أبي نواس وحسين بن الضحاك، وبركة الخمر التي احتواها قصره، فإن أمهات كتب الأدب العربي ومظان التاريخ مفعمة من ذلك بما لا نتعرض له في هذه العجالة بأكثر من إحالة القارئ على ما قاله الوليد في القرآن، وما أحصاه بعضهم له من عدد الأقداح التي شربها في ليلة من ليالي شرابه؛ إذ أثبت صاحب الأغاني أنها سبعون قدحًا، وإن كنا نفترض في مثل هذه الأحوال جنوح الرواة إلى المبالغة والإغراق، ثم لتنظر معنا فيما يقوله ابن الأثير عنه حين ولَّاه هشامٌ الحجَّ، فإنه يخبرنا أنه لما أراد هشام أن يقطع عنه ندماءه ولَّاه الحج سنة ست عشرة ومائة، فحمل معه كلابًا في صناديق، وعمل قبة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه الخمر وأراد أن تنصب القبة على الكعبة وتشرب فيها الخمر. وقد أيد المؤرخون هذه الحادثة، ويقول اليعقوبي: إن الوليد بعث مهندسًا ليقوم بذلك.
ثم انظر إلى بيعه خالدًا القسري إلى يوسف بن عمر بخمسين ألف ألف، وما رواه المؤرخون من إرساله إلى خالد قائلًا له: «إن يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف، فإن كنت تضمنها وإلا دفعتك إليه.» فأجابه خالد بأحسن جواب إذ قال له: «ما عهدت العربَ تُباع، والله لو سألتني أن أضمن عودًا ما ضمنته.» ومع ذلك فقد دفعه إلى يوسف فعذَّبه وقتله!
ثم لننظر إلى نظر الرأي العام إليه وإلى تصرفاته، وأمامنا من ذلك شعر حمزة بن بيض فيه إذ يقول:
يا وليـــد الخنا تركت الطريقا *** واضحًا وارتكبت فجًّا عميقا
وتماديت واعتديت وأسرفــت *** وأغويت وانبعثت فســـــوقا
أبدًا هــات ثم هـات وهات ثم *** هــــات حتـــــى تخر صعيقا
أنت سكـــران مـــا تفيق فمـا *** ترتق فتقًا وقــد فتقت فتوقا
وإنا نثبت هنا أيضًا ما دار بين الوليد بن يزيد حين حوصر في قصره ويزيد بن عنبسة السكسكي، فقد قال له الوليد: «يا أخا السكاسك، ألم أزد في أعطياتكم؟! ألم أرفع المؤن عنكم؟! ألم أعط فقراءكم؟! ألم أخدم زمناكم؟!» قال: «إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، وإنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله.»
ولتنظر معي أيضًا إلى عبد الملك بن مروان، وهو من الخلفاء الثلاثة المعدودين أقطابًا لهذه الدولة، وإلى ما كان من جبروته وضعف الوازع الديني عنده حتى استباح لنفسه أن يقول وهو على المنبر: «من قال لي بعد مقامي هذا: اتق الله؛ ضربت عنقه.»
وبعد، فإنه ليخيل إلينا أن فيما قدمناه بعض المقنع بما كان من استهانة الخلفاء بالدين، ومن إمعانهم في التهتك والخروج عليه.
ونريد الآن أن ندرس تأثر الخلق العربي بما كان للخلفاء من تنكب عن سنن الدين، وإمعان في التهتك والاستهتار، والناس على دين ملوكهم، والملوك على سنة رعيتهم..
يقول أبو الفرج: إنه لما قدم عثمان بن حيان المرِّي، والي يزيد بن عبد الملك، المدينة قال له قوم من وجوه الناس: إنك وليت على كثرة من الفساد، فإن كنت تريد أن تُصلح فطهِّرها من الغناء والزنا إلخ. ونفهم من جملة الرواية أنه لم يفز في مهمته بطائل، ولم يوفق إلى ما كان يرجوه للناس من صلاح وتقويم.
