استطراد بأشعار ابن جابر
ولا خفاء أن لسان الدين لم يستوف حقوق الشمس ابن جابر الهواري المذكور مع أن له محاسن جمة. ومن محاسنه رحمه الله تعالى:
هناؤكم يا أهل طيبة قد حقا ... فبالقرب من خير الورى حزتم السبقا
فلا يتحرك ساكن منكم إلى ... سواها وإن جار الزمان وإن شقا
فكم ملك رام الوصول لمثل ما ... وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلقا
فبشراكم نلتم عناية ربكم ... فها أنتم في بحر نعمته غرقى
ترون رسول الله في كل ساعة ... ومن يره فهو السعيد به حقا
متى جئتم لا يغلق الباب دونكم ... وباب ذوي الإحسان لا يقبل الغلقا
فيسمع شكواكم ويكشف ضركم ... ولا يمنع الإحسان حرا ولا رقا
بطيبة مثواكم، وأكرم مرسل ... يلاحظكم فالدهر يجري لكم وفقا
فكم نعمة لله فيها عليكم ... فشكرا، وشكر الله بالشكر يستبقى
أمنتم من الدجال فيها فحولها ... ملائكة يحمون من دونها الطرقا
كذاك من الطاعون أنتم بمأمن ... فوجه الليالي لا يزال بكم طلقا
فلا تنظروا إلا لوجه حبيبكم ... وإن جاءت الدنيا ومرت فلا
حياة وموتا تحت رحماه أنتم ... وحشرا فستر الجاه فوقكم ملقى
فيا راحلا عنها لدنيا يريدها ... أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى
أتخرج عن حرز النبي وحوزه ... إلى غيره تسفيه مثلك قد حقا
لئن سرت تبغي من كريم إعانة ... فأكرم من خير البرية ما تلقى
هو الرزق مقسوم فليس بزائل ... ولو سرت حتى كدت تخترق الأفقا
فكم قاعد قد وسع الله رزقه ... ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا
فعش في حمى خير الأنام ومت به ... إذا كنت في الدارين تطلب أن ترقى
إذا قمت فيما بين قبر ومنبر ... بطيبة فاعرف أين منزلك الأرقى
لقد أسعد الرحمن جار محمد ... ومن جار في ترحاله فهو الأشقى
ومن محاسنه رحمه الله تعالى المقصورة الفريدة، وهي قوله (1) :
بادر قلبي للهوى وما ارتأى ... لما رأى من حسنها ما قد رأى
فقرب الوجد لقلبي حبها ... وكان قلبي قبل هذا قد نأى
يا أيها العاذل في حبي لها ... أقصر فلي سمع عن العذل بأى (2)
لو أبصر العاذل منها لمحة ... ما فض باب عذله ولا فأى (3)
سرحت طرفي طالبا شأو العلا ... وتابعا في حبها ما قد شأى (4)
إني لأرعاها على تتبيعها ... عهدي، ومثل من وفى إذا وأى (5)
من منصفي من شادن لم أرجه ... لحاجة من وصله إلا زأى (6)
وإن قبضت النفس عن سلواته ... مد أديم هجره لي وسأى (7)
لأقطعن البيد أفري حاذها ... بضامر يفري الحصى إذا جأى (8)
حتى أزور ربة الخدر وقد ... ذاد الكرى عني الوشاة وذأى (9)
يا رب ليل قد تعاطينا به ... حديث أنس مثل أزهار الربى
في روضة تعانقت أغصانها ... إذا واصلت ما بينها ريح الصبا
نادمت فيها من بني الحسن رشا ... يصبو له من لم يكن قط صبا
حلو رخيم الدل في أعطافه ... لين وفي ألحاظه بيض الظبى
أيام كان العيش غضا حسنه ... عذب الجنى ريبان من ماء الصبا
أي زمان ومحل للمنى ... ما ضاق مغناه بنا ولا نبا
يا مربعا ما بين نجد والحمى ... ويا زمانا قد حباني ما حبا
الله يرعاه زمانا لم يحل ... عن بذل ما نأمله ولا أبى
