أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-7-2019
2460
التاريخ: 13-6-2021
2174
التاريخ:
2445
التاريخ: 5-12-2016
3462
|
الخلافة والخلفاء أو اختلاف الأمّة الإسلاميَّة فيهما
لقد اختلفت الأمّة الإسلامية ـ كغيرها من الأمم ـ في أمور كثيرة؛ وخصوصاً حينما مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحينما تُوفّي وبعد ذلك، ولكن (أعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإِمامة؛ إِذ ما سُلَّ سيف في الإِسلام على قاعدة دينيّة مثل ما سُلَّ على الإِمامة في كلِّ زمان) (1).
وكان مثل هذا الخلاف أثراً طبيعياً مترقباً ونتيجة محتومة لكلِّ أمر أُعتقد تفويضه إِلى اختيار الناس المتباينين في الأهواء والأنظار والميول.
وظنِّي أنّه لولا هذا الاعتقاد، لَمَا تولَّدت تلك الخلافات الكثيرة أو لَمَا وصلت إِلى هذا الحد المتَّسع. فبينما تراهم يشترطون في الخليفة الانتساب إِلى قريش؛ لقول أبي بكر (الأئمّة في قريش) (2)، إذ بآخرين يقولون: كما تكون للقرشي تكون لغيره؛ وحجَّتهم قول عمر: (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولَّيته) (3).
وهؤلاء قد وافقوا الخوارج في عدم شرط الانتساب إلى قريش، وعلى قولهم صَحَّت خلافة الترك العثمانيِّين.
وكذلك ترى بعضهم يحصر عدد الخلفاء بخمسة؛ متمسِّكاً بهذا الخبر العليل: ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة؛ ثُمَّ تكون مُلْكاً عضوضاً)) (4)، وانتهت الثلاثون بموادعة الحسن لمعاوية. وآخر يعاكسهم محتجَّاً بهذا الحديث الصحيح المشهور عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ولا ينقضي هذا الأمر حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة؛ كلُّهم من قريش) (5).
ولكن هؤلاء تحيَّروا في أمر الذين زادوا على الاثني عشر، فراحوا يُخرجون من الخلفاء (بعد الراشدين) ويُدخلون مَن يشاؤون. ولقد تنبَّه للأمر وعرف مغزى الحديث ومرماه الشيخ سليمان الحنفي النقشبندي، فقال: (لا يمكن أن يُحمل هذا الحديث ـ المشهور من طُرق كثيرة ـ على الخلفاء بعده من أصحابه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لقلَّتهم عن اثني عشر. ولا يمكن أن يُحمل على الملوك الأمويّة لزيادتهم على اثني عشر أيضاً. ولا يمكن أن يُحمل على الملوك العبّاسيّين؛ لزيادتهم على العدد أيضاً. فلابدَّ أن يُحمل على الأئمَّة الاثني عشر من أهل بيته وعترته (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ لأنَّهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلَّهم وأورعهم وأَتقاهم وأعلاهم نسباً وأفضلهم حسباً) (6).
وكما اختلفوا في شرط الانتساب إلى قريش وفي عدد الخلفاء اختلفوا أيضاً في كيفية انتخابهم؛ فقال قوم: (يحصل باجتماع أهل الحلِّ والعقد من الصحابة)، وقال آخرون: (يحصل باختيار خمسة من صلحاء المسلمين لواحدٍ منهم؛ كما جرى في خلافة عثمان، أو بانتخاب نفس الخليفة لشخص؛ كما فعل أبو بكر بعمر). وبضدِّ هذا القول قول بعضهم: (لا يتمُّ الانتخاب إلاَّ برضا جميع الأُمَّة).