أما ما يرويه لنا ابن قتيبة في عيون أخباره، فها هو ذا بنصه وعبارته، قال: «سمر المنصور ذات ليلة فذكر خلفاء بني أمية وسيرهم، وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، فكانت هممُهم من عِظَم شأن الملك وجلالة قدره قصدَ الشهوات، وإيثار اللذات، والدخول في معاصي الله ومساخطه، جهلًا منهم باستدراج الله، وأمنًا لمكره، فسلبهم الله العز، ونقل عنهم النعمة، فقال له صالح بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن مروان لما دخل أرض النوبة هاربًا فيمن معه سأل ملكُ النوبة عنهم فأُخبر، فركب إلى عبد الله فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه، وأزعجه عن بلده، فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ويسأله عن ذلك، فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمت أرض النوبة بأثاث سلم لي فافترشت بها وأقمت ثلاثًا، فأتاني ملك النوبة وقد خبر أمرَنا، فدخل عليَّ رجل أقنى طُوالٌ حسن الوجه، فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب، فقلت له: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟ قال: لأني ملك، وحق على كل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه! ثم قال لي: لمِ تشربون الخمر وهي محرمة عليكم؟ قلت: اجترأ على ذلك عبيدُنا وأتباعنا لأن الملك زال عنا؛ قال: فلم تَطَئون الزروع بدوابكم والفساد مُحرمٌ عليكم في كتابكم؟ قلت: يفعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم، قال: فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة وذلك محرم عليكم؟ قلت: ذهب الملك منا وقلَّ أنصارنا، فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا، فلبسوا ذلك على الكُره منا، قال: فأطرق مليًّا وجعل يقلب يديه وينكت في الأرض ويقول: عبيدنا وأتباعنا! دخلوا في ديننا! وزال الملك عنا! يردِّده مرارًا، ثم قال: ليس ذلك كما ذكرتَ، بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم، وركبتم ما عنه نهاكم، وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله العزَّ وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها، وأخاف أن يحلَّ بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاثة أيام، فتزودوا ما احتجتم إليه وارتحلوا عن بلدي. ففعلت ذلك.»
(4) التعسف المذهبي
نريد أن ننظر الآن نظرة عَجلَى في أمر التعسف المذهبي، ونحن نعلم ما أصاب جماعة عليٍّ [عليه السلام] أيام معاوية وهو هو في حكمه ، نعلم ما أصاب حُجْر بن عدي الكندي وجماعته، كما نعلم ما أصابها أيام يزيد من قتل هانئ بن عروة، ومسلم بن عقيل، والحسين بن علي[عليه السلام]، وزيد بن علي الذي صُلب على شاطئ الفرات وذرِّي رماده في الماء، ولننظر نظرة خاصة إلى حياة بُسر بن أبي أرطأة وقتلِه الأطفال والرجال والنساء، ولنترك معاوية هنا يصور لنا مبلغ تأثر نفوس بني هاشم من خطة التعسف المذهبي هذه؛ فإن أبا الفرج الأصفهاني يقول في كتابه: لما كانت الجماعة واستقر الأمر لمعاوية، دخل عليه عبيد الله بن العباس وعنده بسر بن أبي أرطأة، فقال له عبيد الله: أأنت قاتل الصبيين أيها الشيخ؟ قال بسر: نعم، أنا قاتلهما، فقال عبيد الله: أما والله لوددت أن الأرض كانت أبتتني عندك! فقال بُسر: فقد أنبتتك الآن عندي، فقال عبيد الله: ألا سيف؟ فقال له بسرٌ: هاك سيفي. فلما أهوى عبيد الله إلى السيف ليتناوله أخذه معاوية ثم قال لبسر: «أخزاك الله شيخًا! قد كبرت وذهب عقلك! وذلك رجل من بني هاشم قد وترته وقتلت ابنيه، تدفع إليه سيفك! إنك لغافل عن قلوب بني هاشم! ولو تمكن منه لبدأ بي قبلك»، قال عبيد الله: «أجل! وكنت أثني به.»
ثم انظر كيف انتقم من بسرٍ رجلٌ من اليمن اتصل به حتى وثق به، ثم احتال لقتل ابنيه، فخرج بهما إلى وادي أوطاس (3) فقتلهما وهرب.
على أنه يجدر بنا أن نصوِّر إلى أي مدًى بلغت نتائج خطط الأمويين السياسية، من حيث بثهم البغضاء في النفوس لعلي [عليه السلام] وشيعته، وصرف الناس عن ذكرهم، وما كان من لعنهم على المنابر من تأثير خليق بعنايتنا، ومراجعُنا في هذه الناحية عدةُ مصادر، بيد أنا نجتزئ اجتزاء، ونحيل القارئ إلى ما رواه ابن عائشة عن شعور رجل من الشام نحو حفيد علي، وقد نقل ذلك المبرد في الكامل.