فأي مغنى آهل يممته (10) ... لمقصد حلت لنا فيه الحبا
هل ترجع الأيام عيشا باللوى ... فراقه كان اللهيم الأربى (11)
تالله لا أعبا بعيش قد مضى ... ولا زمان قد تعدى وعتا
مذ علقت كفي بالهادي الذي ... ساد الورى طفلا وكهلا وفتى
كالبحر لا يغيض يوما ورده ... لوارد إذا أصاف أو شتا
متصل البر لمن قد أمه ... لا يكره العودة ممن قد أتى
ولا يناجي نفسه في ضيقة ... أي نهار سر هذا ومتى
إن رسول الله مصباح هدى ... يهدى به من في جدى الليل متا (12)
كف بني الجور بعدل واضح ... كما تكف اليد كفا من فتى
كم ذي هوى قد راضه بهديه ... فانقاد كالعبد إذا العبد قتا (13)
قد خالط الحلم سجايا طبعه ... كمثل ما قد خالط الثوب السنا (14)
أقسمت لا زلت أوالي مدحه ... ما اشتد بالناس زمان ورتا (15)
لولا اشتياقي لديار كرمت ... لبعدها يرثي لنا من قد رثى
ومدح من أرجو بأمداحي له ... إصلاح ما قد عاث مني وعثا
لم أجعل الشعر لنفسي خلة ... ولم يخش فكري به ولا غثا (16)
فما أرى الأيام تبدي منصفا ... ولو حكيت المسك من حسن النثا
يا ضيعة الألباب في دهر غدا ... فيه فتيت المسك يعلوه الخثى (17)
يا ويل أم ليس تزجي ضيمها ... مثلي بما تبديه من منع الحثا (18)
هل مارست إلا أخا عزم إذا ... ما قعد الناس عن الخطب جثا (19)
تسيل من جهد السرى أعطافه ... كمثل ما سال من الدوح اللثى (20)
له اعتصام بالرسول المجتبى ... أجود من أضفى العطايا وحثا
من ليس للدنيا محل عنده ... ولا ينيل المال إلا بالحثا (21)
أنا الفتى لا يطبيني طمع ... فأبذل الوجه لنيل يرتجى
لكن إذا اضطر زمان جائر ... أملت من ليس يرد من رجا
لا أسأل النذل ولو أني به ... أملك ما حاز النهار والدجى
حسبي بنو عبد مناف بهم ... يغنى من استغنى وينجو من نجا
أولئك القوم الألى من أمهم ... أمن ممن لام يوما وهجا
يلقاك منهم كل وجه مشرق ... كأنه البدر إذا الليل سجا
إني مذ أملتهم لم يثنني ... عن طلب المجد زمان قد شجا
إن أنا قد نكرني دهر عدا ... فطالما عرفني فضل الحجى
يطوي العدا ذكري ومجدي ناشري ... آليت لا زال لهم مني شجا
أنا الذي أعملت للمجد السرى ... لا أسأم الأين ولا أشكو الوجى
كم سرت في البيداء لا يقلقني ... حر الهجير لا ولا برد الضحى
أرسلها غر الذرا تسري بنا ... كل عويص السير صعب المنتحى
يطيح مفتوت الحصى من دونها ... كأنه سهم عن القوس طحا (22)
فكم بذلت الجهد في كسب العلا ... وجدت بالنفس لحاني من لحا
أرغم أعداي بحزم نافذ ... يعركهم عرك الثفال بالرحى
أذود عن عرضي وأحمي حسبي ... بكرم جزل ومجد قد ضحا
أقسم بالبيت ومن طاف به ... ومن نحا وجهته فيمن نحا
وكل من أعمل لله الخطا ... محا بها من الخطايا ما محا
ومعشر ثجوا وعجوا فلهم ... بمرتقى المروة ذكر ووحى (23)
لا زلت أزجيها لإدراك العلا ... حتى ترى من جهدها مثل اللحا
يا عجبا من حاسد لي قد زها ... بعيشه الغض علي وانتخى
كأنني لم أعرف العز ولا ... صاحبت دهري في سرور ورخا
وإنما الدهر له تقلب ... إن ارتخى شد وإن شد ارتخى
إن الذي لا ينثني عن جوده ... إن بخل الدهر لنا وإن سخا