وقريب منه قول آخرين منهم: (لا يتمُّ إِلاَّ برضا الجميع، ولكن في أيّام الهدوء والسكينة. وأمَّا في أيَّام الخلاف بين الأمّة، فلا)، ولكن جمهورهم اتَّفق أولاً على صحَّة الانتخاب إذا تولاَّه أهل الحلِّ والعقد من الصحابة. وهناك اختلفوا فيمَن يستحقُّ أن يُطلق عليه اسم صحابي؛ (فكان سعيد بن المسيَّب لا يَعدُّ الصحابي إِلاَّ مَن أقام مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سنة وأكثر وغزا معه. وقال بعضهم: كلُّ مَن أدرك الحلم وأسلم ورأى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فهو صحابي، ولو أنّه صحبه ساعة واحدة. وقال آخرون: لا يكون صحابيَّاً إِلاّ مَن تخصَّص به الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتخصَّص هو بالرسول أيضاً؛ بأن يثق الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بسريرته، ويلازمه في السفر والحضر) (7). ولا يبعد أن يكون هذا القول الأخير أصحّ الأقوال وأقربها إِلى الصواب، وهو اللائق بذات الرسول المقدَّسة التي يجب أن تنزَّه عن نسبة المنافقين والمؤلَّفة والطلقاء، الذين لم يسيروا على هداه، إلى صحبته الشريفة، بل يجب تنزيه الصحابة أيضاً عن عدِّ مثل هؤلاء في عدادهم.
وقد يكون أوّل خلاف حول الإِمامة ـ إن لم يكن الخلاف الذي جرى يوم طلب الدواة ـ هو الخلاف الذي جرى في (سقيفة بني ساعدة) قبيل وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين المهاجرين والأنصار، وكان مرشَّح المهاجرين أبا بكر ابن أبي قحافة التيمي ومرشح الأنصار سعد بن عبادة الخزرجي، وكانت حجّة المهاجرين السبق إِلى الإِسلام وكونهم من شجرة الرسول الطيِّبة، وحجَّة الأنصار الإِيواء والنصرة، ولمَّا كانت حجَّة الأنصار على استحقاق الخلافة واهية جدَّاً، زيادة على تسرُّب الحسد إِلى قلوب بعضهم، تغلَّب عليهم المهاجرون وأخذوا البيعة لأبي بكر ممَن حضر السقيفة، عدا سعد بن عبادة فإنّه لم يبايع (فوطئ عمر صدره، وقال: اقتلوا سعداً، قتل الله سعداً) (8).
وكان هناك فريق ثالث لم يحضر اجتماع السقيفة الفجائي؛ إمّا لعدم اطِّلاعه على خبر الاجتماع، وإمّا لثكله في تلك الساعة الرهيبة بموت سيد البشر يراه نصب عينيه مسجّى بلا غسل ولا دفن، وإمّا لأنّ سيّد هذا الفريق لم يكن يخطر في باله أن يعدل المسلمون عنه إلى غيره وقد بايعوه يوم غدير خم بأمر من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبمرأى منه ومسمع.
وعلى كلٍّ... فقد جاؤوا ـ مِن بعد بيعتهم تلك له، وبعد وفاة نبيِّهم بلا فصل ـ يطلبون منه البيعة لأبي بكر، ولكنَّه امتنع (عليه السلام) أوّلاً واحتجَّ وفنَّد حجج المهاجرين بقوله: ((احتجُّوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة))، وبقوله:
((فإِن كنت بالشورى ملكت iiأمورهم فكيف بهذا والمشيرون iiغيَّب
وإنّ كنت بالقربى حججت خصيمهم فغيرك أولى بالنبيّ iiوأقرب)) (9)
يريد بالمشيرين نفسه وبني هاشم واجله الصحابة من شيعته الذين كانوا معه في دار النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولم يستشرهم أحد في تلك البيعة المستعجَلة التي رآها الخليفة الثاني: (فلتة وقى الله شرَّها. وقال: من عاد إلى مثلها، فاقتلوه) (10).
وقد استمر جميع هؤلاء الأصحاب على التشيّع لعليّ والاعتقاد بخلافته إِلى آخر نفس من حياتهم، وإنْ بايعوا أبا بكر على أنّه خليفة منتَخَب، ثُمَّ بايعوا عمر ولم يحنقوا عليه، بل آزروه وناصحوه وأخلصوا له يوم صار بعضهم مِن ولاته على الأمصار ومن أمرائه الفاتحين ومن جنده الغازي. (كان عمّار بن ياسر أميراً على الكوفة من قبل عمر، وحضر فتح تُسْتَر) (11).