ولننظر كذلك إلى مدى الأحزاب الدينية وأضدادها التي كانت نتيجة لازمة لآثار التعسف المذهبي والتحزب الديني، وقد ذكر البيروني في «الآثار الباقية» طرفًا من ذلك، ونجتزئ هنا بشيء مما جاء في «المواهب الفتحية» لأستاذنا المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، قال: ما أحسن قول أبي الحسين الجزار خصوصًا في بيتيه الثالث والخامس:
ويعود عاشوراء يذكر فيرزا *** الحسين فليت لم يَعُد
أم ليت عينًا فيه قد كُحلَت *** بإثمدٍ لم تَخلُ من رمد
ويدًا به لشماتة خضبت *** مقطوعة من زندها بيدي
يوم سبيلي حين أذكرهأ *** لا يدور الصبر في خلدي
أما وقد قُتِل الحسين به *** فأبو الحسين أحقُّ بالكمد
ولبعض الهاشميين معتذرًا من الكحل يوم عاشوراء:
لم أكتحل في صباح يومأ هريق فيه دم الحسين إلا لحزني وذاك أنيسودت حتى بياض عيني
إلى غير ذلك مما أثبته المؤلف لعمارة اليمني والإمام ابن الجوزي مما لا سبيل إلى الاستطراد فيه ههنا.
ولننظر إلى حادثة رواها المسعودي في «مروج الذهب» قال: «لما طلب عبد الله بن عليٍّ مروانَ ونزل بالشام، وجَّه إلى أبي العباس أشياخًا من أهل الشام من أرباب النعم والرياسة، فحلفوا لأبي العباس السفاح ما علموا لرسول الله ﷺ قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية حتى وليتم الخلافة! فقال في ذلك إبراهيم بن المهاجر:
أيها الناس اسمعوا أخبركم *** عجبًـــا زاد على كل العجب
عجبًا من عبـد شمس إنهم *** فتحــوا للناس أبواب الكذب
ورثـــوا أحمد فيمـا زعموا *** دون عباس بن عبد المطلب
كذبوا والله ما نعلمه يحرز *** الميـــراث إلا مــــن قَـــرُب.
ولنُلمَّ الآن إلمامة عجلى بما كان للتعسف المذهبي من الأثر في نفوس الخوارج، محيلين إلى الكامل للمبرد من أراد توسعًا وتبصرًا، ونكتفي هنا بنقل مثل من الطبري يظهر لنا مقدار استماتتهم في سبيل نصرة مذهبهم مهما نالهم من تقتيل، وأمامنا حوادث سنة خمسين التي يقول فيها الطبري: إن عبيد الله بن زياد اشتد فيها على الخوارج فقتل منهم صبرًا جماعة كثيرة، وفي الحرب جماعة أخرى، ويقول عنهم في موضع آخر: خرج مرداس أبو بلال، وهو من بني ربيعة بن حنظلة، في أربعين رجلًا إلى الأهواز، فبعث إليهم ابن زياد جيشًا عليهم ابنُ حصن التميمي، فقَتلوا في أصحابه وهزَموه، فقال رجل من بني تيم الله بن ثعلبة:
أألفا مؤمن منكم زعمتم ويقتلهم بآسَكَ (4) أربعونا كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ولكن الخوارج مؤمنوناهي الفئة القليلة قد علمتم على الفئة الكثيرة يُنصَرونا
_____________
(1) قال شارح القاموس في مادة «جبة»: جُبَيهاء الأشجعي — كحُمَيراء — شاعر معروف كما في الصحاح، وقال ابن دريد: هو جبهاء الأشجعي بالتكبير.
(2) التانئة: الجماعة المقيمون في البلاد لا ينفرون مع الغزاة. انظر: اللسان، مادة «تنأ».
(3) أوطاس: وادٍ في ديار هوازن فيه كانت واقعة حنين، ويومئذ قال النبي ﷺ: «حمى الوطيس.» وهو أول من قال ذلك. انظر: معجم ياقوت، في «أوطاس».
(4) آسك: بلد من نواحي الأهواز قرب أرجان بين أرجان ورامهرمز، بينها وبين أرجان يومان، وهي بلدة ذات نخيل ومياه. انظر: ياقوت في «آسك» وكامل المبرد (ص٥٨٧، طبعة أوروبا).
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|