خير الورى طرا من الله به ... أذهب عنا كل غي فامتخى (24)
شرفه الله وحلى جيده ... بجوهر من كل مجد موتخى (25)
زينة تواضع على علا ... فما ازدهى بعزة ولا نخا (26)
فكم حمى بهديه وكم وقى ... وكم أفاد آملا وكم نخا
خلص من أسر الخطايا جاهه ... فما على قلب امرىء منها طخا (27)
خفف عنا ثقل ما نحمله ... فلم نبت من ثقله نشكو السخا (28)
إن تحسب الرسل سماء قد بدت ... فإنه في أفقها نجم هدى
وإن يكن كل كريم قد مضى ... طلا فقد أضحى لنا غيث جدا
وإن يكونوا أنجما في فلك ... فإنه من بينهم بدر بدا
واسطة السلك إذا ما نظموا ... وملجأ القوم إذا الخطب عدا
كالبحر بل كالبدر جودا وسنا ... فحبذا من اجتدى أو اقتدى
أحسن أخلاقا من الروض إذا ... ما اختال في برد الصبا أو ارتدى
وساقط القطر عليه دمعه ... فابتل برد الزهر منه وانتدى
تفديه نفسي من شفيع للورى ... وقلت النفس له مني فدا
هو الذي أنعشنا من بعد ما ... قد يبس الغصن وأذواه الصدى
وكنت في ليل الهوى ذا حيرة ... فجاء بالحق وأنجى وهدى
فكم كسا من ثوب نعمى قد ضفا ... وكم هدى بعلمه وكم إذا
من اقتدى بغيره فإنه ... لم يتبع سبل الهدى ولا حذا
هل هي إلا سنة الحق التي ... أرشد من لاذ بها أو احتذى
كف اللسان وانبساط الكف بال ... خير وطيب الذكر هم قد شذا (29)
أحسن ما نال الفتى من كرم ... أن لا يرى من أجله من ائتذى
والصمت عما لا يفيد قوله ... من كلم يهذي به فيمن هذى
لا شيء كالصمت وقارا للفتى ... يوما ولا أنجى له من الأذى
من عيبه يشغله عن غيره ... بات سليم العرض نفاح الشذا
ومن يعب عيب ومن يحسن إذن ... لان له كل عصي وخذا (30)
ومن تكن دنياه أقصى همه ... لم يرو من ثدي الحجى ولا اغتذى
لا تنفق العمر سوى في حب من ... هو الذي في سنن الحق جرى
يهديك من رشد ومجد واضح ... روضين من علم وذكر قد سرى
أجاد هديا وأفاد نائلا ... وجاد حتى عمم الجود الورى
ترى بني الحاجات نحو بابه ... قد أعملوا العيس بحزن في البرى
لهم إلى رؤيته تشوق ... تشوق الساري إلى نار القرى
ذا يبتغي علما وهذا نائلا ... وخائب من قصده ليس يرى
كأنهم إذا رأوا غرته ... وفد حجيج عاينوا أم القرى
وجه لديه يحمد السير، كذا ... عند الصباح يحمد القوم (31) السرى
هدا إذا ما أخلف الناس وفى ... نائي المدى في مجده سامي الذرا
إذا شددت الكف في أمر به ... فليس بالواني ولا الواهي العرى
أنهضني بهديه إلى التقى ... بعد قصور العزم والباع الوزى (32)
هو الشفيع المجتزى بجاهه ... بمثل ذاك الجاه حقا يجتزى
مذ زرته لم أشك من شحط النوى ... إذ كان لي فيه غنى ومجتزى
وما وجدت غربة ولم يجد ... مس اغتراب من إلى الجود اعتزى
متصل البشر غضوب للهدى ... إذا رأى من زاغ عنه أو نزا
أصبح من أيامه في مأمن ... من قد لجا يوما إليه أو رزى (33)
تخذته كهفا فبت آمنا ... جزاه رب العرش خير ما جزى
أدبنا بسنة أفلح من ... نمى إليها النفس يوما أو عزا
يجزي أخا الحسنى على إحسانه ... شكر امرىء راض الأمور وحزا (34)
لست أجازي الشر بالشر، ولا ... أغزو لناوي السوء مثل ما غزا
لم تر عين كرسول الله ذا ... حزم، ولا أحلم إن دهر غزا