و(كان عثمان بن حنيف الأوسي الأنصاري عاملاً لعمر بن الخطاب على العراق، وأمره عمر بمسح الفرات، فمسحه. ومات عثمان هذا في خلافة معاوية؛ وهو أخو سهل بن حنيف، شهد أُحداً وما بعدها من المشاهد مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وله رواية عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وكان أيضاً عاملاً لعليّ (عليه السلام) على البصرة يوم خروج طلحة والزبير على الإِمام ، فكتبا إليه أن يخلي لهما دار الإمارة، فاستشار عثمان الأحنف بن قيس، فقال: إنّ هؤلاء جاؤوك للطلب بدم عثمان بن عفَّان وهم الذين ألَّبوا عليه الناس وسفكوا دمه، فبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة، فقال ابن حنيف: الرأي ما رأيت، ولكن أنتظر كتاب أمير المؤمنين(عليه السلام) ورأيه. فلمَّا أمره الإِمام بالحرب، خرج عليهم وحاربهم، ثُمَّ تحاجزوا وكتبوا فيما بينهم كتاب صلح، ثُمَّ لم يلبثوا حتّى نكثوا به وأخذوه غدراً وضربوه ضرب الموت ونتفوا حاجبيه وأشفار عينيه وكلَّ شعرة في وجهه ورأسه.
فكان غدرهم به أوّل غدر في الإسلام، ولقد خلَّوا سبيله بعد أن أرادوا قتله، فلحق بعليّ(عليه السلام)، فلمّا راه بكى، وقال: ((فارقتك شيخاً، وجئتك أمرداً))، فاسترجع عليّ عليه السلام ) (12).
و(كان حذيفة بن اليمان العبسي أميراً على المدائن؛ استعمله عمر. وكان مضى في سنة 22 هـ إِلى نهاوند، فصالحه صاحبها على 800 درهم في كلِّ سنة.. وكان صاحب سرِّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لقربه منه وثقته به وعلوِّ منزلته عنده. وكان من أصحاب علي أمير المؤمنين، وأحد الأركان الأربعة، سكن الكوفة ومات بالمدائن سنة 36 هـ بعد بيعة أمير المؤمنين بأربعين يوماً)(13).
و(كان البراء بن عازب أمير الجيش الذي فتح قزوين (14) سنة 22 هـ صلحاً، وكذا فتح الديلم، وفتح زنجان عنوة. وكان البراء قد غزا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خمس عشرة غزوة، ونزل الكوفة بعده، وكان رسول عليّ بن أبي طالب إلى الخوارج بالنهروان يدعوهم إلى الطاعة وترك المشاقَّة. وللبراء روايات كثيرة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). ومات في ولاية مصعب بن الزبير) (15).
و(كان الأحنف بن قيس أمير الجيش الذي غزا خراسان سنة 22 هـ، وافتتح هراة عنوة ومروروز صلحاً. توفّي الأحنف سنة 67 هـ، وقيل 68 هـ، وقيل سنة 69 هـ، واسمه الضحَّاك بن قيس، وعرف بالأحنف لأنّه كان أحنف الرِّجل؛ وهو الذي يضرب به المثل في الحلم. وكان سيِّد قومه، موصوفاً بالعقل والدهاء والحلم والذكاء، أدرك عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يصحبه، وكان من كبار التابعين، شهد مع عليّ صِفِّين، ولم يشهد الجمل، وقدم على معاوية وعنده وجوه الناس، فخطب رجل من أهل الشام في ذلك المجلس ولعن علي بن أبي طالب، فأطرق الناس وتكلّم الأحنف، فقال لمعاوية: إنّ هذا القائل لو يعلم أنّ رضاك في لعن المرسلين للعنهم، فاتق الله ودع عنك عليّاً، فقد قَدِم على ربه. وكان ـ والله ـ الميمونة نقيبته، العظيمة مصيبته، فقال معاوية، فأيم الله، لتصعدنَّ المنبر وتلعنه طوعاً أو كرهاً، فقال الأحنف: أِعفني هو خير لك، فألحَّ عليه معاوية ولم يعفه، فقال: والله، لأنصفنَّك في القول، قال: وما أنت قائل؟ قال: أقول إنّ معاوية أمرني أن العن عليّاً، ألا وإنّ عليّاً ومعاوية اقتتلا، وادَّعى كلٌّ منهما إنّه مبغي عليه، اللّهم العن أنت وملائكتك ورسلك وجميع خلقك الباغي منهما، والعن الفئة الباغية لعناً كثيراً؛ أقوله ولو كان فيه ذهاب عنقي، فقال معاوية: إذن نعفيك من ذلك. ولم يلزمه) (16).
و(كان من عمّال عمر على المدائن أيضاً سلمان الفارسي. وكان يلبس الصوف ويركب الحمار ويأكل خبز الشعير، وكان ناسكا زاهداً، فلمَّا احتضر بالمدائن، قال له سعد بن أبي وقَّاص: اذكر الله عند همِّك، فبكى سلمان...إلخ )(17).
وكان سلمان ممَّن حضر فتح المدائن (وعبر دجلة مع سعد بن أبي وقَّاص، فعامت خيولهم وهم يتحدَّثون(18)، وحضرها أيضاً عدي بن حاتم الطائي(19) وحضر وقعة القادسية هاشم المرقال (20) وكان على ميسرة جيش المسلمين، وحضرها معهم مالك الأشتر النخعي. وكان حجر بن عدي الكندي في وقعة جلولاء مع المسلمين. وكان غير هؤلاء من الشيعة في فتوحات عمر ؛ ذكرهم الدينوري وغيره.
ولكن الرحالة محمد ثابت المصري يعاكس هذه النصوص التاريخية التي تدلُّ على إِخلاص الشيعة لعمر وعدم حنقهم عليه؛ حيث يقول (ص148 من جولته): (الشيعة: لمَّا مات النبيُّ من غير خلف من الذكور، قام أبو بكر وأوقف المرتدِّين وحمل لواء الإِسلام إلى الجزيرة، ولمَّا عاد عمر بن الخطاب، واصل دعاية الإِسلام بفضل قائديه خالد ومعاوية(؟) فحنق عليه قوم واعتقدوا أنّ الخلافة يجب أن تكون في سلالة الرسول، ولكن كظموا غيظهم حتَّى مات عمر(؟)، ثُمَّ جاء عثمان وقُتل عاجلاً(؟)، وقام عليَّ زوج فاطمة بنت النبي وأب أحفاد رسول الله، وكان الخوارج هم الذين حرَّضوا على قتل عثمان(؟) وأيَّدوا عليَّاً(؟)، لكنَّهم خرجوا عليه هو أيضاً لمَّا رضي بمهادنة خصومه؛ ومن ثَمَّ سمُّوا الخوارج).
وهذا النغم الجديد في التاريخ، وهذه الغرائب في الأقوال، هما اللذان ألزمانا التوسُّع قليلاً في الكلام عن هذه الحوادث التاريخية التي اهتم المؤرِّخون الشرقيّون في تدوينها وتصفيتها حتّى أجمعوا على أكثرها، وأودعوه في مؤلَّفاتهم، ثُمَّ جاء من بعدهم كتبة الإفرنج، فدسُّوا من الأقوال والآراء ما يوافق سياستهم وأغراضهم الشخصيِّة في الشرق الإِسلامي تحت ستار: (فلسفة التاريخ)؛ حتّى عُمي الأمر على كثير من الشرقيِّين وراحوا يتلقُّون تلك الأقوال الغربية ويدونونها بغير محاكمة ولا عرض على مصدرها الشرقي الإِسلامي العربي، الأمر الذي يدلُّ على عدم الثقة برجالنا، وعلى عدم الاحتفاظ بثروة الآباء والأجداد. وإليك هذه الحوادث على سيرها الطبيعي، وترتيبها الواقعي، ومصدرها الوثيق:
2 ـ مرض النبيِّ ووفاته وبيعة أبي بكر:
لمَّا مرض رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مرض الموت، دعا أسامة بن زيد، وقال له: ((سر إلى مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد ولَّيتك على هذا الجيش)). ثُمَّ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ((جهِّزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلَّف عنه)) (21) وقال لمَّا اشتدَّ به وجعه: ((ائتوني بدواة وبيضاء؛ فأكتب لكم كتاباً لا تضلُّون بعدي أبداً، فتنازعوا، فقال: قوموا عنِّي؛ ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: إنّ رسول الله ليهجر)) (22).