إذا ملمات الأمور قلقلت ... ألفيته كأنه طود رسا
بخلقه فليقتد المرء فما ... أكرمها من مقتدى ومؤتسى
كن حذرا وإن رأيت تمرة ... فمثلها توقد جمرة الأسى
لا تيأسن إن تناءى أمل ... وكلما عثا زمان قد عسا
وإن بدا صبح المشيب فاطرح ... ما كان إذ ليل الشباب قد غسا (35)
ولا تظن الشيب يرجى طبه ... بزور صبغ أو مدام يحتسى
إذا الفتى قوس واعتد العصا ... لقوسه عن وتر أعيا الأسا
فاذكر زمان الشيب في حال الصبا ... عسى يلين للتقى قلب قسا
ما أقبح اللهو على المرء إذا ... ما اشتعل الرأس مشيبا واكتسى
لا تحسب الراحة راحا قرقفا ... للشرب منها قبس ومنتشى
إذا أداروها وقد جن الدجى ... وشى بهم نيرها فيمن وشى
قد حجبت في دنها دهرا إلى ... أن برزت كأنها صبح فشا
لم يبق من جوهرها إلا سنا ... ينشىء أفراح الفتى إذا انتشى
كأنها والكأس قد حفت بها ... متيم أصبح مضروم الحشا
يديرها مختلف الحسن إذا ... أقبل بدر، وإذا تاه رشا
يحكي القطا والظبي والغصن إذا ... ما قد تثنى أو تجنى أو مشى
وإنما الراحة زهد المرء في ... أعراض دنيا تورث العين غشا
والمجد إيقادك نيران القرى ... يعشو لها في الأزمات من عشا
والجود أن تعطي قباء للندى ... لا لافتخار أو لجاه يختشى
خاب امرؤ لم ير أرضا حلها ... من اصطفى رب السماء وانتصى
أرسله الله هدى ورحمة ... أوصى ووالى الخير فينا ووصى
وخلص الأنفس من أسر الهوى ... في يوم هول فاز فيه من فصى (36)
ذو رأفة تلقاه يوم العرض قد ... مال بنا عن الجحيم ومصى (37)
صلى عليك الله يا من جاهه ... يوم الحساب ملجأ لمن عصى
يا من جرى من كفه الماء ومن ... حن له الجذع وسبح الحصى
بك اعتصامي يوم يدنو من دنا ... من رحمة الله ويقصى من قصا
هل غير إحسانك يرجو مذنب ... طال به خوف الخطايا وانتصى
يا من سما في يوم بدر بدره ... عزا ليشقى كل من شق العصا
أحصاهم رب السماء عددا ... وإنهم أدنى الفريقين حصى
يا مجتبى من خير قوم حسبا ... فيما أتى من زمن وما مضى
يا من تدانى قاب قوسين ومن ... قيل له سل تعط قد نلت المضا
ومن أتى والناس من ظلمهم ... في ظلمة ليس لها من مرتضى
فكان كالصبح جلا جنح الدجى ... فأذهب الإظلام عنا وانتضى
رضيت للإرسال إذ آدم بي ... ن الماء والطين فكنت المرتضى
اختارك الله رسولا هاديا ... أكرم بما اختار لنا وما ارتضى
يا أحلم الناس على من قد جنى ... وأعدل الخلق إذا ما قد قضى
يا مصغر الألف إذا ما جاد أو ... تجرد في الهيجاء سيفا أو نضا
يا ناصحا أحكم تشييد الهدى ... عزما فلم اينتقض ولا انقضى
يا مضفيا للناس ظل رحمة ... بات العدا منها على جمر الغضا
ادفع الشر بحسنى فإذا ... به أخو صدق وإن كان سطا
وانف لنفس كرهت أعمالها ... كمن يريك قدرها حث الخطا
إن يدرك الهوى الفتى في بيته ... ليس كمن سعى إليه وخطا
وإن خيرا من صديق سيء ... أن يصحب الإنسان في البيد القطا
ولا ترم ما لا تطيق نيله ... فخجلة الخيبة شر ممتطى
وبت من الدنيا مبات خائف ... فلليالي عدوات وسطا
وخلها عنك ولا تعبأ بما ... تبوأ المكثر منها وعطا (38)
وجنب الحرص تعش ذا عزة ... أفلح من إن شده الحرص نطا (39)
ولا تجد للنفس حظا واطرح ... من امتطى الكبر فبئس ما امتطى
لا تطرين صاحبا بغير ما ... فيه فإطراء الفتى كسر المطا (40)
لا يحسن المدح سوى لمن يرى ... مادحه بمدحه قد احتظى
خير عباد الله ذو العز الذي ... لظله يأوي الشريف والشظى (41)
كم آمن ببابه وقبل أن ... يلقاه لاقى ما عجا وما عظا (42)
أصبح من حرمته في حرم ... يرفل في ظل هبات وحظا
في منزل سيان فيه ربه ... وضيفه فيما اقتنى وما حظا (43)
إن رسول الله غيث واكف ... إذا لهيب الصيف داج والتظى
إذا أعد للملمين القرى ... لم يدخر عن ضيفه ولا حظا (44)
لما علمت جوده الجزل وما ... هناك من علم وحلم وبظا (45)
يممته فوق طمر ضامر ... منتظم الأعضاء ملموم الشظا
ليس يمس الأرض من سرعته ... كأنما يخشى بها مس اللظى
يا موسع الألف بصاع شبعا ... ومن مشى الدوح إليه وسعى
وأخصب الضرع بلمس كفه ... وبادر المزن له لما دعا
وسلم الظبي عليه كرما ... وكلم الميت فقام ورعى
واستشهد الضب فحيا معلنا ... بصدقه ومثبتا لما ادعى
إليك أعملت المطايا في الفلا ... تنساب ما بين أراك ولعا
مسوغا (46) جاهك علي في غد ... أكون ممن قد أجاد ورعا
أزكى صلاة وسلام أبدا ... عليك ما ارتاح الظليم وارتعى
وسبح الرعد بحمد من سقى ... صوب الحيا فقال للأرض لعا
فاشتملت بالنور كل فدفد ... لم يك للسارح فيه مرتعى
وباكر البيداء غيث مسبل ... فأخلف النبت الهشيم ورعى
ودق سحاب تحسب البرق به ... أسنة قد أشرعت يوم وغى
واخضرت الدوح ومدت قضبها ... فبينها حسن التئام وصغا (47)
وساقطت لها السحاب حملها ... إذ خوف الرعد تساقط الفغا (48)
ترى خرير الماء في قضيبه ... كأنه ميت ذود قد رغا
فسكن القيظ لهيب حره ... وفر لما أن رأى الماء طغى
غيث حمى الرمضاء عنا مثلما ... حمى رسول الله جور من بغى
ناه عن الفحشاء داع للهدى ... لم ينتطق بباطل ولا لغا
هذا إذا استكفيت في أمر به ... أجداك فيما تنتحيه وكفى
تهفو به ريح العلا إلى الندى ... كأنه ناعم غصن قد هفا
محيي الهدى والعدل في زمانه ... من بعد ما ألفاهما على شفا
أخفى الهدى قوم فأضحى وهو قد ... أظهره بعدله فما اختفى
إن يقض يعدل أو متى يسأل يهب ... وإن يقل يصدق وإن يعد وفى
وإن يجد يجزل وإن جاد يعد ... وإن تسىء يحسن وإن تجن عفا
بحر طما، بدر سما، عضب حمى ... روض نما، طب أفاد وشفى
لمجتد أو مقتد أو معتد ... أو مجدب (49) أو مشتك خطبا جفا
ما لي لا أضفي له المدح وقد ... أضحى به الحق علينا قد ضفا
أسس خلق الجود فينا فاغتدى ... به لنا ورد المعالي قد صفا
الجود يعلي المرء والبخل لقد ... يحط عن رتبته من ارتقى
والعز ما أحسنه لكنه ... إن كان هذا مع علم وتقى
والجهل للإنسان عيب قادح ... ولو حوى مالا ككثبان نقا
والعلم في حال الغنى والفقر لا ... يزال يرقى بك كل مرتقى
ولا ألوم المال فالمال حمى ... من جاهل يلقاك شر ملتقى
قد جبل الناس على حب الغنى ... فربه فيهم مهاب متقى
وما لذي الفقر لديهم رتبة ... ولو أفاد وأجاد واتقى
إن الغنى طب لعلات الفتى ... والفقر داء لا تداويه الرقى