ويروي الشهرستاني، عن البخاري ((أنَّه قال ـ لمَّا اشتدَّ به مرضه الذي مات فيه: ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعدي، فقال عمر: إنّ رسول الله قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله (23)، وكثر اللغط، فقال النبيّ (عليه السلام): قوموا؛ لا ينبغي عندي التنازع. قال ابن عبَّاس: الرزية كلُّ الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله)) (24) ولقد عظمت هذه الرزية بوفاته (في صفر سنة 11 هـ، وحزيران سنة 632 م)، وبما جرى بعدها، بلا فصل، من الخلاف العظيم الذي توقَّعه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو حيّ وأراد تداركه بذلك الكتاب الذي حيل بينه وبينه ورمي ـ لمّا طلب الدواة ـ بما رمي.
كان ذلك الخلاف ـ كما علمت ـ حول الخلافة وكان في اليوم الذي توفِّي فيه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ حيث (اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة لتولية سعد بن عبادة والنبيّ لمَّا يدفن؟! ولمَّا سمع عمر الخبر، أقبل إِلى منزل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأبو بكر فيه، وعلي بن أبي طالب دائب في جهاز الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأرسل عمر إلى أبي بكر أن اخرج إِليّ، فأرسل إليه: أنّي مشتغل. فأرسل إليه ثانياً: أنّه قد حدث أمر لا بدَّ لك من حضوره، فخرج إليه، فأعلمه عمر الخبر، فمضيا مسرعين نحو السقيفة ومعهما أبو عبيدة بن الجرّاح، فلقيهم رجلان وقالا لهم: ارجعوا لا يكون ما تريدون، فقالوا: لا نفعل. وذهبوا إلى السقيفة، وترادوا الكلام فيما بينهم وبين الأنصار إِلى أن صفق عمر على يد ابي بكر. وقيل سبقه إلى البيعة: بشير بن سعد الأنصاري أبو النعمان بن بشير؛ كراهيَّة لابن عمِّه سعد (25).
(وأقبل أبو بكر ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة، لا يمرُّون بأحد إِلاَّ خبطوه، وقدموه فمدوا يده، فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه؛ شاء ذلك أو أبى (26).
وعندئذ (انثال الناس على أبي بكر يبايعونه، خلا جماعة من بني هاشم، والزبير بن العوام، وعتبة بن أبي لهب، وخالد بن سعيد بن العاص، والمقداد، وسلمان، وأبي ذر، وعمّار، والبراء بن عازب، وأُبيِّ بن كعب، مالوا مع علي بن أبي طالب، وقال في ذلك عتبة بن أبي لهب:
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف عن هاشم ثُمَّ منها عن أبي حسن
عن أوِّل الناس إيماناً iiوسابقة وأعلم الناس بالقرآن iiوالسنن
وآخر الناس عهداً بالنبيِّ iiومَن جبريل عون له في الغسل iiوالكفن
مَن فيه ما فيهم لا يمترون iiبه وليس في القوم ما فيه من الحسن
وكذلك تخلَّف عن البيعة لأبي بكر أبو سفيان من بني أميّة. ثُمَّ إنّ أبا بكر بعث عمر بن الخطَّاب إِلى عليّ ومن معه؛ ليخرجهم من بيت فاطمة (عليها السلام)، وقال له: إِن أبوا عليك، فقاتلهم. فأقبل عمر بشيء من نار؛ على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة (عليها السلام)، وقالت: ((إلى أين يا ابن الخطّاب؟ أجئت لتحرق دارنا؟))، قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخل فيه الأمَّة) (27).
(وأَقبل أبو سفيان، وهو يقول: إِنِّي لأرى عجاجة لا يطفئها إِلاَّ دم. يا آل عبد مناف، فيم أبوم بكر من أموركم. فزجره عليّ، وقال: والله، إِنّك ما أردت بهذا إِلاّ الفتنة. وإنّك طالما بغيت للإِسلام شرَّاً)(28).
ويروي صاحب العقد الفريد: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) توفّي وأبو سفيان غائب، فلمَّا بلغه بيعة أبي بكر، قال: إِنّي أرى غبرة لا يطفئها إلاّ دم. فلمّا قدم المدينة، جعل يطوف في أزقَّتها، وهو يقول:
بني هاشم لا يطمع الناس فيكم ولا سيما تيم بن مرَّة أو عدي
فما الأمر إِلاّ فيكم iiوإليكم وليس لها إِلاّ أبو حسن iiعلي
فقال عمر لأبي بكر: إِنّ هذا قد قدم، وهو فاعل شرّاً، وقد كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يستألفه على الإِسلام، فدع له ما بيده من الصدقة. ففعل أبو بكر، فرضي أبو سفيان وبايعه) (29).
ولمّا رأى علي رأسَ الفتنة قد ذرَّ قرنه، ورأى ارتداد البعض عن الإِسلام وقلّة المسلمين وإِحاطة العدو بهم، تغاضى عن الطلب بحقِّه، وقال: ((والله لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها إِلا جورٌ علي خاصة)) (30).
ثُمَّ قام مع أبي بكر يجاهد المرتدِّين في الجزيرة، وينصح المسلمين بجهده، وتبعه على ذلك عمَّه العبّاس القائل: (والله، لولا أنّ الإِسلام قيد الفتك، لتدكدكت جنادل صخر) (31).
وكذلك تبعه سائر بني هاشم وجماعة الشيعة من الصحابة؛ أَمثال: سلمان، وعمار، والمقداد، وأبي ذر، وغيرهم، ممَّن اعتقدوا قبلئذٍ (أنّ الخلافة يجب أن تكون في سلالة الرسول)، لكن بعد أبيهم عليّ (عليه السلام).
فليس اعتقادهم ذلك من يوم خلافة عمر، كما يظهر من كلام الرحّالة المتقدِّم، بل قد عرفت أنّهم يعتقدونه من يوم (غدير خم). على أنّ خلافة الثاني كانت محكَمة بنصٍّ من الأوّل، لم يعارض فيها سوى طلحة ونفر قليل، وكلمة طلحة لأبي بكر قبيل وفاته مذكورة في التاريخ، مشهورة.
______________
(1) مِلل الشهرستاني، ج1، ص9.
(2) مقدِّمة ابن خلدون، ص136.
(3) المقدِّمة، ص135.
(4) تاريخ أبي الفداء، ج1، ص183.
(5) صحيح مسلم، ج2، ص79.
(6) ينابيع المودة، ص373.
(7) تاريخ أبي الفداء، ج1، ص154.
(8) شرح النهج، ج1، ص58.
(9) نهج البلاغة، ج2، ص193.
(10) الملل، ج1، ص10.
(11) الأخبار الطوال، الدينوري، ص129. وقال الخطيب البغدادي (تاريخ بغداد،ج1، ص150): (وعمّار بن ياسر تقدَّم إِسلامه، وهو معدود من السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، وممَن عُذِّب في الله بمكّة، ومرَّ النبيّ (ص) بعمّار وأبيه وأمّه وهم يُعذَّبون، فقال: ((اصبروا يا آل ياسر، فإنّ موعدكم الجنَّة))، وشهد مع رسول الله (ص) مشاهدة كلّها، ونزل فيه : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) وغير ذلك من الآيات، وشهد مع عليّ بن أبي طالب حروبه حتّى قُتل بين يديه بصِفِّين (سنة 37 هـ) وصلّى عليه عليّ ودفنه هناك ولم يغسِّله. ومناقبه مشهورة وسوابقه معروفة؛ استأذن عمّار على النبيّ (ص)، فعرف صوته، فقال: ((مرحباً بالطيِّب المطيَّب)). وقال (ص) لخالد بن الوليد لمَّا كان بينه وبينه شيء: ((مَن أبغض عماراً أبغضه الله، ومن عادى عمارا عاداه الله )) وصحَّ عن النبيِّ (ص) أنَّه قال لعمار: ((تقتلك الفئة الباغية، وآخر شرابك ضياح من لبن)) ).