والحزم أحرى ما به المرء اقتدى ... في أمره وما به النفس وقى
من لم يبت مع الليالي حازما ... لغدرها غادرنه فيها لقى
أمضيت طرفي كي يرى طرفي ما ... أخبرته من طيب مجد قد زكا
فصدق الحاكي ما أبصرته ... وفاق ما عاينته ما قد حكى
فسهلت رؤيته جهد السرى ... وأشكت الأيام من كان شكا
عجبت للأيام من عز بها ... ذل، ومن يضحك بها يوما بكى
فكم لها من كرة على فتى ... جلد إذا ما لهب الحرب ذكا
تجتنب الأسد سطاه في الوغى ... فذل حتى صار قصواه بكا
وكم صريع غادرت ليس له ... من ملجإ يوما ولا من مشتكى
عدت على نفس عدي وسقت ... منها ابن حجر كأس سم كالذكا (50)
واستلبت ملك بني ساسان لم ... تترك له على الليالي مرتكى (51)
لم يأمن المأمون من صولتها ... ولا ابن هند من عواديها خلا
وأتبعت جعفرا الفضل وكم ... بات الطلا (52) يسقيهما صرف الطلا
وغالت الزباء في منعتها ... فأظفرت عمرا بها فما ألا (53)
وأنفذت في آل بكر حكمها ... وجرعت مهلهلا كأس البلا
وكم سبت من سبإ من نعمة ... فمزقوا في كل قفر وفلا
وأهلكت عادا وأفنت جرهما ... وزودت منها تميما بالصلى (54)
فرعون موسى أولجت في لجة ... فمات قهرا بعد عز وعلا
وأظفرت بابن زياد مثلما ... أفنت يزيد حسرة لما اعتلى
وسيف استلته من غمدانه ... من بعد ما قد خضعت له الطلى (55)
ثم أعادته فحز الجيش عن ... حوزته حز النبات المختلى (56)
هي الليالي ليس يرعى صرفها ... لا خاملا فيها ولا من قد سما
ولا رسول الله فينا لم يزل ... كهف حمى (57) ، فهو لنا نعم الحمى
لله ما أكرمه من سيد (58) ... ينمى من المجد لأعلى منتمى
سليم صدر ذو وفاء لم يجش ... في صدره غش امرىء ولا غمى (59)
أوسعنا فضلا فما خاب امرؤ ... أوى إلى ذاك الجناب وانتمى
يا من غدا للخلق كهفا وحمى ... فأكرم المثوى وآوى وحمى
إنا أتينا من ديار دونها ... موحشة بيداء أو بحر طما
وإنني من قبح ما أسلفته ... ذو كبد رضت ودمع قد همى
فلا تخيبني مما لك من ... شفاعة ترجى وفضل قد نما
إنك من قوم بهم يشفى العنا ... ويدرك الشأو البعيد المرتمى
أعرض عن الجاهل مهما قد أسا ... وحسبه من جهله ما قد حوى
ولا تلم ذا سفه فإنه ... إن لمته لم يتئد ولا ارعوى
وإن رأيت من كريم عثرة ... فقل لعا ولا تعب بما احتوى
وإن ترعك من زمان فرقة ... فاصبر لها فالصبر أشفى للجوى
لم أشكر البعد على خير حمى ... قد صدني عن أنسه شحط النوى
يا منزلا ما بين نجد والحمى ... ويا ديارا بين كثبان اللوى
هل لي إلى تلك المعالي عودة ... أو جرعة من ذلك الماء الروى
لا تعجبوا من لعب الدهر بنا ... فأي إنسان على حال سوا
إن عشت لاقيتهم وإن أمت ... فإنما الدنيا فناء وتوى
إن رسول الله مذ أملته ... فالدهر قد أضمر نصحي ونوى
إي والذي مازال يسري جاهدا ... حتى أتى ميقاته وما ونى
فقدم الغسل وصلى ونضا ... أثوابه مستغفرا مما جنى
ثم نوى ملبيا ثم مضى ... حتى رأى ذات السناء والسنى
ثم أتى باب بني شيبة قد ... أبصر ما أمل قدما مذ دنا
فقبل الركن وطاف وسعى ... ثم مضى مرتحلا نحو منى
ثم أتى الموقف يدعو راغبا ... حتى إذا ما نفر القوم انثنى