(12) تاريخ بغداد للخطيب، مجلّد1، ص179، وشرح النهج، ج2، ص497، وص500 (بتلخيص).
(13) تاريخ ابن عساكر، مجلّد4، ص94، وص100، وتاريخ بغداد، مجلَّد1، ص 160، ومنهج المقال، ص94.
(14) من الغرابة جدَّاً ما جاء في جولة المصري الرابعة (ص148)؛ وهو قوله: (وقزوين بلد صغيرة، ولكنَّها أجمل من همدان؛ لأنّها كانت عاصمة الشاه عباس. يسترعي النظر.. جامعها بقبَّته الزرقاء، وقد أقام الصلاة فيه خالد بن الوليد والحسن بن عليّ الذي كان يصحبه في الفتح الإسلامي). والحال أنّ خالداً هذا توفّي سنة 21هـ؛ قبل فتح قزوين بسنة، نصَّ على ذلك أبو الفداء في تاريخه (ج1، ص164)، ونصَّ ابن الأثير أيضاً، وابن عساكر، وأثبتوا أنَّ الذي فتح قزوين هو البراء، (وأنّ همدان فتحها حذيفة بن اليمان، وافتتح الري، ولم تكونا فتحتا من قبل) انظر: تاريخ ابن عساكر، مجلَّد4، ص100. وإنَّا لم ندر ـ على كثرة البحث عن هذه المسألة ـ إلى أيِّ مصدرٍ استند الرحَّالة في دعوى وصول خالد إلى قزوين المفتوحة بعد موته؟ ومن دعوى صحبة الحسن بن علي لخالد في فتوحه ؟! .
(15) تاريخ ابن الأثير، ج3، ص9، وتاريخ بغداد للخطيب، ج1، ص177.
(16) تاريخ ابن الأثير،ج3، ص16، وتاريخ أبي الفداء، ج1، ص164، وص195 .
(17) مروج الذهب للمسعودي، ج1، ص417.
(18) تاريخ ابن الأثير،ج2، ص198. وقال الخطيب البغدادي ( تاريخ بغداد، ج1، ص163): (وسلمان من أهل أصفان، ويقال من رامهرمز، ويكنَّى أبا عبد الله، أسلم في السنة الأولى من الهجرة، وأوَّل مشهد شهده مع رسول الله (ص) يوم الخندق؛ لأنَّه كان قبل ذلك مُسترَقاً لقوم من اليهود قبضوا عليه قادماً إلى النبيّ(ص)، فكاتبهم (ص) وأدَّى كتابته وعتقه، ولم يزل ملازماً له حتّى توفّي(ص). ولمَّا غزا المسلمون العراق، خرج معهم وحضر فتح المدائن، ونزلها حتَّى توفِّي بها في خلافة عثمان. وقبره الآن ظاهر معروف بقرب إيوان كسرى وعليه بناء وله خادم لحفظه. وقد رأيت الموضع وزرته غير مرَّة وكان من المعمِّرين؛ قيل: أنَّه أدرك وصيَّ عيسى(ع)، وأدرك علم الأوَّل والآخِر، وقرأ الكتابين).
(19) قال الخطيب (تاريخ بغداد،ج1، ص189): (وعدي بن حاتم الطائي قَدِم على رسول الله (ص)، فلمَّا رآه النبيَّ، نزع وسادة كانت تحته، فألقاها له حتّى جلس عليها، وسأله عن أشياء، فأجابه عنها، ثُمَّ أسلم وحسن إسلامه. وحضر فتح المدائن، وشهد مع عليِّ الجمل وصِفِّين والنهروان، ومات بعد ذلك بالكوفة سنة 67هـ؛ زمن المختار، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل: بقرقيسيا).