ثم رمى ثم أفاض وانبرى ... معتمرا قد نال غايات المنى
ثم مضى مرتحلا فيمن مضى ... ميمما طيبة لا يشكو العنا
يبغي التي شرفها الله بمن ... شاد به الدين القويم وابتنى
فلم يكن ممن إذا حج جفا ... بل يمم القبر وزار واعتنى
خلق على لم يحوها إلا امرؤ ... نهاه عن نبذ العلا رعي النهى
فإن يقل: من حازها قل: الذي ... له تسامى كل مجد وانتهى
معتصم الراجين إن خطب دنا ... وكهفهم إن راع أمر ودهى
المرشد الناصح لله فما ... قصر في نصر الهدى ولا لها
من جد في إدراك ما رام يجد ... ولم يصب من قد توانى وسها
فلا يقصر بك خوف خيبة ... من خيل الخيبة في البدء وهى
واكتسب الحمد بما تبديه من ... فتح اللها بمستدامات اللها
واحرص على المجد ودنياك اطرح ... فأمرها أمر زهيد المشتهى
والمرء من إن فاته لم يكتئب ... وإن ينل لم يفتخر ولا ازدهى
من لازم الكبر على الناس اغتدى ... متضع القدر ولو نال السها
أنى تخيب اليوم آمالي ولي ... من كفه أكرم من صوب الحيا
يدني الفتى إلى مدى آماله ... ولو غدا من دونها الأرض الليا (60)
إن أهزل القوم زمان معور ... أنعشهم حتى يرى لهم حيا (61)
وإن أمات الجدب كل مخصب ... بدا لنيران القرى منه حيا (62)
أرسل سحب هديه جارية ... بالحق حتى حيي الدر حيا (63)
أوقع في الأنفس من ماء لدى ... ظام إذا ما اشتد بالشمس الحيا
لم تعي من فعل جميل كفه ... ولا له في المكرمات معتيا
ما لي لا أبلغ أقصى غاية ... في مدح من بالغ جودا واغتيا
لكل شخص غاية يبلغها ... وما له في المعلوات مغتيا (64)
تعيا يد السائل من معروفه ... ولم يقصر كرما ولا اعتيا
والآن قد أكملتها في مدحه ... مقصورة يقصر عنها من خلا
ضمنتها من كل فن دررا ... نظما فأضحت من نفيسات الحلى
حليتها جيد معاليه وما ... أملح حلي المدح في جيد العلا
جعلتها مني وداعا فاعتجب ... لنظمها الحلو الجنى كيف حلا
من قارب الرحلة عن ذاك الحمى ... كيف أجاد النظم يوما أو درى
أرسلتها من خاطر خامره ... وجد جلا عن مقلتي طيب الكرى
وكيف لا آسى على بعدي عن ... قوم جرى من جودهم ما قد جرى
أنصار دين الله والهادي الذي ... لولا وضوح هديه ضل الورى
فالقلب بين مشرق ومغرب ... مقسم اللوعة مجذوب العرى
إذا ذكرت الغرب جنت مهجتي ... وبل دمعي من جوى الشوق الثرى
وإن ذكرت حب من في مشرق ... أبطأ بي حبهم عن السرى
وإن يصف من وجه لشخص مورد ... كدر من أخرى فلا صفو يرى
فإن ترحلت فقلبي عندكم ... لم يرتحل عن بابكم ولا سرى
ولا تزال رسل شوزقي أبدا ... تترى على مجدكم الجزل الندى
ولن تمر ساعة إلا هفا ... بذكركم مفصح نظمي وشدا
فليس عندي للنجاة مخلص ... إن لم يكن منكم نوال أو جدا
بكم ملاذي وحماكم ملجئي ... ليس سوى ذاك السماح المجتدى
وما ذخرنا عدة سواكم ... مثلكم من يرتجى ويجتدى
لا أوحش الله ديارا أنتم ... فيها ولا أزرى بمرعاها الصدى
ولا نأت داركم ولا خلا ... ربعكم ما راح يوم واغتدى ومن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) واضح أن هذه المقصورة من " المعشرات " على حروف المعجم وقد فصلنا بين أجزائها لتتضح للقارئ صورتها.