(20) ترجمه الخطيب (تاريخ بغداد، مجلّد1، ص196)، فقال: (هاشم بن عتبة ابن أبي وقَّاص المعروف بالمرقال، وهو أخو نافع بن عتبة، وابن أخ سعد بن أبي وقَّاص، أسلم يوم فتح مكّة، وحضر مع عمّه سعد حرب القادسيَّة، وقُتل هاشم المرقال مع عليِّ عليه السلام بصِفِّين).
(21) ذكر ذلك الشهرستاني (المِلل، مجلَّد1، ص9)، وذكره غيره بأسانيد صحيحة معتبرة لم يعترض عليها معترض؛ ولأجله يحار المسلم كثيراً عندما يقرأ هذا الأمر المؤكَّد بتجهيز جيش أسامة، وهذا اللَّعن القارص لمن يتخّلف عنه. ويزداد حيرة حينما يعلم أنّ فئة من الأصحاب الذين تهمُّهم مصلحة الإِسلام وجهاد أعدائه وقلَّ عصيانهم لأوامر النبيِّ (ص) من قبل، قد تخلَّفوا عن هذا الجيش الإِسلامي المجهَّز للدفاع عن الإِسلام؛ لذلك تراه لا يستطيع إِلاَّ أن يعترف بخطأهم ويستغفر الله لهم. أمَّا أن يَتقبَّل تلك الأعذار الواهية التي اعتذر بها عن تخلُّفهم بعض الكتَّاب من (أنّ قلوبهم لا تساعدهم على السير مع الجيش وترك النبيِّ بحالة المرض)، فذلك ممَّا لا يستطيعه ما دام مؤمناً بوجوب الامتثال لأوامر النبيّ(ص)، وما دام معتقداً أنّ النبيَّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأعلم بمصلحة الإِسلام منهم. وليدلَّنا ذلك الرجل كيف لم تساعد تلك القلوب على فراقه (ص) وقد ساعدتهم على مخالفة أمره وإغضابه؟ بقولهم: (كيف يستعمل هذا الغلام (أسامة) على جلّة المهاجرين والأنصار؟ حتّى أحرجوه، فأخرجوه عاصباً رأسه قائلاً: ((أيُّها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ لئن طعنتم في تأميري أسامة، فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله)) شرح النهج للمعتزلي، مجلّد1، ص 53 (بتلخيص).
(22) تاريخ أبي الفداء، مجلَّد1، ص151.
(23) لقد أوضح عمر ما أُريد من طلب الدواة وما أراد من المنع بقوله لابن عباس: (لقد أراد رسول الله في مرضه أن يصرِّح باسم عليّ، فمنعت من ذلك حيطة على الإسلام)انظر: شرح النهج للمعتزلي، مجلّد3، ص97.
(24) المِلل، مجلّد1، ص9.
(25) تاريخ الطبري، مجلّد3، ص208، وتاريخ ابن الأثير، مجلّد2، ص125، وتاريخ ابن خلدون، مجلّد2 ص64، وشرح النهج للمعتزلي، مجلّد1، ص74؛ (بتلخيص).
(26) شرح النهج، ج1، ص74.
(27) تاريخ أبي الفداء، مجلّد1، ص156، والعقد الفريد، مجلّد3، ص63، والإِمامة والسياسة لابن قتيبة، مجلّد1، ص13، ولكنّه[ابن قتيبة] قال: قيل لعمر لمّا جمع الحطب على باب الدار، إِنَّ في الباب فاطمة، قال: وإِنْ).
(28) تاريخ ابن الأثير، مجلّد2، ص123. وذكر صاحب الأغاني (جزء 6، ص96): إنّ أبا سفيان هذا قد قال ـ لمّا بويع عثمان: ( يا بني أميّة، تلقَّفوها تلقُّف الكرة؛ فوالذي يحلف به أبو سفيان ما مِن عذاب ولا حساب ولا جنّة ولا نار ولا بعث ولا قيامة).
(29) مجلّد3، ص61.
(30) شرح النهج، مجلّد2، ص60.
(31) الشرح، مجلَّد1، ص73.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|