(2) بأى يبأى: فخر؛ وفي ق: فلي قلب ... نأى.
(3) فأى: شق وخرج.
(4) شأى: قد تعني " بعد " أو " أعجب وأطرب ".
(5) وأى: وعد؛ وفي: ومثلي من فأى ... الخ.
(6) زأى: تكبر، عن ابن الأعرابي.
(7) سأى الثوب والأديم: مده حتى انشق.
(8) الحاذ: طريقة المتن وهو موضع اللبد من الفرس؛ وجأى: قذف.
(9) ذأى: ساق سوقا شديدا وطرد.
(10) ق: أملته.
(11) اللهيم: الداهية؛ الأربى: الشديدة.
(12) متا في الأرض مثل العطا، أي مشى.
(13) قتا العبد: خدم، أو أحسن الخدمة.
(14) ستى الثوب يستيه بمعنى سداه يسديه.
(15) رتا - من الأضداد: شد وأرخى.
(16) غثا: كثر غناؤه.
(17) الخثى: جمع خثي، وهو روث الثور.
(18) الحثا: التراب المحثو أو المحثي.
(19) جثا: جلس على ركبتيه للخصومة أي لمواجهة الخطب، فهو مستوفز.
(20) اللثى: شيء ينضحه ساق الشجرة أبيض خائر.
(21) يريد بلء الكفين.
(22) طحا: ذهب بعيدا.
(23) الوحى: الصوت.
(24) يقال امخى من الشيء أي تبرأ منه وتحرج.
(25) موتخى: متحرى.
(26) نخا: زهي، وقال الأصمعي، يقال: نخي وانتخى ولا يقال نخا.
(27) الطخا: قطع السحاب.
(28) السخا: ظلع يصيب البعير حين يثب بالحمل الثقيل.
(29) شذا: آذى، أي أن هذه الواجبات تقلق من يريد الاحتفاظ بها، وفي التجارية: عرف قد شذا، ويكون شذا بمعنى تطيب.
(30) خذا: لان واسترخى.
(31) ق: الساري؛ وقوله " عند الصباح ... " مثل.
(32) الوزى: القصير.
(33) رزا: إذا قبل البر، وأرزى إلى: لجأ.
(34) حزا: عرف وجرب، والحازي: الكاهن.
(35) غسا الليل يغسو: أظلم.
(36) فصى الشيء من الشيء: فصله، ولعله يعني هنا: ميز الخير من الشر.
(37) مصى: لم أجد له معنى ملائما للسياق هنا.
(38) عطا: تناول.
(39) نطا: بعد أو امتد.
(40) المطا: الظهر.
(41) الشظى من الناس: الموالي والأتباع.
(42) يقال لقي الإنسان ما عجاه وما عظاه وما أورمه: إذا لقي شدة وبلاء.
(43) كأنه يعني: أصاب حظا.
(44) حظا: فاضل بين.
(45) البظا: اكتناز اللحم، ويريد هنا وفرة العلم.
(46) ق: مسرعا.
(47) الصغا: الميل.
(48) الفغا: البسر الفاسد المغبر، أو ما يخرج من الطعام فيرمى به.
(49) ق: أو مجتز.
(50) الذكا: الجمرة الملتهبة.
(51) المرتكى: المعول.
(52) الطلا: الغلام، شبهه بولد الظبية.
(53) ألا يألو: قصر.
(54) الصلى: الوقود، يشير إلى ما فعله أحد المناذرة ببني تميم حين حرقهم.
(55) الطلى: الرقاب.
(56) المختلى: المقطوع.
(57) ق: حيا.
(58) ق: من سند.
(59) غمى: غطى.
(60) الأرض الليا: التي بعد ماؤها واشتد السير فيها.
(61) الحيا: الخصب.
(62) لعله شبيه بقولهم: حاييت النار أي أحييتها.
(63) الحيا: المطر.
(64) مغتيا: موضع غاية أو نهاية.
الاكثر قراءة في العصر الاندلسي
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة