1

x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

الأدب

الشعر

العصر الجاهلي

العصر الاسلامي

العصر العباسي

العصر الاندلسي

العصور المتأخرة

العصر الحديث

النثر

النقد

النقد الحديث

النقد القديم

البلاغة

المعاني

البيان

البديع

العروض

تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب

الأدب الــعربــي : الأدب : الشعر : العصر الاندلسي :

رجع إلى ذكر مشايخ لسان الدين

المؤلف:  أحمد بن محمد المقري التلمساني

المصدر:  نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب

الجزء والصفحة:  ص: 434-514

2024-01-08

3308

رجع إلى ذكر مشايخ لسان الدين، فنقول:

1- ومن مشايخ لسان الدين الرئيس أبو الحسن علي بن الجياب (1) ، وهو كما في " الإحاطة "

 علي بن محمد بن سليمان بن علي بن سليمان بن حسن، الأنصاري الغرناطي، أبو الحسن، قال: وهو شيخنا ورئيسنا العلامة البليغ.

ومن مشايخه أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي، وخلق، قال: وقد دونت شعره، فمن معشراته قوله في حرف الجيم:

جريئاً على الزلات غير مفكر

باناً على الطاعات غير معرج

جمعت لما يفنى اغتراراً بجمعه ... وضيعت ما يبقى، سجية أهوج

جنوناً بدار لا يدوم سرورها ... فدعها سدى، ليست بعشك فادرجي (2)

جيادك (3) في شأو الضلال سوابق ... تفوت مدى سن الوجيه وأعوج

جهلت سبيل الرشد فاقصد دليله ... تجد دار سعد بابها غير مرتج

جناب رسول ساد أولاد آدم ... وقرب في السبع الطباق بمعرج

جمال أنار الأرض شرقاً ومغرباً ... فكل سناً من نوره المتبلج (4)

جلا صدأ المرتاب أن سبح الحصى ... لديه بنطق ليس بالمتلجلج

جعلت امتداحي والصلاة عليه لي ... وسائل تحظيني بما أنا مرتج

 

وقال من الأغراض الصوفية السلطانية:

هات اسقني صرفاً بغير مزاج ... راحي هي التي راحتي وعلاجي

إن صب منها في الزجاج قطرة ... شف الزجاج عن السنا الوهاج

وإذا الخليع أصاب منها شربة ... حاجاه بالسر المصون محاجي

وإذا المريد أصاب منها جرعة ... ناجاه بالحق المبين مناجي

تاهت به في مهمه لا يهتدي ... فيه لتأويب ولا إدلاج

يرتاح من طرب بها فكأنما ... غنته بالأرمال والأهزاج

هبت عليه نسمة قدسية ... في فيء باب دائم الإرتاج

فإذا انثنى يوماً وفيه بقية ... سارت قصداً على المنهاج

وإذا تمكن منه سكر معربد ... فليصبرن لمصرع الحلاج

قصرت عبارة فيه عن وجدانه ... فغدا يقيض بمنطق لجلاج

أعشاه نور للحقيقة باهر ... فتراه يخيط في الظلام الداجي

رام الصعود بها إلى مركز أصله ... فرمت به في بحرها المواج

فلئن أمد برحمة وسعادة ... فليخلصن من بعد طول هياج

وليرجعن بنعمة موفورة ... ما شيب بعذب شرابها بأجاج

ولئن تخطاه القبول لما جنى ... فليرجعن نكساً على الأدراج

ما أنت إلا درة مكنونة ... قد أودعت في نطفة أمشاج

فاجهد على تخليصها من طبعها ... تعرج بها في أرفع المعراج

واشدد يديك معاً على حبل التقى ... فإن اعتصمت به فأنت الناجي

ولدى العزيز ابسط بساط تذلل ... وإلى الغني امدد يد المحتاج

هذا الطريق له مقدمتان صا ... دقتان أنتجتا أصح نتاج

فاجمع إلى ترك الهوى حمل الأذى ... واقنع من الإسهاب بالإدماج

حرفان قد جمعا الذي قد سطروا ... من بسط أقوال طول حجاج

والمشرب الأصفى الذي من ذاقه ... فقد اهتدى منه بنور سراج

أن لا ترى إلا الحقيقة وحدها ... والكل مضطر إليها لاجي

هذي بدائع حكمة أنشأتها ... بإشارة المولى أبي الحجاج

وسع الأنام بفضله وبعدله ... وبحلمه وبجوده الثجاج

من آل نصر نخبة الملك الرضى ... أمن المروع هم وغيث الراجي

من آل قيلة ناصري خير الورى ... والخلق بين تخاذل ولجاج

ماذا أقول وكل قول قاصر ... في وصف بحر زاخر الأمواج

منه لباغي العرف در فاخر ... ولمن يعادي الدين هول فاجي

دامت سعودك في مزيد والمنى ... تأتيك أفواجاً على أفواج

 

وقال من المطولات:

لمن المطايا في السراب سوابحا ... تفلي الفلاة غوادياً وروائحا

عوج كأمثال القسي ضوامر ... يرمين في الآفاق مرمى نازحا

وقال يمدح، ويصف مصنعاً سلطانياً (5) :

زارت تجر بنخوة (6) أذيالها ... هيفاء تخلط بالنفار دلالها

فالشمس من حسد لها مصفرة ... إذ قصرت عن أن تكون مثالها

وافتك تمزج لينها بقساوة ... قد أدرجت طي العتاب نوالها

كم رمت كتم مزارها لكنه ... صحت دلائل لم تطق إعلاها

تركت على الأرجاء عند مسيرها ... أرجاً كأن المسك فت خلالها

ما واصلتك محبة وتفضلاً ... لو كان ذاك لواصلن إفضالها

لكن توقعت السلو فجددت ... لك لوعة لا تتقي ترحالها

فوحبها (7) قسماً يحق بروره ... لتشجمنك في الهوى أهوالها

حسنت نظم الشعر في أوصافها ... إذ قبحت لك في الهوى أفعالها

يا حسن ليلة وصلها، ما ضرها ... لو أتبعت من بعدها أمثالها

لما سكرت بريقها وجفونها ... أهملت كأسها لم ترد إعمالها

هذا الربيع أتاك ينشر حسنه ... فافسح لنفسك في مداه مجالها

واخلع عذارك في البطاله جامحاً ... واقرن بأسحار الهنا آصالها

في جنة تجلو محاسنها كما ... تجلو العروس لدى الزفاف جمالها

شكرت أيادي للحيا شكر الورى ... شرف الملوك همامها مفضلها

وصميمها أصلاً وفرعاً، خيرها ... ذاتاً خلقاً، سمحها بذالها

الطاهر الأعلى الأمين المرتضى ... بحر المكارم غيثها سلسالها

حاز المعالي كابراً من كابر ... وجرى لغايات الكرام فنالها

إن تلقه في يوم بذل هباته ... تلق الغمائم أرسلت هطالها

أو تلقه في يوم جرب عداته ... تلق الضراغم فارقت أشبالها

ملك إذا ما صال يوماً صولة ... خلت البسيطة زلزلت زلزالها

فبسيبه وبسيف نلت المنى ... واستعجلت أعداؤه أجالها

الواهب الآلاف قبل سؤالها ... فكفى العفاة سؤالها ومطالها

القاتل الآلاف قبل قراعها ... فكفى العداة قراعها ونزالها

إن قلت بحر كفه قصرت إذ ... شبهت بالملح الأجاج نوالها

ملأ البسيطة عدله وأمانه ... فالوحش لا تعدو على من غالها

وسقى البرية فيض كفيه فقد ... عم البلاد سهولها وجبالها

جمع العلوم عناية بعيونها (8) ... آدابها وحسابها وجدالها

منقولها معقولها، وأصولها ... وفروعها، تفصيلها إجمالها

فإذا عفاتك عاينوك تهللوا ... لما رأوا من كفك استهلالها

437

وإذا عداتك أبصروا تيقنوا ... أن المنية سلطت رئبالها

بددت شملهم ببيض صوارم ... رويت من علق الكماة نصالها

وأبحت أرضهم فأصبح أهلها ... خواراً (9) تغادر نهبة أموالها

فتحت إمارتك السعيدة للورى ... أبواب بشرى واصلت إقبالها

وبنت مصانع رائقات ذكرت ... دار النعيم جنانها وظلالها

وأجلها قدراً وأرفعها مدى ... هذا الذي سام النجوم وطالها

هو جنة فيها الأمير مخلد ... بلغت إمارته بها آمالها

ولأرض أندلس مفاخر أنتم ... أربابها أضفيتم سربالها

فحميتم أرجائها، وكفيتم ... أعداءها، وهديتم ضلالها

فبآل نصر فاخرت لا غيرهم ... لم تعتمد من قبلهم أقيالها

بمحمد ومحمد ومحمد ... قصرت على الخصم الألد نضالها

فهم الألى ركبوا لكل عظيمة ... جرداً كسين من النجيع جلالها

وهم الألى فتحوا لكل ملمة ... باباً أزاح بفتحه إشكالها

متقلدون من السيوف عضابها ... متأبطون من الرماح طوالها

الراكبون من الجياد عرابها ... والضاربون من العدا أبطالها

أولي عهد المسلمين ونخبة ال ... أملاك صفوة محضها وزلالها

إن العباد مع البلاد مقرة ... بفضائل لك مهدت أحوالها

فتفك عانيها، وتحمي سربها ... وتفيد حلماً دائماً جهالها

وقال يرثي ولده أبا القاسم رحمهما الله تعالى:

هو البين حتماً، لا لعل ولا عسى ... فما بال نفسي لم تفض عند أسى

وما لفؤادي لم يذب منه حسرة ... فتباً لهذا القبل سرعان ما قسا

وما لجفوني لا تفيض مورداً ... من الدمع يهمي تارة ومورسا

وما للساني مفصحاً بخطابه ... وما كان لو أوفى بعهد لينسبا (10)

أمن بعد ما أودعت روحي في الثرى ... ووسدت مني فلذة القلب مرسما

وبعد فراق ابني أبا القاسم الذي ... كساني ثوب الثكل لا كان ملبسا

أؤمل (11) في الدنيا حياة وأرتضي ... مقيلاً لدى أبنائها ومعرسا

فآهاً وللمفجوع فيها استراحة ... ولا بد للمصدور أن يتنفسا

على عمر أفنيت فيه بضاعتي ... فأسلمني للقبر حيران (12) مفلسا

ظللت به في غفلة وجهالة ... إلى أن رمى سهم الفراق فقرطسا

إلى الله أشكو برح حزني فإنه ... تلبس منه القلب ما قد تلبسا

وهدة خطب نازلتني عشية ... فما أغنت الشكوى ولا نفع الأسا

فقد صدعت شملي وأصمت مقاتلي (13) ... وقد هدمت ركني الوثيق المؤسسا

ثبت لها وقعاً لشدة وقعها ... فما زلزلت صبري الجميل وقد رسا

وأطمع أن يلقى برحمته الرضى ... وأجزع أن يشقى بذنب فينسكا

أبا القاسم اسمع شكو والدك الذي ... حسا من كؤوس البين أفظع ما حسا

وقفت فؤادي مذ رحلت على الأسى ... فأشهد لا ينفك وقفاً محبسا

وقطعت آمالي من الناس كلهم ... فلست أبالي أحسن المرء أم أسا

تواريت يا بدري وشمسي وناظري ... فصار وجودي مذ تواريت حندسا

وخلفت لي عبئاً من الثكل فادحاً ... فما أتعب الثكلان نفساً وأتعسا

أحقاً ثوى ذاك الشاب فلا أرى ... له بعد هذا اليوم حولي مجلسا

فيا غصناً نضراً ثوى عندما استوى ... وأوحشني أضعاف ما كان أنسا

ويا نعمة لما تبلغتها انقضت ... فأنعم أحوالي صار بها أبؤسا

لودعته والدمع تهمي سحابه ... كما أسلم السلك الفريد المخمسا

وقبلت في ذاك الجبين مودعاً ... لأكرم من نفسي علي وأنفسا

وحققت من وجدي به قرب رحلتي ... وماذا عسى أن ينظر الدهر من عسا

فيا رحمة للشيب يبكي شبيبة ... قياس لعمري عكسه كان أقيسا

فلو أن هذا الموت يقبل فدية ... حبونا أموالاً كراماً وأنفسا

ولكنه حكم من الله واجب ... يسلم فيه من بخير الورى ائتسى

تغمدك الرحمن بالعفو والرضى ... وكرم مثواك الجديد وقدسا

وألف منا الشمل في جنة العلا ... فنشرب تنسيماً ونشرب سندسا

 

وكتب إلى القاضي الشريف وهو بوادي آش:

أهزلاً وقد جدت بك اللمة الشمطا ... وأمناً وقد ساورت يا حية رقطا

أغرك طول العمر في غير طائل ... وسرك (14) أن الموت في سيره أبطا

رويداً فإن الموت أسرع وافد ... على عمرك الفاني ركائبه حطا (15)

فإذ ذاك لا تسطيع إدراك ما مضى ... بحال، ولا قيضاً تطيق ولا بسطا (16)

تأهب فقد وافى مشيبك منذراً ... وها هو في فوديك أحرفه خطا (17)

فوافقت منه كاتب السر واشياً ... له القلم الأعلى يخط به وخطا

معمى كتاب فكه احذر فهذه ... سفينة هذا العمر قاربت الشطا

وإن طالما خاضت به اللجج التي ... خطبت بها في كل مهلكة خبطا

وما زلت في أمواجها متقلباً ... فآونة رفعاً وآونة حطا

فقد أوشكت تلقيك في قعر حفرة ... تشد عليك الجانبين بها ضغطا

ولست على علم بما أنت بعدها ... ملاق، أرضواناً من الله أم سخطا

 

وأعجب شيء منك دعواك في النهى ... وهذا الهوى المردي على العقل قد غطى

قسطت عن الحق المبين جهالة ... وقد خالفتك النفس فادعت القسطا

وطاوعت شيطاناً تجيب إذا دعا ... وتقبل إن أغوى، وتأخذ إن أعطى

تناءى عن الآخرة، وقد قربت مدى ... تداني من الدنيا، وقد أزمعت شحطا

وتمنحها حباً وفرط صبابة ... وما منحت إلا القتادة والخرطا

فها أنت تهوى وصلها وهي فارك ... وتأمل قرباً من حماها وقد شطا

صراط هدى نكبت عنه عماية ... ودار ردى أوعيت في سحتها سرطا (18)

فما لك إلا السيد الشافع الذي ... له فضل جاه كل ما يرتجي يعطى

دليل إلى الرحمن، فأنهج سبيله ... فمن حاد عن نهج الدليل فقد أخطا

محبته شرط القبول، فمن خلت ... صحيفته منها فقد فقد الشرطا

وما قبلت منه لدى الله قربة ... وما زكت الأعمال، بل حبطت حبطا

به الحق وضاح، به الإفك زاهق ... به الفوز مرجو، به الذنب قد حطا

هو الملجأ الأحمى، هو الموئل الذي ... به في غد يستشفع المذنب الخطا

لقد مازجت روحي محبته التي ... بقلبي خطت قبل أن أعرف الخطا

إليك ابن خير الخلق بنت بديهة ... تقبل تبجيلاً أناملك السبطا

وحيدة هذا العصر وافت وحيدة ... لتبسط من شتى بدائعها بسطا

وتتلو آيات التشيع إنها ... لموثقة عهداً ومحكمة ربطا

لك الشرف المأثور يا ابن محمد ... وحسبك أن تنمى إلى سبطه سبطا

إلى شرفي دين وعلم تظاهرا ... تبارك من أعطى وبورك في المعطى

ورهطك أهل البيت، بيت محمد ... فأعظم به بيتاً، وأكرم به رهطا

بعثت به عقداً من الدر فاخراً ... وذكر رسول الله درته الوسطى

وأهديت منه للسيادة غادة ... نظمت من الدر الثمين بها سمطا

وحاشيتها من كل ما شانها، فإن ... تجعد حوشي تجد لفظها سبطا

وفي الطيبين الطاهرين نظمتها ... فساعدها من أجل ذلك حرف الطا

عليك سلام الله ما ذر شارق ... وما رددت ورقاء في غصن لغطا

قال:

لله عصر الشباب عصراً ... فتح للخير كل باب

حفظت ما شئت فيه حفظاً ... كنت أراه بلا ذهاب

حتى إذا ما الشيب وافى ... ند ولكن بلا إياب

لا تعتنوا بعدها بحفظ ... وقيدوا العلم بالكتاب

وقال:

يا أيها الممسك البخيل ... إلهك المنفق الكفيل

أنفق وثق بالإله تربح ... فإن إحسانه جزيل

وقدم الأقربين واذكر ... ما روي أبداً بمن تعل

وقال:

وقائلة لم عراك المشيب ... وما إن بعهد الصبا من قدم

فقلت لها لم أشب كبرة ... ولكنه الهم نصف الهرم

وقال:

أيعتادني كل سقم وأنت طبيب ... وتبعد آمالي وأنت قريب

يقيني أن الله جل جلاله ... يقيني فراجي الله ليس يخيب

وقال:

هي النفس إن أنت سامحتها ... رمت بك أقصى مهاوي الخديعه

وإن أنت جشمتها خطة ... تنافي رضاها تجدها مطيعه

فإن شئت فوزاً فناقض هواها ... وإن وصلتك أجزها بالقطيعه

ولا تعبأن بميعادها ... فميعادها كسراب بقيعه

وقال:

من أنت يا مولى الورى مقصوده ... طوبى له قد ساعدنه سعوده

فليشهدنك له فؤاد صادق ... وشهوده قامت عليه شهوده

وليفنين عن نفسه ورسومه ... طراً، وفي ذلك الفناء وجوده

وليحفظنه بارق يرقى به ... في أشرف المعراج ثم يعيده

حتى يظل ولا يدري دهشة ... تقريبه المقصود أم تبعيده

لكنه ألقى السلاح مسلماً ... فمراده ما أنت منه تريده

فلقد تساوى عند إكرامه ... وهوانه ومفيده ومبيده

وقال ملغزاً في حجل (19) :

حاجيت (20) كل فطن لبيب ... ما اسم لأنثى من بني يعقوب (21)

ذات كرامات فزرها قربة ... فزورها أحق بالتقريب

تشركها في الاسم أنثى لم تزل ... حافظة لسرها المحجوب

وقد جرى في خاتم الوحي الرضى ... لها حديث ليس بالمكذوب

وهو إذا ما الفاء (22) منه صحفت ... صبغ الحياء لا الحيا المسكوب

فهاكها واضحة أسرارها ... فأمرها أقرب من قريب وقال أيضاً في آب:

حاجيتكم ما اسم علم ... ذو نسبة إلى العجم

يخبر بالرجعة وه ... وراجع كما زعم

وصف الحبيب هو بالت ... صحيف أو بدء قسم

دونكه أوضح من ... نار على رأس علم

وقال في كانون:

وما اسم لسميين ... ولم يجمعهما جنس

فهذا كلما يأتي ... فبالآخر لي أنس

وهذا ما له شخص ... وهذا ما له حس

وهذا ما له سوم ... وذا قيمته فلس

وهذا أصله الأرض ... وهذا أصله الشمس

وهذا واحد من سب ... عة تحيا بها النفس

فمن محموله الجن ... ومن موضوعه الإنس

فقد بان الذي ألغز ... ت ما في أمره لبس

وقال في سلم:

ما اسم مركب مفيد الوضع ... مستعمل في الوصل لا في القطع

ينصب لكن أكثر استعمال من ... يعنى به في الخفض أو في الرفع

هو إذا حققته مغيراً (23) ... تراه شملاً لم يزل ذا صدع

فالاسم إذا طليته تجده في ... خامسة من الطوال السبع (24)

وهو إذا صحفته يعرب عن ... مكسر في غير باب الجمع (25)

له أخ أفضل منه لم تزل ... آثاره محمودة في الشرع (26)

هما جميعاً من بني النجار والأف ... ضل أصل في حنين الجذع (27)

فهاكه قد سطعت أنواره ... لا سيما لكل زاكي الطبع

وقال في مائدة:

حاجيت كل فطن نظار ... ما اسم لأنثى من بني النجار

وفي كتاب الله جاء ذكرها ... فقلما يغفل عنها القاري

في خبر المهدي فاطلبها تجد ... إن كنت من مطالعي الأخبار

ما هي إلا العيد عيد رحمة ... ونعمة ساطعة الأنوار

يشركها في الاسم وصف حسن ... من وصف قضب الروضة المعطار (28)

فهاكه كالشمس في وقت الضحى ... قد شف عنها حجب الأستار

ثم قال لسان الدين: وأما نثره فمطولات عرفت بما تخللها من الأحوال متونها، وقلت لمكان البديهة والاستعجال عيونها، وقد اقتنصت جزءاً منها سميته تافه من حجم ونقطة من يم وولد بغرناطة في جمادى الأولى عام ثلاثة وسبعين وستمائة، وتوفي ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة، وأنشدت من نظمي في رثائه خامس يوم دفنه على قبره هذه القصيدة:

ما لليراع خواضع الأعناق ... طرق النعي فهن في إطراق

وكأنما صبغ الشحوب وجوهها ... والسقم من الجزع ومن إشفاق

 

ما للصحائف صوحت روضاتها ... أسفاً وكن نضيرة الأوراق

ما للبيان كؤوسه مهجورة ... غفل المدير لها ونام الساقي

ما لي عدمت تجلدي وتصبري ... والصبر في الأزمات من أخلاقي

خطب أصاب بني البلاغة والحجى ... شب الزفير به عن الأطواق

أما وقد أودى أبو الحسن الرضى ... فالفضل أودى على الإطلاق

كنز المعارف لا تبيد نقوده ... يوماً ولا تفنى على اللإنفاق

من للبدائع أصبحت سمر السرى ... ما بين شام للورى وعراق

من لليراع يجيل من خطيها ... سم العدا ومفاتح الأرزاق

قضب ذوابل مثمرات بالمنى ... وأراقم ينفثن بالترياق

من للرقاع الحمر يجمع حسنها ... خجل الخدود وصبغة الأحداق

تغتال أحشاء العدو كأنها ... صفحات دامية الغرار رقاق

وتهز أعطاف الولي كأنها ... راح مشعشعة براحة ساقي

من للفنون يجيل في ميدانها ... خيل البيان كريمة الأعراق

من للحقائق أبهمت أبوابها ... للناس يفتحها على استغلاق

من للمساعي الغر تقصد جاهه ... حرماً فينصرها على الإخفاق

كم شد من عقد وثيق حكمه ... في الله أو أفتى بحل وثاق

رحب الذراع بكل خطب فادح ... أعيت رياضته على الحذاق

صعب المقادة في الهوادة والهوى ... سهل على العافين والطراق

ركب الطريق إلى الجنان وحورها ... يلقينه بتصافح وعناق

فاعجب لأنس في مظنة وحشة ... ومقام وصل في مقام فراق

أمطيباً بمحامد العمل الرضى ... ومكفناً بمكارم الأخلاق

ما كنت أحسب قبل نعشك أن أرى ... رضوى تسير به على الأعناق

ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أن اللحود خزائن الأعلاق

يا كوكب الهدي الذي من بعده ... ركد الظلام بهذه الآفاق

يا واحداً مهما جرى في حلبة ... جلى بغرة سابق السباق

يا ثاوياً بطن الضريح وذكره ... أبدا ًرفيق ركائب ورفاق

يا غوث من وصل الصريخ فلم يجد ... في الأرض من وزر ولا من واق

ما كنت إلا ديمة منشورة ... من غير إرعاد ولا إبراق

ما كنت إلا روضة ممطورة ... ما شئت من ثمر ومن أوراق

يا مزمعاً عنا العشي ركابه ... هلا ثويت ولو بقدر فواق

رفقاً أبانا جل ما حملتنا ... لا تنس فينا عادة الإشفاق

واسمح ولو بمزار لقيا في الكرى ... تبقي بها منا على الإرماق

وإذا اللقاء تصرمت أسبابه ... كان الخيال تعلة المشتاق

عجباً لنفس ودعتك وأيقنت ... أن ليس بعد نواك يوم تلاقي

ما عذرها إن لم تقاسمك الردى ... في فضل كأس قد شربت دهاق

إن قصرت أجفاننا عن أن ترى ... تبكي النجيع عليك باستحقاق

واستوقفت دهشاً فإن قلوبنا ... نهضت بكل وظيفة الآماق

ثق بالوفاء على المدى من فتية ... بك تقتدي في العهد والميثاق

سجعت بما طوقتها من منة ... حتى زرت بحمائم الأطواق

تبكي فراقك خلوة عمرتها ... بالذكر في طفل وفي إشراق

أما الثناء على علاك فذائع ... قد صح بالإجماع والإصفاق

والله قد قرن الثناء بأرضه ... بثنائه من فوق سبع طباق

جادت ضريحك ديمة هطالة ... تبكي عليه بواكف رقراق

وتغمدتك من الإله سعادة ... تسمو بروحك للمحل الراقي

صبراً بني الجياب إن فقيدكم ... سيسر مقدمه بما هو لاق

وإذا الأسى لفح القلوب أواره ... فالصبر والتسليم أي رواق

وأنشد في هذا الغرض لفقيه أبو عبد الله ابن جزي:

ألم تر أن المجد أقوت معالمه ... فأطنابه قد قوضت ودعائمه

هوى من سماء المعلوات هلالها ... وخانت جواد المكرمات قوائمه

وثلت من الفخر المشيد عروشه ... وفلت من العز المنيع صوارمه

وعطل من حلي البلاغة قسها ... وعري من جود الأنامل حاتمه

أجل إنه الخطب الذي جل وقعه ... وثلم غرب الدين والعلم هاجمه

وإلا فما للنوم طار مطاره ... وما للزيم الحزن قصت قوادمه

وما لصباح الأنس أظلم نوره ... وما لمحيا الدهر قطب باسمه

وما لدموع العين فضت كأنها ... فواقع زهر والجفون كمائمه

قضى الله في قطب الرياسة أن قضى ... فشتت ذاك الشمل من هو ناظمه

ومن قارع الأيام سبعين حجة ... ستنبو غراره ويندق قائمه

وفي مثلها أعيا النطاسي طبه ... وضل طريق الحزم في الرأي حازمه

تساوى جواد في رداه وباخل ... فلا الجود واقيه، ولا البخل عاصمه

وما نفعت رب الجياد كرامه ... ولا منعت منه الغني كرائمه

وكل تلاق فالفراق أمامه ... وكل طلوع فالغروب ملازمه

وكيف مجال العقل في غير منفذ ... إذا كان باني مصنع هو هادمه

ليبك علياً مستجير بعدله ... يصاخ لشكواه ويمنع لظالمه

ليبك علياً مائح بحر علمه ... يروى بأنواع المعارف هائمه

ليبك علياً مظهر فضل نصحه ... يحلأ عن ورد المآثم حائمه

ليبك علياً معتف جود كفه ... يواسيه في أمواله ويقاسمه

ليبك علياً ليله وهو قائم ... يكابده أو يومه وهو صائمه

ليبك علياً فضل كل بلاغة ... يخلده في صفحة الطرس راقمه

وشخص ضئيل الجسم يرهب نفثه ... ليوث الشرى في خيسها وضراغمه (29)

تكفل بالرزق المقدر للورى ... إذا الله أعطى فهو في الناس قاسمه

يسدده سهماً وينضوه صارماً ... ويشرعه رمحاً فكل يلائمه

إذا سال من شقيه سائل حبره ... بما شاء منه سائل فهو عالمه

ليبك عليه اليوم من كان باكياً ... فتلك مغانيه خلت ومعالمه

تقلد منه الملك عضب بلاغة ... يقد السلوقي المضاعف صارمه

وقلده مثنى الوزارة فاكتفى ... بها ألمعي حازم الرأي عازمه

ففي يده وهو الزعيم بحقها ... براعته والمشرفي وخاتمه

سخي على العافين سهل قياده ... أبي على العادين صعب شكائمه

إذا ضلت الآراء في ليل حادث ... رآها برأي يصدع الخطب ناجمه

وقام بأمر الدين والملك حامياً ... فذل معاديه وضل مراغمه

وقد كان نيط العلم والحلم والتقى ... به وهو ما نيطت عليه تمائمه

ودوخ أعناق الليالي بهمة ... يبيت ونجم الأفق فيها يزاحمه

وزاد على بعد المنال تواضعاً ... أبى الله إلا أن تم مكارمه

سقيت الغوادي؛ أي علم وحكمة ... ودين متين ذلك القبر كاتمه

وما زال يستسقى بدعوتك الحيا ... وها هو يستسقى لقبرك ساجمه

بكت فقدك الكتاب إذ كان شملهم ... يؤلفه من دوح فضلك ناعمه

وطوقتهم بالبر ثم سقيتهم ... نداك فكنت الروض ناحت حمائمه

ويبكيك مني ذاهب الصبر موجع ... توقد في جنبيه للحزن جاحمه

فتىً نال منه الدهر إلا وفاءه ... فما وهنت في حفظ عهد عزائمه

عليل الذي زرت عليه جيوبه ... قريح الذي شدت عليه حزائمه

فقد كنت ألقى الخطب منه بجنة ... تعارض دوني بأسه وتصادمه

سأصبر مضطراً وإن عظم الأسى ... أحارب حزني مرة وأسالمه

وأهديك إذ عز اللقاء تحية ... وطيب ثناء كالعبير نواسمه

وأنشد الفقيه القاضي أبو جعفر ابن جزي قصيدة أولها:

أبثكما والصبر للعهد ناكث ... حديثاً أملته علي الحوادث

وأنشد القاضي أبو بكر ابن علي القرشي قصيدة أولها:

هي الآمال غايتها نفاد ... وفي الغايات تمتاز الجياد

وأنشد الفقيه الكاتب القاضي أبو القاسم ابن الحكم قصيدة أولها:

لينع الحجى والحلم من كان ناعيا ... ويرع العلا والعلم من كان راعيا

قصائد مطولات يخرج استقصاؤها عن الغرض، فكان هذا التأبين غريباً لم يتقدم به عهده بالحضرة لكونها دار ملك، والتجلة في مثل هذا مقصورة على أولي الأمر؛ انتهى ما لخصته من ترجمته في " الإحاطة ".

ولنزد فنقول: ومن ألغازه في الدرهم:

ما بغيض إلى الكرام خصوصاً ... وحبيب إلى الأنام عموما

فاعجبوا منه كيف يحمي ويحمى ... ويكف العدا ويغني العديما

إن تغير شطريه فالأول اسم ... يألف الضرع والغمام السجوما

ويكون الثاني كبير أناس ... حطمته حياته تحطيما

فإذا ما قلبت أول شطر ... رد منطوق لغزه مفهوما

وإذا ما قلبت ثاني شطر ... كان كفاً وليس كفاً رقيماً

قلبه بعد حذفك الفاء منه ... هو شيء يحلل التحريما

أو صغير مستحس لم يؤدب ... إن تعلمه يقبل التعليما

فالتبين ما قلته ولتعين ... وبه فلتقم مقاماً كريما وقال في المسك:

 

ما طاهر طيب ولكن ... ما أصله من ذوي الطهارة

من الظباء الحسان لكن ... إذا تأملته ففاره

نص حديث الرسول فيه ... شهادة تقتضي بشاره

تصحيفه بعد حذف حرف ... منزلك الآهل العمارة

يعني مبنى.

وقال في فلك:

ما اسم لشيء مرتقي ... في مغرب ومشرق

إذا حذفت فاءه ... كان لك الذي بقي

وقال أيضاً في الفنار:

ما اسم إذا حذفت من ... هـ فاءه المنوعه

فإنه ابنة الزنا ... مضافة لأربعه

يعني ابنة الزناد، وهي النار.

وقال في النوم:

ما اسم مسماه به ... يسقط حكم التكليف

وإن دخلت البيت بالتص ... حيف حق التعنيف

وإن أردت شبهه ... فقلبه بالتصحيف

بينه فهو في كتا ... ب الله بادي التعريف

وقال في غزال:

 

حاجيتكم ما اسم شيىء ... يروق في الوصف حسنا

له محاسن شتى ... منها فرادى ومثنى

 

.......... (30)    ... له بل السعر أثنى

مهما تنله بحذف ... أتاك حرفاً لمعنى (31)

إن زال أول حرف ... زال الذي منه يعنى

أو زال ثانية منه ... فالقتل أدهى وأفنى

أو زال ثالثة فه ... ولغو صب معنى

أو زال رابعة فال ... جهاد فيه تسنى

فأوضح القصد يا من ... قد فاق عقلاً وذهنا

وقال في النمل:

ما حيوان اسمه ... قد جاء في الذكر الحكيم

وهو إذا قلبته ... لمن به أنت عليم

وإن تصحف اسمه ... فبعض أوصاف اللئيم

وقال في دواة:

وما أثنى بها رعي الرعايا ... وإمضاء المنايا والقضايا

وتقصدها بنوها من رضاع ... إذا انبعثوا لإبرام القضايا

لها اسم إن أزلت النقط منه ... فعذ بالله من شر البلايا

وغن أبدلت آخره بهمز ... فقد أبرأت نازلة الشكايا

وإن بدلت أوله بنون ... أتيت ببعض أرزاق المطايا

فأوضح ما رمزناه بفكر ... سديد القصد مبد للخفايا

وقال في سفينة:

ما ذات نفع وغناء عظيم ... لها حديث في الزمان قديم

أوحى بها الله إلى عبده ... فحبذا فعل الرسول الكريم

وعابها فيما مضى صالح ... حسبك ما نص الكتاب الحكيم (32)

وفي كتاب الله تردادها ... فاقرأ تجد في قضايا الكليم

إن أنت صحفت اسمها تلقه ... محل أنس أو بلاء مقيم

أو هو فعل لك فيما مضى ... لكن إذا أبرأت داء السقيم

فهاكه قد لاح برهانه ... مبيناً لكل فكر سليم

وقال أيضاً في المسك:

كتبتم كثيراً ولم تكتبوا ... كهذا الذي سلبه واضحه

فما اسم جرى ذكره في الكتاب ... فإن شئته فاقرأ الفاتحه

ففيها مصحف مقلوبه ... يعبر عن حالة صالحة

وليست بغادية فاعلموا ... ولكنها أبداً رائحه

ويعني بقوله في الفاتحة قوله أول الأبيات كتبتم فافهم.

وقال في صقر:

حاجيتكم ما اسم لبعض السباع ... تصحيفه ما لك فيه انتفاع

وعكسه إن شئت عكساً له ... يوجد لكن عند دور السماع

وإن تصحف بعد قلب له ... فمذهب يعزى لأهل النزاع (33)

فبين الإلغاز وارفع لنا ... بنور فكر منك عنه القناع

وقال في الحوت:

ما حيوان في اسمه ... إن اعتبرته فنون

أحرفه ثلاثة ... والكل منها هو نون

 

 

إن أنت صحفت اسمه ... فما جناه المذنبون (34)

أو أبيض أو أسود ... أو صفة النفس الحؤون

قلب اسمه مصحفاً ... عليه دارت السنون

كانت به فيما مضى ... عبرة قوم يعقلون

أودع فيه زمناً ... سر من السر المصون

فهاكه كالنار في ال ... زند له فيها كمون

وقال في لبن:

أفديك ما اسم إذا ما ... صحفته فهو سبع

وإن تصحف بعكس ... ففيه للقبط شرع

والاسم يعرب عما ... لديه ري وشبع

في النحل يلفى ولكن ... لا يتقى فيه لسع

فليس للنحل أصل ... ولا لها فيه فرع

فهاكه قد تبدى ... لحجبه عنه رفع

وقال في القلم:

ومأموم به عرف الإمام ... كما باهت بصحبته الكرام

له إذ يرتوي طيشان صاد ... ويسكن حين يعروه الأوام

ويذري حين يستسقي دموعاً ... يرقن كما يروق الابتسام

وله - رحمه الله تعالى - كثير من هذا، ولم أر أحداً أحكم الالغاز مثلما أحكمه ابن الجياب المذكور، ولولا الإطالة (35) لذكرت منها ما يستدل به على صحة الدعوى، وفيما ذكرنا كفاية.

ومن نظم الرئيس ابن الجياب المذكور في رثاء عمر بن علي بن عتيق القرشي الهاشمي الغرناطي قوله:

قضي الأمر فيا نفس اصبري ... صبر تسليم لحكم القدر

وعزاء يا فؤادي إنه ... حكم ملك قاهر مقتدر

حكمة أحكمها تدبيره ... نحن منها في سبيل السفر

أجل مقدر ليس بمس ... تقدم يوماً ولا مستأخر

أحسن الله عزاء كل ذي ... خشية لربه في عمر

في إمامنا التقي الخاشع ... الطاهر الذات الزكي النير

قرشي هاشمي منتقى ... من صميم الشرف المطهر

يشهد الليل عليه أنه ... دائم الذكر طويل السهر

في صلاة بعثت وفودها ... زمراً للمصطفى من مضر

قائماً وراكعاً وساجداً ... لطلوع فجره المنفجر

جمع الرحمن شملنا غداً ... بحبيب الله خير البشر

وتلقته وفود رحمة الل ... هـ تأتي بالرضى والبشر

قلت: هذا النظم - وإن برد بما فيه من الزحاف - فله من الوعظ وذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم خير لحاف.

قال لسان الدين: ولما نظم القاضي أبو بكر ابن شبرين ببيت الكتابة ومألف الجملة هذين البيتين:

ألا يا محب المصطفى زد صبابة ... وضمخ لسان الذكر منك بطيبه

ولا تعبأن بالمبطلين فإنما ... علامة حب الله حب حبيبه

وأخذ الأصحاب في تذييل ذلك، قال الشيخ الرئيس أبو الحسن ابن الجياب

 

حمه الله تعالى ورضي عنه:

فمن يعمر الأوقات طراً بذكره ... فليس نصيب في الهدى كنصيبه

ومن كان عنه معرضاً طول ذكره ... فكيف يرجيه شفيع ذنوبه

وقال أبو القاسم ابن أبي العافية:

أليس الذي جلى دجى الجهل هديه ... بنور أقمنا بعده نهتدي به

ومن لم يكن من ذاته شكر منعم ... فمشهده في الناس مثل مغيبه

وقال أبو بكر ابن أرقم:

نبي هدانا من ضلال وحيرة ... إلى مرقى سامي المحل خصيبه

فهل ينكر الملهوف فضل مجيره ... ويغمط شاكي الداء شكر طبيبه

فانتهى القوم إلى الخطيب أبي محمد ابن أبي المجدي فقال:

ومن قال مغروراً حجابك ذكره ... فذلك مغمور طريد عيوبه

وذكر رسول الله فرض مؤكد ... وكل محق قائل بوجوبه

وقال يوماً الشيخ أبو الحسن ابن الجياب تجربة للخاطر على العادة:

جاهد النفس جاهداً فإذا ما ... فنيت منك فهو عين الوجود

وليكن حكمها المسدد فيها ... حكم سعد في قتله لليهود

فأجابه أبو محمد ابن أبي المجدي بقوله:

أيها العارف المعبر ذوقاً ... عن معان عزيزة في الوجود

إن حال الفناء عن كل غير ... كمقام المراد غير المريد

كيف لي بالجهاد غير معان ... وعدوي مظاهر بجنود

 

ولو أني حكمت فيمن ذكرتم ... حكم سعد لكنت جد سعيد

فأراها حبابة بي فتوناً ... وأراني في حبها كيزيد

سوف أسلو بنصحكم عن هواها ... ولو أبدت فعل المحب الودود

ليس شيء شوى إلهك يبقى ... واعتبر صدق ذا بقول لبيد (36)

[رجع إلى ابن الجياب]

ومن نظم ابن الجياب ما كتب على باب المدرسة العلمية بغرناطة:

يا طالب العلم هذا بابه فتح ... فادخل تشاهد سناه لاح شمس ضحى

واشكر مجيرك في حل ومرتحل ... إذ قرب الله من مرماك ما نزحا

وشرفت حضرة الإسلام مدرسة ... بها سبيل الهدى والعلم قد وضحا

أعمال يوسف مولانا ونيته ... قد طرزت صحفاً ميزانها رجحا

ومنه قوله:

أبى الله إلا أن تكون اليد العليا ... لأندلس من غير شرط ولا ثنيا

وإن هي عضتها بنوب نوائب ... فصيرت الشهد المشور بها شريا (37)

فما عدمت أهل البلاغة والحجى ... يقيمون فيها الرسم للدين والدنيا

إذا خطبوا قاموا بكل بليغة ... تجلي القلوب الغلف والأعين العميا

وإن شعروا جاءوا بكل غريبة ... تخال النجوم النيرات لها حليا

فأسأل في الدنيا من الله ستره ... علينا وفي الأخرى إذا حانت اللقيا

وقال أبو الحسن ابن الجياب:

أرى الدهر في أطواره متقلباً ... فلا تأمنن الدهر يوماً فتخدعا

فما هو إلا مثلما قال قائل: ... " مكر مفر مقبل مدبر معا "

وحكي أنه أهدى له الفقيه ابن قطبة رماناً ثم دخل عليه عائداً، فلما رآه قال له: يا فقيه، نعم بالهدنة زمانك، أراد: نعمت الهدية رمانك، وكان هذا قبل موته من مرضه بيسير، وهو مما يدل على ثبوت ذهنه حتى قرب الموت، سامحه الله تعالى.

ومن نثر ابن الجياب رحمه الله تعال ما كتبه عن سلطانه إلى بعض سلاطين وقته، وهو السلطان أبو سعيد المريني صاحب فاس، ونصه: المقام لدى الملك المنصور الأعلام، والفضل الثابت الأحكام، والمجد الذي أشرقت به وجوه الأيام، والفخر الذي تتدارس أخباره بين الركن والمقام، والعز الذي تعلو به كلمة الإسلام، مقام محل الأب الواجب الإكبار والإعظام، السلطان الكذا أبقاه الله في ملك منيع الذمار، وسعد باهر الأنوار، ومجد رفيع المقدار، وسلطان عزيز الأنصار، كريم المآثر والآثار، كفيل بالإعلاء لدين الله والإظهار؛ معظم مقامه وموقره، ومجل سلطانه ومكبره، المثني على فضله الذي أربى على ظاهره مضمره، الشاكر لمجده الذي كرم أثره، المعتد بأبوته العلية في كل ما يقدمه ويؤخره، ويورده ويصدره، الداعي إلى الله تعالى بطول بقائه في سعد سام مظهره، حام عسكره، فلان: سلام كريم، طيب عميم، يخص مقامكم الأعلى، ورحمة الله وبركاته.

أما بعد حمد الله الذي أولاكم ملكاً منصوراً، وفخراً مشهوراً، وأحيا بدولتكم العلية لمكارم الأخلاق ذكراً منشوراً، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله الذي اختاره بشيراً ونذيراً، وشرح بهدايته صدوراً، وجعل الملأ الأعلى له ظهيراً، والرضى عن آله وصحبه الذين ظاهروه في حياته، وخلفوه في أمته بعد وفاته، فنالوا في الحالين فضلاً مسطوراً، وأحراً موفوراً، والدعاء لمقامكم الأعلى أسماه الله تعالى بنصر لا يزال به الإسلام محبواً محبوراً، وسعد يملأ أرجاء البسيطة نوراً، فكتبته كتب الله لكم عوائد السعادة، وحباكم من آلائه بالحسنى والزيادة، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وليس بفضل الله سبحانه ثم ببركة مقامكم أيد الله تعالى سلطانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيراً كما هو أهله، فلا فضل إلا فضله.

وأما الذي عند معظم أمركم من الإعظام لمقامكم والإكبار، والثناء المردد المجدد على توالي الأعصار، والشكر الذي تتلى سوره آناء الليل والنهار، والعلم بما لكم من المكارم التي سار ذكرها في الأقطار أشهر من المثل السيار، والاعتداد بسلطانكم العلي في الإعلان والإسرار، والاستناد إلى جنابكم الكريم في الأقوال والأفعال والأخبار، فذلك لا يزال بحمد الله تعالى محفوظاً ملحوظاً بعين الاستبصار، والله ولي العون على ذلك بفضله وطوله.

وإلى هذا أيد الله تعالى سلطانكم، ومهد أوطانكم، فقد تقدمت مطالعة مقامكم أسماه الله أن ملك قشتالة دس من يتحدث في عقد صلح يعود بالهدنة على البلاد، ويرتفع به عنها مكابدته من جهة الأعاد، وقد رنا أولاً أن ذلك ليس على ظاهر الحال فيه، وأنه يبدي به غير ما يخفيه، ولكن جرينا معه في ذلك المضمار قصداً للتشوف (38) على الأخبار، فلما دار الحديث في هذا الحكم، ظهر منه أنه قد جنح للسلم، وكان خديمنا نقروز بحكم الاتفاق قد ورد إشبيلية لبعض أشغاله، فاستحضره وأخذ معه في أمر الصلح وشرح أحواله، وأعاده إلى معظمكم ليستفهم ما عنده، ويعلم مذهبه وقصده، فأعيد إليه بأنه إن أراد المصالحة على صلح والده على هذه الدار النصرية من غير زيادة على شروط تلك القضية، ولا يعرض لاسترجاع معقل من المعاقل التي أخلصت من يد النصرانية، وأن يكون عقده على الجزيرة الخضراء ورندة وغيرهما من البلاد الأندلسية، فلا بد من مطالعة محل والدنا السلطان أمير المسلمين أبي سعيد أيده الله واستطلاع ما يراه، وحينئذ نعمل بحسب نظره الجميل ومقتضاه، وأكد على نقروز في أنه إن انقاد لهذا الأمر فليعقد معه هدنة لأمد من الدهر بقدر ما يتسع لتعريفكم بهذه الحال وإعلامكم، ويستطلع فيها نظر مقامكم، فما هو إلا أن عاد يوم تاريخ هذا بكتاب ملك قشتالة، وقد أجاب إلى الصلح وانقاد إليه، على حسب ما شرط عليه، وأعطى مهادنة مدة شهر فبرير ليعرف فيها مقامكم، ويعلم ما لديه، ووافق ذلك وصول الشيخ الفقيه الأجل أبي عبد الله ابن حبشية أعزه الله من بابكم الكريم أسماه الله، فأخذ معه في هذا القصد، واستفهم عما لديه من مقامكم في ذلك من الإمضاء أو الرد، فذكر أنكم قد أذنتم لمعظمكم في عقد السلم على ما يراه من الأحكام، إذ ظهر فيها المصلحة لأهل الإسلام، فلما عرف مذهبكم الصالح، وقصدكم الناجح، رأى أن يوجه إلى ملك النصارى من يخلص معه حال الصلح، على ما يعود إن شاء الله تعالى على المسلمين بالنجح، وقدم تعريفكم بما دار من الحديث بين يدي جوابه الوافد على مقامكم صحبة الفقيه أبي عبد الله أعزه الله تعالى، ولا يخفى على مقامكم حاجة هذه البلاد في الوقت إلى هدنة يستدرك بها رمقها مما لقيته من جهد الحرب، وما حل بها في هذه السنين من القحط والجدب، فالصلاح بحمد الله في هذه الحال بادي الظهور، وإلى الله عاقبة الأمور.

" هذا ما تزيد لدى معظم مقامكم، وما يتزيد بعد فليس إلا المبادرة إلى مطالعتكم وإعلامكم، وما كان إمساك الفقيه أبي عبد الله ابن حبشية في هذه الأيام إلا لانتظار خبر الصلح، حتى يأتيكم به مستوفى الشرح، وها هو قد أخذ في الرجوع إلى بابكم الأسمى، والقدوم إلى حضرتكم العظمى، والله يصل سعودكم ويحرس وجودكم ويبلغكم أملكم ومقصودكم، والسلام.

ومن إنشاء ابن الجياب رحمه الله تعالى في العزاء بالسلطان أبي الحسن المريني ما صورته بعد الصدر:

" أما بعد حمد الله الواحد القهار، الحي القيوم حياة لا تتقيد (39) بالأعصار، القادر الذي كل شيء في قبضة قدرته محصور بحكم الاضطرار، الغني في ملكوته فلا يلحقه لاحق الافتقار، المريد الذي بإراته تصريف الأقدار، وتقدير الآجال والأعمار، العالم الذي لا تغرب عن علمه خفايا الأسرار، وخبايا الأفكار، مالك الملك وأهله، ومدبر الأمور بحكمته معدله، تذكرة لأولي الألباب وعبرة لأولي الأبصار، خالق الموت والحياة لينقلنا من دار الفناء إلى دار القرار، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله المصطفى المختار، الذي نهتدي بهديه الكريم في الإيراد والإصدار، والأحلاء والإمرار، في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، بسيره الكريمة الآثار، ونتعزى بالمصيبة به عما دهم من المصائب الكبار، ونقدم منه إلى ربنا شفيعاً ماحياً للأوزار، وآخذاً بالحجز عن النار، ونعلم أننا باتباع سبيله نسعد سعادة الأبرار، وبإقامة ملته وحماية شرعته ننال مرضاة الملك الغفار، والرضى عن آله وصحبه، وأوليائه وحزبه، الذين ظاهروه في حياته على إقامة الحق الساطع الأنوار، وخلفوه في أمته قائمين بالعدل حامين للذمار، والدعاء لمحل أبينا والدكم قدس الله روحه، وبرد ضريحه، بالرحمة التي تتعهد روضته التي هي أذكى من الروض المعطار، والرضوان الذي يتبوأ به مبوأ صدق في الملوك المجاهدين الأخيار، ولمقامكم الأعلى بسعادة المقدار، وتمهيد السلطان وبلوغ الأوطار، فإنا كتبناه - كتب الله لكم عوائد النصر، وربط على قلبكم بالصبر - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى عندما تحقق لدينا النبأ الذي فت في الإعضاد، وشب نار الأكباد، والحادث الذي هد أعظم الأطواد، وزلزل الأرض لراسية الأوتاد، والواقع الذي لولا وجودكم لمحا رسم الأجواد، وعطل رسوم الجهاد، وكسا الآفاق ثوب الحداد، والخطب الذي ضاقت له الأرض بما رحبت، وأمرت الدنيا بما عذبت، من وفاة محل أبينا أكبر ملوك المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، والدكم ألحفه الله تعالى برود رضاه، وجعل جنته نزله ومثواه، ونفعه بما أسلف من الأعمال الكريمة، وما خلده من الآثار العظيمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون تسليماً لما قضاه، ورضى بما أنفذه وأمضاه، وعند الله نحتسب منه والداً شفيقاً، حانياً رفيقاً، لم يزل يولي الجميل قوله وفعله، ويصل لنا من أسباب عنايته ما اقتضاه فضله، وما هو أحق به وأهله.

 

" وكنا طول حياته لم نجد أثراً لفقد الوالد، لما أولانا من جميل العوائد، وكرم المقاصد، جزاه الله أحسن جزاءه، وأعاننا على توفية حقه وأدائه، ولمثل هذه المصيبة - ولا مثل لها - تظلم الأرجاء، ويضيق الفضاء، وتبكيه مسومة الجياد، ومعالم الجهاد، والسيوف في الأغماد، وشتى العباد والبلاد، فلا تسألوا كيف هو عندنا موقع هذا الخطب العظيم، والحادث المقعد المقيم، والرزية التي لا رزية مثلها، والحادثة التي أصيبت بها الملة وأهلها، فوجدناه لفقده يتضاعف مع الآناء، ويتجدد تذكار ما أسلف من أعمال الملوك الفضلاء، ولكنه أمر حتم، وقضاء من الله جزم، وسبيل يسلك عليها الأول والآخر، والآني والغابر، وليس إلا التسليم، لما حكم به الحكيم العليم.

ولما انتهى إلينا هذا النبأ الذي ملأ القلب حسرة والعين عبرة، وتوارت شتى الأنباء، وغلب اليأس فيها على الرجاء، وجدنا له ما يوجد لفقد الأب الذي ابتدأ بالإحسان والإجمال، وأولى عوارف القبول والإقبال، ولكنه ما أطفأ نار ذلك الوجد، وجبر كسر ذلك الفقد، إلا ما من الله به علينا وعلى المسلمين من تقلدكم ذلك الملك الذي بكم سمعت معالمه، وقامت مراسمه، وعليكم انعقد الإجماع، وبولايتكم استبشرت الأصقاع، وكيف لا تستبشر بولاية الملك الصالح الخاشع الأواب، صاحب الحرب والمحراب، عدة الإسلام، وعلم الأعلام، من ثبتت فضائله أوضح من محيا النهار، وسارت مكارمه في الآفاق أشهر من المثل السيار.

" وقد كان محل أبينا والدكم رضي الله عنه لما علم من فضائلكم الكريمة الآثار، وما قمتم به من حقه الذي وفيتموه توفية الصلحاء الأبرار، ألقى إليكم مقاليد سلطانه، وآثر إليكم أثر قبوله ورضوانه، حتى انفصل عن الدنيا وقد ألبسكم من أثواب رضاه ما تنالون به قرة العين، وعز الدارين، والظفر بكلتا الحسنيين، فتلك المملكة بحمد الله تعالى قد قام بها حامي ذمارها، وابن خيارها، ومطلع أنوارها، الملك الرضي العدل الطاهر، قوام الدياجي وصوام الهواجر، حسنة هذا الزمان، ونخبة ذلك البيت المؤسس على التقوى والرضوان، فالحمد لله على أن جبر بكم صدع الإيمان، وانتضى منكم سيفاً مسلولاً على عبدة الصلبان، وأقر بكم ملك آبائكم الملوك الأعاظم، وتدارك بولايتكم أمر هذا الرزء المتفاقم، فإن فقدنا أعظم مفقود، فقد ظفرنا بأكرم مقصود، وما مات من أبقى منكم سلالة طاهرة تحيي سنن المعالي والمكارم، وتعمل على شاكلة أسلافها الأكارم، فتلك المملكة قد أصبحت بحمد الله ونور سعدكم في أرجائها طالع، وسيف

 

بأسكم في أعدائها قاطع، وعزمكم الأمضى لأمرها جامع مانع، وقد أوت منكم إلى الملجإ الأحمى، واستمسكت بإيالتكم العظمى، وعرفت أنكم ستبدون فيها من آثار دينكم المتين، وفضلكم المبين، ومعاليكم القاطعة البراهين، ما يملؤها عدلاً وإحساناً، وتبلغ به آمالها مثنى ووحداناً، فهنيئأً لنا ولها أن صارت في ملككم، وأن تشرفت بملككم، وألقت مقاليدها إلى من يحمي حماها، ويدفع عداها، وليهن ذلك المقام الأعلى ما أولاه من العز المكين، وما قلده من الملك الذي هو نظام الدنيا والدين، وأن أعطاه راية الجهاد فتلقاها باليمين، لينصر بها ملة الرسول الصادق الأمين، فله الفخر بذلك على جميع السلاطين، وأما هذه البلاد الأندلسية حماها الله فهي وإن فقدت من السلطان الأعلى أبي سعيد أكرم ظهير، ووقع مصابه منها بمحل كبير، فقد لجأت منكم إلى من يحميها، ويكف بأس أعاديها، ويبتغي مرضاة خالقها فيها، فملككم بحمد الله تعالى مقتبل الشباب، جديد الأثواب، عريق الأنساب، أصيل الأحساب، ومجدكم جار على أعراقه جري الجياد العراب.

" وإنا لما ورد علينا هذا النبأ معقباً بهذه البشرى، ووفد علينا ذلك الخبر مردفاً بهذه المسرة الكبرى، علمنا أن الله سبحانه قد رأب ذلك الصدع بهذا الصنع الجميل، وتلافى ذلك الخطب بهذا الخير الجزيل، فأخذنا من مساهمتكم في الأمور النصيب الوافر، ورأينا أن آمالنا منكم قد جلت من محياها السافر، وعينا للوفادة على بابكم لينوب عنا في العزاء والهناء عين الأعيان الفضلاء، ووجه القواد والكرماء.

ولنقتصر على هذا المقدار من كلام الرئيس ابن الجياب، رحمه الله تعالى؛ ويظهر لي أن نظمه إلى طبقة من نثره، وعلى كل حال فهو لا يتكلف نظماً ولا نثراً، رحمه الله تعالى ورضي عنه وعامله بمحض فضله.

2- ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الفقيه الكاتب البارع العلامة النحوي اللغوي صاحب العلامة بالمغرب الشهير الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي (40) قال في " الإحاطة " فيه ما ملخصه: عبد المهيمن بن محمد بن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن محمد الحضرمي، أبو محمد، شيخنا الرئيس، صاحب القلم الأعلى بالمغرب.

من " الإكليل ": تاج المفرق، وفخر المغرب على المشرق، أطلع منه نوراً أضاءت له الآفاق، وأثر منه بذخيرة حملت أحاديثها الرفاق، ما شئت من مجد سامي المصاعد والمناقب، نشأ بسبتة بلده بين علم يقيده، وفخر يشيده، وطهارة يلتحف مطارفها، ورياسة يتفيأ وارفها، وأبوه رحمه الله تعالى قطب مدارها، ومقام حجها واعتمارها، فسلك الوعوث من المعارف والسهول، وبذ على حداثة سنه الكهول، فلما تحلى من الفوائد العلمية بما تحلى، واشتهر اشتهار الصباح إذا تجلى، تنافست فيه همم الملوك الأخاير، استأثرت به الدول على عادتها في الاستئثار بالذخاير، فاستقلت بالسياسة ذراعه، وأخدم الذوابل والسيوف يراعه، وكان عين الملك التي بها يبصر، ولسانه الذي يسهب به أو يختصر، وقد تقدمت له إلى هذه البلاد الوفادة، وجلت به عليها الإفادة، وكتب عن بعض ملوكها، وانتظم في عقودها الرفيعة وسلوكها، وله في الآداب الراية الخافقة، والعقود المتناسقة، ومشيخته حافلة تزيد عن الإحصاء، وشعره منحط عن محله من العلم والشهرة، وإن كان داخلاُ تحت طور الإجادة، فمن ذلك قوله:

تراءى سحيراً والنسيم عليل ... وللنجم طرف بالصباح كليل

وللفجر نهر خاضه الليل فاعتلت ... شوى أدهم الظلماء منه خجول

بريق بأعلى الرقمتين كأنه ... طلائع شهب في السماء تجول

فمزق ساجي الليل منها شراره ... وخرق ستر الغيم منه نصول

تبسم ثغر الروض عند ابتسامه ... وفاضت عيون للغمام منه همول

ومالت غصون البان نشوى كأنها ... يدار عليها من صباه شمول

وغنت على تلك الغصون حمائم ... لهن حفيف فوقها وهديل

إذا سجعت في لحنها ثم قرقرت ... يطيح خفيف دونها وثقيل

سقى الله ربعاً لا تزال تشوقني ... إليه رسوم دونها وطلول

وجاد رباه، كلما ذر شارق ... من الوتق هتان أجش هطول

وما لي أستسقي الغمام ومدمعي ... سفوح على تلك العراص همول

وعاذلة باتت تلوم على السرى ... وتكثر من تعذالها وتطيل

تقول إلى كم ذا فراق وغربة ... ونأي على ما خيلت ورحيل

ذريني تسعى للتي تكسب العلا ... سناء وتبقي الذكر وهو جميل

فإما تريني من ممارسة الهوى ... نحيلاً فحد المسرفي نحيل

وفوق أنابيب اليراعة صعدة ... تزين، وفي قد القناة ذبول

ولولا السرى لم يجتل البدر كاملاً ... ولا بات منه للسعود نزيل

ولولا اغتراب المرء في طلب العلا ... لما كان نحو المجد منه وصول

ولولا نوال ابن الحكيم محمد ... لأصبح ربع المجد وهو محيل

وزير سما فوق السماك جلالة ... وليس له إلا النجوم قبيل

من القوم: أما في الندي فإنهم ... هضاب، وأما في الندى فسيول

حووا أشرف العلياء إثرناً ومكسباً ... وطابت فروع منهم وأصول

وما جونة هطالة ذات هيدب ... مرتها شمال حرجف وقبول

لها زجل من رعدها ولوامع ... من البرق عنها للعيون كلول

كما هدرت وسط القلاص وأرسلت ... شقاقها عند الهياج فحول

بأجود من كف الوزير محمد ... إذا ما توالت للسنين محول

ولا روضة بالحسن طيبة الشذا ... ينم عليها إذخر وجليل

وقد أزكيت للزهر فيها مجامر ... تعطر منها للنسيم ذيول

وفي مقل النوار للطل عبرة ... ترددها أجفانها وتجيل

بأطيب من أخلاقه الغر كلما ... تفاقم خطب للزمان يهول

حيت أبا العبد الإله مناقباً ... تفوت يدي من رمها وتطول

فغرناطة مصر أنت خصيبها ... ونائل يمناك الكريمة نيل

فداك رجالاً حاولوا درك العلا ... ببخل، وهل نال العلاء بخيل

تخيرك المولى وزيراً وناصحاً ... فكان له مما أراد حصول

وألقى مقاليد الأمور مفوضاً ... إليك فلم يدم يمينك سول

وقام بحفظ الملك منك مؤيد ... نهوض بما أعيا سواك كفيل

وساس الرعايا منك أشوس باسل ... مبيد العدا للمعتفين منيل

وأبلج وقاد الجبين كأنما ... على وجنتيه للنضار مسيل

تهيم بها العلياء كأنها ... بثينته في الحب وهو جميل

له عزمات لو أعير مضاءها ... حسام لما نالت ظباه فلول

سرى ذكره في الخافقتين فأصبحت ... إليه قلوب العاملين تميل

وأعدى قرضي جوده وثناؤه ... فأصبح في أقصى البلاد يجول

إليك أبا فخر الوزارة أرقلت ... برحلي هوجاء النجاء ذلول

فليت إلى لقياك ناصية الفلا ... بأيدي ركاب سيرهن ذميل

تسددني سهماً لكل ثنية ... ضوامر أشباه القسي نحول

وقد لفظتني الأرض حتى رمت إلى ... ذراك برحلي هوجل وهجول

فقيدت أفراسي به وركائبي ... ولذ مقام لي به وحلول

وقد كنت ذا نفس عزوف وهمة ... عليها لأحداث الزمان ذحول

وتهوى العلا حظي وتغري بضده ... لذاك اعترته رقة ونحول

 

وتأبى لي الأيام إلا إدالة ... فصونك لي، إن الزمان مديل

فكل خضوع في جنابك عزة ... وكل اعتزاز قد عداك خمول

وقال:

أبت همتي أن يراني امرؤ ... على الدهر يوماً له ذا حضوع

وما ذاك إلا لأني اتقيت ... بعز القناعة ذل الخشوع

مولده بسبتة عام ستة وسبعين وسبعمائة، وتوفي في تونس ثاني عشر شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة في الطاعون، وكانت جنازته مشهورة رحمه الله تعالى؛ انتهى.

وحكي أن السلطان أبا الحسن المريني سب الشيخ عبد المهين الحضرمي بمجلس كتابه، فأخذ عبد المهين القلم وكسره، وقال: هذا هو الجامع بيني وبينك، ثم إن السلطان أبا الحسن ندم، وأفضل عليه، وخجل مما صدر منه وأحسن إليه.

وكان عبد المهين ينطق بالكلام معرباً، ويرتفع نسبه إلى العلاء بن الحضرمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل سلفه من اليمن، وكان جدهم الأعلى عبدون لحقه الضيم ببلده، فارتحل إلى المغرب، فنزل سبتة.

ولعبد المهيمن الحضرمي شيخ أجلاء كابن أبي الربيع النحوي وابن الشاط وابن مسعود وغيرهم. وكان ذا سعد وسؤدد حسن الحظ، رأيت خطه بإجازته لأبي عبد الله ابن مرزوق وغيره. وكان عالي الهمة سرياً، أعطى المنصب حقه، وكان لا يحتمل الضيم واحتقار العلم، وكان سريع الجواب: حكي أن القاضي المليلي وأبا محمد عبد المهيمن الحضرمي المذكور صاحب العلامة للسلطان أبي الحسن حضرا مجلس السلطان، فجرى ذكر الفقيه ابن عبد الله الرزاق، فقال المليلي: جمع من الفنون كذا، حتى وضع يده على أبي محمد عبد المهيمن، وقال

مخاطباً للسلطان: ويكتب لك احسن من ذا، فوضع عبد المهيمن يده على المليلي وقال: نعم يا مولاي، ويقضي لك أحسن من ذا.

وقال ابن الخطيب القسمطيني الشهير بابن قنفذ في وفياته ما نصه: وفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة توفي الشيخ الراوية المحدث بابن الكاتب أبو محمد عبد المهيمن ابن محمد بن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد الحضرمي، السبتي، ومن أشياخه الأستاذ ابن أبي الربيع وابن الغماز وابن صالح الكناني وغيرهم من الأعلام؛ انتهى.

وقال غيره: إن والد عبد المهيمن توفي غرة صفر سنة اثني عشر وسبعمائة، رحمه الله تعالى.

وحكي أن الشيخ أبا محمد عبد المهيمن ذكر يوماً بني العزفي فأثنى عليهم، فقال له أحد الحسنيين، وكان بينهم شيء: إنهم كانوا لا يحبون أهل البيت، فكيف حبك أنت لهم يعني لأهل البيت، فقال: أحبهم حب التشرع، لا حب التشييع؛ انتهى.

قيل: يعني بالعزفيين أهل الدولة الثانية، وأما أهل الأولى فكانوا من المختصين بمحبة الآل، وهم أحدثوا بالمغرب تعظيم ليلة الميلاد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام.

ومن أغرب ما وقع للرئيس عبد المهيمن الحضرمي من التشبيه قوله:

لقد راقني مرأى سجلماسة الذي ... يقر له في حسنه كل منصف

كأن رؤوس النخل في عرصاتها ... فواتح سورات بآخر مصحف

وهذا من التشبيه العقيم الذي لم يسبق إليه فيما أظن. وكان سبب قوله ذلك أن السلطان أمير المسلمين أبا الحسن المريني لما تحرك لقتال أخيه السلطان أبي علي عمر بسجلماسة فظفر بها استمطر أنواء أفكار الكتاب وغيرهم في تشبيه النخل، فقال عبد المهيمن ما مر، فلم يترك مقالاً لقائل.

وقد أنشد الحافظ ابن مرزوق الحفيد قال: أنشدني شيخنا ولي الدين الرئيس

أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي لشيخه الرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي السبي رحمه الله تعالى قوله:

يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة ... باب الغني، كذا حكم المقادير

وإنما الناس أمثال الفراش، فهم ... يلفون حيث مصابيح الدنانير

قلت: ورأيت هذين البيتين في كتاب روح الشحر وروح الشعر للعالم الكاتب ابن الجلاب منسوبين لأبي المتوكل الهيثم بن أحمد السكوني الإشبيلي، قال: أنشدني أبو الحجاج الحافظ، قال: أنشدني الهيثم، فذكر البيتين، وكان تاريخ وفاته قبل أن يخلق عبد المهيمن، فتعين أن البيتين ليسا من نظمه، وإنما تمثل بهما ونسبتهما له وهم لا محالة، والله أعلم.

وأما ما اشتهر على الألسنة بالمغرب من أن أبا حيان مدح عبد المهيمن بقوله:

ليس في الغرب عالم ... مثل عبد المهيمن

نحن في العلم أسوة ... أنا منه وهو مني

فقد نسبه ابن غازي إلى أبي حيان كما اشتهر، لكن تاريخ مرور أبي حيان بالمغرب كان قيل ظهور عبد المهيمن بلا خفاء، وهو عندي محمول على أحد أمرين: أن المراد عبد المهيمن جد عبد المهيمن المذكور، أو أن أبا حيان كتب بالبيتين من مصر بعدما ظهر عبد المهيمن وصارت له الرياسة بالمغرب إذ أبو حيان عاش إلى ذلك الزمان بلا ريب، ولذا لما ذكر لسان الدين ابن الخطيب في كتابه الكتيبة الكامنة في أنباء أهل المائة الثامنة الشيخ أبا حيان قال: وهذا الرجل طالت حياته حتى أجاز ولدي.

ولعبد المهيمن المذكور أخبار غير ما قدمناه منع منها الاختصار. وقد ألف الخطيب ابن مرزوق باسم ولد (41) ولده فهرسته المشهورة، وحلاه في صدرها أحسن حلية، وهو أهل لذلك. وقد ذكره مولاي الجد في شيوخه كما تقدم، وقال فيه: إنه إمام الحديث والعربية، وكاتب الدولة العثمانية والعلوية، فليراجع ذلك فيما سبق في ترجمة الجد.

وأبو سعيد ابن عبد المهيمن كان عالي الهمة كآبائه، ولما بويع السلطان أبو عنان طلب منه أن يكون مرتسماً في جملة كتاب بابه، فامتنع، وقال: لا أكون تحت حكم غيري، وعنى بذلك أن أباه كان رئيس الكتاب، فكيف يكون هو مرؤوساً بغيره فلم ترض همته رحمه الله تعالى إلا برتبة أبيه أو الترك، وارتحل أبو سعيد محمد المذكور، وكان فقيهاً عالماً، من فاس لسبتة إلى أن توفي بها سنة 787، وكان قليل الكلام، جميل الرواء، حسن الهيئة والبزة والشكل، روى عن والده وعن الحجار وكتب له سنة 724، وروى عن الفقيه أبي الحسن ابن سليمان والرحالة ابن جابر الوادي آشي وابن رشيد وغيرهم.

وابن أبي سعيد هذا اسمه عبد المهيمن كجده، وكان صاحب القلم الأعلى، روى عن أبيه وجده وغيرهما، رحم الله الجميع.

3- ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الإمام العلامة قاضي الجماعة أبو البركات ابن الحاج البلفيقي (42) : نادرة الزمان، وشاعر ذلك الأوان، وهو محمد ابن محمد بن إبراهيم بن محمد ابن الشيخ الولي أبي إسحاق ابن الحاج البلفيقي، وكان أبو البركات أحد رجال الكمال علماً ومجداً وسؤدداً ومكتسباً، وقد عرف به في الإحاطة بترجمة مد فيها النفس، وكتب ابنه على أول الترجمة ما صورته:

رحمك الله تعالى يا فقيه الأندلس وحسيبها وصدرها وشيخها، وبرد ضريحك، فلله ما أفدت من نادرة واكتسبت من فائدة؛ انتهى.

وحكى في " الإحاطة " (43) أنه لما استسقى وحصلت الإجابة أنشده لسان الدين:

ظمئت إلى السقيا والأباطح والربى ... حتى دعونا العام عاماً مجديا

والغيث مسدول الحجاب، وإنما ... علم الغمام قدومكم فتأدب

ثم ذكر في الإحاطة تأليف أبي البركات وشعره، إلى أن قال حاكياً عن أبي البركات ما صورته: ومما نظمته وقد أكثروا من التعجب لملازمتي البناء وحفر الآبار (44) :

في احتفار الأساس والآبار ... وانتقال التراب والجيار

وقعودي ما بين رمل وآج ... ر وجص والطوب والأحجار

وامتهاني بردي بالطين والما ... ء ورأسي ولحيتي بالغبار

نشوة لم تمر قط على قل ... ب خليع وما لها من خمار

من غريب البناء أن بنيه ... متعبون يهوون طول النهار

يبتغون الوصال من صانعيه ... والبدار إليه كل البدار

فإذا حل في ذراهم تراهم ... يشتهون منه بعيد المزار

من عذيري من لائم في بنائي ... وهو لي الترجمان عن أخباري

ليس يدري معناه من ليس يدري ... أن ما عنده على مقدار

أقتدي بالذي يقول بناها ... ذلك الخالق الحكيم الباري

وبمن يرفع القواعد من بي ... ت عتيق للحج والزوار

وبمن كان ذا جدار وقد كا ... ن أبوه من صالحي الأبرار

وبما قد أقامه الخضر المخ ... صوص علماً بباطن الأسرار

كان تحت الجدار كنز، وما أد ... راك ما كان تحت كنز الجدار

وبمن من قضى من آبائي الغ ... ر الألى شيدوا رفيع المنار

فالذي قد بنوه نبني له مث ... لاً ونجري له على مضمار

قد بنينا من المساجد دهراً ... ثم نبني لجارها خير جار

مثلما قد بنيت للمجد أمثا ... ل مبانيهم بكل اعتبار

فالمباني لسان حالي ولي في ... ها لعمري ذكر من الأذكار

روح أعمالنا المقاصد، لكن ... حيث تخفى تخفى مع الأعذار

فعسى من قضى ببنيان هذي ال ... مدار يقضي لنا بعقبى الدار

ثم قال في الإحاطة بعد كلام: ومن نظمه في الإنحاء على نفسه، واستبعاد وجود المطالب في جنسه، قال مما نظمته يوم عرفة عام خمسين وسبعمائة وأنا منزو في غار ببعض جبال المرية (45) :

زعموا أن في الجبال رجالاً ... صالحين قالوا من الأبدال

وادعوا أن كل من ساح فيها ... فسيلقاهم على كل حال

فاخترقنا تلك الجبال مراراً ... بنعال طوراً ودون نعال

ما رأينا بها خلاف الأفاعي ... وشبا عقرب كمثال النبال

وسباع يجرون بالليل عدواً ... لا تسلني عنهم بتلك الليالي

ولو أنا كنا لدى العدوة الأخ ... رى رأينا نواجذ الرئبال

وإذا أظلم الدجى جاء إبلي ... س إلينا يزور طيف خيال

هو كان الأنيس فيها ولولا ... هـ أصيبت عقولنا بالخبال

خل عنك المحال يا من تعنى ... ليس يلقى الرجال غير الرجال

وجمع شعره وسماه العذب والأجاج من كلام أبي البركات ابن الحاج،

 

وسمى أبو القاسم ما استخرجه منه ب " اللؤلؤ والمرجان من بحر أبي البركات ابن الحاج يستخرجان ".

ومن نظم الشيخ أبي البركات ابن الحاج قوله رحمه الله تعالى:

ألا ليت شعري هل لما أنا أرتجي ... من الله في يوم الجزاء بلاغ

وكي لمثلي أن ينال وسيلة ... لها عن سبيل الصالحين مراغ

وكم رمت دهري فتح باب عبادة ... يكون بها في الفائزين مساغ

فكدت ولم أفعل وكيف وليس لي ... المعينان بها صحة وفراغ

لأصبحت من قوم دعاهم إلى الرضى ... منادي الهدى فاستنكروه فراغوا

أباغ ترى أخراه من يزدهيه من ... زخارف دنياه باغ

ويضرب صفحاً عن حقيقة ما طوت ... فيلهيه زور قد أتته مصاغ

إذا ما بدا للرشد نهج بيانه ... يراع بع عن وحشته فيراغ

فيا رب برد العفو هب لي إذا غلت ... من الحر في يوم حساب دماغ

فمن حرق للنفس فيه لواعج ... ومن خجل للوجد فيه صباغ

وعظتك نفسي لو أنبت، وفي الذي ... وعظت به لو ترعوين بلاغ

وأنشد القاضي أبو البركات في هذا الروي قول شيخه الأستاذ أبي علي ابن سليمان القرطبي:

ألا هل إلى ما أرتضيه بلاغ ... وكيف يرى يوماً إليه فراغ

وقد قطعت دوني قواطع جمة ... أراع لها مهما جرت وأراغ

وما لي إلا عفو رب وفضله ... ففيه إلى ما أرتجيه بلاغ

وكان القاضي أبو البركات من بيت كبير علماً وصلاحاً وزهداً، وجده الإمام الولي العارف سيدي أبو إسحاق ابن الحاج أشهر من نار على علم، وقبره مشهور بمراكش وقد زرته بها، وله كرامات مشهورة.

وحكى في مزية المرية من كراماته جملة؛ قال حفيده الشيخ أبو البركات:

دخلت على الشيخ الصالح العابد المجتهد الحاج أبي عبد الله محمد بن علي البكري، المعروف بابن الحاج، في منزله بالمرية عائداً قال: أظنه في مرضه الذي مات فيه، فقال حين سألته عن حاله: ادع لي، فقلت له: يا سيدي، بل أنت تدعو لي، فقال لي: شرح الله صدرك، ونور قلبك بنور معرفته! فمن عرف الله لم يذكر غيره، فقد حكى سيدي أبو جعفر ابن مكنون عن جدك قال: كنت مع سيدي أبي إسحاق ابن الحاج بمراكش فقال لي: هل ترى في المنام شيئاً فقلت: نعم، أرى كأني في المرية أمشي من الدار (46) إلى المسجد، ومن كذا إلى كذا، فأعرض عني وقال: ألا ترى إلا الله قال: ثم مر به في أثناء كلامه ابنه محمد، فقال لي: رأيت هذا والله ما أدري أن لي ابناً حتى يمر بي، ولا أذكره إذا غاب عني، ولا أرى إلا الله؛ انتهى.

ومن تآليف أبي البركات رحمه الله تعالى كتاب ذكر فيه أخبار سلفه رضي الله عنهم، وذكر جملة من كرامات جده سيدي أبي إسحاق المذكور، نفعنا الله به.

ومن شعر جده المذكور قوله:

ألا كرم الله البلاد بخطبة ... هم حسنات الدهر لا نابهم خطب

رعايتهم فرض على كل مسلم ... وحبهم حقاً قد أوجده الرب

إذا ما سألت الله شيئاً فسل بهم ... فتعظيمهم قرب، وغيبتهم حرب

وقوله:

شكا فشكا قلبي خبالاً مبرحاً ... على غير علم كان مني بشكواه

وما التقت أسرار إلا بجامع ... من النعت سلطان الحقيقة سواه

فيا فرحة المجهود إن بات سره ... وسر الذي يهواه مأواه مأواه

ومن أجله قد كان بالبعد راضياً ... فكيف ترى مغناه والقلب مثواه

بدا فبدت أعلام ضدين في الهوى ... هما عجب لولا الدليل وفحواه

برؤيته فارقت موتي لبعده ... ومت بها من أجل علمي ببلواه

فها أما حي ميت بلقائه ... ولم ينج من لم يسعد الفهم نجواه

إذا لم تكن أنت الحبيب بعينه ... رضى وعتاب ضل من قال يهواه

وأكذب ما يلفى الفتى وهو صادق ... إذا لم يحقق بالأفاعيل دعواه

وقوله رضي الله تعالى عنه:

الحب في الله نور يستضاء به ... والهجر في ذاته نور على نور

جنب أخا حدث في الدين ذا غير ... إن المغير في نكس وتغيير

حاشا الديانة أن تبنى على خبل ... سبحان خالقنا من قول مثبور

إن الحقائق لا تبدو لمبتدع ... كذا المعارف لا تهدى لمغرور

تالله لو أبصرت عيناه أو ظفرت ... يمناه ما ظل في ظن وتقدير

حقق ترى عجب إن كنت ذا أدب ... ولا يغرنك الجهال بالزور

إن الطريقة في التنزيل واضحة ... وما تواتر من وحي ومشهور

فافهم هديت هدى الرحمن واهد به ... هدى يفيدك يوم النفخ في الصور

وقوله صدر رسالة وجه بها إلى ابنه محمد أيام قراءته بإشبيلية:

إذا شئت أن تحظى بوصلي وقربتي ... فجنب قريب السوء واصرم حباله

وسابق إلى الخيرات واسلك سبيلها ... وحصل علوم الدين واعرف رجاله

وكان رحمه الله تعالى كثيراً ما يتمثل ببيتي مهيار الديلمي، وهما:

ومن عجب أني أحب إليهم ... وأسأل شوقاً عنهم وهم معي

وتبكيهم عني وهم في سوادها ... ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي

وحدث القاضي أبو البركات حفيده عن ابن خميس التلمساني المتقدم الذكر قال: سمعت بعض الأشياخ يقول: كان الشيخ أبو إسحاق البلفيقي الكبير يقول: اجتمع لنا في الله أربعون ألف صاحب.

وحكى الشيخ أبو البركات عن الشيخ الصالح الصوفي أبي الأصبغ ابن عزرة قال: هذه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أخذتها عن رابك الشيخ الصالح أبي عبد الله محمد بن علي بن الحاج مشافهة، وقال لي: إنها صلاة أبي إسحاق ابن الحاج جدك، وهي: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد صلاة دائمة مستمرة تدوم بدوامك، وتبقى ببقائك، وتخلد بخلودك ولا غاية لها دون مرضاتك، ولا جزاء لقائها ومصليها غير جنتك والنظر إلى وجهك الكريم.

ونقل أبو البركات المذكور عن جده أنه كان يستفتح مجلسه بالمرية بهذا الدعاء: اللهم اجعلنا في عياذ منك منيع، وحصن حصين، وولاية جميلة، حتى تبلغنا آجالنا مستورين محفوظين، مبشرين برضوانك يوم لقائك، قال: وفي وسط الدعاء وآخره: واكفنا عدونا إبليس، وأعداءنا من الجن والإنس بعافيتنا وسلامتنا.

وكان الشيخ رضي الله عنه يواصل أربعين يوماً. ومن مآثره أنه بنى ثمانية عشر جباً في مواضع متفرقة ونحو عشرين مسجداً وبنى أكثر سور حصن بلفيق، كل ذلك من ماله.

وقال رضي الله عنه في بعض رسائله: الصوفي عبارة عن رجل عدل تقي صالح زاهد، غير منتسب لسبب من الأسباب، ولا مخل بأدب من الآداب، قد عرف شأنه وزمانه، وملكت مكارم الأخلاق عنانه، لا ينتصر لنفسه، ولا يتفكر في غده وأمسه، العلم خليله، والقرآن دليله، والحق حفيظه ووكيله، نظره إلى الخلق بالرحمة، ونظره إلى نفسه بالحذر والتهمة؛ انتهى.

وأحوال هذا الشيخ عجيبة، وكراماته شهيرة، وإنما ذكرنا هذا النزر اليسير تبركاً بذكره رضي الله عنه في هذا الكتاب، وتطفلاً على رب الأرباب أن ينفعنا بأمثاله ويحقق لنا النجاة والمتاب، إنه على ذلك قدير.

رجع إلى أخبار أبي البركات - ولما وقع بينه وبين ابن صفوان ما يقع بين المتعاصرين رد عليه ابن صفوان، فانتصر لأبي البركات بعض طلبته بتأليف شواظ من نار ونحاس يرسل على من لم يعرف قدره وقدر غيره من الناس وهو قدر رسالة الشيخ أو أطول، وألفي على ظهره بخط الشيخ أبي البركات ما صورته:

قد شبع الكلب كما ينبغي ... من حجر صلد ومن مقرع

فإن يعد من بعد ذا الذي ... قد كان منه فهو ممن نعي

ومن بديع نظم الشيخ أبي البركات رحمه الله تعالى قوله:

يلومونني بعد العذار على الهوى ... ومثلي في وجدي له لا يفند

يقولون أمسك عنه قد ذهب الصبا ... وكيف أرى الإمساك والخيط أسود

وقوله في المجبنات:

ومصفرة الخدين مطوية الحشا ... على الجبن المصفر يؤذن بالخوف

لها بهجة كالشمس عند طلوعها ... ولكنها في الحين تغرب في الجوف

وفي هذين البيتين تورية متعددة.

وحدث القاضي أبو البركات أنه لما أراد الانصراف عن سبتة قال هل السيد الشريف أبو العباس رحمه الله تعالى: متى عزمت على الرحيل فأنشد أبو البركات:

أما الرحيل فدون بعد غد ... فمتى تقول الدار تجمعنا

فأنشد الشريف رحمه الله تعالى:

لا مرحباً بغد ولا أهلاً به ... إن كان تفريق الأحبة في غد

وحكي أن السيد أبا العباس الشريف المذكور ساير القاضي أبا البركات في بعض أسفاره زمن الشباب ببر الأندلس أعاده الله تعالى فلما انتهينا إلى قرية ترليانة، وأدركهما النصب، واشتد عليهما حر الهجير، نزلا وأكلا على ظهره تحت شجرة مستظلاً بظلها، ثم التفت إلى السيد أبي العباس وقال:

ماذا تقول فدتك النفس في حالي ... يفنى زماني في حل وارتحال وأرتج عليه، فقال لأبي العباس: أجز، فقال بديهاً:

كذا النفوس اللواتي العز يصحبها ... لا ترضي بمقام دون آمال

دعها تسر في الفيافي والقفار إلى ... أن تبلغ السؤل أو موتاً بتجوال

الموت أهون من عيش لدى زمن ... يُعلي اللئيم ويدني الأشرف العالي

ولما أوقع الشيخ أبو البركات على زوجه الحرة العربية أم العباس عائشة بنت الوزير المرحوم أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الكتاني ثم المغيلي طلقة كتب نسختها بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وعلى آل محمد، يقول عبد الله الراجي رخمته محمد المدعو بأبي البركات ابن الحاج خار الله له ولطف به: إن الله جلت قدرته لما أنشأ خلقه على طبائع مختلفة وغرائز شتى، ففيهم السخي والبخيل، والشجاع والجبان، والغبي والفطن، والكيس والعاجز، والمسامح والمناقش، والمتكبر والمتواضع، إلى غير ذلك من الصفات المعروفة من الخلق، كانت العشرة لا تستمر بينهم إلا بأحد أمرين: إما بالاشتراك في الصفات أو في

بعضها، وإما بصبر أحدهما على صاحبه إذا عدم الاشتراك، ولما علم الشارع أن بني آدم على هذا الوضع شرع لهم الطلاق ليستريح إليه من عيل صبره على صاحبه، توسعة عليهم، وإحساناً منه إليهم، فلأجل العمل على هذا طلق كاتب هذا عبد الله محمد المذكور زوجه الحرة العربية المصونة عائشة ابنة الشيخ الوزير الحسيب النزيه الأصيل الصالح الفاضل الطاهر المقدس المرحوم أبي عبد الله محمد المغيلي، طلقة واحدة، ملكت بها أمر نفسها دونه، عارفاً قدره قصد بذلك إراحتها من عشرته، طالباً من الله أن يغني كلاً من سعته، مشهداً بذلك على نفسه في صحته وجواز أمره يوم الثلاثاء أول يوم من شهر ربيع الثاني عام أحد وخمسين وسبعمائة؛ انتهى.

ومن نوادره رحمه الله تعالى أنه لما استناب بعض قضاة المرية الفقيه أبا جعفر المعروف بالقرعة في القضاء بخارج المرية من عمله فاتفق أن جاء بعض الجنانين بفحص المرية يشتكي من جائحة أو أذاية أصابت جنانه، ففسدت غلته لذلك، فأخذ ذلك الجنان قرعة وأشار إليها مشتكياً، وقال: هذه القرعة تشهد بما أصاب جناني، فقال الشيخ أبو البركات عند ذلك: غريبتان في عام واحد: القرعة تقضي، والقرعة تشهد.

وكان له رحمه الله تعالى من هذا النمط كثير.

وقال رحمه الله تعالى: نظمت صبيحة يوم السبت السابع والعشرين لرجب عام خمسة وأربعين وسبعمائة، وقد رأيت في النوم كأني أريد إتيان امرأة لا تحل لي، فيأتي رقيب فيحول بيني وبين ذلك المرة بعد المرة، قولي:

ألا كرم الله الرقيب فإنه ... كفاني أموراً لا يحل ارتكابها

وبالغ في سد الذريعة فاغتدى ... يلاحظني نوماً ليغلق بابها

وقال رحمه الله: أنشدني شيخي أبو عبد الله ابن رشيد عند قراءتي عليه

شرحه لقوافي أبي الحسن حازم، وقد باحثته يوماً مناقشة في بعض ألفاظ من الشرح المذكور:

تسامح ولا تستوف حقك كله ... وأغض فلم يستوف قط كريم

ومن نظم الشيخ أبي البركات قوله:

ألا خل دمع العين يهمي بمقلتي ... لفرقة عين الدمع وقف على الدم

فللماء فيه رنة شجنية ... كرنة مسلوب الفؤاد متيم

وللطير فيه نغمة موصلية ... تذكرني عهد الصبا المتقدم

وللحسن أقمار به يوسفية ... ترد إلى دين الهوى كل مسلم

وله رحمه الله تعالى:

ما كل من شد على رأسه ... عمامة يحظى بسمت الوقار

ما قيمة المرء بأثوابه ... السر في السكان لا في الديار

وله سامحه الله تعالى:

إذا ما كتمت السر عمن أوده ... توهم أن الود غير حقيقي

ولم أخف عنه السر من ضنة به ... ولكنني أخشى صديق صديقي

وله وقد جلس في حلقة بعض المشايخ واستدبر بعض الفضلاء ولم يره، بسبتة:

إن كنت أبصرتك لا أبصرت ... بصيرتي في الحق برهانها

لا غرو أني لم أشاهدكم ... فالعين لا تبصر إنسانها

ومما يعجبه رحمه الله من قوله، قال في الإحاطة ويحق أن يعجبه:

تطالبني نفسي بما ليس لي به ... يدان فأعطيها الأمان فتقبل

عجبت لخصم لج في طلباته ... يصالح عنها بالمحال فيفصل

ومما أورد له في الإحاطة وذكر نه لو رحل راحل إلى خراسان لما أتى إلا بهما:

رعى الله إخوان الخيانة إنهم ... كفونا مؤونات البقاء على العهد

فلو قد وفوا كنا أسارى حقوقهم ... نراوح ما بين النسيئة والنقد

وقد تمثل القاضي أبو البركات في مخاطبة له للسان الدين بقول القائل:

أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهبي

أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمساً من المغرب

وحكى غير واحد منهم ابن داود البلوي أن القاضي أبا البركات لما عزم على الرحلة إلى المشرق كتب إليه ابن خاتمة بما صورته:

أشمس الغرب حقاً ما سمعنا ... بأنك قد سئمة من الإقامه

وأنك قد عزمت على طلوعٍ ... إلى شرق سموت به علامه

لقد زلزلت منا كل قلب ... بحق الله لا تقم القيامه

قال الحاكي: فحلف أبو البركات أن لا يرحل من إقليم فيه من يقول مثل هذا؛ انتهى. يشير بقوله " لقد زلزلت - إلخ " إلى طلوع الشمس من مغربها.

قلت: ولما عزمت على هذه الرحلة كتب إلي بعض أصحابنا المغاربة بالآبيات المذكورة متمثلاً، ولم أرجع عن العزم، والله غالب على أمره.

قال الوزير لسان الدين رحمه الله تعالى: وما أحسن قول شيخنا أبي البركات معتذراً عن زرقة عينيه:

حزنت عليك العين يا مغنى الهوى ... فالدمع منها بعد بعدك ما رقى

ولذاك ما ظهرت بلون أزرق ... أوما ترى ثوب المآتم أزرقا

قال رحمه الله تعالى: وهو من الغريب.

وقال بعض الشيوخ: كنت أقرأ على الشيخ أبي البركات التفسير، فنسيت ذات ليلة السفر الذي كنت أقرأ فيه بمنزلي، فاتفق أن حضر الجامع الصحيح للبخاري، فقال الشيخ بعد أن أردت القراءة عليه من أوله: افتح في أثناء الأوراق ولا تعين، وما خرج لك من ترجمة لجهة اليمين فاقرأها، فعلت، فإذا غزوة أحد، فقرأت الحديث الأول من الباب، وهو عن عقبة بن عامر، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا شهيد عليكم، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكنني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الشيخ قوله " صلى على قتلى أحد " لفظ الصلاة يطلق لغة على الدعاء، وشرعاً على الأفعال المخصوصة المعلومة، وإذا دار اللفظ بين الشرعي واللغوي فحمله على الشرعي أولى حتى يدل الدليل على خلافه، فقوله " صلى على قتلى أحد " يحتمل الصلاة الشرعية، ويكون ذلك منسوخاً إذا قد تقرر أنه لا يصلى على شهيد المعترك ولا على من قد صلى عليه، ولمن يعارضه أن يقول: إن قتلى أحد متفرقون في أماكن، فلا تتأتى الصلاة الشرعية عليهم، إذ الصلاة الشرعية إنما تتأتى لو كانوا مجتمعين، والجواب أنهم وإن كانوا متفرقين تجمعهم جهة واحدة، وليس بعد ما بينهم بحيث لا تتأتى معه الصلاة عليهم، هذا، وإن احتمل حمله على الصلاة اللغوية، وقوله " كالمودع للأحياء والأموات " أما وداعه للأحياء فلا إشكال فيه، وأما الأموات فمعنى وداعه لهم وداع الدعاء لهم، لأنه إذا مات فقد حيل بينه وبين الدعاء لهم، فلا جرم يودعهم بالدعاء لهم قبل أن يحال بينه وبين ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم " إني بين أيديكم " أي أتقدم قبلكم، وقوله صلى الله عليه وسلم " بين أيديكم فرط " أي متقدم، وبين إذا أضيفت إلى الأيدي تستعمل فيما قبل زمانك وفيما بعده، والمعنى هنا في قوله " بين أيديكم " أي أتقدم قبلكم، وقوله صلى الله عليه وسلم " وأنا شهيد عليكم " فيه وجهان، أحدهما: أن يخلق الله في قلبه علماً ضرورياً يميز به بين البر والفاجر، فيشهد بما خلق الله في قلبه من ذلك، إذ لا تكون الشهادة إلا على أمر مشاهد، ومعلوم أنه لم يشاهد ما فعل بعده من أمته فيخلق الله له علماً بذلك، الوجه الثاني: أن يخبره الله تعالى بذلك كما في حديث الحوض: ليذدان عنه أقوام كما يذاد البعير الضال فأقول: ألا هلم، ألا هلم، فيقال: إنهم قد غيروا بعدك، فأقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً، فشهد بما أخبره الله تعالى به، وهو نظير ما روي في تفسير قوله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " من أن قوم نوح يقولون: كيف تشهدون علينا وزمانكم متأخر عن زماننا فيقولون: لأن الله تعالى قص علينا أخباركم في كتابه، فقال " إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه - إلى آخره ".

وقوله صلى الله عليه وسلم " وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا " نظره صلى الله عليه وسلم إلى الحوض فيه وجهان، أحدهما: أن يكون نظره إليه بقلبه، إذا كان قد أطلعه الله عليه ليلة الإسراء، فصار مرتسماً في قلبه، فيكون نظره إليه بعين قلبه، كما يرتسم في قلب أحدنا شكل بيته وما فيه من المتاع والثياب وغير ذلك؛ الثاني: أن يكون الله تعالى قد كشف له عنه، فيكون نظره إليه بعينه مشاهدة، وقوله صلى الله عليه وسلم " وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا " إن قيل: كيف قال ذلك وقد ارتد عن الإسلام من ارتد من العرب بعده فالجواب أنه إنما خاطب بذلك من لم يشرك من أصحابه ومن بعدهم من التابعين وغيرهم من أمته، ولم يراع رعاع العرب وجهالهم، إذ لا اعتبار بهم لاحتقارهم. وقوله عليه الصلاة والسلام " ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها " قد وقع ما خشي منه عليه الصلاة والسلام من المنافسة في الدنيا، فكان كما ذكر صلى الله عليه وسلم؛ انتهى.

وحدث الشيخ أبو البركات قال: كنت ببجاية بمجلس الإمام ناصر الدين المشدالي أيام قراءتي عليه، وقد أفاض طلبة مجلسه بين يديه: هل الملائكة أفضل أم الأنبياء فقلت: الدليل لأن الملائكة أفضل أن الله أمرهم بالسجود لآدم، قال: فجعل الطلبة ينظر بعضهم إلى بعض، حتى قال لي بعضهم: استند يا سيدنا، كأنه يقول: استند إلى حائط ليزول هوس رأسك، وكانت عبارتهم في ذلك، وكل منهم يقول لي نحو ذلك إزراء، وقال لي الإمام ناصر الدين: أبصر فإنهم يقولون الحق، وكانت لغته أن يقول: أبصر، قال: فقلت: أتقولون إن أمر الله للملائكة بالسجود لآدم أمر ابتلاء واختبار قالوا: نعم، قلت: أفيختبر العبد بتقبيل يد سيده ليرى تواضعه قالوا: لا، فإن ذلك من شأن العبد دون أن يؤمر، بل السيد يختبر تواضعه بأن يأمر بالسجود للعبد، قلت: فكذا الملائكة، لو أمرت بالسجود لأفضل منها لكان بمنزلة أمر العبد بالسجود لسيده، قال: فكأنما ألقمتهم حجراً.

قال الشيخ أبو البركات: وهذه كحكاية أبي بكر ابن الطيب مع بعض رؤساء المعتزلة، وذلك أنه اجتمع معه في مجلس الخليفة، فناظره في مسألة رؤية الباري، فقال له رئيسهم: ما الدليل أيها القاضي على جواز رؤية الله تعالى قال: قوله تعالى " لا تدركه الأبصار " فنظر بعض المعتزلة إلى بعض وقالوا: جن القاضي وذلك أن هذه الآية هي معظم ما احتجوا به على مذهبهم، وهو ساكت، ثم قال لهم: أتقولون إن من لسان العرب قولك الحائط لا يبصر قالوا: لا، قال: أتقولون أن من لسان العرب الحجر لا يأكل قولوا: لا، قال: فلا يصح إذاً نفي الصفة إلا عما من شأنه صحة إثباتها له، قالوا: نعم، قال: فكذلك قوله تعالى " لا تدركه الأبصار " لولا جواز إدراك الأبصار له لم يصح نفيه عنه فأذعنوا لما قال، واستحسنوه.

وقال الشيخ أبو البركات: كنت ببجاية، وقدم علينا رجل من فاس برسم الحج يعرف بابن الحداد، فركب الناس في الأخذ عنه والرواية لما يحمله كل صعب وذلول، مع أنه لم تكن منزلته هناك في العلم، فعجبت لذلك، حتى قلت لبعض الطلبة: لقد أخذتموه بكلتا اليدين، ولم أركم مع من هو أعلى قدراً منه كذلك، فقالوا لي: لأنه قدم علينا ونحن لا نعرفه، وهو في زي حسن، بخادم يخدمه، يظن من يراه أن أباه من أعيان أهل بلده، فسألناه أحي أبوه أم لا قال: بل حي، قلنا: أهو من أهل العلم قال: لا، هو دلال في سوق الخدم، فلذلك آثرناه على من هو فوقه في العلم، قال: فقلت لهم: حق له أن ترتفع منزلته ويعلا صيته لتخلقه وفضله.

وفوائد أبي البركات كثير.

ومن تواليفه المؤتمن على أنباء أبناء الزمن كتاب مفيد جداً. وهو رضي الله عنه من ذرية العباس بن المراد السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحساب إلى يوم الدين.

وقال الشيخ أبو البركات: ذكر لي أن الفقيه الكاتب أبا الحسن ابن الجياب يحدث عني، ولا أذكر الآن أني قلت ذلك، ولكنني لما سمعته علمت أنه مما من شأني أن أقوله وهو أني قلت: مثل العالم مثل رجل يصب ماء في قفة، إن واظب على صب الماء بقيت القفة ملأى، وإن ترك صب الماء بقيت القفة لا شيء فيها من الماء، فكذلك العالم: إن واظب على طلب العلم بقي العلم لم ينقص منه شيء، وإن ترك الطلب ذهب علمه؛ انتهى.

ونقلت ممن رأى كلام ابن الصباغ في ترجمة أبي البركات ما نصه: لما ورد مدينة فاس في غرض الهناء والعزاء على أمير المسلمين أبي بكر السعيد ابن أمير المؤمنين أبي عنان، وأبصر الدار غاصة بأرباب الدولة الفاسية ولم يعدم منها عدا شخصه، والولد على أريكة أبيه أنشد:

 

لما تبدلت المجالس أوجهاً ... غير الذين عهدت من جلسائها

ورأيتها محفوفة بسوى الألى ... كانوا حماة صدورها وبنائها

أنشدت بيتاً سائراً متقدماً ... والعين قد شرقت بجاري مائها

أما القباب فهي كقبابهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها

وأظن أنه (47) تمثل بالأبيات بسره، وإلا يبعد أن يقولها في ذلك الحفل لما في ذلك من التعرض للهلك، والله سبحانه أعلم.

وحكى بعضهم أنه كان جالساً في دهليز بيته مع بعض الأصحاب، فدخلت زوجته من الحمام وهي بغير سراويل لقرب الحمام من البيت، فانكشف ساقها، فدخل خلفها مسرعاً، وغاب ساعة ثم خرج وأنشد:

كشفت على ساق لها فرأيته ... متلألئاً كالجواهر البراق

لا تعجبوا إن قام منه قيامتي ... إن القيامة يوم كشف الساق

وله في خديم اسمه يحيى احتجم محجمة واحدة:

أراني يحيى صنعة في قفائه ... مهذبة لما تبادر للباب

أرى (48) الخمس فيها لا تفارق ساعة ... فصور بالموسى بها شكل محراب

وتوفي الشيخ القاضي أبو البركات المذكور بشوال سنة 771 رحمه الله تعالى.

4- ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الشيخ الحكيم العلامة التعاليمي، الشاعر البليغ، أعجوبة زمانه في الاطلاع على علوم الأوائل، أبو زكريا يحيى بن هذيل (49) وقد قال في الإحاطة في حقه (50) ما ملخصه: يحيى ابن أحمد بن هديل التجيبي، أبو زكريا، شيخنا؛ جرى ذكره في التاج المحلى بما نصه: درة بين الناس مغفلة، وخزانة على كل فائدة مقفلة، وهدية من الدهر الضنين لبنيه محتفلة، أبدع من رتب التعاليم وعلمها، وركض في الألواح قلمها، وأتقن من صور الهيئة ومثلها، وأسس قواعد البراهين وأثلها، وأعرف من زوال شكاية، ودفع عن جسم نكاية، إلى غير ذلك من المشاركة في العلوم، والوصول من المجهول إلى المعلوم، والمحاضرة المستفزة للحلوم، والدعابة التي ما خالع العذار فيها بالملوم، فما شئت من نفس عذبة الشيم، وأخلاق كالزهر من بعد الديم، ومحاضرة تتحف المجالس والمحاضر، ومذاكرة يروق النواظر زهرها الناضر، وله أدب ذهب في الإجادة كل مذهب، وارتدى من البلاغة بكل رداء مذهب، والأدب نقطة من حوضه، وزهرة من زهرات روضه، وسيمر له في هذا الديوان ما يبهر العقول، ويحاسن بروائه ورائق بهائه الفرند المصقول، فمن ذلك ما خرجته من ديوانه المسمى بالسليمانيات والعزفيات (51) قوله:

ألا استودع الرحمن بدراً مكملاً ... بفاس من الدرب الطويل مطالعه

ففي فلك الأزرار يطلع سعده ... وفي أفق الأكباد تلفى مواقعه

يصير مرآه منجم مقلتي ... فتصدق في قطع الرجاء قواطعه (52)

تجسم من ماء الملاحة (53) خده ... وماء الحيا فيه ترجرج مائعه

تلون كالحرباء في خجلاته ... فيحمر قانيه ويبيض ناصعه

إذا اهتز غنى حليه فوق نحره ... كغصن النقا غنت عليه سواجعه

يؤكد (54) حتف الصب عامل قدره ... وتعطف من واو العذار توابعه

أعد الورى سيفاً كسيف لحاظه ... فهذا هو الماضي وذاك مضارعه (55)

وقال:

وصالك هذا أم تحية بارق ... وهجرتك أم ليل السليم لتائق

أناديك والأشواق تركض جمرها (56) ... بصفحة خدي من دموع سوابق

أبارق ثغر من عذيب رضابه ... قضت مهجتي بين العذيب وبارق

ومنها:

فلا تتعبن ريح الصبا في رسالة ... ولا تخجل الطيف الذي كان طارقي

متى طعمت عيني الكرى بعد بعدكم ... فإني في دعوى الهوى غير صادق

وقال:

بدا بدر فوقه الليل عسعسا ... وجنة أنس في صباح تنفسا

حوى النجم قرطاً والدراري مقلداً ... وأسبل من الذوائب حندسا

كأن سنا الإصباح رام يزورنا ... وخاف العيون الرامقات فغلسا

أتى يحمل التوراة طبياً مزنراً ... لطيف التثني أشنب الثغر ألعسا

وقابل أحبار اليهود بوجهه ... فبارك عليه ربي (57) وقدسا

فصير دمعي أعيناً شرب سبطه ... وعمري تيهاً والجوانح مقدساً

ومنها:

رويت ولوعي عن ضلوعي مسلسلاً ... فأصبحت في علم الغرام مدرسا

نفى النوم عني كي أكون مسهداً ... فأصبحت في صيد الخيال مهندسا

غزال من الفردوس تسقيه أدمعي ... ويأوي إلى قلبي مقيلاً ومكنسا

طغى ورد خديه بجنات (58) صدغه ... فأضعفه بالآس نبتاً وما أسا

وهذا البيت محال على معنى فلاحي، قال أهل الفلاحة: إن الآس إذا اغترس بين شجر الورد أضعفه بالخاصية.

وقال رحمه الله تعالى ورضي عنه (59) :

نام طفل النبت في حجر النعامى ... لاهتزاز الطل في مهد الخزامى

وسما (60) الوسيمي أغصان النقا ... فهوت تلثم أفوا الندامى

كحل الفجر لهم جفن الدجى ... وغدا في وجنة الصبح لثاما

تحسب البدر محيا ثمل ... قد سقته راحة الصبح مداما

حوله الزهر (61) كؤوس قد غدت ... مسكة الليل عليهم ختاما

يا عليل الريح رفقاً علني ... أشف بالسقم الذي حزت سقاما

أبلغن شوقي عريباً باللوى ... همت في أرض بها حلوا غراما

فرشوا فيها من الدر حصى ... ضربوا فيها من المسك خياما

كنت أشفي غلة من صدكم ... لو أذنتم لجفوني أن تنام

واستفدت الروح من ريح الصبا ... لو أتت تحمل من سلمى سلاما

وقال منها أيضاً:

نشأت للصب منها زفرة ... تسكب الدمع على الربع سجاما

طرب البرق مع القلب بها ... وبها الأنات طارحن الحماما

طلل لا تشتفي الأذن به ... وهو للعينين قد ألقى كلاما

ترك الساكن لي من وصله ... ضمة الجدران لئماً والتزاما

نزعات من سليمان بها ... فهم القلب معانيها فهاما

شادن يرعى حشاشات الحشا ... حسب حظي منه أن أرعى الذماما

وقال (62) :

أأرجو أماناً منك واللحظ غادر ... ويثبت عقلي (63) فيك والطرف ساحر

ومنها:

أعد سليمان أليم عذابه ... لطائر قلبي فهو للبين صائر (64)

أشاهد منه الحسن في كل نظرة ... وناظر أفكاري بمغناه (65) ناظر

دعت للهوى أنصار سحر جفونه ... فقلبي له عن طيب نفس مهاجر

إذا شق عن بدر الدجى أفق زره ... فإني بتمويه العواذل كافر

وفي حرم السلوان طابت خواطري ... وقلبي لما في وجنته مجاور

وقد ينزع القلب المبلى (66) لسلوة ... كما اهتز من قطر الغمامة طائر

يقابل أغراضي بضد مرادها ... ولم يدر أن الضد للضد قاهر

ونار اشتياقي صعدت مزن أدمعي ... فمضر سري فوق خدي ظاهر

وقد كنت باكي العين والبين غائب ... فقل لي كيف الدمع (67) والبين حاضر

وليس النوى بالطبع مراً، وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر (68)

وقال:

يا بارقاً قاد الخيال فأومضا ... اقصد بطيفك مدنفاً قد غمضا

ذاك الذي قد كنت تعهد نائماً ... بالسهد من بعد الأحبة عوضا

لا تحسبني معرضاً عن طيفه ... لكن منامي عن جفوني أعرضا

ومنها:

عجب الوشاة لمهجتي أن لم تذب ... يوم النوى وتشككت فيما مضى

خفيت لهم من سر صبري آية ... ما فهمت إلا سليمان الرضى

لله درك ناهجاً سبل الهوى ... فلمثله أمر الهوى قد فوضا

أمنت نملاً فوق خدك سارحاً ... وسللت سيفاً من جفونك منتضى

وقال في المدح:

حريص على جر الذوائب والقنا ... إذا كعت الأبطال والجو عابس

ويعتنق الأبطال، لولا سقوطها ... لقلت: لتوديع أتته الفوارس

إذا اختطفتهم كفه فسروجهم ... مجال، وهم في راحتيه فرائس

وقال يمدح السلطان أبا الوليد ابن نصر عند قدومه من فتح أشكر (69) :

بحيث البنود الحمر والأسد الورد ... كتائب سكان السماء لها جند (70)

وتحت لواء النصر ملك هو الورى (71) ... تضيق به الدنيا إذا راح أو يغدو

تأمنت الأرواح في ظل بنده ... كأن جناح الروح من فوق بند

فلو رام إدراك النجوم لنالها ... ولو هم لانقادت له الهند والسند

ومنها:

بعيني بحر النقع تحت أسنة ... تنمنمه وهناً كما نمنم البرد

سماء عجاج والأسنة شهبها ... ووقع القنا رعد إذا وقع الهند

وظنوا أن الرعد والصعق في السما ... محاق به من أيده الصعق والرعد

عجائب أشكال سما هرمس بها ... مهندسة تأتي الجبال فتنهد

ألا إنها الدنيا تريك عجائباً ... وما في القوى منها فلا بد أن (72) يبدو

وقال وهو معتقل:

تباعد عني منزل وحبيب ... وهاج اشتياقي والمزار قريب

وإني على قرب الحبيب مع النوى ... يكاد إذا اشتد الأنين يجيب

لقد بعدت عني ديار قريبة ... عجبت لجار الجنب وهو قريب

أعاشر أقواماً تقر نفوسهم ... فللهم فيها عند ذاك ضروب

إذا شعروا من جارهم بتأوه ... أجابته منهم زفرة ونحيب

فلا ذاك يشكوهم هذا تأسفاً ... لكل امرئ مما دهاه نصيب

كأني في غاب الليوث مسالم ... يروعني منه الغداة وثوب

تحكم فيها الدهر والعقل حاضر ... بكل قياس والأديب أديب

ولو مال بالجهال ميلته بنا ... لجاء بعذر: إن ذا لعجيب

رفيق بما لا ينثني عن جريمة ... بطوش بمن ما أوبقته ذنوب

ويطعمنا منه بوارق خلب ... نقول عساه يرعوي فيؤوب (73)

إذا ما تشبثنا بأذيال برده ... دهتنا إذا جر الخطوب خطوب

أدار علينا صولجاناً، ولم يكن ... سوى أنه بالحادثات لعوب

ومنها:

أيا دهر إني قد سئمت تهدفي ... أجرني فإن السهم منك مصيب

إذا خفق البرق الطروق أجابه ... فؤادي ودمع المقلتين سكوب

وإن طلع الكف الخضيب بسحرة ... فدمعي بحناء الدماء خضيب

تذكرني الأسحار (74) دارا ألفتها ... فيشتد حزني والحمام دروب

إذا علقت نفسي بليت وربما ... تكاد تفيض أو تكاد تذوب

دعوتك ربي والدعاء ضراعة ... وأنت تناجى بالدعا فتجيب

لئن كان عقبى الصبر فوزاً وغبطة ... فإني على الصبر الجميل دروب

قال: وبعثت إليه هدية من البادية، فقال يصف منها ديكاً:

أيا صديقاً جعلته سندا ... فراح فيما أحبه وغدا

طلبت منكم سريدكاً (75) خنثاً ... وجئتم لي مكانه لبدا

صير مني مؤرخاً ولكم ... ظللت من علمه من البلدا

قلت له: آدم أتعرفه ... قال: حفيدي بعصرنا ولدا

نوح وطوفانه رأيتهما ... قال: علونا بفيضه أحدا

فقلت: هل لي بجرهم خبر ... فقال: قومي وجيرتي السعدا

فقلت: قحطان هل مررت به ... قال: نفثنا ببرده العقدا

فقلت: صف لي سبا وساكنها ... فعند هذا تنفس الصعدا

فقال: كم لي بدجنهم سحراً ... من صرخة لي وللنوم هدا

فقلت: هاروت هل سمعت به ... فقال: ريشي لسهمه نفدا

فقلت: كسرى وآل شرعته ... فقال: كنا بجيشه وفدا

ولوا وصاروا وها أنا لبد ... فهل رأيتم من فوقهم أحدا

ديك إذا ما انثنى لفكرته ... رأى وجوداً طرائقاً قددا

يرفل في طيلسانه ولهاً ... قد صير الدهر لونه كمدا

إذا دجا الليل غاب هيكله ... كأن حبراً عليه قد جمدا

كأنما جلنار لحيته ... برجان جازا من الهواء مدى

كأن حصناً علا بهامته ... أعده للقتال فيه عدا

يرنو بياقوتتي لواحظه ... كأنما اللحظ منه قد رمدا

كأن منجالتي ذوائبه ... قوس سماء من أصله بعدا

وعوسج مد من مخالبه ... طغى بها في نقاده وعدا

فذاك ديك جلت محاسنه ... له صراخ بين الديوك بدا

يطلبني بالذي فعلت به ... فكم فللنا بلبتيه مدا

وجهته محنة لآكله ... والله ما كان ذاك منك سدى

ولم نزل بعد نستعدي عليه بإقراره بقتله، ونطلبه بالقود عند تصرفه بالعمل، فيوجه الدية لنا في ذلك رسائل.

وقال في غرض أبي نواس (76) :

طرقنا ديور القوم وهناً وتغليسا ... وقد شرفوا الناسوت إذ عبدوا عيسى

وقد رفعوا الإنجيل فوق رؤوسهم ... وقد قدسوا الروح المقدس تقديسا

فما استيقظوا إلا لصكة بابهم ... فأدهش رهباناً وروع قسيسا

وقام بها البطريق يسعى ملبياً ... وقد لين الناقوس رفعاً وتأنيسا

فقلنا له أمناً فإنا عصابة ... أتينا لتثليث وإن شئت تسديسا

وما قصدنا إلا الكؤوس وإنما ... لحنا له في القول خبثاً وتدليسا

ففتحت الأبواب بالرحب منهم ... وعرس طلاب المدامة تعريسا

فلما رأى رقي (77) أمامي ومزهري ... دعاني أتأنيساً لحنت وتلبيسا

وقام إلى دن بفض ختامه ... فكبس أجرام الغياهب تكبيسا

وطاف بها رطب البنان مزنر ... فأبصرت عبداً صير الحر مرؤوسا

سلافاً حواها القار لبساً فخلتها ... مثالاً من الياقوت في الحبر مغموسا

ومنها:

إلى أن سطا بالقوم سلطان نومهم ... ورأس فتيل (78) الشمع نكس تنكيسا

وثبت إليه بالعناق فقال لي: ... بحق الهوى هب لي من الضم تنفيسا

كتبت بدمع العين صفحة خده ... فطلس حبر الشعر كتبي تطليسا

فبئس الذي احتلنا وكدنا عليهم ... وبئس الذي قد أضمروا قبل ذا بيسا

فبتنا يرانا الله شر عصابة ... نطيع بعصيان الشريعة إبليسا

وقال بديهة في غزالة من النحاس ترمي الماء على بركة:

عنت لنا من وحشة ... جاءت لورد الماء ملء عنانها

وأظنها إذا حددت آذانها ... ريعت بنا فتوقفت بمكانها

حيت بقرني رأسها إذ لم تجد ... يوم اللقاء تحية ببنانها

حنت على الندمان من إفلاسهم ... فرمت قضيب لجينها لحنانها (79)

لله در غزالة أبدت لنا ... در الحباب تصوغه بلسانها

لسان الدين: وفلج المذكور، فلزم منزلي لمكان فضله ووجوب حقه، وقد كانت زوجته توفيت، وصحبه عليها وجد، فلما ثقل وقربت وفاته استدعاني وكاد لسانه لا يبين، فأوصاني وقال:

إذا مت فادفني حذاء حليلتي ... يخالط عظمي في التراب عظامها

ولا تدفنني في البقيع فإنني ... أريد إلى (80) يوم الحساب التزامها

ورتب ضريحي كيفما شاءه الهوى ... تكون أمامي أو أكون أمامها

لعل إله العرش يجبر صدعتي ... فيعلي مقامي عنده ومقامها

ومات رحمه الله تعالى في الخامس والعشرين لذي قعدة لعام ثلاثة وخمسين وسبعمائة ودفن بحذاء زوجته كما عهد رحمه الله تعالى؛ انتهى.

ومن نظم ابن هذيل:

وظبي زارني والليل طفل ... إلى أن لاح لي منه اكتهال

وألغى الشك من وصل فقلنا ... بليل الشك يرتقب الهلال

5- ومن أشياخ لسان لدين: الشيخ أبو بكر ابن ذي الوزارتين، وهو - أعني أبا بكر – الوزير الكاتب الأديب الفاضل المشارك المتفنن المتبحر في الفنون أبو بكر محمد ابن الشيخ الشهير ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم الرندي (81) ، ومن نظمه قوله (82):

تصبر إذا ما أدركتك ملمة ... فصنع إله العالمين عجيب

وما يلحق (83) الإنسان عار بنكبة ... ينكب فيها صاحب وحبيب

 

ففي من مضى للمرء ذي العقل أسوة ... وعيش كرام الناس ليس يطيب

ويوشك أن تهمي سحائب نعمة ... فيخضب ربع للسرور جديب

إلهك يا هذا قريب لمن دعا ... وكل الذي عند القريب قريب

قال ابن خاتمة: وأنشدني الوزير أبو بكر مقدمه على المرية غازياً مع الجيش المنصور، قال: أنشدني أبي:

ولما رأيت الشيب حل بمفرقي ... نذيراً بترحال الشباب المفارق

رجعت إلى نفسي فقلت لها انظري ... إلى ما أرى، هذا ابتداء الحقائق

 

[ترجمة أبي عبد الله ابن الحكيم]

وبيتهم بيت كبير، وأخذ عن غير واحد وعن والده، وهو ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد (84) بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى، اللخمي، الرندي، الكاتب البليغ الأديب الشهير الذكر بالأندلس، وأصل سلفه من إشبيلية من أعيانها، ثم انتقلوا إلى رندة في دولة بني عباد، ويحيى جد والده هو المعروف بالحكيم (85) لطبه، وقدم ذو الوزارتين على حضرة غرناطة أيام السلطان أبي عبد الله محمد بن محمد بن نصر إثر قفوله من الحج في رحلته التي رافق بها العلامة أبا عبد الله ابن رشيد الفهري، فألحقه السلطان بكتابه، وأقام يكتب له في ديوان الإنشاء إلى أن توفي هذا السلطان وتقلد الملك بعده ولي عهده أبو عبد الله المخلوع فقلده الوزارة والكتابة، وأشرك معه في الوزارة أبا سلطان عبد العزيز بن سلطان الداني، فلما توفي أبو سلطان أفرده السلطان بالوزارة، ولقبه ذا الوزارتين، وصار صاحب أمره إلى أن توفي بحضرة غرناطة قتيلاً نفعه الله تعالى غدوة يوم الفطر مستهل شوال سنة ثمان وسبعمائة، وذلك لتاريخ خلع سلطانه وخلافة أخيه أمير المسلمين أبي الجيوش مكانه، ومولده برندة سنة ستين وستمائة.

وكان رحمه الله تعالى علماً في الفضيلة والسراوة ومكارم الأخلاق، كريم لنفس واسع الإيثار، متين الحرمة عالي الهمة، كاتباً بليغاً أديباً شاعراً، حسن الخط يكتب خطوطاً على أنواع كلها جميلة الانطباع، خطيباً فصيح القلم زاكي الشيم، مؤثراً لأهل العم والأدب براً بأهل الفضل والحسب، نفقت بمدته للفضائل أسواق، وأشرقت بإمداده للأفاضل آفاق. ورحل للمشرق كما سبق، فكانت إجازته البحر من المرية، فقضى فريضة الحج، وأخذ عمن لقي هنالك من الشيوخ، فمشيخته متوافرة، وكان رفيقه كما مر الخطيب أبا عبد الله ابن رشيد الفهري، فتعاونا على هذا الغرض، وقضيا منه كل نفل ومفترض، واشتركا فيمن أخذا عنه من الأعلام، في كل مقام، وكانت له عناية بالرواية وولوع بالأدب، وصبابة باقتناء الكتب، جمع من أمهاتها العتيقة، وأصولها الرائقة الأنيقة، ما لم يجمعه في تلك الأعصر أحد سواه، ولا ظفرت به يداه، أخذ عنه الخطيب الصالح أبو إسحاق ابن أبي العاصي، وتدبج معه رفيقه أبو عبد الله ابن رشيد وغير واحد، وكان ممدحاً، وممن مدحه الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي والرئيس أبو الحسن ابن الجياب، وناهيك بهما.

ومن بديع مدح ابن الجياب له قصيدة رائقة يهنيه فيها بعيد الفطر منها في أولها (86) :

يا قادماً عمت الدنيا بشائره ... أهلا بمقدمك الميمون طائره

ومرحباً بك من عيد تحف به ... من السعادة أجناد تظافره

قدمت فالخلق في نعمى وفي جذل ... أبدى بك البشر باديه وحاضره

والارض قد لبست أثواب سندسها ... والروض قد بسمت منه أزاهره

حاكت يد الغيث في ساحاته حللاً ... لما سقاها دراكاً منه باكره

فلاح فيها من الأنوار باهرها ... وفاح فيها من النوار عاطره

وقام فيها خطيب الطير مرتجلاً ... والزهر قد رصعت منه منابره

موشي ثوب طواه الدهر آونة ... فها هو اليوم للأبصار ناشره

فالغصن من نشوة يثني معاطفه ... والطير من طرب تشدو مزاهره

وللكمام انشقاق عن أزاهرها ... كما بدت لك من خل ضمائره

لله يومك ما أزكى فضائله ... قامت لدين الهدى فيه شعائره

فكم سريرة فضل فيك قد خبئت ... وكم جمال بدا للناس ظاهره

فافخر بحق على الأيام قاطبة ... فما لفضلك من ند يظاهره

فأنت في عصرنا كابن الحكيم إذا ... قيست بفخر أولي العليا مفاخره

يلتاح منه بأفق الملك نور هدى ... تضاءل الشمس مهما لاح زاهره

مجد صميم على عرش السماك سما ... طالت مبانيه واستعلت مظاهره

وزارة الدين والعلم التي رفعت ... أعلامه والندى الفياض زاخره

وليس هذا ببدع من مكارمه ... ساوت أوائله فيه أواخره

يلقى الأمور بصدر منه منشرح ... بحر وآراؤه العظمى جواهره

راعى أمور الرعايا معملاً نظراً ... كمثل علياه معدوماً نظائره

والملك سير في تدبيره حكماً ... تنال ما عجزت عنه عساكره

سياسة الحلم لا بطش يكدرها ... فهو المهيب وما تخشى بوادره

لا يصدر الملك إلا عن إشارته ... فالرشد لا تتعداه مصايره

تجري الأمور على أقصى إرادته ... كأنما دهره فيه يشاوره

وكم مقام له في كل مكرمة ... أنست موارده فيها مصادره

ففضلها طبق الآفاق أجمعها ... كأنه مثل قد سار سائره

فليس يجحده إلا أخو حسد ... يرى الصباح فيعشى منه ناظره

لا ملك أكبر من ملك يدبره ... لا ملك أسعد من ملك يوازره

يا عز أمر به اشتدت مضاربه ... يا حسن ملك به ازدانت محاضره

تثني البلاد وأهلوها بما عرفوا ... ويشهد الدهر آتيه وغابره

بشرى لآمله الموصول مأمله ... تعساً لحاضره المقطوع دابره

فالعلم أشرقت نور مطالعه ... والجود قد أسبلت سحاً مواطره

والناس في بشر، والملك في ظفر ... عال على كل عالي القدر قاهره

والأرض قد ملئت أمناً جوانبها ... بيمن من خلصت فيها سرائره

وإلى أياديه من مثنى وموحدة ... تساجل البحر إن فاضت زواخره

فكل يوم تلقانا عوارفه ... كساه أمواله الطولى دفاتره

فمن يؤدي لمن أولاه من نعم ... شكراً ولو أن سحباناً يظاهره

يا أيها العيد بادر لثم راحته ... فلثمها خير مأمول تبادره

وافخر بأن قد لقيت ابن الحكيم على ... عصر يباريك أو دهر تفاخره

ولى الصيام وقد عظمت حرمته ... فأجره لك وافيه ووافره

وأقبل العيد فاستقبل به جذلاً ... واهنأ به قادماً عمت بشائره

ومن نثر ذي الوزارتين آخر إجازة ما صورته: وها أنا أجري معه على حسن معتقده، إلى ما رآه بمقتضى تودده، وأجيز له ولولديه أقر الله بهما عينه، وجمع بينهما وبينه، رواية جميع ما نقلته وحملته، وحسن اطلاعه يفصل من ذلك ما أجملته، فقد أطلقت لهم الإذن في جميعه، وأبحت لهم الحمل عني ولهم الاختيار في تنويعه، والله سبحانه يخلص أعمالنا لذاته، ويجعلها في ابتغاء مرضاته، قال هذا محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم حامداً لله عز وجل، ومصلياً.

ومن شعر ذي الوزارتين ابن الحكيم قوله (87) :

ما أحسن العقل وآثاره ... لو كان لازم الإنسان إيثاره

يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصون الحر أسراره

لا سيما إن كان في غربة ... يحتاج أن يعرف مقداره

وقوله رحمه الله (88) :

إني لأعسر أحياناً فيلحقني ... يسر من الله إن العسر قد زالا

يقول خير الورى في سنة ثبتت ... " أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا "

وهو من أحسن ما قال رحمه الله.

ومن شعر ذي الوزارتين المذكور قوله (89) :

فقدت حياتي بالعراق ومن غدا ... بحال نوى عمن يحب فقد فقد

ومن أجل بعدي عن ديار ألفتها ... جحيم فؤادي قد تلظى وقد

وقد سبقه إلى هذا القائل:

أواري أواري بالدموع تجلداً ... وكم رمت إطفاء اللهيب وقد وقد

فلا تعذلوا من غاب عنه حبيبه ... فمن فقد المحبوب فقد

كذا رواه ابن خاتمة، ورواه غيره هكذا:

أواري أواري والدموع تبينه

وهو الصواب، قال ابن خاتمة: وأنشدني رئيس الكتاب الصدر البليغ الفاضل أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان النجاري، قال: أنشدني رئيس الكتاب الجليل أبو محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي، قال: أنشدني رئيس الكتاب ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم رحمه الله:

صح الكتاب وعنه ... واختم على مكنته

واحذر عليه من مخا ... لسة الرقيب بجفنه

واجعل لسانك سجنه ... كيلا ترى في سجنه

قال ابن خاتمة: وفي سند هذه القطعة نوع غريب من التسلسل.

وحكى أن ذا الوزارتين المذكور لما اجتمع مع الجليل الفقيه الكاتب ابن أبي مدين أنشده ابن أبي مدين (90) :

عشقتكم بالسمع قبل لقاكم ... وسمع الفتى يهوى لعمري كطرفه

وحببني ذكر الجليس إليكم ... فلما التقينا كنتم فوق وصفه

فأنشد ذو الوزارتين ابن الحكيم:

ما زلت أسمع عن عيناك كل سناً ... أبهى من الشمس أو أجلى من القمر

حتى رأى بصري فوق الذي سمعت ... أذني فوفق بين السمع والبصر

ويعجبني في قريب من هذا المعنى قول الحاج الكاتب أبي إسحاق الحسناوي (91) رحمه الله:

سحر البيان بناني صار يعقده ... والنفث في عقده من منطقي الحسن

لا أنشد المرء يلقاني ويبصرني ... أنا المعيدي فاسمع بي ولا ترني

رجع - وقال لسان الدين في عائد الصلة في حق ذي الوزارتين ابن الحكيم ما صورته (92) : كان رحمه الله فريد دهره سماحة وبشاشة ولوذعية وانطباعاً، رقيق الحاشية، نافذ العزمة، مهتزاً للمديح، طلقاً للآمل، كهفاً للغريب، برمكي المائدة مهلبي الحلوى (93) ، ريان من الأدب، مضطلعاً بالرواية، مستكثراً من الفائدة، يقوم على المسائل الفقهية، ويتقدم الناس في باب التحسين والتقبيح، ورفع راية الحديث والتحديث، نفق بضاعة الطلب، وأحيا معالم الأدب، وأكرم العلم والعلماء، ولم تشغله السياسة عن النظر، ولا عاقة تدبير الملك عن المطالعة والسماع، وأفرط في اقتناء الكتب حتى ضاقت تصوره عن خزائنها، وأثرت أنديته من ذخائرها، قام له الدهر على رجل، وأخدمه صدور البيوتات وأعلام الرياسات، وخوطب من البلاد النازحة، وأمل في الآفاق النائبة؛ انتهى المقصود منه.

ومن أحسن ما رثي به الوزير ابن الحكيم رحمه الله قول بعضهم:

قتلوك ظلماً واعتدوا ... في فعلهم حد الوجوب

ورموك أشلاء، وذا ... أمر قضته لك الغيوب

إن لم يكن لك سيدي ... قبر فقبرك في القلوب

وقال لسان الدين في الإحاطة في حق رحلة ذي الوزارتين ابن الحكيم ما صورته (94) : رحل إلى الحجاز الشريف من بلده على فتاء سنه أول عام ثلاثة وثمانين وستمائة، فحج وزار، وتجول في بلاد المشرق منتجعاً عوالي الرواية في مظانها، ومنقراً عنها عند مسني شيوخها، وقيد الأناشيد الغربية والأبيات المرقصة، وأقام بمكة شرفها الله من شهر رمضان إلى انقضاء المسم، فأخذ بها عن جماعة، وانصرف إلى المدينة المشرفة، ثم قفل مع الركب الشامي إلى دمشق، ثم كر إلى المغرب، لا يمر بمجلس علم أو نعلم إلا روى أو روى، واحتل رندة حرسها الله أواخر عام خمسة وثمانين وستمائة، فأقام بها عيناً في فرابته، وعلماً في أهله، معظماً لديهم، إلى أن أوقع السلطان بالوزراء من بني حبيب الوقيعة البرمكية وورد رندة في أثر ذلك، فتعرض إليه وهنأه بقصيدة طويلة من أوليات شعره أولها (95) :

هل إلى رد عشيات الوصال ... سبب أم ذاك من ضرب المجال؟

فلما أنشدها إياه أعجب به وبحسن خطه ونصاعة ظرفه، فأثنى عليه، واستدعاه إلى الوفادة على حضرته، فوفد آخر عام ستة وثمانين، فأثبته في خواص دولته، وأحظاه لديه، إلى أن رقاه إلى كتابة الإنشاء ببابه، واستمرت حاله معظم القدر مخصوصاً بالمزية، إلى أن توفي السلطان ثاني الملوك من بني نصر، وتقلد الملك بعده ولي عهده أبو عبد الله، فزاد في إحظائه وتقريبه، وجمع له بين الكتابة والوزارة، ولقبه بذي الوزارتين، وأعطاه العلامة، وقلده الأمر فبعد الصيت وطاب الذكر، إلى أن كان من أمره ما كان؛ انتهى ملخصاً.

وقال في الإحاطة بعد كلام طويل في ترجمته: قال شيخنا الوزير أبو بكر ابن الحكيم ولده: وجدت بخطه رحمه الله تعالى رسالة خاطب بها أخاه الأكبر أبا إسحاق إبراهيم افتتحها بقصيدة أولها (96) :

ذكر اللوى شوقاً إلى أقماره ... فقضى أسى أو كاد من تذكاره

وعلا زفير حريق نار ضلوعه ... فرمى على وجناته بشراره (97)

وقد ذكرناها في غير هذا المحل.

وقال مما يكتب على قوس (98) :

أنا عدة للدين في يد من غدا ... لله منتصراً على أعدائه

أحكي الهلال وأسهمي في رجمها ... لمن اعتدى تحكي رجوم (99) سمائه

قد جاء في القرآن أني عدة ... إذ نص خير الخلق محكم آيه

وإذا العدو أصابه سهمي فقد ... سبق القضاء بهلكه وفنائه

قال لسان الدين (100) : ومن توقيعه ما نقلته من خط ولده، يعني أبا بكر، في كتابه المسمى بالموارد المستعذبة وكان بوادي آش الفقيه الطرائفي (101)، فكتب إلى خاصة والدي أبي جعفر ابن داود، قصيدة على روي السين، يتشكى فيها من مشرف بلدهم إذ ذاك أبي القاسم ابن حسان منها:

فيا صفي أبي العباس كيف ترى ... وأنت أكيس من فيها من أكياس

ولوه إن كان ممن ترتضون به ... فقد دنا الفتح للأشراف في فاس

ومنها يستطرد ذكر ذي الوزارتين:

للشرق فضل فمنه أشرقت شهب ... من نورهم أقبسونا كل مقباس

فوقع عليها رحمه الله تعالى:

إن أفرطت بابن حسان غوائله ... فالأمر يكوه ثوب الذكر والباس

وإن تزل به في جورة قدم ... كان الجزاء له ضرب على الراس

فقد أقامني المولى بنعمته ... لبث أحكامه بالعدل في الناس

ثم أطال في أمره، إلى أن قال في ترجمه قتله ما صورته (102) : واستولت يد الغوغاء على منازله، شغلهم بها مدبر الفتنة خيفة من أن يعاجلوه قبل تمام أمره، فضاع بها مال لا يكتب، وعروض لا يعلم لها قيمة من الكتب والذخيرة والفرش والآنية والسلاح والمتاع والخرثي، وأخفرت ذمته، وتعدى به عدوه القتل إلى المثلة، وقانا الله مصارع السوء، فطيف بشلوه، وانتهب، فضاع ولم يقبر، وجرت فيه شناعة كبيرة، رحمه الله تعالى؛ انتهى المقصود منه.

رجع:

6- ومن مشايخ لسان الدين الأستاذ أبو الحسن علي القيجاطي (103) .

وقال في حقه في الإحاطة ما محصله: علي بن عمر بن إبراهيم بن عبد الله الكناني، القيجاطي، أبو الحسن، أوحد زمانه علماً وتخلقاً وتواضعاً وتفنناً، ورد على غرناطة مستدعى عام اثني عشر وسبعمائة، وقعد بمسجدها الأعظم يقرأ فنوناً من العلم من قراءات وفقه وعربية وأدب، وولي الخطابة، وناب عن بعض القضاة بالحضرة، مشكور المأخذ حسن السيرة عظيم النفع، وقصده الناس وأخذوا عنه، وكان أديباً لوذعياً فكهاً حلواً، وهو أول أستاذ قرأت عليه القرآن والعربية والأدب إثر قراءة المكتب، وله تآليف في فنون وشعر ونثر، فمن شعره قوله (104) :

روض المشيب تفتح أزهاره ... حتى استبان ثغامه وبهاره

ودجى الشباب قد استبان صباحه ... وظلامه قد لاح في نهاره

فاتى حمام لا يعاف وقوعه ... ومضى غراب لا يخاف مطاره

والعمر مثل البدر يبدو حسنه ... حيناً ويعقب بعد ذاك سراره

ما للإخاء تقلصت أفياؤه ... ما للصفاء تكدرت آثاره

والحر يصفح إن أخل خليله ... والبر يسمح إن تجرأ جاره

فتراه يدفع إن تمكن جاهه ... وتراه ينفع إن علا مقداره

ولأنت تعلم أنني زمن الصبا ... ما زلت زنداً والحياء سواره

ولأنت تعلم أنني زمن الصبا ... ما زلت ممن عف فيه إزاره

والهجر ما بين الأحبة لم يزل ... ترك الكلام أو السلام مثاره

ولكم تجافى عن جفاء خليله ... فطن، وقد ظفرت به أظفاره

ولكم أصر على التدابر مدبر ... أفضى إلى ندم به إصراره

فأقام كالكسعي بان نهاره ... أو كالفرزدق فارقته نواره

أنكرتم من حق معترف لكم ... بالحق ما لا ينبغي إنكاره

والشرع قد منع التقاطع نصه ... قطعاً، ونقد وردت به أخباره

والسن سن تورع وتبرع ... وتسرع لتشرع تختاره

ما يومنا من أمسنا قدك اتئد ... ذهب الشباب فكيف ينفى عاره

هلا حظرتم أو حذرتم منه ما ... حق عليكم حظره وحذاره

عجباً لمن يجري هواه لغاية ... محدودة إضماره مضماره

يأتي ضحاً ما كان يأتيه دجى ... فكأنه ما شاب منه عذاره

فيعد ما تفنى به حسناته ... ويعيد ما تبقى به أوزاره

فالنفس قد أجرته ملء عنانها ... يشتد في مضمارها إحضاره

والمرء من إخوانه في جنة ... بل جنة تجري بها أنهاره

واليمن قد مدت إليه يمينه ... واليسر قد شدت عليه يساره

شعر به أشعرت بالنصح الذي ... يهديه من أشعاره إشعاره

ولو اختبرتم نقده بمحكة ... لامتاز بهرجه ولاح نضاله

هذا هدى فبه اقتده تنل المنى ... أو أنت في هذا وما تختاره

وعليكم مني سلام مثلما ... أرجت بروض يانع أزهاره

وقال من قصيدة رثائية (105) :

حمام حمام فوق أيك الأسى تشدو ... تهيج من الأشجان ما أوجد الوجد

وذلك شجو في حناجرنا شجاً ... وذلك هزل في ضمائرنا جد

أرى أرجل الأرزاء تشتد نحونا ... وأيديها تسعى إلينا فتمتد

ونحن أولو سهو عن الأمر ما لنا ... سوى أمل إيجابنا عنده جحد

فإن خطرت للمرء ذكرى بخاطر ... فتسبيحة الساهي إذا سمع الرعد

مصاب به قدت قلوب وأنفس ... لدينا إذا في غيره قطعت برد

تلين له الصم الصلاب وتنهمي ... عيون ويبكي عنده الحجر الصلد

فلا مقلة ترنو، ولا أذن تعي ... ولا رائحة تعطو، ولا قدم تعدو

وقد كان يبدو الصبر منا تجلداً ... وهذا مصاب صبرنا فيه ما يبدو

مولده عام خمسين وستمائة، وتوفي بغرناطة ضحى السبت في السابع والعشرين لذي الحجة عام ثلاثين وسبعمائة، وحضره السلطان فمن دونه، رحمه الله تعالى؛ وانتهى.

7- ومنهم العلامة شيخ الشيوخ أبو سعيد فرج بن لب (106) .

قال في " الإحاطة " في حقه ما محصله: فرج من قاسم بن أحمد بن لب،

قال ابن الصباغ: من شعر ابن لب يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إذا القلب ثار أثار ادكارا ... لقلبي فأذكى عليه أوارا

تروم جفوني لنار الهوى ... خموداً فتهمي دموعاً غزارا

فماء جفوني يسح انهمالا ... ونار فؤادي تهيج استعارا

أطيل العويل صباحاً مساء ... كئيبا ولست أطيق اصطبارا

رقيت مراقي للحب شتى ... فأفنى مراراً وأحيا مرارا

أحن اشتياقاً لريح سرت ... وأبدي هياماً لبرق أنارا

حنيناً وشوقاً إلى معلم ... حوى شرفاً خالداً لا يجارى

به أسكن الله أسمى الورى ... نبياً كريماً وصحباً خيارا

هو المصطفى المنتقى المجتبى ... أرى معجزات وآياً كبارا

يحق علينا ركوب البحار ... وجوب القفار إليه ابتدارا

ومنها:

فيا فوز من فاز في طيبة ... بلثم المغاني جداراً جدارا

وألصق خداً على تربها ... وأكمل حجاً بها واعتمارا

وأهدى السلام لخير الأنام ... على حين وافى عليه مزارا

فيا هادي الخلق دار نعيم ... تناهت جمالاً وطابت قرارا

لأنت الوسيلة والمرتجى ... ليوم يرى الناس فيه سكارى

وما هم سكارى، ولكنهم ... دهتهم دواه فهاموا حيارى

ترى المرء للهول من أمه ... ومن أقربيه يطيل الفرارا

وكل يخاف على نفسه ... فيكسوه خوف الإله انكسارا

فصلى الإله، رسول الهدى، ... عليك، وأبقى هداك منارا

وقدس ربي ثرى روضة ... يعم الجهات سناها انتشارا

 

أعبر شذا المسك منها الثرى ... بل المسك منه شذاه استعارا

هنيئاً لمن بهداك اهتدى ... ومغناك وافى، وإياك زارا

وقصد رحمه الله تعالى بهذه القصيدة معارضة قصيدة الشبهاب محمود التي نظمها بالحجاز في طريق المدينة الشرفة على ساكنها الصلاة والسلام، وهي طويلة، ومطلعها:

وصلنا السرى وهجرنا الديارا ... وجئناك نطوي إليك القفارا

وقد تبارى الشعراء في هذا الوزن وهذا الروي، ومنه القصيدة المشهورة:

أقول وآنست بالحي نارا

ولابن لب رحمه الله تعالى الفتاوى المشهورة

وقال في الإحاطة في حقه ما محصله: فرج بن قاسم بن أحمد بن لب التغلبي غرناطي أبو سعيد، من أهل الخير والطهارة والذكاء والديانة وحسن الخلق، رأس بنفسه وبرز بمزية إدراكه وحفظه، فأصبح حامل لواء التحصيل وعليه مدار الشورى وإليه مرجع الفتوى، لقيامه على الفقه وغزارة علمه وحفظه، إلى المعرفة بالعربية واللغة، ومعرفة التوثيق والقيام على القرارات والتبريز في التفسير، والمشاركة في الأصلين والفرائض والأدب، وجودة الحفظ؛ وأقرأ بالمدرسة النصرية في الثامن والعشرين لرحب عام أربعة وخمسين وسبعمائة، معظماً عند الخاصة والعامة، مقروناً اسمه بالتسويد، قعد للتدريس ببلده على وفور الشيوخ، وولي الخطابة بالجامع. قرأ على القيجاطي، والعربية على ابن الفخار، وأخذ عن ابن جابر الوادي آشي، فمن شعره في النسيب (107) :

خذوا للهوى من قلبي اليوم ما أبقى ... فما زال قلبي كله للهوى رقا

دعوا القلب يصلى في لظى الوجد ناره ... فنار الهوى الكبرى وقلبي هو الأشقى

سلوا اليوم أهل الوجد ماذا به لقوا ... فكل الذي يلقون بعض الذي ألقى

فإن كان عبد يسأل العتق سيداً ... فلا أبتغي من مالكي في الهوى عتقا

بدعوى الهوى يدعو أناس وكلهم ... إذا سئلوا طرق الهوى جهلوا الطرقا

فطرق الهوى شتى ولكن أهله ... يحوزون في يوم السباق بها السبقا

وكم جمعت طرق الهوى بين أهلها ... وكم أظهرت عند السوى بينهم فرقا

بسيما الهوى تسمو معارف أهله ... فحيث ترى سيما الهوى فاعرف الصدقا

فمن زفرة تزجي سحائب عبرة ... إذا زفرة ترقى فلا عبرة ترقا (108)

إذا سكتوا عن وجدهم أعربت به ... بواطن أحوال وما عرفت نطقا

وقال في وداع شهر رمضان:

أأزمعت يا شهر الصيام رحيلا ... وقاربت يا بدر الزمان أفولا

جدك قد جدت بك الآن رحلة ... رويدك أمسك للوداع قليلا

نزلت فأزمعت الرحيل كأنما ... نويت رحيلاً إذ نويت نزولا

وما ذاك إلا أن أهلك قد مضوا ... تفانوا فأبصرت الديار طلولا

تفكرت في الأوقات (109) ناشئة التقى ... أشد به وطأ وأقوم قيلا

وهي طويلة.

وكان موجوداً عند تأليف الإحاطة رحمه الله تعالى؛ انتهى بالمعنى.

وقال الحافظ ابن حجر: إنه صنف كتاباً في الباء الموحدة، وأخذ عن شيخنا بالإجازة قاسم بن علي المالقي، ومات سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة؛ انتهى.

وقال تلميذه المنتوري ما نصه: من شيوخي الشيخ الأستاذ الخطيب المقرئ المتفنن المفتي أبو سعيد ابن لب، مولده سنة إحدى وسبعمائة، وتوفي ليلة السبت لسبع عشرة ليلة مضت من ذي الحجة عام اثنين وثمانين؛ انتهى.

وهو مخالف لما سبق عن ابن حجر، لكن صاحب البيت أدرى، إذ قال: شيخنا الفقيه الخطيب الأستاذ المقرئ العالم العلم الصدر الأوحد الشهير، كان شيخ الشيوخ وأستاذ الأستاذين بالأندلس، إليه انتهت فيها رياسة الفتوى في العلوم، كان أهل زمانه يقفون عندما يشير إليه، قرأ على أبي علي القيجاطي بالسبع، وتفقه عليه كثيراً في أنواع العلوم، ولازمه إلى أن مات، وأجازه عامة، وعليه اعتمد، وأخذ عن أبي جعفر ابن الزيات، وأبي إسحاق ابن أبي العاصي، وابن جابر الوادي آشي، وقاضي الجماعة أبي بكر، سمع عليه البخاري، وتفقه عليه، وقرأ عليه أكثر عقيدة المقترح تفهماً، وبعض الإرشاد وبعض التهذيب، وعن أبي محمد ابن سلمون، والبركة أبي عبد الله الطنجالي الهاشمي، وأجازه؛ انتهى بمعناه.

وبالجملة فهو من أكابر علماء المالكية بالمغرب حتى قال المواق فيه: شيخ الشيوخ أبو سعيد ابن لب، الذي نحن على فتاويه في الحلال والحرام؛ انتهى.

وقل من لم يأخذ عنه في الأندلس في وقته، فممن أخذ عنه الشاطبي، وابن علاق، وأبو محمد ابن جزي، والأستاذ ابن زمرك، في خلق كثير من طبقتهم، ثم من الطبقة الثانية أبو يحيى ابن عاصم، وأخوه القاضي (110) أبو بكر ابن عاصم، والشيخ أبو القاسم ابن سراج، والمنتوري، في خلق لا يحصون.

وله تواليف، فمنها شرح جمل الزجاجي، وشرح تصريف التسهيل، وكتاب " ينبوع عين الثرة (111) في تفريع مسألة الإمامة بالأجرة "، وله فتاوى مدونة بأيدي الناس، وممن جمعها الشيخ ابن طركاط الأندلسي، وله كتابة في مسألة الأدعية إثر الصلوات على الهيئة المعروفة، وقد رد عليه في هذا التأليف تلميذه أبو يحيى ابن عاصم الشهيد في تأليف نبيل انتصاراً لشيخه أبي إسحاق الشاطبي، رحم الله تعالى الجميع.

8- ومن أشياخ لسان الدين ابن الخطيب أبو القاسم ابن جزي، ففي " الإحاطة " (112) ما ملخصه: محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي، الكلبي، أبو القاسم، من أهل غرناطة، وذوي الأصالة والنباهة فيها، شيخنا، وأصل سلفه من ولبة من حصن البراجلة، نزل بها أولهم عند الفتح صحبة قريبهم أبي الخطار حسام بن ضرار الكلبي، وعند خلع دولة المرابطين كان لجدهم يحيى رياسة وإفراد بالتدبير، وكان رحمه الله تعالى على طريقة مثلى من العكوف على العلم، والاقتصار على الاقتيات من حر النشب، والاشتغال بالنظر والتقييد والتدوين، فقيهاً حافظاً قائماً على التدريس، مشاركاً في فنون من عربية وفقه وأصول وقراءات وأدب وحديث، حفظة للتفسير، مستوعباً للأقوال، جماعة للكتب، ملوكي الخزانة، حسن المجلس، ممتع المحاضرة، قريب الغور، صحيح الباطن، تقدم خطيباً بالمسجد الأعظم من بلده على حداثة سنه، فاتفق على فضله، وجرى على سنن أصالته، قرأ على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير العربية والفقه والحديث والقرآن، وعلى ابن الكماد، ولازم الخطيب أبا عبد الله ابن رشيد وطبقتهم كالحضرمي وابن أبي الأحوص وابن برطال وأبي عامر ابن ربيع الأشعري والولي أبي عبد الله

الطنجالي وابن الشاط.

وله تواليف منها وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم والأنوار السنية في الكلمات السنية والدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الأخبار، والقوانين الفقهية وتلخيص مذهب المالكية والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية وكتاب تقريب الوصول إلى علم الأصول وكتاب النور المبين في قواعد عقائد الدين، وكتاب المختصر البارع في قراءة نافع وكتاب أصول القراء الستة غير نافع وكتاب الفوائد العامة في لجن العامة إلى غير ذلك مما قيده في التفسير والقراءات وغير ذلك، وله فهرسة كبيرة اشتملت على جملة كبيرة من علماء المشرق والمغرب.

ومن شعره قوله في الأبيات الغينية ذاهباً مذهب المعري وابن المظفر والسلفي وأبي الحجاج ابن الشيخ وأبي الربيع ابن سالم وابن أبي الأحوص وغيرهم من علماء المشرق والمغرب:

لكل بني الدنيا مراد ومقصد ... وإن مرادي صحة وفراغ

لأبلغ في علم الشريعة مبلغاً ... يكون به لي للجنان بلاغ

ففي مثل هذا فلينافس أولو النهى ... وحسبي من دار الغرور بلاغ

فما الفوز إلا في نعيم مؤبد ... به العيش رغد والشراب يساغ

وقال:

أروم امتداح المصطفى فيردني ... قصوري عن إدراك تلك المناقب

ومن لي بحصر البحر والبحر زاخر ... ومن لي بإحصاء الحصى والكواكب

ولو أن أعضائي غدت ألسناً إذاً ... لما بلغت في المدح بعض مآربي

ولو أن كل العالمين تألفوا ... على مدحه لم يبلغوا بعض واجب

فأمسكت عنه هيبة وتأدباً ... وعجزاً وإعظاماً لأرفع جانب

ورب سكوت كان فيه بلاغة ... ورب كلام فيه عتب لعاتب

وقال:

يا رب إن ذنوبي اليوم قد كثرت ... فما أطيق لها حصراً ولا عددا

وليس لي بعذاب النار من قبل ... ولا أطيق لها صبراً ولا جلدا

فانظر إلهي إلى ضعفي ومسكنتي ... ولا تذيقنني حر الجحيم غدا

وقال:

وكم من صفحة كالشمس  تبدو ... فيسلي حسنها قلب الحزين

غضضت الطرف عن نظري إليها ... محافظة على عرضي وديني

مولده يوم الخميس تاسع ربيع الثاني عام ثلاثة وتسعين وستمائة، وفقد وهو يحرض الناس يوم الكائنة بطريف ضحوة يوم الاثنين تاسع جمادى الأولى عام أحد وأربعين وسبعمائة، وعقبه ظاهر بين القضاء والكتابة؛ انتهى.

 

8- ومنهم القاضي الأديب جملة الظرف أبو بكر ابن شبرين (113) :

وقد استوفى ترجمته في الإحاطة وذكره أيضاً في ترجمة ذي الوزارتين ابن الحكيم بأن قال بعد حكايته قتل ابن الحكيم ما صورته (114) : وممن رثاه شيخنا أبو بكر ابن شبرين رحمه الله تعالى بقوله:

سقى الله أشلاء كرمن على البلى ... وما غض من مقدارها حادث البلا

ومما شجاني أن أهين مكانها ... وأهمل قدراً ما عهدناه مهملا

ألا اصنع بها يا دهر ما أنت صانع ... فما كنت إلا عبدها المتذللا

سفكت دماً كان الرقوء نواله ... لقد جئتما شنعاء فاضحة الملا

بكفي سبنتى (115) أزرق العين مطرق ... عدا فغدا في غيه متوغلا

لنعم قتيل القوم في يوم عيده ... قتيل تبكيه المكارم والعلا

ألا إن يوم ابن الحكيم مثكل ... فؤادي، فما ينفك ما عشت مثكلا

فقدناه في يوم أغر محجل ... ففي الحشر نلقاه أغر محجلا

سمت نحوه الأيام وهو عميدها ... فلم تشكر النعمى ولم تحفظ الولا

تعاورت الأسياف منه ممدحاً ... كريماً سما فوق السماكين مزحلا

وخانته رجل في الطواف به سعت ... فناء بصدر للعلوم تحملا

وجدل (116) لم يحضره في الحي ناصر ... فمن مبلغ الأحياء أن مهلهلا

يد الله في ذاك الأديم ممزقاً ... تبارك ما هبت جنوباً وشمألا (117)

ومن حزني أن لست أعرف ملحداً ... له فأرى للترب منه مقبلا

رويدك يا من قد غدا شامتاً به ... فبالأمس ما كان العماد المؤملا

وكنا نغادي أو نراوح بابه ... وقد ظل في أوج العلا متوقلا

ذكرناه يوماً فاستهلت جفوننا ... بدمع إذا ما أحل العم أخضلا

ومازج منا الحزن طول اعتبارنا ... ولم ندر ماذا منهما كان أطولا

وهاج لنا شجواً تذكر مجلس ... له كان يهدي الحي والملأ الألى

به كانت الدنيا تؤخر مدبراً ... من الناس حتماً أو تقدم مقبلا

لتبك عيون الباكيات على فتى ... كريم إذا ما أسبغ العرف أجزلا

على خادم الآثار تتلى صحائحاً ... على حامل القرآن يتلى مفصلا

على عضد الملك الذي قد تضوعت ... مكارمه في الأرض مسكاً ومندلا

على قاسم الأموال فينا على الذي ... وضعنا لديه كل إصر على علا

وأنى لنا من بعده متعلل ... وما كان في حياتنا متعللا

ألا يا قصير العمر يا كامل العلا ... يميناً لقد غادرت حزناً مؤثلا

يسوء المصلى أن هلكت ولم تقم ... عليك صلاة فيه يشهدنا الملا

وذاك لأن الأمر فيه شهادة ... وسنتها محفوظة لن تبدلا

فيا أيها الكريم الذي قضى ... سعيداً حميداً فاضلاً ومفضلا

لتهنك من رب السماء شهادة ... تلاقي ببشرى وجهك المتهللا

رثيتك عن حب في جوانحي ... فما ودع القلب العميد وما قلى (118)

ويا رب من أوليته منك نعمة ... وكنت له ذخراً عتيداً وموئلا

تناساك حتى ما تمر بباله ... ولم يدكر ذاك الندى والتفضلا

يرابض في مثواك كل عشية ... صفيف شواء أو قديراً معجلا (119)

لحى الله من ينسى الأذمة رافضاً ... ويذهل مهما أصبح الأمر مشكلا

حنانيك يا بدر الهدى فلشد ما ... تركت بدور الأفق بعدك أفلا

وكنت لآمالي حياة هنيئة ... فغادرت مني اليوم قلباً مقتلاً

فلا وأبيك الخير ما أنا بالذي ... على البعد ينسى من ذمامك ما خلا

فأنت الذي آويتني متغرباً ... وأنت الذي أكرمتني متطفلا

فآليت لا ينفك قلبي مكمداً ... عليك ولا ينفك دمعي مسبلاً

وكتب ابن لسان الدين على هامش هذه القطعة ما صورته: شكر الله وفاءك يا ابن شربين وقدس لحدك، وأين مثلك في الدنيا حسناً ووفاء وعلماً لا كما فعل ابن زمرك في ابن الخطيب مخدومه، قاله علي بن الخطيب؛ انتهى.

9- ومن أشياخ لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الشيخ الأستاذ العلامة العلم الأوحد الصدر المصنف المحدث الأفضل الأصلح الأروع الأتقى الأكمل أبو عثمان سعد ابن الشيخ الصالح التق الفاضل المبرور المرحوم أبي جعفر أحمد بن ليون، التجيبي (120) ، رضي الله عنه تعالى، وهو من أكابر الأئمة الذين أفرغوا جهدهم في الزهد والعلم والنصح، وله تواليف مشهورة، منها اختصار بهجة المجالس لابن عبد البر، واختصار المرتبة العليا لابن راشد لقفصي، وكتاب في الهندسة، وكتاب في الفلاحة، وكتاب كمال الحافظ وجمال اللافظ في الحكم والوصايا والمواعظ، وكان مولعاً باختصار الكتب، وتواليف تذيد عن المائة فيما يذكر، وقد وقفت منها بالمغرب على أكثر من عشرين.

ومما (121) حكي عن بعض كبراء المغرب أنه رأى رجلاً طوالاً فقال لمن

حضره: لو رآه ابن ليون لاختصره، إشارة إلى كثرة اختصاره للكتب.

ومن تواليفه كتاب نفح السحر في اختصار روح الشحر (122) وروح الشعر لابن الجلاب الفهري، رحمه الله، ومنها كتاب أنداء الديم في الوصايا والمواعظ والحكم وكتاب الأبيات المهذبة في المعاني المقربة وكتاب نصائح الأحباب وصحائح الآداب أورد فيه مائتي قطعة من شعره تتضمن نصائح متنوعة، ولننقح منها نبذة فنقول: منها في التحريض على العلم قوله رحمه الله تعالى:

زاحم أولي العلم حتى ... تعتد منهم حقيقه

ولا يردك عجز ... عن أخذ أعلى طريقه

فإن من جد يعطى ... فيما يحب لحوقه

وقوله:

شفاء داء العي حسن السؤال ... فاسأل تنل علماً، وقل لا تبال

واطلب فالاستحياء والكبر من ... موانع العلم فما إن ينال

وقوله:

" علمت شيئاً وغابت عنك أشياء " (123) ... فانظر وحقق فما للعلم إحصاء

للعلم (124) قسمان: ما تدري، وقولك لا ... أدري، ومن يدعي الإحصاء هذاء

وقوله:

من لم يكن علمه في صدره نشبت ... يداه عند السؤالات التي ترد

العلم ما أنت في الحمام تحضره ... وما سوى ذلك التكليف والكمد

وقوله:

الدرس رأس العلم فاحرص عليه ... فكل ذي علم فقير إليه

من ضيع الدرس يرى هاذياً ... عند اعتبار الناس ما في يديه

فعزة العالم من حفظه ... كعزة المنفق فيما عليه

وقال (125) رحمه الله تعالى في غير ما سبق:

ثلاث مهلكات لا محاله ... هوى نفس يقود إلى البطاله

وشح لا يزال يطاع دأباً ... وعجب ظاهر في كل حاله

وقال:

اللهو منقصة بصاحبه ... فاحذر مذلة مؤثر اللهو

واللغو نزه عنه سمعك لا ... تجنح له، لا خير في اللغو

وقال:

لا تمالىء على صديقك وادرأ ... عنه ما اسطعت من أذى واهتضام

ما تناسى الذمام قط كريم ... كيف ينسى الكريم رعي الذمام

تطعم الكلب مرة فيحامي ... عنك، والكلب في عداد اللئام

وقال:

احذر مؤاخاة الدنيء فإنها ... عار يشين ويورث التضريرا

فالماء يخبث طعمه لنجاسة ... إن خالطته ويسلب التطهيرا

وقال:

تحفظ من الناس تسلم ولا ... تكن في تقربهم ترغب

ولا تترك الحزم في كل ما ... تريد، ولا تبغ ما يصعب

وقال:

إخوانك اليوم إخوان الضرورة لا ... تثق بهم يا أخي في قول أو فعل

لا خير في الأخ إلا أن يكون إذا ... عرتك نائبة يقيك أو يسلي

وقال:

طلب الإنصاف من قل ... ة إنصاف فساهل

لا تناقش وتغافل ... فاللبيب المتغافل

قلما يحظى أخو الإن ... صاف في وقت بطائل

وقال:

من خافه الناس عظموه ... وأظهروا بره وشكره

ومن يكن فاضلاً حليماً ... فإنما حظه المضره

فامرر وكن صارماً مبيراً ... يهبك من قد تخاف شره

وقال:

إن تبغ عدلاً فما ترضى لنفسك من ... قول وفعل به أعمل في الورى تسد

وكل ما ليس ترضاه لنفسك لا ... تفعله مع أحد تكن أخا رشد

وقال:

حسبي الله لقد ضلت بنا ... عن سبيل الرشد أهواء النفوس

عجباً أن الهوى هون وأن ... نؤثر الهون وإذلال الرؤوس

 

وقال:

من يخف شره يوف الكرامه ... ويوالى الرعاية المستدامه

وأخو الفضل والعفاف غريب ... يحمل الذل والجف والملامه

وقال:

دع من يسيء بك الظنون ولا ... تحفل به إن كنت ذا همه

من لم (126) يحسن ظنه أبداً ... بك فاطرحه تكتفي همه

وقال:

نزه لسانك عن قول تعاب به ... وارغب بسمعك عن قيل وعن قال

لا تبغ غير الذي يعنيك واطرح ال ... فضول تحيا قرير العين والبال

وقال:

كثرة الأصدقاء كثرة غرم ... وعتاب يعيي وإدخال هم

فاغن بالبغض قانعاً وتغافل ... عنهم في قبيح فعل وذم

وقال:

ذل المعاصي ميتة يا لها ... من ميتة لا ينقضي عارها

عز التقى هو الحياة التي ... ذو العقل والهمة يختارها

وقال:

لا تسمع يوماً صديقك قولاً ... فيه غض ممن يحب الصديق

إن بر الصديق لا شك منه ... لصديق الصديق أيضاً فريق

 

وقال:

للجار حق فاعتمد بره ... واحمل أذاه مغضياً ساترا

فالله قد وصى به فاغتفر ... زله الباطن والظاهرا

وقال:

سالم الناس ما استطعت وداري ... أخسر الناس أحمق لا يداري

ضرك الناس ضر نفسك يجني ... لا يقوم الدخان إلا لنار

وقال:

النصح عند الناس ذنب فدع ... نصح الذي تخاف أن يهجرك

الناس أعداء لنصاحهم ... فاترك هديت النصح فيمن ترك

وقال:

تجري الأمور على الذي قد قدرا ... ما حيلة أبداً ترد مقدرا

فارض الذي يجري القضاء به ولا ... تضجر فمن عدم الرضى أن تضجرا

وقال:

أخوك الذي يحميك من الغيب جاهداً ... ويستر ما تأتي من السوء والقبح

وينشر ما يرضيك في الناس معلناً ... ويغضي ولا يألو من البر والنصح

وقال:

لا تصحب الأردى فتردى معه ... وربما قد تقتفي منزعه

فالحبل إن يجرر على صخرة ... أبدى بها طريقة مشرعه

ما فات أو كان لا تندم عليه فما ... يفيد بعد انقضاء الحادث الندم

ارجع إلى الصبر تغنم أجره وعسى ... تسلو به فهو مسلاة ومغتنم

وقال:

السخط عند النائبات زيادة ... في الكرب تنسي ما يكون من الفرج

من لم يكن يرضى بما يقضى فيا ... لله ما أشقى وأصعب ما انتهج

وقال:

إن تبتغ الإخوان ما إن تجد ... أخاً سوى الدينار والدرهم

فلا تهنهما وعززهما ... تعش عزيزاً غير مستهضم

وقال:

من يستهن بصديقه ... يعن العدو على أذاته

بر الصديق مهابة ... للمرء تخمل من عدائه

فاحفظ صديقك ولتكن ... تبدي المحاسن من صفاته

وقال:

نعوذ بالله من شر اللسان كما ... نعوذ بالله من شر البريات

يجني اللسان على الإنسان ميتته ... كم للسان من آفات وزلات

وقال:

من لم يكن مقصده مدحة ... فقد أتى بحبوحة العافيه

محبة المدحة رق بلا ... عتق، وذل يا له داهيه

من لا يبالي الناس مدحاً ولا ... ذماً أصاب العيشة الراضيه

 

وقال:

شر إخوانك من لا ... تهتدي فيه سبيلا

يظهر الود ويخفي ... مكره داء دخيلا

يتقي منك اتقاء ... وهو يوليك الجميلا

وقال:

قوام العيش بالتدبير فاجعل ... لعيشك منه في الأيام قسطا

وخذ بالصبر نفسك فهو عز ... تلوذ به إذا ما الخطب شطا

وقال:

العيش ثلث فطنة ... والغير منه تغافل

فتغافل إن كنت امرأ ... إيثار عيشك تامل

وقال:

ينفذ المقدور حتماً لا يرد ... فعلاء الحرص دأباً والكمد

أرح النفس تعش في غبطة ... وكل الأمر إلى الله فقد

وقال:

زر من تحب ثم زره ولا ... تمل واجعله دأباً موضع النظر

لولا متابعة الأنفاس ما بقيت ... روح الحياة ولا دامت مدى العمر

وقال:

لا تترك الحزم في شيء فإن به ... تمام أمرك في الدنيا وفي الدين

من ضيع الحزم تصحبه الندامة في ... أيامه ويرى ذل المهاوين

 

وقال:

كن إذا زرت حاضر القلب واحذر ... أن تمل المزور أو أن تطيلا

لا تثقل على جليس وخفف ... إن من خف عد شخصاً نبيلا

وقال:

من خلا عن حاسد قد ... مات في الأحياء ذكره

إنما الحاسد كالنا ... ر لعود طاب نشره

لا عدمنا حاسداً في ... نعمة ليست تسره

وقال:

حبيبك من يغار إذا زللتا ... ويغلظ في الكلام متى أسأتا

يسر إن اتصفت بكل فضل ... ويحزن إن نقصت أو انتقصتا

ومن لا يكترث بك لا يبالي ... أحدت عن الصواب أم اعتدلتا

وقال:

لن لمن تخشى أذاه ... والقه في باب داره

إنما الدنيا مدارا ... ة فمن تخشاه داره

وقال:

حسد الحاسد رحمه ... لا يرى إلا لنعمه

إنما الحاسد يشكو ... حر أكباد وغمه

لا عدمنا حاسداً في ... نعمة تكثر همه

وقال:

تبديل شخص بشخص ... خسران الاثنين جمله

فاشدد يديك على من ... عرفت، وارفع (127) محله

فإن قطع خليل ... بعد التواصل زله

وقال:

أنت بخير ما تركت الظهور ... والقال والقيل وطرق الشرور

من خاض بحراً فهو لا بد يب ... تل ومن يجر يصبه العثور

سلامة المرء اشتغال بما ... يهمه لنفسه من أمور

وقال:

أنت حر ما تركت الطمعا ... وعزيز ما تبعت الورعا

وكفى بالعز مع حرية ... شرفاً يختاره من قنعا

وقال:

خل بنيات الطرق ... ووافق الناس تفق

من خالف الناس أتى ... أعظم أبواب الحمق

فكن مع الناس فتر ... ك جملة الناس خرق

وقال:

لا تضق صدراً بحاسد ... فهو في نار يكابد

من يرى أنك خير ... منه تعروه شدائد

إنما الحاسد يشقى ... وهو لا يحظى بعائد (128)

وقال (129) :

من يستمع في صديق قول ذي حسد ... لا شك يقصيه فاحذر غيلة الحسد

يهابك الناس ما تدني الصديق فإن ... أقصيته زدت للأعداء في العدد

وقال:

كم من أخ صحبته ... والنفس عنه راغبه

خشيت، إن فارقته ... بالهجر، سوء العاقبه

وقال:

إذا كانت عيوبك عند نقد ... تعد فأنت أجدر بالكمال

متى سلمت من النقد البرايا ... وحسبك ما تشاهد في الهلال

وقال:

إذا انطوت القلوب على فساد ... فإن الصمت ستر أي ستر

فلا تنطق وقلبك فيه شيء ... بغير الحق واحذر قول شر

وقال:

إن كنت لا تنصر الصديق فدع ... سماعك القول فيه واجتنب

سماع عرض الصديق منقصة ... لا يرتضيها الكريم ذو الحسب

وقال:

أنت في الناس تقاس ... بالذي اخترت خليلا

فاصحب الأخيار تعلو ... وتنل ذكراً جميلا

 

صحبة الخامل تكسو ... من يواخيه خمولا

وقال:

اسمح يزنك السماح ... إن السماح رباح

لا تلق إلا ببشر ... فالبشر فيه النجاح

تقطيبك الوجه جد ... أجل منه المزاح

وقال:

من كنت تعرفه كن فيه متئداً ... يكفيك من خلقه ما أنت تعرفه

لا تبغ من أحد عرفته أبداً ... غير الذي كنت منه قبل تألفه

وقال:

حاسب حبيبك كالعدو تدم له ... ولك المحبة، فالتناصف روحها

من كان يغمض في حقوق صديقه ... نقصت مودته وشيب صريحها

وقال:

تغافل في الأمور ولا تناقش ... فيقطعك القريب وذو الموده

مناقشة الفتى تجني عليه ... وتبدله من الراحات شده

وقال:

إن شئت تعرف نعمة الله التي ... أولاك فانظر كل من هو دونكا

لا تنظر الأعلى فتنسى ما لدي ... ك ومن من الضعفاء يستجدونكا

وقال:

عجباً أن ترى قبيح سواكا ... وتعادي الذي يرى منك ذاكا

 

لو تناصفت كنت تنكر ما في ... ك وترضى الوصاة ممن نهاكا

وقال:

جرب الناس ما استطعت تجدهم ... لا يرى الشخص منهم غير نفسه

فالسعيد السعيد من أخذ العف ... وودارى جميع أبناء جنسه

وقال:

فرط حب الشيء يعمي ويصم ... فليكن حبك قصداً لا يصم

نقص عقل أن يغطي حسك الح ... ب أو يلهيك عن أمر مهم

وقال:

سلم وغض (130) احتسابا ... فذا هو اليوم أسلم

النقد نار تخلي ... في القلب جمراً (131) تضرم

فاطو اعتراضك واغفل ... عن عيب غيرك تسلم

وقال:

عدة الكريم عطية ... لا مطل في عدة الكريم

المطل تحريض العدا ... ة، وذاك من فعل اللئيم

فدع المطال إذا وعد ... ت فإنه عمل ذميم

وقال:

من تناسى ذنوبه قتلته ... وأبانت عنه الولي الحميما

ذكرك الذنب نفرة عنه تبقي ... لك إنكار فعله مستديما

وقال:

عجباً لمادح نفسه لا يهتدي ... لتنقص يبديه فيه مدحها

مدح الفتى عند التحدث نفسه ... ذكرى معايبه فيدرى قبحها

وقال:

من حسنت أخلاقه عاش في ... نعمى وفي عز هنيء وود (132)

ومن تسؤ للخلق أخلاقه ... يعش حقيراً في هموم وكد

وقال:

من كان يحمي ناسه [صار ذا ... عز و] (133) هابته نفوس البشر

ومن يكن يخذل أحبابه ... هان، ومن هان فلا (134) يعتبر

وقال:

قارب وسدد إذا ما كنت في عمل ... إن الزيادة في الأعمال نقصان

ما حالف القصد في كل الأمور هوى ... نفس، وكل هوى شؤم وحرمان

وقال:

بقدر همته يعلو الفتى أبداً ... لا خير في خامل الهمات ممتهن

هيهات يعلو فتى خمول همته ... يقوده لابتذال النفس والمهن

وقال:

اصحب ذوي الحدة وارغب عن ال ... خبيث فالصحبة ذاك داؤها

وانظر إلى قول نبي الهدى ... خيار أمتي أحداؤها

قال:

ما صديق الإنسان في كل حال ... يا أخي غير درهم يقتنيه

لا تعول عن سواه فتغدو ... خائب القصد دون ما تبتغيه

وقال:

يستفز الهوى للإنسان حتى ... لا يرى غير محنة أو ضلال

ويرى الرشد غير الرشد، ويغدو ... يحسب الحق من ضروب المحال

وقال:

لا تبالغ في الشر مهما استطعتا ... وتغافل واحلم إذا ما قدرتا

فانقلاب الأمور أسرع شيء ... وتجازى بضعف ما قدرتا (135)

وقال:

مثل عواقب ما تأتي وما تذر ... واحذر فقد ترتجي أن ينفع الحذر

لا تقدمن على أمر بلا نظر ... فإن ذلك فعله كله خطر

وانظر وفكر لما ترجو توقعه ... فعمدة العاقل التفكير والنظر

وقال:

حافظ على نفسك من كل ما ... يشينها من خلل أو زلل

واحرص على تخليصها بالذي ... تنجو به من قول أو من عمل

وقال:

سكر الولاية ما له صحو ... وكلامها وحراكها زهو

يهذي الفتى أيام عزتها ... فإذا تقضت نابه شجو

فحذار لا تغررك صولتها ... وزمانها فثبوتها محو

وقال:

دع الجدال ولا تحفل به أبدا ... فإنه سبب للبغض ما وجدا

سلم تعش سالماً من غير متعبة (136) ... قرير عين إذا لم تعترض أحدا

وقال:

إذا ترى المبتلى اشكر أن نجوت ولا ... تشمت به ولتسل من ربك العافيه

وخف من أن تبتلى كما ابتلي فترى ... كما تراه وما تقيك من واقيه

وقال:

العمر ساعات تقضى فلا ... تقضها في السهو والغفله

واعمل لما أنت له صائر ... ما دمت من عمرك في مهله

ولا تكن تأوي لدينا وقل ... لا بد لا بد من النقله

وقال:

كن رفيقاً إذا قدرت حليما ... وتغافل تسلك طريقاً قويما

لا تظن الزمان يبقي على من ... سره أو ينيل عزاً سليما

إن للدهر صولة وانقلاباً ... ولهذا نعيمه لن يدوما

وقال:

من لم يكن ينفع في الشده ... فلا تكن معتمداً وده

لا تعتمد إلا أخا حرمة ... إن ناب خطب تلفه عده

وخل من يهزأ في وده ... ولا ترى في معضل جده

وقال:

أخوك الذي تلفيه في كل معضل ... يدافع عنك السوء بالمال والعرض

ويستر ما تأتي من القبح دائماً ... وينشر ما يرضي وإن سؤته يغضي

وقال:

لا تنه عما أنت فاعله ... وانظر لما تأتيه من ذنب

وابدأ بنفسك فانهها فإذا ... تقفو الصواب فأنت ذو لب

وقال:

ليس الصديق الذي يلقاك مبتسماً ... ولا الذي في التهاني بالسرور يرى

إن الصديق الذي يولي نصيحته ... وإن عرت شدة أغنى بما قدرا

وقال:

عجباً لمستوف منافع نفسه ... ويرى منافع من سواه تصعب

ما ذاك إلا عدم إنصاف ومن ... عدم التناصف كيف يرجو يصحب

وقال:

من عدم الهمة في راحة ... من أمره يكرم أو يهتضم

 

وإنما يشقى أخو همة ... فإن الانكاد بقدر الهمم

وقال:

قلما تنفع المداراة إلا ... عند أهل الحفاظ والأحساب

من يداري اللئيم فهو كمن يس ... تعمل الدر في نحور الكلاب

وقال:

دنياك هذي عرض زائل ... تفتن ذا الغرة والغفله

فاعمل لأخراك وقدم لها ... ما دمت من عمرك في مهله

وقال:

نصيحة الصديق كنز فلا ... ترد ما حييت نصح الصديق

وخذ من الأمور ما ينبغي ... ودع من الأمور ما لا يليق

وقال:

أنت حر ما لم يقيدك حب ... أو تكن في الورى يرى لك ذنب

الهوى كله هوان وشغل ... والمعاصي ذل يعانى وكرب

وقال:

هون عليك الأمورا ... تعش هنيئاً قريرا

واعلم بأن الليالي ... تبلي جديداً خطيرا

وتستبيح عظيماً ... ولا تجير حقيرا

وقال:

ألف صديق قليل ... والود منهم جميل

كما عدو كثير ... إذ ضره لا يزول

فلا تضيع صديقاً ... فالنفع فيه جليل

وقال(137):

دع الحسود تعاتبه لظى حسده ... حتى تراه لقى يموت من كمده

ما للحسود سوى الإعراض عنه وأن ... يبقى إلى كربه في يومه وغده

وقال:

الناس حيث يكون الجاه والمال ... فخل عنك ولا تحفل بما قالوا

وعد عمن يقول العلم قصدهم ... أو الصلاح أما تبدو له الحال

انظر لماذا هم يسعون جهدهم ... يبن لك الحق ولا يعروه إشكال

وقال:

توسط في الأمور ولا تجاوز ... إلى الغايات فالغايات غي

كلا الطرفين مذموم إذا ما ... نظرت وأخذك المذموم عي

وقال:

عامل جميع الناس بالحسنى ... إن شئت أن تحظى وأن تهنا

ولا تسئ يوماً إلى واحد ... فتجمع الراحة والأمنا

وقال:

لا تفكر فللأمور مدبر ... وارض ما يفعل المهيمن واصبر

أنت عبد وحكم مولاك يجري ... بالذي قد قضى عليك وقدر

وقال:

إذا رأيت القبيحا ... فقل كلاماً مليحا

وأغض واستر وسلم ... وكن حليماً صفوحا

تعش هنيئاً وتلقى ... براً وشكراً صريحا

وقال:

من ينكر الإحسان لا توله ... ما عشت إحساناً فلا خير فيه

البذر في السباخ ما إن له ... نفع فذره فهو فعل السفيه

وقال:

من لم يكن بنفع في وده ... دعه ولا تقم على عهده

ود بلا نفع عناء فلا ... تعن بشيء حاد عن حده

وقال:

در مع الدهر كيفما ... دار إن شئت تصحبه

ودع الحذق جانباً ... ليس بالحذق تغلبه

وحذار انقلابه ... فكثير تقلبه

وقال:

من ليس يغني في مغيب عنك لا ... تحفل به فوداده مدخول

يثني عليك وأنت معه حاضر ... فإذا تغيب يكون عنك يميل

وقال:

دع نصح من يعجبه رأيه ... ومن يرى ينجحه سعيه

النصح إرشاد فلا توله ... إلا فتى يحزنه غيه

لا يقبل النصح سوى مهتد ... يقوده لرشده هديه

وقال:

البخت أفضل ما يؤتى الفتى فإذا ... يفوته البخت لا ينفك يتضع

يكفيك في البخت تيسير المور وأن ... يكون ما ليس ترضى عنك يندفع

وقال:

افعل الخير ما استطعت ففعل ال ... خير ذكر لفاعليه وذخر

وتواضع تنل علاء وعزاً ... فاتضاع النفوس عز وفخر

وقال:

صديق المرء درهمه ... به ما دام يعظمه

فصنه ما استطعت ولا ... تكن في اللهو تعدمه

ففقر المرء ميتته ... لذا تغدو فترحمه

وقال:

لا تقرب ما اسطعت خل عدو ... فخليل العدو حلف عداوه

وتحفظ منه وداره وانظر ... هل ترى من سيماه إلا القساوة

وقال:

لا تعد ذكر ما مضى فهو أمر ... قد تقضى وقد مضى لسبيله

وتكلم فيما تريد من الآ ... تي ودبر للشيء قبل حلوله

وقال:

قساوة المرء من شقائه فإذا ... يلين ساد بلا أين ولا نصب

 

لا يرحم الله إلا الراحمين، فمن ... يرحم ينل رحمة في كل منقلب

وقال:

جئ بالسماح إذا ما جئت في غرض ... ففي العبوس لدى الحاجات تصعيب

سماحة المرء تنبي عن فضيلته ... فلا يكن منك مهما اسطعت تقطيب

وقال:

لا تسامح يوماً دنياً إذا ما ... قال في فاضل كلاماً رديا

إن قصد الدني إنزال أهل ال ... فضل حتى يرى عليهم عليا

وقال:

خذ من القول بعضه فهو أولى ... وتحفظ مما يقول العداة

ربما تأخذ الكلام بجد ... وهو هزل قد نمقته عدات

فاحترز من غرور الاقوال واعلم ... أن الاقوال بعضها كذبات

وقال:

نافس الأخيار كيما ... تحرز المجد الأثيلا

لا تكن مثل سراب ... ريء لم يشف غليلا

إنما أنت حديث ... فلتكن ذكراً جميلا

وقال:

الصمت عز حاضر ... وسلامة من كل شر

فإذا نطقت فلا تك ... ثر واجتنب قول الهذر

وحذار مما يتقى ... وحذار من طرق الغرر

 

وقال:

سلامة الإنسان في وحدته ... وأنسه فيها وفي حرفته

ما بقي اليوم صديق ولا ... من ترتجي النصرة في صحبته

فقر في بيتك تسلم ودع ... من ابتلي بالناس في محنته

وقال:

مطاوعة النساء إلى الندامه ... وتوقع في المهانة والغرامه

فلا تطع الهوى فيهن واعدل ... ففي العدل الترضي والسلامه

وقال:

كانت مشاورة الإخوان في زمن ... قول المشاور فيهم غير متهم

والآن قد يخدع الذي تشاوره ... إشماتاً أو حسداً يلقيك في الندم

فاضرع إلى الله فيما أنت تقصده ... يهديك للرشد في الأفعال والكلم

وقال:

عد عمن يراك تصغر عنه ... وتحفظ من قربه وأبنه

إن من لا يراك في الناس خيراً ... منه فالخير في التحفظ منه

وقال:

رزانة المرء تعلي قدره أبداً ... وطيشه مسقط له وإن شرفا

فاربأ بنفسك من طيش تعاب به ... وإن تكن حزت معه (138) العلم والشرفا

وقال:

الصدق عز فلا تعدل عن الصدق ... واحذر من الكذب المذموم في الخلق

من لازم الصدق هابته الورى وعلا ... فالزمه دأباً تفز بالعز والسبق

وقال:

ليس التفضل يا أخي أن تحسنا ... لأخ يجازي بالجميل من الثنا

إن التفضل أن تجازي من أسا ... لك بالجميل وأنت عنه في غنى

وقال:

من واصل اللذات لا بد أن ... تعقبه منها الندامات

فخذ من اللذات واترك ولا ... تسرف ففي الإسراف آفات

وقال:

دع معجباً بنفسه ... في غيه ولبسه

لا يقبل النصح لها ... من نخوة برأسه

فخله لكيده ... وعجبه بنفسه

وقال:

عتب الصديق دلالة ... منه على صدق المودة

فإذا يقول فقصده ال ... تنزيه عما قام عنده

فاحلم إذا عتب الصديق ... ولا تخيب فيك قصده

وقال:

ترتجى (139) في النوائب الإخوان ... هم لدى كل شدة أعوان

فإذا لم يشاركوا فسواء ... هم والأعداء كيفما قد كانوا

وقال:

انصر أخاك على علاته أبداً ... تهب وتسلك سبيل العز والظفر

ولا تدعه إلى الإشمات مطرحاً ... فإن ذلك عين الذل والصغر

وقال:

من عز كانت له الأيام خادمة ... تريه آماله في كل ما حين

ومن يهن أولغت فيه المدى وأرت ... له النوائب في أثوابها الجون

وقال:

خل المنجم يهذي في غوايته ... واقصد إلى الله رب النجم والفلك

لو كان للنجم حكم لم تجد أحداً ... يخالف النجم إلا انهد في درك

وقال:

حماية المرء لمن يصحب ... تدل أن أصله طيب

لا خير فيمن لا يرى ناصراً ... صديقه وهو له ينسب

وقال:

يا عاتباً من لا له همة ... ألا اتئد إلى متى تعتب

هل يسمع الميت أو يبصر ال ... أعمى محال كل ما تطلب

وقال:

لا يعرف الفضل لأهل الفضل ... إلا أولو الفضل من أهل العقل

هيهات يدري الفضل من ليس له ... فضل، ولو كان من أهل النبل

 

وقال:

لا تطلب المرء بما اعتدت من ... أخلاقه والمرء في وهن

تنتقل الأخلاق لا شك مع ... تنقل الحالات والسن

وقال:

لا تعامل ما عشت غيرك إلا بالذي أنت ترتضيه لنفسك

ذاك عين الصواب فالزمه فيما تبتغيه من كل أبناء جنسك

وقال:

باعد الناس يوالوكا واعتزل عنهم يهابوكا

فإذا ما تصطفيهم وقعوا فيك وعابوكا

وقال:

إياك لا تخذل الصديقا وارع له العهد والحقوقا

نصرته ما قدرت عز تمهده للعلا طريقا

فلا تسامح به عدواً وكن له ناصراً حقيقا

وقال:

حدث جليسك ما أصغى إليك، فإن تراه يعرض فاقطع عنه وانصرف

خفف فقد يضجر الذي تجالسه طول المقام أو التحديث في سرف

وقال:

جماع الخير في ترك الظهور ... وإظهار التواضع والبرور

وفي أضدادها من غير شك ... جميع وجوه أنواع الشرور

 

وقال:

محبة الدرهم طبع البشر ... فاقنع من المرء بما قد حضر

وقس على نفسك في بذله ... تقف على تحقيق عين الخبر

وقال(140):

لا يلم غير نفسه كل من قد ... عرض النفس أن تهان فذلا

ينظر العاقل الأمور فيأبى ... أن يرى منه غير ما هو أولى

وقال:

أعذر الناس من أتته المضره ... من أخ كان يرتجي منه نصره

مثل من (141) غص بالشراب ف ... كان الهلك فيما رجاه يدفع ضره

وقال:

سلم تعش سالماً مما يقال ... من يعترض يعترض في كل حال

نقد الفتى غافلاً عن عيبه ... لا يرتضى عند (142) أرباب الكمال

وقال:

تواضع المرء ترفيع لرتبته ... وكبره ضعة من غير ترفيع

في نخوة الكبر ذل لا اعتزاز له ... وفي التواضع عز غير مدفوع(143)

وقال:

إياك لا تنكر فضيلة كل من ... تدري فضيلته فترمى بالحسد

إنكارها يجني عليك تنقصاً ... ويزيده شرفاً يديم لك الكمد

وقال:

انصر أخاك ما استطعت فإنما ... تعتز بالإخوان ما عزوا

من يخذل الإخوان يخذل نفسه ... ويهن وما لهوانه عز وقال:

إذا جزاك بسوء من أسأت له ... فذاك عدل وما في العدل من زلل

جزاء سيئة بالنص سيئة ... لا حيف في ذاك في قول ولا عمل

وقال:

نفس وشيطان ودنيا والهوى ... يا رب سلم من شرور الأربعة

أنت المخلص من رجاك وإنني ... أرجوك فيما أتقي أن تدفعه وقال:

لا تعظم يا أخي نف ... سك إن شئت السلامه

من يعظم نفسه يج ... ن امتهاناً وملامه

فتواضع تلق عزاً ... واحتفاء وكرامه وقال:

دع لذة الدنيا فمن يبتلى ... بحبها ذاق عذاب السموم

لذاتها حلم، وأيامها ... لمح، ولكن كم لها من هموم

محبة الدنيا هلاك، فمن ... يرومها أهلكه ما يروم

 

 

وقال:

كل خل يعد ما أنت تخطي ... لا تعول على صفاء وداده

إنما الخل من تناسى خطايا ... ك ويبقى له جميل اعتقاده

وقال:

من عامل الناس بالإنصاف شاركهم ... في مالهم وأحبوه بلا سبب

إنصافك الناس عدل لا تزال به ... تعلو إلى أن ترى في أرفع الرتب

وقال:

قل جميلاً إن تكلمت ولا ... تقل الشر فعقبى الشر شر

من يقل خيراً ينل خيراً، ومن ... يقل الشر إذاً يخشى الضرر

وقال:

إذا التأمت أمورك بعض شيء ... بأرضك فاستقم فيها ولازم

فما في غربة الإنسان خير ... وما بالغربة الدنيا تلايم

وقال:

إلى متى تسرح مرخى العنان ... قل يا أخي حتى متى ذا الحران

ارجع إلى الله وخل الهوى ... فما الهوى يا صاح إلا هوان

قد انذر الشيب فهل سامع ... أنت فمصغ للذي قد أبان

وقال:

من يكفر النعمة لا بد أن ... يسلبها من حيث لا يشعر

ومن يكن يشكرها معلناً ... دامت له نامية تكثر

 

وقال:

اعذر أخا الفقر في أن ... يضيق ذرعاً بنفسه

الفقر موت، ولكن ... من للفقير برمسه

إن الفقير لميت ... ما بين أبناء جنسه

وقال:

كما تدين أنت يا صاحبي ... تدان فاعمل عمل الفاضل

أنت كما أنت فخل الذي ... تزين النفس من الباطل

وأين أنت ثم أنت أدر ذا ... حسبك فاحذر زلل العاقل

وقال:

مالك ما أنفقته قربة ... لله، والباقي حساب عليك

فقدم المال ترد آمناً ... من بعده وهو ثواب لديك

وقال:

دع مدح نفسك إن أردت زكاءها ... فبمدح نفسك من مقامك تسقط

ما أنت تخفضها يزيد علاؤها ... والعكس، فانظر أيما لك أحوط

وقال:

ذو النقص يصحب مثله ... فالشكل يألف شكله

فاصحب أخا الفضل كيما ... تقفو بفعلك فعله

أما ترى المسك دأباً ... يكسب طيباً محله

وقال:

من عيني المرء يبدو ما يكتمه ... حتى يكون الذي يرعاه يفهمه

ما يضمر المرء يبدو من شمائله ... لناظر فيه يهديه توسمه

وقال:

إنما الدنيا خيال ... وأمانيها خبال

حبها سكر، ولكن ... وصلها ما أن ينال

فتنزه عن هواها ... فهوى الدنيا ضلال

وقال:

قلما يؤذيك من لا يعرفك ... فتحفظ من صديق يألفك

لا تثق بالود ممن تصطفي ... كم صديق تصطفيه يتلفك

وقال:

لا تضجرن بالأمور وارض بما ... يقضي به الله فهو مكتتب

ما قدر الله لا مرد له ... فما يفيد العناء والتعب

وقال:

تنزه عن دنيات الأمور ... وخذ بالحزم في الأمر الخطير

فأشراف الأمر لها جمال ... وخطر في البهاء وفي الظهور

وفي سفسافها لا شك وهن ... وتمهين يشين مدى الدهور

وقال:

من يبتلى من أهله بمنغص ... يصبر، فما أحد بغير منغص

من أزمنت بالوجه منه قرحة ... يعزم على ضرر يشين مخصص

وقال:

من كان في عزته داره ... وكرر المشي إلى داره

قبل يدا تعجز عن قطعها ... ولن لمن تخشى من أضراره

وقال:

لا تبتغ النعمة من جائع ... لم يرها قبل لآبائه

لا يرشح الإناء ما لم يكن ... ملآن قد أفعم من مائه

وقال:

مروءة المرء رأس ماله ... وصونه أشرف اعتماله

من لم يصن نفسه تردى ... وزال عن رتبة اكتماله

وقال:

ترك المطامع عزه ... واليأس أهنا وأنزه

هيهات يعتز مثر ... أضحى للأطماع نهزه

نزاهة النفس عز ... ما ذل من يتنزه وقال:

تعظيمك الناس تعظيم لنفسك في ... قلوب الأعداء طراً والأوداء

من يعظم الناس يعظم في النفوس بلا ... مؤونة وينل عز الأعزاء

وقال:

اقنع من الناس بمقدار ما ... يعطون لا تبتغ منهم مزيد

حسبك من كل امرئ قدر ما ... يعطيك فالأطماع ما إن تفيد

وقال:

لن إذا كانت الأمور صعابا ... وتواضع لها تجدها قرابا

دار من شئت تنتفع منه واترك ... صولة الكبر فهي تجني عذابا

لا تكن تأخذ الأمور بعنف ... من يعاني الأمور بالعنف خابا

وقال:

سامح الناس إن أساؤوا إليكا ... وتغافل إذا تجنوا عليكا

ما ترى كيف أنت تعصي ومولا ... ك يزيد الإنعام دأباً لديكا

وقال:

اغتنم ساعة الأنس ... وانس ما كان بالأمس

ليس للمرء من الدن ... يا سوى راحة نفس

من يكن حلف هموم ... باع دنياه ببخس

وقال:

حبك الشيء يغطي قبحه ... فتراه حسناً في كل حال

لا يرى المحبوب إلا حسناً ... كان قبح فيه مع ذا أو جمال

حتم (144) الحب على ذي الحب أن ... لا يرى المحبوب إلا في كمال

وقال:

يحسب الناقص أن الناس قد ... غفلوا عن حاله في ضعته

لا يرى الناقص إلا أنه ... كامل من نعته في صفته

غلط المرء يغطي عقله ... أن يرى النقص الذي في جهته (145)

وقال:

أيام عمرك هذي ... ساعاتها رأس مالك

فاحرص على الخير فيها ... قبل أوان ارتحالك

فإنما أنت طيف ... تجتاب سبل المهالك

وقال:

تجد الناس على النقص ولا ... تجد الكامل إلا من ومن

زمن الباطل وافى أهله ... وكذاك الناس أشباه الزمن

وقال:

قل جميلاً إذا أردت الكلاما ... تجن عزاً مهنأ مستداما

إن قول القبيح يورث بغضاً ... وصغاراً عند الورى وملاما

وقال:

حسن الظن تعش في غبطة ... إن حسن الظن من أوقى الجنن (146)

من يظن السوء يجزى مثله ... قلما يجزى قبيح بحسن وقال:

إن تبغ إخوان الصفاء فهم ... تحت التراب انتقلوا للقبور

إخوانك اليوم كأزمانهم ... مشتبهون في جميع الأمور

وقال:

ومستقبح من أخ خلة ... وفيه معايب تسترذل

كأعمى يخاف على أعور ... عثاراً وعن نفسه يغفل

وقال:

من يبتغ الود من الناس ... يكن لما قالوه بالناسي

أغض عن الناس تنل ودهم ... إنك لا تغنى عن الناس

وقال:

أعيت مع الناس الحيل ... وبار فيهم العمل

في أي وجه أملوا ... يخيب منهم الأمل

فآثر العزلة عن ... هم تنج من كل خلل

وقال:

لا ترج غير الله في شيء تنل ... ما تبتغيه وتكف كل تخوف

الله أعظم من رجوت فثق به ... فهو الذي أعطى وأنجى من كفي

وقال:

توسل إلى الله في كل ما ... تحب بمحبوبه المصطفى

تنل ما تحب كما تبتغي ... وحسبك جاهاً به وكفى

انتهى ما لخصت واخترت من الكتاب المذكور.

وهذه نبذة من كتابه (147) " الأبيات المهذبة في المعاني المقربة " فمن ذلك قوله:

اكتم السر واجعل الصدر قبره ... لا تبح ما حييت منه بذره

أنت ما لم تبح بسرك حر ... فإذا بحت صرت عبداً بمره

من يرد أن يعيش عيشاً هنيئاً ... يتحفظ مما عسى أن يضره

 

وقال:

عداوة العاقل مع عسرها ... آمن من صداقة الأحمق

يمكن الأحمق من نفسه ... عمداً ومن أحبابه يتقي

لا يحفظ الأحمق خلاً ولا ... يرضاه للصحبة إلا شقي

وقال:

إذا أمعنت في الدنيا اعبتاراً ... رأيت سرورها رهن انتحاب

بعاد عن تدان، وافتقار ... عن استغنا، وشيب عن شباب

حياة كلها أضغاث حلم ... وعيش ظله مثل السراب

وقال:

من تره يسرف ماله ... يتلفه في لذة وانهماك

فذلك المغبون في رأيه ... يسلك بالنفس سبيل الهلاك

وقال:

من لا يرى في الناس قاصرة ... عن الكمالات لم يكمل له أدب

ومن يكن راضياً عن نفسه أبداً ... فذاك غر عن الآداب محتجب

آداب الإنسان تحقيقاً تواضعه ... وجريه دائماً على الذي يجب

وقال:

يحق الحق حتماً دون شك ... وإن كره المشكك والملد

صريح الحق قد يخفى ولكن ... بعيد خفائه لا شك يبدو

وقال:

كل ما قد فات لا رد له ... فلتكن عن ذاك مصروف الطمع

أيعود الحسن من بعد الصبا ... قلما أدبر شيء فرجع

وقال:

اغتنم غفلة الزمان وبادر ... لذة العيش ما بقيت سليما

أمر هذي الحية أيسر من أن ... تغتدي فيه لائماً أو ملوما

وقال:

لا تغرنك صولة الجاه يوماً ... أو تظنن أنها تتمادى

صولة الجاه لفح نار ولكن ... كل نار لا بد تلفى رمادا

وقال:

تنح عن الناس مهما استطعت ... ولا تك في الناس راغب

من اعتمد الناس يشقى ولا ... يرى غير منتقد عائب

وقال:

لا تقل يوماً أنا ... فتقاسي محنا

من يعظم نفسه ... يلق هونا وعنا

شر ما يأتي الفتى ... مدحه لو فطنا

وقال:

الناس إخوان ذي الدنيا وإن قبحت ... أفعاله، وغدا لا يعرف الدنيا

يعظمون أخا الدنيا وإن عثرت ... يوماً به أولغوا فيه السكاكينا

وقال:

العدل روح بها تحيا البلاد كما ... هلاكها أبداً بالجور ينحتم

 

الجور شين به التعمير منقطع ... والعدل زين به التمهيد ينتظم

يا قاتل الله أهل الجور كم خربت ... بهم بلاد وكم بادت بهم أمم

وقال:

اليأس أسلى وأغنى ... من نيل ما يتمنى

يسلو أخو اليأس حتى ... يهنا ولا يعنى

لليأس برد فمن لم ... يذقه لم يتهنا

وقال:

إذا عظمت نفس امرئ صار قدره ... حقيراً، وحيث احتل فالذل صاحبه

يسود ويعلو ذو التواضع دائماً ... ويحظى كما يرضى وتقضى مآربه

وقال:

ود من يصطفيك للنفع زور ... والجميل الذي يريك غرور

إنما الود ود من ليس يخشى ... فيك ممن يلوم أو من يضير

وقال:

اشكر لمن والاك معروفا ... تكن بفضل النفس معروفا

شكر أخي المنة عدل فكن ... بالعدل مهما اسطعت موصوفا

من يكفر الإحسان لا بد أن ... يلفى عن الإحسان مصروفا

وقال:

حسب الإنسان ماله ... وهو في الدنيا كماله

يضجر الفقر أخا الح ... لم وإن طال احتماله

عزة المرء غناه ... وبه تحسن حاله

 

وقال:

لا تصاحب أبداً من ... عقله غير متين

إن نقص العقل داء ... يتقى مثل الجنون

صحبة الأحمق عار ... لاحق في كل حين

وقال(148):

وافق الناس إن أردت السلامه ... إن روح الوفاق روح كرامه

من يوافق يعش هنيئاً قريراً ... آمناً من أذية وملامه

فتوق الخلاف واحذر أذاه ... فركوب الخلاف عمداً ندامه

وقال:

ظلمات الخطوب مهما ادلهمت ... يجلها كالصباح فجر انفراج

أرح النفس لا تبت حلف هم ... كم هموم فيها السرور يفاجئ

وقال:

من لم يكن يقصد أن يحمدا ... يعش هنيئاً وينل أسعدا

من يبتغي المدحة لا بد أن ... يلحقه الذل وأن يجهدا

عيش الفتى في ترك تقييده ... وموته البحت إذا قيدا

وقال:

قل لأهل الحاجات مهما ابتغوها ... حسبكم ما أتى من التنبيه

إن تريدوا الحاجات من غير بطء ... فاطلبوها عند الحسان الوجوه

وقال:

خذ الأمور برفق واتئد أبداً ... إياك من عجل يدعو إلى وصب

الرفق أحسن ما تؤتى الأمور به ... يصيب ذو الرفق أو ينجو من العطب

من يصحب الرفق يستكمل مطالبه ... كما يشاء بلا أين ولا تعب

وقال:

من يبتغي السؤدد لا بد أن ... يرهقه الجهد فلا يضجر

يصعب إدراك المعالي فمن ... يرم لحاق بعضها يصبر

لا يحصل السؤدد هيناً ولا ... يظفر بالبغية إلا جري

وقال:

عاش في الناس من درى قدر نفسه ... ثم دارى جميع أبناء جنسه

علم الإنسان قدره نبل عقل ... وذكاء يبين عن فضل حدسه

وقال:

عظم الناس تنل تعظيمهم ... واجتنب تحقيرهم فهو الردى

من ير الناس بتحقير يكن ... عندهم مؤذى حقيراً أبدا

لا يغرنك إهمال امرئ ... ربما يؤذي الذباب الأسدا

وقال:

حب الرياسة يا له من داء ... كم فيه من محن وطول عناء

طلب الرياسة فت أعضاد الورى ... وأذاق طعم الذل للكبراء

إن الرياسة دون مرتبة التقى ... فإذا اتقيت علوت كل علاء

 

وقال:

لا تركنن إلى بشر ... إن شئت تأمن كل شر

ذهب الذين إذا ركن ... ت لهم أمنت من الضرر

لم يبق إلا شامت ... أو من يضر إذا قدر

وقال:

خل رأي الجهال ما اسطعت واتبع ... رأي أهل الحلوم والتجريب

لا تحد عن مشورة في مهم ... فهي مما تنمي حياة القلوب

رأي أهل الصلاح نور يجلي ... ظلمة الكرب في ليالي الخطوب

وقال:

لا يرتضي بالدون إلا امرؤ ... مقصر ذو همة خامله

الموت خير من حياة الفتى ... مهتضماً ذا رتبة سافله

روح حياة المرء من عزه ... من ذل مات الميتة العاجله

وقال:

استغن عمن تشاء ... فالله يغنيك عنه

من أمل الناس يشقى ... وليس يقنع منه

فإن ظفرت بحر ... فاحفظ عليه وصنه

وقال:

خذ من صديقك قدر ما يعطيكا ... لا تبغ أزيد واحذر أن يجفوكا

من يبغ مقدار الذي يحتاجه ... من أخيه يبق مخيباً متروكا

شأن الألى رزقوا الحجى أن يقنعوا ... فابغ القناعة إنها تغنيكا

وقال:

هن إذا عز أخوكا ... واخش أن يقرض فيكا

إن من عاند أقوى ... منه قد ضل سلوكا

نقص عقل أن تعادي ... بشراً لا يتقيكا

وقال:

تنزه ما حييت عن القبيح ... وخالف من يرى رد النصيح

وخذ بالحزم مهما اسطعت واحذر ... من أن يلقيك حزمك في فضوح

فلا تعدل عن الحق التفاتاً ... لغير الحق من بعد الوضوح

وقال:

لا تخف في الحق لوما ... صدقه ينجيك حتما

ينجلي الحق ويبدو ... نوره لا يتعمى

شأن ذي الحق اهتداء ... وأخو الباطل أعمى

وقال:

عامل بجد جميع الناس تحظ به ... وجنب الهزل إن الهزل يرديكا

الجد أحسن ما تبديه من خلق ... والجد أشرف ما في الناس يعليكا

من لازم الجد هابته النفوس ومن ... يهزل يكن أبداً في الناس مهتوكا

وقال:

كفاك الله شر من اصطفيتا ... وضر من اعتمدت ومن عرفتا

جميع الناس موتى عنك إلا ... معارفك الذين لهم ركنتا

تحفظ من قريب أو صديق ... وكن في الغير دهرك كيف شئتا

وقال:

من كان يرغب عن أحبابه ويرى ... تقريب أعدائه لا شك يهتضم

يدنى العدو فلا تدنو مودته ... هيهات كل معاد قربه ندم

فاحفظ صديقك واحذر أن تعاديه ... إن الصديق إذا عاديته يصم

وقال:

جامل عدوك كي يلين حقده ... فكيف بعض البعض من إيذائكما

واحفظ صديقك ما استطعت فإنه ... أدرى بطرق الضر من أعدائكا

وقال:

إذا ظفرت بمن أنحى عليك فخذ ... بالحلم فيه ودع ما منه قد فرطا

إن المسيء إذا جازيته أبداً ... بفعله زدته في غيه شططا

العفو أحسن ما يجزى المسيء به ... يهينه أو يريه أنه سقطا

وقال:

قاتل عدوك بالفضائل إنها ... أعدى عليه من السهام النفذ

كسب الفضائل عدة تعليك في ... رتب بها سبل السعادة تحتذي

فاحرص على نيل الفضائل جاهداً ... إن الفضيلة صعبة في المأخذ

وقال:

وعد الكريم وفاء ... تجنيه كيف تشاء

ما حال قط كريم ... ولا ثناه التواء

فأنجز الوعد مهما ... وعدت فهو الزكاء

وقال:

ليس الغنى عن كثرة الغرض ... إن الغنى في النفس إن ترض

رأس الغنى ترك المطامع عن ... زهد بلا ميل ولا غرض

فازهد تعش أغنى البرية في ... عز بلا هم ولا مضض

وقال:

زمن الفضائل قد مضى لسبيله ... ولوى بطيب العيش وشك رحيله

ركدت رياح الجد بعد هبوبها ... وعلا فريق الهزل بعد خموله

هيهات ما زمن الكرام وما هم ... ذهبوا وجد الدهر في تحويله

وقال:

مروءة المرء ثوبه ... والعري في الناس عيبه

بثوبه المرء يعلو ... قدراً ويحفظ قربه

من لم يصن ثوبه لم ... يصن وإن لاح شيبه

وقال:

لا تصخ ما بقيت حياً لقول ... ليس يجني عليك إلا المضره

واطرح ما أتاك منه وجنب ... من يرى بالفضول واتق ضره

وقال:

ثقيل تراه النفس في العين كالقذى ... وكالجبل الراسي على الصدر والقلب

تثير غموم المرء رؤية وجهه ... وتشكو جفاه الأرض شكوى ذوي الكرب

وقال:

أما ترى الأشجار مصفرة ... أوراقها كالشمس عند المغيب

ما هي إلا صفرة آذنت ... بأنها ترحل عما قريب

وقال:

كل ما تحب وتشتهي ... ودع الطبيب وما يرى

حفظ الغذاء مشقة ... ليست ترد مقدرا

كم عد من متحفظ ... كم صح ممن قصرا

كل التحفظ زائد ... لا بد مما قدرا

وقال:

من كان يأكل ما اشتهى ... ويرى مخالفة الطبيب

سيرى مضرة ما أتى ... بطراً ويندم عن قريب

إن التحفظ في الأمو ... ر لشيمة الفطن اللبيب

من لم يكن متحفظاً ... يخطي ويبعد أن يصيب

وقال:

وللحمام حاءات إذا ما ... ظفرت بها عثرت على النعيم

فحناء وحكاك مجيد ... وقل حجر يمر على الأديم

وحوض مفعم ماء لذيذاً ... وحجام على النهج القويم

وللحلق الحديدة حين تنمى ... وأطيبها حديث أخ كريم

وقال في الغزل، وهي آخر كتابه المذكور:

الله أكبر جلت فتنة البشر ... بنور غرتك المغني عن البصر

شمس تطلع في أفق الجمال لها ... نور تألق في داج من الشعر

ووردة الخد في أبراد سوسنها ... شقائق زانها التغليف بالدرر

ومسكة الخال فوق الخد شاهدة ... بأن إبداعها إحكام مقتدر

وهذه نبذة من كتابه " أنداء الديم في المواعظ والوصايا والحكم " وكل ما فيه كالذي قبله من نظمه رحمه الله تعالى، فمن ذلك قوله رحمه الله:

العلم نور وهدى ... فكن بجد طالبه

واحرص عليه واعتمد ... فيه الأمور الواجبه

من لازم العلم علا ... على الأنام قاطبه

وقال:

خالف النفس عند قصد هواها ... تبق ما عشت سالماً من أذاها

فاتباع الهوى هوان ولكن ... هان للنفس وكي تنال مناها

وقال:

من يخالف في شيء الناس يرجع ... هدفاً للسهام من كل راشق

كن مع الناس كيف كانوا، ووافق ... إن من لا يوافق الناس مائق

وقال:

أرح النفس تنتفع بحياتك ... واغنم العيش قبل يوم وفاتك

واطرح عيب من سواك، وسالم ... جملة الناس يغفلوا عن أذاتك

واعتبر بالذين بادوا، وبادر ... ما يدانيك من سبيل نجاتك

وقال:

سالم الناس ما استطعت، وجامل ... من يعاديك إن أردت السلامه

وتنزه عن القبيح وجنب ... من يرى بالفضول واحذر كلامه

 

وقال:

صديقي أنت ما أبقى بخير ... وموتي وغير محتاج إليكا

فإن أحتج إليك فأنت مني ... بريء لا صداقة لي عليكا

وقال:

من أنت عنه غني ... كن فيه مثل اعتقاده

فإن يكن منه ود ... فجازه بوداده

وإن يكن منه بعد ... فخله لبعاده

وقال:

عليك بنفسك لا تشتغل ... بشيء سواها وخل الفضول

تعش رائح القلب في غبطة ... فلا من يضر ولا من يقول

وقال:

اترك الفكر في الأمور ودعها ... فكما قدرت تكون الأمور

كل فكر وكل رأي وحزم ... غير مجد إذا جرى المقدور

وقال:

هون عليك خطوب الدهر إن لها ... نهاية والتناهي عنده الفرج

واصبر فإن لحسن الصبر عاقبة ... بصبحها ظلمة المكروب تنبلج

وقال:

احذر البخل إنه شر خلق ... يتحلى به وشر طريقه

من يجد غير مسرف فهو في النا ... س موقى تثني عليه الخليقه

وقال:

الذل في طلب الإفادة عزة ... فاحرص على نيل الإفادة ترشد

إن التعزز في الذي تحتاجه ... كبر، وكبر المرء أقبح مقصد

وقال:

دع من عرفت ولا تشدد عليه يداً ... وداره وتحفظ منه ما بقيا

أما ترى البلد الذي نشأت به ... محقراً كلما أصبحت معتليا

وغيره من بلاد الله قاطبة ... يعليك، لا سيما إن كنت متقيا

وقال:

ينبغي للذي تحلى بعقل ... أن يرى كالبازي مدة عمره

بين أيدي الملوك أو في فلاة ... خيفة من شرور أبناء دهره

وقال:

العزل يضحك ذله ... من تيه سلطان الولايه

فإذا وليت فسر على ... نهج الدماثة والرعايه

واقصد مداراة الورى ... واحذر كيود ذوي السعايه

وقال:

لا تقبل الحكم على بلدة ... نشأت فيها، إنه يحقد

رياسة المرء على الأهل وال ... جيران والخلان لا تحمد

وقال:

هي الدنيا إذا فكرت فيها ... رأيت نعيمها سماً نقيعا

فلا تحفل بها واحذر أذاها ... فإن لسمها قتلاً ذريعا

ولا تأسف على ما فات منها ... وبادر في حياتك أن تطيعا

وقال:

كن وحيداً ما عشت تحيا بخير ... سالماً من شرور كل البريه

إن من لا يخالط الناس يبقى ... دهره لا تعروه منهم أذيه

وقال:

لا تبح ما حييت يوماً بسر ... لصديق ولا لغير صديق

إن سراً يجاوز الصدر فاش ... يدريه العدا ومن في الطريق

وقال:

لا تصاحب ما عشت إلا الكبارا ... تنم ذكراً وتعتلي مقدارا

إن من ماشى في طريق حقيراً ... يكتسي منه مهنة واحتقارا

فتحفظ من أن تؤاخي دنياً ... فهو يعديك ذلة وصغارا

وقال:

محدثات الأمور أردى الشرور ... فتحفظ من محدثات الأمور

إنما المحدثات غي فدعها ... واجتهد أن ترى مع الجمهور

كل من يتبع الحوادث يشقى ... ويرى نفسه بغير نظير

وقال:

من تفضلت عليه ... أنت لا شك أميره

ومن احتجت إليه ... أنت بالرغم أسيره

ومن استغنيت عنه ... أنت في الدنيا نظيره

 

 

 

وقال:

لم يبق من يطمع في وده ... كلا ولا من ترتضى صحبته

الناس أشباه ذئاب فهل ... يعلم ذئب حسنت عشرته

من يبتغي اليوم صديقاً كما ... يرضى فقد زلت به بغيته

وقال:

فاعل الخير موقى كل ما ... يتقي من ضر أو من فتنة

ليس يخشى فاعل الخير أذى ... إن فعل الخير أوقى جنة

وقال:

تحفظ من صديقك في أمور ... فربتما يضر بك الصديق

من اعتمد الصديق ولم يبال ... يصبه الضر وهو به خليق

وقال:

لا تركنن لمخلوق وكن أبداً ... ممن توكل في الدنيا على الله

ولا تمل لسواه ما حييت فمن ... يرجو سوى الله هاو حبله واهي

وقال:

طلب الغاية اتباع غوايه ... فاعتمد في الأمور ترك النهايه

من يكن راضياً بما يتسنى ... عاش عيش الملوك دون أذايه

وقال:

لا تعتمد أبداً على مخلوق أن ... تبغ النجاح (149) وتقصد الرشدا

من يرج غير الله يحرم رشده ... ويذل وهو مخيب قصدا

وقال:

سفر المرء قطعة من عذابه ... فيه تخليق جسمه وثيابه

إنما العيش للفتى بين أهل ... هـ وخلانه وفي أحبابه

من يرده بخير الله يكفى (150) ... كرب تجواله وذل اغترابه

وقال:

سلم ولا تعترض يوماً على أحد ... إن شئت تسلم من حقد وأضرار

من يعترض يعترض لا شك وهو حر ... بذاك فالشر مقدار بمقدار

وقال:

إن الصديق لعون ... في كل ما تبتغيه

فلا تسئ لصديق ... واحذر وقوعك فيه

فالمرء قيل كثير ... بنفسه وأخيه وقال:

افعل الخير ما استطعت تنل ما ... تبتغيه من الثناء الجميل

فاعل الخير آمن ليس يخشى ... صرف دهر ولا حلول جليل

وقال(151):

بحق الحق حتماً دون شك ... وإن كره المشكك والملد

صريح الحق قد يخفى، ولكن ... بعيد خفائه لا شك يبدو

وقال:

إن شئت عزاً دائماً ... فاسلك سبيل من اقتنع

إن القناعة عزة ... والذل عاقبة الطمع

المرء إن قنع اعتلى ... قدراً وإن طمع اتضع

وقال:

استعن في الأمور بالكتمان ... وتحفظ من شر كل لسان

كل ما لا يدرى من أمرك فضل ... ليس فيه شيء من الخسران

وقال:

من مال عنك بشبر ... مل أنت عنه بميل

فالله يغنيك عنه ... فمنه كل جميل

فليس في الود خير ... مع ترك حسن القبول

وقال:

لا تقطعن صديقاً ... وإن يضق بك صدرا

واحرص عليه وزده ... إن يجف براً وشكرا

فإن قطع صديق ... لا شك يعقب ضرا

وقال:

خل التأنق في اللباس وسر على ... نهج الأفاضل في اختصار الملبس

إن التأنق في اللباس يكثر ال ... حساد والأعداء للمتلبس

فالبس كمثل الناس لا تخرج عن ال ... معتاد في شيء فتخطي أو تسي

 

وقال:

لا تحقرن عدواً ... ولو يكون كذره

واحذره ما اسطعت واجهد ... أن لا تحرك شره

إن البعوضة تؤذي ال ... ملوك فوق الأسره

وقال:

ما أهنأ الإنسان في عيشه ... ما بين أهليه وفي منزله

الذل في الغربة يا كربها ... وكرب من قوض عن معقله

وفي اقتلوا أو اخرجوا شاهد ... ساوى خروج المرء مع مقتله

وقال:

المال يستر عيب النرء فاقتنه ... واحفظه تبق موقى مدة الزمن

من ضيع المال أبدى عيبه وجنى ... تمهينه أبداً من كل ممتهن

وقال:

سريرة المرء تبديها شمائله ... حتى يرى الناس ما يخفيه إعلانا

فاجعل سريرتك التقوى ترى أملاً ... في كل ما أنت تبغيه وبرهانا

وقال:

ما تمت الدنيا لشخص ولا ... أمل ذا فيها سوى من فتن

عادتها الفتك بمن رامها ... وكل من أعرض عنها أمن

فلا تغرنك بلذاتها ... فإن من غر بها قد غبن

وقال:

لا يكن عندك الخديم نديماً ... إن قدر الخديم دون النديم

من ينادم خديمه يتأذى ... ويصير الخديم غير خديم

إنما يصلح الخديم ابتعاد ... واشتغال بشأنه المعلوم

وقال:

تثبت في الأمور ولا تبادر ... لشيء دون ما نظر وفكر

قبيح أن تبادر ثم تخطي ... وترجع للتثبت دون عذر

وقال:

كن في زمانك كيف يرضى أهله ... لاتعد طورهم ولا تتبدل

فإذا ترى الحمقى تحامق معهم ... وإذا ترى العقلاء فلتتعقل

من لم يكن أبداً كأهل زمانه ... يشقى، ولا يحظى بنيل مؤمل

وقال:

الفاضل اليوم غريب بلا ... عون على شيء من الحق

إن غاب لم يحضر وإن قال لم ... يسمع يؤبه بما يلقي

ما أضيع الفاضل يا ويحه ... كأنه ليس من الخلق

وقال وهو آخر أنداء الديم:

لعز عاقبة التقى ... والذل عاقبة الرياسه

فإذا اتقيت علوت في ... أهل المجادة والنفاسه

وإذا رأست نزلت في ... طرق التخلق والسياسه

فلتختر التقوى ولا ... ترأس فتخطيك الكياسه

وكان تاريخ فراغه من كتاب أنداء الديم نصف شعبان عام واحد وثلاثين وسبعمائة.

ولنذكر يعض أناشيده التي كان ينشدها أهل مجلسه ببلد قصبة المرية أعادها

 

الله تعالى، فمما أنشده رحمه الله تعالى لأبي العباس أحمد بن العريف صاحب " محاسن المجالس " (152) :

من لم يشاور عالماً بأصوله ... فيقينه في المشكلات ظنون

من أنكر الأشياء دون تيقن ... وتثبت فمعاند مفتون

الكل تذكار لمن هو عالم ... وصوابها بمحالها معجون

والفكر غواص عليها مخرج ... والحق فيها لؤلؤ مكنون

وأنشد رحمه الله تعالى من وجادة:

أعوذ بالله من أناس ... تشيخوا قبل أن يشيخوا

احدودبوا وانحنوا رياء ... فاحذرهم إنهم فخوخ

وأنشد لنفسه رحمه الله تعالى:

أقلل العشرة تغبط ... إن من أكثر ينحط

وعليك الصدق واحذر ... أن ترى في القول تشتط

والزم الصمت إذا ما ... خفت أن تلحى فتغلط

فعلى الفاضل يلفى ... كل مفضول مسلط

وأنشد لنفسه أيضاً:

جنة العالم لا أد ... ري إذا ما احتاج حنه

فإذا ما ترك الجن ... ة بانت فيه جنه

فالزم الجنة تسلم ... إنما الجنة جنه

وأنشد للحلاج رحمه الله تعالى (153) :

يا بدر يا شمس يا نهار ... أنت لنا جنة ونار

تجنب الإثم فيك إثم ... وخشية العار فيك عار

يخلع فيك العذار قوم ... فكيف من لا له عذار

وأنشد مما ينسب للحلاج أيضاً:

سقمي في الحب عافيتي ... ووجودي في الهوى عدمي

وعذاب ترتضون به ... في فمي أحلى من النعم

ما لضر في محبتكم ... عندنا والله من ألم

وأنشد لسيدي أبي العباس ابن العريف في محاسن المجالس وهي أحسن ما قيل في طول الليل (154) :

لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى

لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلا

إن العاشقين عن قصر اللي ... ل وعن طوله من الفكر شغلا

وأنشد رحمه الله تعالى مما أنشده بعض الوعاظ الغرباء:

عانقت لام صدغها صاد لثمي ... فأرتها المرآة في الخد لصا

فاسترابت لما رأت ثم قالت ... أكتاباً أرى ولم أر شخصا

قلت بالكشط ينمحي، قالت اكشط ... بالثنايا وتابع الكشط مصا

ثم لما ذهبت أكشط قالت ... كان لصاً فصار والله فصا

قلت إن الفصوص تطبع باللث ... م على خد كل من كان رخصا

وأنشد لابن خفاجة:

وأغر كاد لطافة وطلاقة ... ينساب ماء بيننا مسكوبا

قد قام في سطر الندامى فاستوى ... فحسبته ألفاً به مكتوبا

وأكب يشربها وتشرب ذهنه ... فرأيت منه شارباً مشروبا

مشمولة بينا ترى في كفه ... ماء ترى في خده ألهوبا

وأنشد لابن عبد ربه صاحب العقد مما نسبه له الفتح في " مطمح الأنفس ومسرح التأنس " (155):

يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقا ... ورشاً بتقطيع القلوب رفيقا

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... دراً يعود من الحياء عقيقا

وإذا نظرت إلى محاسن وجهه ... ألفيت وجهك في سناه عريقا

يا من تقطع خصره من رقة ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا

وأنشد لابن عبد ربه أيضاً:

ودعتني بزفرة واعتناق ... ثم قالت: متى يكون التلاقي

وتصدت فأشرق الصبح منها ... بين تلك الجيوب والأطواق

يا سقيم الجفون من غير سقم ... بين عينيك مصرع العشاق

إن يوم الفراق أفظع يوم ... ليتني مت قبل يوم الفراق

وأنشد له أيضاً:

هيج البين دواعي سقمي ... وكسا جسمي ثوب الألم

أيها البين أقلني مرة ... فإذا عدت فقد حل دمي

يا خلي الذرع نم في غبطة ... إن من فارقته لم ينم

ولقد هاج لقلبي سقماً ... حب من لو شاء داوى سقمي

وأنشد للمصحفي (156) :

صفراء تطرق في الزجاج، فإن سرت ... في الجسم دبت مثل صل لادغ

عبث الزمان بجسمها فتسترت ... عن عينه برداء نور سابغ

خفيت على شرابها فكأنما ... يجدون رياً في إناء فارغ

وأنشد لابن شهيد (157) :

هب من رقدته منكسراً ... مسبل للكم مرخ للردا

يمسح النعسة عن عيني رشاً ... صائد في كل يوم أسدا

شربت أعطافه خمر الصبا ... وسقاه الحسن حتى عربدا

رشأ بل غادة ممكورة ... عممت صبحاً بليل أسودا

أححت (158) من عضتي في نهدها ... ثم عضت حر وجهي (159) عمدا

فأنا المجروح من عضتها ... لا شفاني الله منها أبدا

وأنشد لصفوان بن إدريس:

حمى الهوى قلبه وأوقد ... فهو على أن يموت أو قد

وقال عنه العذول سال ... قلده الله ما تقلد

وباللوى شادن عليه ... جيد غزال ولحظ فرقد

علله ريقه بخمر ... حتى انتشى طرفه فعربد

لا تعجبوا لانهزام طرفي ... فجيش أجفانه مؤيد

أنا له كالذي تمنى ... عبد، نعم، عبده وأزيد

إن بسملت عينه لقتلي ... صلى فؤادي على محمد

وأنشد لأبي علي إدريس بن اليماني:

علقته شادناً صغيراً ... وكنت لا أعشق الصغارا

يسفر عن مستنير وجه ... صير جنح الدجى نهارا

لم أر من قبل ذاك ماء ... أضرم فيه الحياء نارا

وأنشد للرمادي، أو لابن برد القرطبي (160) :

لما بدا في لازور ... دي الحرير وقد بهر

كبرت من فرط الجما ... ل وقلت: ما هذا بشر

فأجابني: لا تنكروا ... ثوب السماء على القمر

وأنشده من وجادة:

يا ذا الذي عذب محبوبه ... أنخت عيس العز مغنى الهوان

لم ينبت الشعر على خده ... بل دب في أصداغه عقربان

رفقاً على نفسك لا تفنها ... فجوهر الأنفس در يصان

وأنشد من حديقة ابن يربوع:

غزا القلوب غزال ... حجت إليه العيون

خطت بخديه نون ... وآخر الحسن نون

وأنشد من وجادة:

أودع فؤادي حرفاً أو دع ... ذاتك تؤذى، أنت في أضلعي

وارم سهام اللحظ أو كفها ... أنت بما ترمي مصاب معي

موقعها قلبي، وأنت الذي ... مسكنه في ذلك الموضع

وأنشد من حديقة ابن يربوع:

يخط الشوق شخصك في ضميري ... على بعد التزاور خط زور

وتدنيك الأماني من فؤادي ... دنو البرق من لمح البصير

فلا تذهب فإنك نور عيني ... إذا ما غبت لم تطرف بنور

وأنشد للوزير المصحفي:

لعينيك في قلبي على عيون ... وبين ضلوعي للشجون فنون

لئن كنت صباً مخلقاً في يد الهوى ... فحبك غض في الفؤاد مصون

نصيبي من الدنيا هواك، وإنه ... عذابي، ولكني عليه ضنين

وأنشد لصالح بن شريف:

أيها العاذل بالله اتئد ... لك قلب في ضلوعي أو كبد

هي أجفاني فذرها تنهمي ... هي أحشائي فدعها تتقد

لا تظن الحب شيئاً هيناً ... ليس في الحب قياس يطرد

أنت خلو وأنا صب شج ... فإذا حدثت عني قل وزد

فاترك اليوم ملامي إنه ... يترك الشيء إذا ما لم يفد

أنا أسلو عن حبيبي ساعة ... يا عذولي، قل هو الله أحد

وأنشد له أيضاً:

وافى وقد زانه جمال ... فيه لعشاقه اعتذار

ثلاثة ما لها شبيه: ... الوجه والخد والعذار

فمن رآه رأى رياضاً ... الورد والآس والبهار

وأنشد من " حديقة " ابن يربوع:

عليك بإكرام وبر لستة ... من الناس واحذر شرهم وتوقه

طبيب وحجام وشيخ وشاعر ... وصاحب ديوان ومن يتفقه

وأنشد لبعض الصوفية:

ما ترى عند أحمق ... في أمور توسطا

بل تراه في أمره ... مفرطاً أو مفرطا

وأنشد لبعض الأدباء (161) :

الصبر أولى بوقار الفتى ... من قلق يهتك ستر الوقار

من لازم الصبر على حالة ... كان على أيامه بالخيار

ولنقتصر من ترجمة ابن ليون على هذا القدر، فقد حصلت الإطالة، بل ونكتفي من مشايخ لسان الدين بمن ذكرنا.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ترجمة ابن الجياب في الكتيبة الكامنة: 183 ونيل الابتهاج: 193 ونثير فرائد الجمان: 239 (رقم: 6) ودرة الحجال 2: 435 والديباج المذهب: 207 والإحاطة: 330 (وهي موجزة) .

(2) ليس بعشك فادرجي: مثل يقال في من يدخل نفسه في ما لا يعنيه.

(3) ص ق: جيادي.

(4) سقط البيت من ق.

(5) انظر نثير فرائد الجمان: 241.

(6) نثير: تجرر نخوة.

(7) ق: فوحقها.

(8) ق ونثير: بفنونها.

(9) نثير: جزرا.

(10) ق: ليقبسا.

(11) ق ص: أآمل.

(12) ص: خزيان.

(13) ق: مفاصل.

(14) ص: وغرك.

(15) سقط هذا البيت من ق.

(16) وقع البيت بعد تاليه.

(17) وقع البيت ثالثا في ص.

(18) هذه قراءة ص؛ وفي ق: شحمها شرطا.

(19) الكتيبة الكامنة: 189.

(20) الكتيبة: خاطبت.

(21) اليعقوب: ذكر الحجل.

(22) يعني فاء الكلمة وهو حرف الحاء.

(23) الكتيبة: وهو إذا صغرته مخففا.

(24) إشارة إلى الآية " أو سلما في السماء " (الأنعام: 25) .

(25) إذا صحف " سلم " أصبح " يثلم " أي يتكسر.

(26) أخوه هو المنبر.

(27) من بني النجار: من صنع النجار.

(28) أي أن قضب الروض تميد فهي " مائدة " أي متمايلة.

(29) في هذا البيت كناية عن القلم.

(30) بياض في ق ص.

(31) تبدل هذا العجز مع العجز التالي في ق.

 (32) يشير إلى أن الرجل الصالح عاب السفينة التي كانت لغلامين يتيمين كما جاء

في سورة الكهف.

(33) تصحيف صقر بعد قلبه هو " رفض " أي مذهب الرافضة.

(34) تصحيف حوت هو " حوب " أي الذنب.

(35) ق: خشية الإطالة.

(36) يشير إلى قول لبيد " ألا كل شيء ما خلا الله باطل ".

(37) الشري: الحنظل.

(38) ق: قصد التشوق.

(39) ق: تنفد.

(40) قد مر التعريف بعبد المهيمن الحضرمي وذكر مصادر ترجمته (ص: 240) من هذا الجزء.

(41) ولد: سقطت من ق.

(42) قد ذكرنا مصادر ترجمة ابن الحاج البلفيقي في المجلد الأول من النفح (ص: 516) .

(43) الإحاطة 2: 103.

(44) لم يرد هذا في الإحاطة.

(45) الإحاطة: 117.

(46) من الدار: سقطت من ق.

(47) ق: وأظنه.

(48) ص ق: رأى.

(49) ترجمة ابن هذيل في الإحاطة، الورقة: 381 ونثير فرائد الجمان: 320 (رقم: 13) والكتيبة الكامنة: 73 (ووردت ترجمته خطأ تحت اسم ابن شقرال) والدرر الكامنة 4: 412.

(50) في حقه: سقطت من ق.

(51) ص: بالسليمانية؛ الكتيبة: السليمانيات والعربيات، والقصيدة في الكتيبة: 77.

(52) القطع: من اصطلاحات المنجمين بمعنى النقص أو سوء الطالع.

(53) الكتيبة: نور الملاحة.

(54) في ق ص: يذكر؛ ويؤكد: مناسبة للتلاعب النحوي في البيت.

(55) ق ص: يضارعه.

(56) الكتيبة: حمرها.

(57) الربي: الحبر من أحبار اليهود (Rabbi) .

(58) ق ص: لجنان.

(59) الكتيبة: 74 والنثير: 322 وقد سبقت أبيات منها في المجلد: 3 ص: 357.

(60) الكتيبة والنثير: وسقى؛ والمقابلة بين " سما " و " هوت ".

(61) الكتيبة والنثير: الشهب.

(62) الكتيبة: 75.

(63) الكتيبة: قلبي.

(64) الكتيبة: صابر.

(65) الكتيبة: لمعناه.

(66) الكتيبة: الشجي.

(67) الكتيبة: فقل كيف حال الدمع.

(68) أخذه من قول الشاعر:

وما اخضر ذاك الخال نبتا وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر

(69) يريد السلطان إسماعيل بن فرج، هاجم حصن أشكر سنة 724، وأشكر من عمل بسطة، وفي ق ص: أشكو؛ وانظر الكتيبة: 77 - 79.

(70) حذف بعد هذا البيت أبياتا مثبتة في الكتيبة.

(71) الكتيبة: الشرع ... الهدى.

(72) ص: لإبانه.

(73) ق: فيتوب.

(74) ق: الأشجار.

(75) السريدك: يصغير سردوك وهو الديك.

(76) الكتيبة: 79.

(77) ق ص والكتيبة: زقي؛ ولعله الرق - بالراء المهملة - ليطابق المزهر.

(78) ق ص: قبيل السمع؛ والتصويب من الكتيبة.

(79) سقط البيت من ق.

(80) ق ص: أفي.

(81) ترجمة أبي بكر الحكيم في الإحاطة 2: 199 والكتيبة الكامنة: 195.

(82) الإحاطة: 206 والكتيبة: 195.

(83) الإحاطة والكتيبة: يدرك.

(84) الإحاطة: محمد بن محمد.

(85) هذه ترجمة والد أبي بكر ابن الحكيبم عن الإحاطة 2: 279.

(86) الإحاطة 2: 285.

(87) الإحاطة: 194. قلت: وورد في المجلد 3: 347 منسوبا لصالح بن شريف الرندي.

(88) المصدر نفسه.

(89) المصدر نفسه.

(90) الإحاطة: 294.

(91) ص: الخساوي.

(92) الإحاطة: 279.

(93) كذا في الإحاطة؛ وفي ق ص: الخلوة.

(94) الإحاطة: 279.

(95) أورد في الإحاطة: 289 - 291 جملة من أبياتها.

(96) الإحاطة: 292.

(97) سقط الشطر الثاني من ق.

(98) الإحاطة: 295.

(99) الإحاطة: نجوم.

(100) الإحاطة: 295.

(101) كذا في ق ص؛ وفي الإحاطة: الطريفي.

(102) انظر الإحاطة: 301.

(103) ترجمة أبي الحسن القيجاطي في الكتيبة: 37 والديباج: 207 ونيل الابتهاج: 292 وبغية الوعاة: 344 والإحاطة، الورقة: 323، وقد أوجز الترجمة في النسخة التي اعتمدت عليها وحذف أشعاره.

(104) الكتيبة: 38.

(105) الكتيبة: 38.

(106) ترجمة فرج بن لب في الكتيبة: 67 ونيل الابتهاج: 211 وبغية الوعاة: 372 والإحاطة، الورقة: 356، وقد غمز منه لسان الدين في الكتيبة بعد أن أثنى عليه في الإحاطة.

(107) الكتيبة: 68.

(108) ترقى: تصعد، وترقأ: تسكن وتكف عن البكاء.

(109) ق: الأوفاق.

(110) ق ص: والقاضي.

(111) نيل الابتهاج: الشره.

(112) ترجمة أبي القاسم ابن جزي في الكتيبة: 46 وأزهار الرياض 3: 184 والديباج: 295 ونيل الابتهاج: 235 والمقري ينقل هنا وفي الأزهار عن الإحاطة.

(113) ترجمة ابن شبرين في الإحاطة 2: 176 والمرقبة العليا: 153 والكتيبة: 166.

(114) انظر الإحاطة 2: 302.

(115) ق ص: سبت؛ السبنتي: النمر، والشطر من قصيدة تنسب للشماخ في رثاء سيدنا عمر (رض) والبيت:

وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتي أزرق العين مطرق (انظر طبقات

ابن سلام: 111) .

(116) ص: وجندل؛ والإشارة إلى قول الشاعر:

من مبلغ الأحياء أم مهلهلا ... أضحى قتيلا في الفلاة مجندلا

(117) من قول الشماخ أيضا:

جزى الله خيرا من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق

(118) من الآية القرآنية " ما ودعك ربك وما قلى

(119) من قول امرئ القيس " صفيف شواء أو قدير معجل ".

(120) ترجمة ابن ليون في التكملة: 86 (باسم سعيد) ونيل الابتهاج: 105 والإحاطة، الورقة: 365.

(121) ق: وقد.

(122) ق: دوح الشجر؛ ص: روح السحر.

(123) عجز بيت لأبي نواس، وصدره: " فقل لمن يدعي في العلم فلسفة ".

(124) ق: العلم.

(125) ق: وقوله، وكذلك جرى في كثير من المواضع.

(126) ص: من لا.

(127) ق: واعرف.

(128) ق ص: بفائد.

(129) وقعت القطعة بعد التي تليها في ق.

(130) ص: وأغض.

(131) ق ص: تحلى، جمر.

(132) ص: هنيئا يود.

(133) سقط من ق ص، وأكملناه من المطبوع.

(134) ص: فما.

(135) هكذا في ص؛ وفي ق: ما فعلنا.

(136) ص: متبعة.

(137) سقط البيتان من ق.

(138) ق: منه.

(139) ص: يرتجى.

(140) سقط البيتان من ق.

(141) ق ص: كصدر.

(142) ق: عنه.

(143) ق: مرفوع.

(144) ق: ختم.

(145) ق: وجهته.

(146) في المطبوعة: أقوى الفطن.

(147) ق: كتاب.

(148) سقطت هذه القطعة من ق.

(149) ق: النجاة.

(150) هذه رواية ص؛ وفي ق: يكفيه.

(151) سقط البيتان من ق، لأنهما وردا ص: 578.

(152) لم ترد في محاسن المجالس (ط. باريس 1933) .

(153) ديوان الحلاج: 62.

(154) انظر محاسن المجالس: 89 وليست الأبيات لابن العريف.

(155) أكثر هذه القطع أورده المقري في الأجزاء السابقة، انظر 3: 564.

(156) انظر ج 1: 594، 604.

(157) انظر ج 3: 358، 443.

(158) في ق ص: أحجمت؛ وآثرنا رواية الذخيرة، وقد صوبناه في موضعه من قبل.

(159) ق ص: خدي.

(160) انظر ما تقدم ج 3 ص: 546.

(161) هما لغانم المالقي، انظر 3: 398، 4: 28.

رجع إلى ذكر مشايخ لسان الدين

أحمد بن محمد المقري التلمساني

نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب،مج5، ص: 434-514

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رجع إلى ذكر مشايخ لسان الدين، فنقول:

1- ومن مشايخ لسان الدين الرئيس أبو الحسن علي بن الجياب (1) ، وهو كما في " الإحاطة "

 علي بن محمد بن سليمان بن علي بن سليمان بن حسن، الأنصاري الغرناطي، أبو الحسن، قال: وهو شيخنا ورئيسنا العلامة البليغ.

ومن مشايخه أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي، وخلق، قال: وقد دونت شعره، فمن معشراته قوله في حرف الجيم:

جريئاً على الزلات غير مفكر

باناً على الطاعات غير معرج

جمعت لما يفنى اغتراراً بجمعه ... وضيعت ما يبقى، سجية أهوج

جنوناً بدار لا يدوم سرورها ... فدعها سدى، ليست بعشك فادرجي (2)

جيادك (3) في شأو الضلال سوابق ... تفوت مدى سن الوجيه وأعوج

جهلت سبيل الرشد فاقصد دليله ... تجد دار سعد بابها غير مرتج

جناب رسول ساد أولاد آدم ... وقرب في السبع الطباق بمعرج

جمال أنار الأرض شرقاً ومغرباً ... فكل سناً من نوره المتبلج (4)

جلا صدأ المرتاب أن سبح الحصى ... لديه بنطق ليس بالمتلجلج

جعلت امتداحي والصلاة عليه لي ... وسائل تحظيني بما أنا مرتج

 

وقال من الأغراض الصوفية السلطانية:

هات اسقني صرفاً بغير مزاج ... راحي هي التي راحتي وعلاجي

إن صب منها في الزجاج قطرة ... شف الزجاج عن السنا الوهاج

وإذا الخليع أصاب منها شربة ... حاجاه بالسر المصون محاجي

وإذا المريد أصاب منها جرعة ... ناجاه بالحق المبين مناجي

تاهت به في مهمه لا يهتدي ... فيه لتأويب ولا إدلاج

يرتاح من طرب بها فكأنما ... غنته بالأرمال والأهزاج

هبت عليه نسمة قدسية ... في فيء باب دائم الإرتاج

فإذا انثنى يوماً وفيه بقية ... سارت قصداً على المنهاج

وإذا تمكن منه سكر معربد ... فليصبرن لمصرع الحلاج

قصرت عبارة فيه عن وجدانه ... فغدا يقيض بمنطق لجلاج

أعشاه نور للحقيقة باهر ... فتراه يخيط في الظلام الداجي

رام الصعود بها إلى مركز أصله ... فرمت به في بحرها المواج

فلئن أمد برحمة وسعادة ... فليخلصن من بعد طول هياج

وليرجعن بنعمة موفورة ... ما شيب بعذب شرابها بأجاج

ولئن تخطاه القبول لما جنى ... فليرجعن نكساً على الأدراج

ما أنت إلا درة مكنونة ... قد أودعت في نطفة أمشاج

فاجهد على تخليصها من طبعها ... تعرج بها في أرفع المعراج

واشدد يديك معاً على حبل التقى ... فإن اعتصمت به فأنت الناجي

ولدى العزيز ابسط بساط تذلل ... وإلى الغني امدد يد المحتاج

هذا الطريق له مقدمتان صا ... دقتان أنتجتا أصح نتاج

فاجمع إلى ترك الهوى حمل الأذى ... واقنع من الإسهاب بالإدماج

حرفان قد جمعا الذي قد سطروا ... من بسط أقوال طول حجاج

والمشرب الأصفى الذي من ذاقه ... فقد اهتدى منه بنور سراج

أن لا ترى إلا الحقيقة وحدها ... والكل مضطر إليها لاجي

هذي بدائع حكمة أنشأتها ... بإشارة المولى أبي الحجاج

وسع الأنام بفضله وبعدله ... وبحلمه وبجوده الثجاج

من آل نصر نخبة الملك الرضى ... أمن المروع هم وغيث الراجي

من آل قيلة ناصري خير الورى ... والخلق بين تخاذل ولجاج

ماذا أقول وكل قول قاصر ... في وصف بحر زاخر الأمواج

منه لباغي العرف در فاخر ... ولمن يعادي الدين هول فاجي

دامت سعودك في مزيد والمنى ... تأتيك أفواجاً على أفواج

 

وقال من المطولات:

لمن المطايا في السراب سوابحا ... تفلي الفلاة غوادياً وروائحا

عوج كأمثال القسي ضوامر ... يرمين في الآفاق مرمى نازحا

وقال يمدح، ويصف مصنعاً سلطانياً (5) :

زارت تجر بنخوة (6) أذيالها ... هيفاء تخلط بالنفار دلالها

فالشمس من حسد لها مصفرة ... إذ قصرت عن أن تكون مثالها

وافتك تمزج لينها بقساوة ... قد أدرجت طي العتاب نوالها

كم رمت كتم مزارها لكنه ... صحت دلائل لم تطق إعلاها

تركت على الأرجاء عند مسيرها ... أرجاً كأن المسك فت خلالها

ما واصلتك محبة وتفضلاً ... لو كان ذاك لواصلن إفضالها

لكن توقعت السلو فجددت ... لك لوعة لا تتقي ترحالها

فوحبها (7) قسماً يحق بروره ... لتشجمنك في الهوى أهوالها

حسنت نظم الشعر في أوصافها ... إذ قبحت لك في الهوى أفعالها

يا حسن ليلة وصلها، ما ضرها ... لو أتبعت من بعدها أمثالها

لما سكرت بريقها وجفونها ... أهملت كأسها لم ترد إعمالها

هذا الربيع أتاك ينشر حسنه ... فافسح لنفسك في مداه مجالها

واخلع عذارك في البطاله جامحاً ... واقرن بأسحار الهنا آصالها

في جنة تجلو محاسنها كما ... تجلو العروس لدى الزفاف جمالها

شكرت أيادي للحيا شكر الورى ... شرف الملوك همامها مفضلها

وصميمها أصلاً وفرعاً، خيرها ... ذاتاً خلقاً، سمحها بذالها

الطاهر الأعلى الأمين المرتضى ... بحر المكارم غيثها سلسالها

حاز المعالي كابراً من كابر ... وجرى لغايات الكرام فنالها

إن تلقه في يوم بذل هباته ... تلق الغمائم أرسلت هطالها

أو تلقه في يوم جرب عداته ... تلق الضراغم فارقت أشبالها

ملك إذا ما صال يوماً صولة ... خلت البسيطة زلزلت زلزالها

فبسيبه وبسيف نلت المنى ... واستعجلت أعداؤه أجالها

الواهب الآلاف قبل سؤالها ... فكفى العفاة سؤالها ومطالها

القاتل الآلاف قبل قراعها ... فكفى العداة قراعها ونزالها

إن قلت بحر كفه قصرت إذ ... شبهت بالملح الأجاج نوالها

ملأ البسيطة عدله وأمانه ... فالوحش لا تعدو على من غالها

وسقى البرية فيض كفيه فقد ... عم البلاد سهولها وجبالها

جمع العلوم عناية بعيونها (8) ... آدابها وحسابها وجدالها

منقولها معقولها، وأصولها ... وفروعها، تفصيلها إجمالها

فإذا عفاتك عاينوك تهللوا ... لما رأوا من كفك استهلالها

437

وإذا عداتك أبصروا تيقنوا ... أن المنية سلطت رئبالها

بددت شملهم ببيض صوارم ... رويت من علق الكماة نصالها

وأبحت أرضهم فأصبح أهلها ... خواراً (9) تغادر نهبة أموالها

فتحت إمارتك السعيدة للورى ... أبواب بشرى واصلت إقبالها

وبنت مصانع رائقات ذكرت ... دار النعيم جنانها وظلالها

وأجلها قدراً وأرفعها مدى ... هذا الذي سام النجوم وطالها

هو جنة فيها الأمير مخلد ... بلغت إمارته بها آمالها

ولأرض أندلس مفاخر أنتم ... أربابها أضفيتم سربالها

فحميتم أرجائها، وكفيتم ... أعداءها، وهديتم ضلالها

فبآل نصر فاخرت لا غيرهم ... لم تعتمد من قبلهم أقيالها

بمحمد ومحمد ومحمد ... قصرت على الخصم الألد نضالها

فهم الألى ركبوا لكل عظيمة ... جرداً كسين من النجيع جلالها

وهم الألى فتحوا لكل ملمة ... باباً أزاح بفتحه إشكالها

متقلدون من السيوف عضابها ... متأبطون من الرماح طوالها

الراكبون من الجياد عرابها ... والضاربون من العدا أبطالها

أولي عهد المسلمين ونخبة ال ... أملاك صفوة محضها وزلالها

إن العباد مع البلاد مقرة ... بفضائل لك مهدت أحوالها

فتفك عانيها، وتحمي سربها ... وتفيد حلماً دائماً جهالها

وقال يرثي ولده أبا القاسم رحمهما الله تعالى:

هو البين حتماً، لا لعل ولا عسى ... فما بال نفسي لم تفض عند أسى

وما لفؤادي لم يذب منه حسرة ... فتباً لهذا القبل سرعان ما قسا

وما لجفوني لا تفيض مورداً ... من الدمع يهمي تارة ومورسا

وما للساني مفصحاً بخطابه ... وما كان لو أوفى بعهد لينسبا (10)

أمن بعد ما أودعت روحي في الثرى ... ووسدت مني فلذة القلب مرسما

وبعد فراق ابني أبا القاسم الذي ... كساني ثوب الثكل لا كان ملبسا

أؤمل (11) في الدنيا حياة وأرتضي ... مقيلاً لدى أبنائها ومعرسا

فآهاً وللمفجوع فيها استراحة ... ولا بد للمصدور أن يتنفسا

على عمر أفنيت فيه بضاعتي ... فأسلمني للقبر حيران (12) مفلسا

ظللت به في غفلة وجهالة ... إلى أن رمى سهم الفراق فقرطسا

إلى الله أشكو برح حزني فإنه ... تلبس منه القلب ما قد تلبسا

وهدة خطب نازلتني عشية ... فما أغنت الشكوى ولا نفع الأسا

فقد صدعت شملي وأصمت مقاتلي (13) ... وقد هدمت ركني الوثيق المؤسسا

ثبت لها وقعاً لشدة وقعها ... فما زلزلت صبري الجميل وقد رسا

وأطمع أن يلقى برحمته الرضى ... وأجزع أن يشقى بذنب فينسكا

أبا القاسم اسمع شكو والدك الذي ... حسا من كؤوس البين أفظع ما حسا

وقفت فؤادي مذ رحلت على الأسى ... فأشهد لا ينفك وقفاً محبسا

وقطعت آمالي من الناس كلهم ... فلست أبالي أحسن المرء أم أسا

تواريت يا بدري وشمسي وناظري ... فصار وجودي مذ تواريت حندسا

وخلفت لي عبئاً من الثكل فادحاً ... فما أتعب الثكلان نفساً وأتعسا

أحقاً ثوى ذاك الشاب فلا أرى ... له بعد هذا اليوم حولي مجلسا

فيا غصناً نضراً ثوى عندما استوى ... وأوحشني أضعاف ما كان أنسا

ويا نعمة لما تبلغتها انقضت ... فأنعم أحوالي صار بها أبؤسا

لودعته والدمع تهمي سحابه ... كما أسلم السلك الفريد المخمسا

وقبلت في ذاك الجبين مودعاً ... لأكرم من نفسي علي وأنفسا

وحققت من وجدي به قرب رحلتي ... وماذا عسى أن ينظر الدهر من عسا

فيا رحمة للشيب يبكي شبيبة ... قياس لعمري عكسه كان أقيسا

فلو أن هذا الموت يقبل فدية ... حبونا أموالاً كراماً وأنفسا

ولكنه حكم من الله واجب ... يسلم فيه من بخير الورى ائتسى

تغمدك الرحمن بالعفو والرضى ... وكرم مثواك الجديد وقدسا

وألف منا الشمل في جنة العلا ... فنشرب تنسيماً ونشرب سندسا

 

وكتب إلى القاضي الشريف وهو بوادي آش:

أهزلاً وقد جدت بك اللمة الشمطا ... وأمناً وقد ساورت يا حية رقطا

أغرك طول العمر في غير طائل ... وسرك (14) أن الموت في سيره أبطا

رويداً فإن الموت أسرع وافد ... على عمرك الفاني ركائبه حطا (15)

فإذ ذاك لا تسطيع إدراك ما مضى ... بحال، ولا قيضاً تطيق ولا بسطا (16)

تأهب فقد وافى مشيبك منذراً ... وها هو في فوديك أحرفه خطا (17)

فوافقت منه كاتب السر واشياً ... له القلم الأعلى يخط به وخطا

معمى كتاب فكه احذر فهذه ... سفينة هذا العمر قاربت الشطا

وإن طالما خاضت به اللجج التي ... خطبت بها في كل مهلكة خبطا

وما زلت في أمواجها متقلباً ... فآونة رفعاً وآونة حطا

فقد أوشكت تلقيك في قعر حفرة ... تشد عليك الجانبين بها ضغطا

ولست على علم بما أنت بعدها ... ملاق، أرضواناً من الله أم سخطا

 

وأعجب شيء منك دعواك في النهى ... وهذا الهوى المردي على العقل قد غطى

قسطت عن الحق المبين جهالة ... وقد خالفتك النفس فادعت القسطا

وطاوعت شيطاناً تجيب إذا دعا ... وتقبل إن أغوى، وتأخذ إن أعطى

تناءى عن الآخرة، وقد قربت مدى ... تداني من الدنيا، وقد أزمعت شحطا

وتمنحها حباً وفرط صبابة ... وما منحت إلا القتادة والخرطا

فها أنت تهوى وصلها وهي فارك ... وتأمل قرباً من حماها وقد شطا

صراط هدى نكبت عنه عماية ... ودار ردى أوعيت في سحتها سرطا (18)

فما لك إلا السيد الشافع الذي ... له فضل جاه كل ما يرتجي يعطى

دليل إلى الرحمن، فأنهج سبيله ... فمن حاد عن نهج الدليل فقد أخطا

محبته شرط القبول، فمن خلت ... صحيفته منها فقد فقد الشرطا

وما قبلت منه لدى الله قربة ... وما زكت الأعمال، بل حبطت حبطا

به الحق وضاح، به الإفك زاهق ... به الفوز مرجو، به الذنب قد حطا

هو الملجأ الأحمى، هو الموئل الذي ... به في غد يستشفع المذنب الخطا

لقد مازجت روحي محبته التي ... بقلبي خطت قبل أن أعرف الخطا

إليك ابن خير الخلق بنت بديهة ... تقبل تبجيلاً أناملك السبطا

وحيدة هذا العصر وافت وحيدة ... لتبسط من شتى بدائعها بسطا

وتتلو آيات التشيع إنها ... لموثقة عهداً ومحكمة ربطا

لك الشرف المأثور يا ابن محمد ... وحسبك أن تنمى إلى سبطه سبطا

إلى شرفي دين وعلم تظاهرا ... تبارك من أعطى وبورك في المعطى

ورهطك أهل البيت، بيت محمد ... فأعظم به بيتاً، وأكرم به رهطا

بعثت به عقداً من الدر فاخراً ... وذكر رسول الله درته الوسطى

وأهديت منه للسيادة غادة ... نظمت من الدر الثمين بها سمطا

وحاشيتها من كل ما شانها، فإن ... تجعد حوشي تجد لفظها سبطا

وفي الطيبين الطاهرين نظمتها ... فساعدها من أجل ذلك حرف الطا

عليك سلام الله ما ذر شارق ... وما رددت ورقاء في غصن لغطا

قال:

لله عصر الشباب عصراً ... فتح للخير كل باب

حفظت ما شئت فيه حفظاً ... كنت أراه بلا ذهاب

حتى إذا ما الشيب وافى ... ند ولكن بلا إياب

لا تعتنوا بعدها بحفظ ... وقيدوا العلم بالكتاب

وقال:

يا أيها الممسك البخيل ... إلهك المنفق الكفيل

أنفق وثق بالإله تربح ... فإن إحسانه جزيل

وقدم الأقربين واذكر ... ما روي أبداً بمن تعل

وقال:

وقائلة لم عراك المشيب ... وما إن بعهد الصبا من قدم

فقلت لها لم أشب كبرة ... ولكنه الهم نصف الهرم

وقال:

أيعتادني كل سقم وأنت طبيب ... وتبعد آمالي وأنت قريب

يقيني أن الله جل جلاله ... يقيني فراجي الله ليس يخيب

وقال:

هي النفس إن أنت سامحتها ... رمت بك أقصى مهاوي الخديعه

وإن أنت جشمتها خطة ... تنافي رضاها تجدها مطيعه

فإن شئت فوزاً فناقض هواها ... وإن وصلتك أجزها بالقطيعه

ولا تعبأن بميعادها ... فميعادها كسراب بقيعه

وقال:

من أنت يا مولى الورى مقصوده ... طوبى له قد ساعدنه سعوده

فليشهدنك له فؤاد صادق ... وشهوده قامت عليه شهوده

وليفنين عن نفسه ورسومه ... طراً، وفي ذلك الفناء وجوده

وليحفظنه بارق يرقى به ... في أشرف المعراج ثم يعيده

حتى يظل ولا يدري دهشة ... تقريبه المقصود أم تبعيده

لكنه ألقى السلاح مسلماً ... فمراده ما أنت منه تريده

فلقد تساوى عند إكرامه ... وهوانه ومفيده ومبيده

وقال ملغزاً في حجل (19) :

حاجيت (20) كل فطن لبيب ... ما اسم لأنثى من بني يعقوب (21)

ذات كرامات فزرها قربة ... فزورها أحق بالتقريب

تشركها في الاسم أنثى لم تزل ... حافظة لسرها المحجوب

وقد جرى في خاتم الوحي الرضى ... لها حديث ليس بالمكذوب

وهو إذا ما الفاء (22) منه صحفت ... صبغ الحياء لا الحيا المسكوب

فهاكها واضحة أسرارها ... فأمرها أقرب من قريب وقال أيضاً في آب:

حاجيتكم ما اسم علم ... ذو نسبة إلى العجم

يخبر بالرجعة وه ... وراجع كما زعم

وصف الحبيب هو بالت ... صحيف أو بدء قسم

دونكه أوضح من ... نار على رأس علم

وقال في كانون:

وما اسم لسميين ... ولم يجمعهما جنس

فهذا كلما يأتي ... فبالآخر لي أنس

وهذا ما له شخص ... وهذا ما له حس

وهذا ما له سوم ... وذا قيمته فلس

وهذا أصله الأرض ... وهذا أصله الشمس

وهذا واحد من سب ... عة تحيا بها النفس

فمن محموله الجن ... ومن موضوعه الإنس

فقد بان الذي ألغز ... ت ما في أمره لبس

وقال في سلم:

ما اسم مركب مفيد الوضع ... مستعمل في الوصل لا في القطع

ينصب لكن أكثر استعمال من ... يعنى به في الخفض أو في الرفع

هو إذا حققته مغيراً (23) ... تراه شملاً لم يزل ذا صدع

فالاسم إذا طليته تجده في ... خامسة من الطوال السبع (24)

وهو إذا صحفته يعرب عن ... مكسر في غير باب الجمع (25)

له أخ أفضل منه لم تزل ... آثاره محمودة في الشرع (26)

هما جميعاً من بني النجار والأف ... ضل أصل في حنين الجذع (27)

فهاكه قد سطعت أنواره ... لا سيما لكل زاكي الطبع

وقال في مائدة:

حاجيت كل فطن نظار ... ما اسم لأنثى من بني النجار

وفي كتاب الله جاء ذكرها ... فقلما يغفل عنها القاري

في خبر المهدي فاطلبها تجد ... إن كنت من مطالعي الأخبار

ما هي إلا العيد عيد رحمة ... ونعمة ساطعة الأنوار

يشركها في الاسم وصف حسن ... من وصف قضب الروضة المعطار (28)

فهاكه كالشمس في وقت الضحى ... قد شف عنها حجب الأستار

ثم قال لسان الدين: وأما نثره فمطولات عرفت بما تخللها من الأحوال متونها، وقلت لمكان البديهة والاستعجال عيونها، وقد اقتنصت جزءاً منها سميته تافه من حجم ونقطة من يم وولد بغرناطة في جمادى الأولى عام ثلاثة وسبعين وستمائة، وتوفي ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة، وأنشدت من نظمي في رثائه خامس يوم دفنه على قبره هذه القصيدة:

ما لليراع خواضع الأعناق ... طرق النعي فهن في إطراق

وكأنما صبغ الشحوب وجوهها ... والسقم من الجزع ومن إشفاق

 

ما للصحائف صوحت روضاتها ... أسفاً وكن نضيرة الأوراق

ما للبيان كؤوسه مهجورة ... غفل المدير لها ونام الساقي

ما لي عدمت تجلدي وتصبري ... والصبر في الأزمات من أخلاقي

خطب أصاب بني البلاغة والحجى ... شب الزفير به عن الأطواق

أما وقد أودى أبو الحسن الرضى ... فالفضل أودى على الإطلاق

كنز المعارف لا تبيد نقوده ... يوماً ولا تفنى على اللإنفاق

من للبدائع أصبحت سمر السرى ... ما بين شام للورى وعراق

من لليراع يجيل من خطيها ... سم العدا ومفاتح الأرزاق

قضب ذوابل مثمرات بالمنى ... وأراقم ينفثن بالترياق

من للرقاع الحمر يجمع حسنها ... خجل الخدود وصبغة الأحداق

تغتال أحشاء العدو كأنها ... صفحات دامية الغرار رقاق

وتهز أعطاف الولي كأنها ... راح مشعشعة براحة ساقي

من للفنون يجيل في ميدانها ... خيل البيان كريمة الأعراق

من للحقائق أبهمت أبوابها ... للناس يفتحها على استغلاق

من للمساعي الغر تقصد جاهه ... حرماً فينصرها على الإخفاق

كم شد من عقد وثيق حكمه ... في الله أو أفتى بحل وثاق

رحب الذراع بكل خطب فادح ... أعيت رياضته على الحذاق

صعب المقادة في الهوادة والهوى ... سهل على العافين والطراق

ركب الطريق إلى الجنان وحورها ... يلقينه بتصافح وعناق

فاعجب لأنس في مظنة وحشة ... ومقام وصل في مقام فراق

أمطيباً بمحامد العمل الرضى ... ومكفناً بمكارم الأخلاق

ما كنت أحسب قبل نعشك أن أرى ... رضوى تسير به على الأعناق

ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أن اللحود خزائن الأعلاق

يا كوكب الهدي الذي من بعده ... ركد الظلام بهذه الآفاق

يا واحداً مهما جرى في حلبة ... جلى بغرة سابق السباق

يا ثاوياً بطن الضريح وذكره ... أبدا ًرفيق ركائب ورفاق

يا غوث من وصل الصريخ فلم يجد ... في الأرض من وزر ولا من واق

ما كنت إلا ديمة منشورة ... من غير إرعاد ولا إبراق

ما كنت إلا روضة ممطورة ... ما شئت من ثمر ومن أوراق

يا مزمعاً عنا العشي ركابه ... هلا ثويت ولو بقدر فواق

رفقاً أبانا جل ما حملتنا ... لا تنس فينا عادة الإشفاق

واسمح ولو بمزار لقيا في الكرى ... تبقي بها منا على الإرماق

وإذا اللقاء تصرمت أسبابه ... كان الخيال تعلة المشتاق

عجباً لنفس ودعتك وأيقنت ... أن ليس بعد نواك يوم تلاقي

ما عذرها إن لم تقاسمك الردى ... في فضل كأس قد شربت دهاق

إن قصرت أجفاننا عن أن ترى ... تبكي النجيع عليك باستحقاق

واستوقفت دهشاً فإن قلوبنا ... نهضت بكل وظيفة الآماق

ثق بالوفاء على المدى من فتية ... بك تقتدي في العهد والميثاق

سجعت بما طوقتها من منة ... حتى زرت بحمائم الأطواق

تبكي فراقك خلوة عمرتها ... بالذكر في طفل وفي إشراق

أما الثناء على علاك فذائع ... قد صح بالإجماع والإصفاق

والله قد قرن الثناء بأرضه ... بثنائه من فوق سبع طباق

جادت ضريحك ديمة هطالة ... تبكي عليه بواكف رقراق

وتغمدتك من الإله سعادة ... تسمو بروحك للمحل الراقي

صبراً بني الجياب إن فقيدكم ... سيسر مقدمه بما هو لاق

وإذا الأسى لفح القلوب أواره ... فالصبر والتسليم أي رواق

وأنشد في هذا الغرض لفقيه أبو عبد الله ابن جزي:

ألم تر أن المجد أقوت معالمه ... فأطنابه قد قوضت ودعائمه

هوى من سماء المعلوات هلالها ... وخانت جواد المكرمات قوائمه

وثلت من الفخر المشيد عروشه ... وفلت من العز المنيع صوارمه

وعطل من حلي البلاغة قسها ... وعري من جود الأنامل حاتمه

أجل إنه الخطب الذي جل وقعه ... وثلم غرب الدين والعلم هاجمه

وإلا فما للنوم طار مطاره ... وما للزيم الحزن قصت قوادمه

وما لصباح الأنس أظلم نوره ... وما لمحيا الدهر قطب باسمه

وما لدموع العين فضت كأنها ... فواقع زهر والجفون كمائمه

قضى الله في قطب الرياسة أن قضى ... فشتت ذاك الشمل من هو ناظمه

ومن قارع الأيام سبعين حجة ... ستنبو غراره ويندق قائمه

وفي مثلها أعيا النطاسي طبه ... وضل طريق الحزم في الرأي حازمه

تساوى جواد في رداه وباخل ... فلا الجود واقيه، ولا البخل عاصمه

وما نفعت رب الجياد كرامه ... ولا منعت منه الغني كرائمه

وكل تلاق فالفراق أمامه ... وكل طلوع فالغروب ملازمه

وكيف مجال العقل في غير منفذ ... إذا كان باني مصنع هو هادمه

ليبك علياً مستجير بعدله ... يصاخ لشكواه ويمنع لظالمه

ليبك علياً مائح بحر علمه ... يروى بأنواع المعارف هائمه

ليبك علياً مظهر فضل نصحه ... يحلأ عن ورد المآثم حائمه

ليبك علياً معتف جود كفه ... يواسيه في أمواله ويقاسمه

ليبك علياً ليله وهو قائم ... يكابده أو يومه وهو صائمه

ليبك علياً فضل كل بلاغة ... يخلده في صفحة الطرس راقمه

وشخص ضئيل الجسم يرهب نفثه ... ليوث الشرى في خيسها وضراغمه (29)

تكفل بالرزق المقدر للورى ... إذا الله أعطى فهو في الناس قاسمه

يسدده سهماً وينضوه صارماً ... ويشرعه رمحاً فكل يلائمه

إذا سال من شقيه سائل حبره ... بما شاء منه سائل فهو عالمه

ليبك عليه اليوم من كان باكياً ... فتلك مغانيه خلت ومعالمه

تقلد منه الملك عضب بلاغة ... يقد السلوقي المضاعف صارمه

وقلده مثنى الوزارة فاكتفى ... بها ألمعي حازم الرأي عازمه

ففي يده وهو الزعيم بحقها ... براعته والمشرفي وخاتمه

سخي على العافين سهل قياده ... أبي على العادين صعب شكائمه

إذا ضلت الآراء في ليل حادث ... رآها برأي يصدع الخطب ناجمه

وقام بأمر الدين والملك حامياً ... فذل معاديه وضل مراغمه

وقد كان نيط العلم والحلم والتقى ... به وهو ما نيطت عليه تمائمه

ودوخ أعناق الليالي بهمة ... يبيت ونجم الأفق فيها يزاحمه

وزاد على بعد المنال تواضعاً ... أبى الله إلا أن تم مكارمه

سقيت الغوادي؛ أي علم وحكمة ... ودين متين ذلك القبر كاتمه

وما زال يستسقى بدعوتك الحيا ... وها هو يستسقى لقبرك ساجمه

بكت فقدك الكتاب إذ كان شملهم ... يؤلفه من دوح فضلك ناعمه

وطوقتهم بالبر ثم سقيتهم ... نداك فكنت الروض ناحت حمائمه

ويبكيك مني ذاهب الصبر موجع ... توقد في جنبيه للحزن جاحمه

فتىً نال منه الدهر إلا وفاءه ... فما وهنت في حفظ عهد عزائمه

عليل الذي زرت عليه جيوبه ... قريح الذي شدت عليه حزائمه

فقد كنت ألقى الخطب منه بجنة ... تعارض دوني بأسه وتصادمه

سأصبر مضطراً وإن عظم الأسى ... أحارب حزني مرة وأسالمه

وأهديك إذ عز اللقاء تحية ... وطيب ثناء كالعبير نواسمه

وأنشد الفقيه القاضي أبو جعفر ابن جزي قصيدة أولها:

أبثكما والصبر للعهد ناكث ... حديثاً أملته علي الحوادث

وأنشد القاضي أبو بكر ابن علي القرشي قصيدة أولها:

هي الآمال غايتها نفاد ... وفي الغايات تمتاز الجياد

وأنشد الفقيه الكاتب القاضي أبو القاسم ابن الحكم قصيدة أولها:

لينع الحجى والحلم من كان ناعيا ... ويرع العلا والعلم من كان راعيا

قصائد مطولات يخرج استقصاؤها عن الغرض، فكان هذا التأبين غريباً لم يتقدم به عهده بالحضرة لكونها دار ملك، والتجلة في مثل هذا مقصورة على أولي الأمر؛ انتهى ما لخصته من ترجمته في " الإحاطة ".

ولنزد فنقول: ومن ألغازه في الدرهم:

ما بغيض إلى الكرام خصوصاً ... وحبيب إلى الأنام عموما

فاعجبوا منه كيف يحمي ويحمى ... ويكف العدا ويغني العديما

إن تغير شطريه فالأول اسم ... يألف الضرع والغمام السجوما

ويكون الثاني كبير أناس ... حطمته حياته تحطيما

فإذا ما قلبت أول شطر ... رد منطوق لغزه مفهوما

وإذا ما قلبت ثاني شطر ... كان كفاً وليس كفاً رقيماً

قلبه بعد حذفك الفاء منه ... هو شيء يحلل التحريما

أو صغير مستحس لم يؤدب ... إن تعلمه يقبل التعليما

فالتبين ما قلته ولتعين ... وبه فلتقم مقاماً كريما وقال في المسك:

 

ما طاهر طيب ولكن ... ما أصله من ذوي الطهارة

من الظباء الحسان لكن ... إذا تأملته ففاره

نص حديث الرسول فيه ... شهادة تقتضي بشاره

تصحيفه بعد حذف حرف ... منزلك الآهل العمارة

يعني مبنى.

وقال في فلك:

ما اسم لشيء مرتقي ... في مغرب ومشرق

إذا حذفت فاءه ... كان لك الذي بقي

وقال أيضاً في الفنار:

ما اسم إذا حذفت من ... هـ فاءه المنوعه

فإنه ابنة الزنا ... مضافة لأربعه

يعني ابنة الزناد، وهي النار.

وقال في النوم:

ما اسم مسماه به ... يسقط حكم التكليف

وإن دخلت البيت بالتص ... حيف حق التعنيف

وإن أردت شبهه ... فقلبه بالتصحيف

بينه فهو في كتا ... ب الله بادي التعريف

وقال في غزال:

 

حاجيتكم ما اسم شيىء ... يروق في الوصف حسنا

له محاسن شتى ... منها فرادى ومثنى

 

.......... (30)    ... له بل السعر أثنى

مهما تنله بحذف ... أتاك حرفاً لمعنى (31)

إن زال أول حرف ... زال الذي منه يعنى

أو زال ثانية منه ... فالقتل أدهى وأفنى

أو زال ثالثة فه ... ولغو صب معنى

أو زال رابعة فال ... جهاد فيه تسنى

فأوضح القصد يا من ... قد فاق عقلاً وذهنا

وقال في النمل:

ما حيوان اسمه ... قد جاء في الذكر الحكيم

وهو إذا قلبته ... لمن به أنت عليم

وإن تصحف اسمه ... فبعض أوصاف اللئيم

وقال في دواة:

وما أثنى بها رعي الرعايا ... وإمضاء المنايا والقضايا

وتقصدها بنوها من رضاع ... إذا انبعثوا لإبرام القضايا

لها اسم إن أزلت النقط منه ... فعذ بالله من شر البلايا

وغن أبدلت آخره بهمز ... فقد أبرأت نازلة الشكايا

وإن بدلت أوله بنون ... أتيت ببعض أرزاق المطايا

فأوضح ما رمزناه بفكر ... سديد القصد مبد للخفايا

وقال في سفينة:

ما ذات نفع وغناء عظيم ... لها حديث في الزمان قديم

أوحى بها الله إلى عبده ... فحبذا فعل الرسول الكريم

وعابها فيما مضى صالح ... حسبك ما نص الكتاب الحكيم (32)

وفي كتاب الله تردادها ... فاقرأ تجد في قضايا الكليم

إن أنت صحفت اسمها تلقه ... محل أنس أو بلاء مقيم

أو هو فعل لك فيما مضى ... لكن إذا أبرأت داء السقيم

فهاكه قد لاح برهانه ... مبيناً لكل فكر سليم

وقال أيضاً في المسك:

كتبتم كثيراً ولم تكتبوا ... كهذا الذي سلبه واضحه

فما اسم جرى ذكره في الكتاب ... فإن شئته فاقرأ الفاتحه

ففيها مصحف مقلوبه ... يعبر عن حالة صالحة

وليست بغادية فاعلموا ... ولكنها أبداً رائحه

ويعني بقوله في الفاتحة قوله أول الأبيات كتبتم فافهم.

وقال في صقر:

حاجيتكم ما اسم لبعض السباع ... تصحيفه ما لك فيه انتفاع

وعكسه إن شئت عكساً له ... يوجد لكن عند دور السماع

وإن تصحف بعد قلب له ... فمذهب يعزى لأهل النزاع (33)

فبين الإلغاز وارفع لنا ... بنور فكر منك عنه القناع

وقال في الحوت:

ما حيوان في اسمه ... إن اعتبرته فنون

أحرفه ثلاثة ... والكل منها هو نون

 

 

إن أنت صحفت اسمه ... فما جناه المذنبون (34)

أو أبيض أو أسود ... أو صفة النفس الحؤون

قلب اسمه مصحفاً ... عليه دارت السنون

كانت به فيما مضى ... عبرة قوم يعقلون

أودع فيه زمناً ... سر من السر المصون

فهاكه كالنار في ال ... زند له فيها كمون

وقال في لبن:

أفديك ما اسم إذا ما ... صحفته فهو سبع

وإن تصحف بعكس ... ففيه للقبط شرع

والاسم يعرب عما ... لديه ري وشبع

في النحل يلفى ولكن ... لا يتقى فيه لسع

فليس للنحل أصل ... ولا لها فيه فرع

فهاكه قد تبدى ... لحجبه عنه رفع

وقال في القلم:

ومأموم به عرف الإمام ... كما باهت بصحبته الكرام

له إذ يرتوي طيشان صاد ... ويسكن حين يعروه الأوام

ويذري حين يستسقي دموعاً ... يرقن كما يروق الابتسام

وله - رحمه الله تعالى - كثير من هذا، ولم أر أحداً أحكم الالغاز مثلما أحكمه ابن الجياب المذكور، ولولا الإطالة (35) لذكرت منها ما يستدل به على صحة الدعوى، وفيما ذكرنا كفاية.

ومن نظم الرئيس ابن الجياب المذكور في رثاء عمر بن علي بن عتيق القرشي الهاشمي الغرناطي قوله:

قضي الأمر فيا نفس اصبري ... صبر تسليم لحكم القدر

وعزاء يا فؤادي إنه ... حكم ملك قاهر مقتدر

حكمة أحكمها تدبيره ... نحن منها في سبيل السفر

أجل مقدر ليس بمس ... تقدم يوماً ولا مستأخر

أحسن الله عزاء كل ذي ... خشية لربه في عمر

في إمامنا التقي الخاشع ... الطاهر الذات الزكي النير

قرشي هاشمي منتقى ... من صميم الشرف المطهر

يشهد الليل عليه أنه ... دائم الذكر طويل السهر

في صلاة بعثت وفودها ... زمراً للمصطفى من مضر

قائماً وراكعاً وساجداً ... لطلوع فجره المنفجر

جمع الرحمن شملنا غداً ... بحبيب الله خير البشر

وتلقته وفود رحمة الل ... هـ تأتي بالرضى والبشر

قلت: هذا النظم - وإن برد بما فيه من الزحاف - فله من الوعظ وذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم خير لحاف.

قال لسان الدين: ولما نظم القاضي أبو بكر ابن شبرين ببيت الكتابة ومألف الجملة هذين البيتين:

ألا يا محب المصطفى زد صبابة ... وضمخ لسان الذكر منك بطيبه

ولا تعبأن بالمبطلين فإنما ... علامة حب الله حب حبيبه

وأخذ الأصحاب في تذييل ذلك، قال الشيخ الرئيس أبو الحسن ابن الجياب

 

حمه الله تعالى ورضي عنه:

فمن يعمر الأوقات طراً بذكره ... فليس نصيب في الهدى كنصيبه

ومن كان عنه معرضاً طول ذكره ... فكيف يرجيه شفيع ذنوبه

وقال أبو القاسم ابن أبي العافية:

أليس الذي جلى دجى الجهل هديه ... بنور أقمنا بعده نهتدي به

ومن لم يكن من ذاته شكر منعم ... فمشهده في الناس مثل مغيبه

وقال أبو بكر ابن أرقم:

نبي هدانا من ضلال وحيرة ... إلى مرقى سامي المحل خصيبه

فهل ينكر الملهوف فضل مجيره ... ويغمط شاكي الداء شكر طبيبه

فانتهى القوم إلى الخطيب أبي محمد ابن أبي المجدي فقال:

ومن قال مغروراً حجابك ذكره ... فذلك مغمور طريد عيوبه

وذكر رسول الله فرض مؤكد ... وكل محق قائل بوجوبه

وقال يوماً الشيخ أبو الحسن ابن الجياب تجربة للخاطر على العادة:

جاهد النفس جاهداً فإذا ما ... فنيت منك فهو عين الوجود

وليكن حكمها المسدد فيها ... حكم سعد في قتله لليهود

فأجابه أبو محمد ابن أبي المجدي بقوله:

أيها العارف المعبر ذوقاً ... عن معان عزيزة في الوجود

إن حال الفناء عن كل غير ... كمقام المراد غير المريد

كيف لي بالجهاد غير معان ... وعدوي مظاهر بجنود

 

ولو أني حكمت فيمن ذكرتم ... حكم سعد لكنت جد سعيد

فأراها حبابة بي فتوناً ... وأراني في حبها كيزيد

سوف أسلو بنصحكم عن هواها ... ولو أبدت فعل المحب الودود

ليس شيء شوى إلهك يبقى ... واعتبر صدق ذا بقول لبيد (36)

[رجع إلى ابن الجياب]

ومن نظم ابن الجياب ما كتب على باب المدرسة العلمية بغرناطة:

يا طالب العلم هذا بابه فتح ... فادخل تشاهد سناه لاح شمس ضحى

واشكر مجيرك في حل ومرتحل ... إذ قرب الله من مرماك ما نزحا

وشرفت حضرة الإسلام مدرسة ... بها سبيل الهدى والعلم قد وضحا

أعمال يوسف مولانا ونيته ... قد طرزت صحفاً ميزانها رجحا

ومنه قوله:

أبى الله إلا أن تكون اليد العليا ... لأندلس من غير شرط ولا ثنيا

وإن هي عضتها بنوب نوائب ... فصيرت الشهد المشور بها شريا (37)

فما عدمت أهل البلاغة والحجى ... يقيمون فيها الرسم للدين والدنيا

إذا خطبوا قاموا بكل بليغة ... تجلي القلوب الغلف والأعين العميا

وإن شعروا جاءوا بكل غريبة ... تخال النجوم النيرات لها حليا

فأسأل في الدنيا من الله ستره ... علينا وفي الأخرى إذا حانت اللقيا

وقال أبو الحسن ابن الجياب:

أرى الدهر في أطواره متقلباً ... فلا تأمنن الدهر يوماً فتخدعا

فما هو إلا مثلما قال قائل: ... " مكر مفر مقبل مدبر معا "

وحكي أنه أهدى له الفقيه ابن قطبة رماناً ثم دخل عليه عائداً، فلما رآه قال له: يا فقيه، نعم بالهدنة زمانك، أراد: نعمت الهدية رمانك، وكان هذا قبل موته من مرضه بيسير، وهو مما يدل على ثبوت ذهنه حتى قرب الموت، سامحه الله تعالى.

ومن نثر ابن الجياب رحمه الله تعال ما كتبه عن سلطانه إلى بعض سلاطين وقته، وهو السلطان أبو سعيد المريني صاحب فاس، ونصه: المقام لدى الملك المنصور الأعلام، والفضل الثابت الأحكام، والمجد الذي أشرقت به وجوه الأيام، والفخر الذي تتدارس أخباره بين الركن والمقام، والعز الذي تعلو به كلمة الإسلام، مقام محل الأب الواجب الإكبار والإعظام، السلطان الكذا أبقاه الله في ملك منيع الذمار، وسعد باهر الأنوار، ومجد رفيع المقدار، وسلطان عزيز الأنصار، كريم المآثر والآثار، كفيل بالإعلاء لدين الله والإظهار؛ معظم مقامه وموقره، ومجل سلطانه ومكبره، المثني على فضله الذي أربى على ظاهره مضمره، الشاكر لمجده الذي كرم أثره، المعتد بأبوته العلية في كل ما يقدمه ويؤخره، ويورده ويصدره، الداعي إلى الله تعالى بطول بقائه في سعد سام مظهره، حام عسكره، فلان: سلام كريم، طيب عميم، يخص مقامكم الأعلى، ورحمة الله وبركاته.

أما بعد حمد الله الذي أولاكم ملكاً منصوراً، وفخراً مشهوراً، وأحيا بدولتكم العلية لمكارم الأخلاق ذكراً منشوراً، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله الذي اختاره بشيراً ونذيراً، وشرح بهدايته صدوراً، وجعل الملأ الأعلى له ظهيراً، والرضى عن آله وصحبه الذين ظاهروه في حياته، وخلفوه في أمته بعد وفاته، فنالوا في الحالين فضلاً مسطوراً، وأحراً موفوراً، والدعاء لمقامكم الأعلى أسماه الله تعالى بنصر لا يزال به الإسلام محبواً محبوراً، وسعد يملأ أرجاء البسيطة نوراً، فكتبته كتب الله لكم عوائد السعادة، وحباكم من آلائه بالحسنى والزيادة، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وليس بفضل الله سبحانه ثم ببركة مقامكم أيد الله تعالى سلطانه إلا الخير الأكمل، واليسر الأشمل، والحمد لله كثيراً كما هو أهله، فلا فضل إلا فضله.

وأما الذي عند معظم أمركم من الإعظام لمقامكم والإكبار، والثناء المردد المجدد على توالي الأعصار، والشكر الذي تتلى سوره آناء الليل والنهار، والعلم بما لكم من المكارم التي سار ذكرها في الأقطار أشهر من المثل السيار، والاعتداد بسلطانكم العلي في الإعلان والإسرار، والاستناد إلى جنابكم الكريم في الأقوال والأفعال والأخبار، فذلك لا يزال بحمد الله تعالى محفوظاً ملحوظاً بعين الاستبصار، والله ولي العون على ذلك بفضله وطوله.

وإلى هذا أيد الله تعالى سلطانكم، ومهد أوطانكم، فقد تقدمت مطالعة مقامكم أسماه الله أن ملك قشتالة دس من يتحدث في عقد صلح يعود بالهدنة على البلاد، ويرتفع به عنها مكابدته من جهة الأعاد، وقد رنا أولاً أن ذلك ليس على ظاهر الحال فيه، وأنه يبدي به غير ما يخفيه، ولكن جرينا معه في ذلك المضمار قصداً للتشوف (38) على الأخبار، فلما دار الحديث في هذا الحكم، ظهر منه أنه قد جنح للسلم، وكان خديمنا نقروز بحكم الاتفاق قد ورد إشبيلية لبعض أشغاله، فاستحضره وأخذ معه في أمر الصلح وشرح أحواله، وأعاده إلى معظمكم ليستفهم ما عنده، ويعلم مذهبه وقصده، فأعيد إليه بأنه إن أراد المصالحة على صلح والده على هذه الدار النصرية من غير زيادة على شروط تلك القضية، ولا يعرض لاسترجاع معقل من المعاقل التي أخلصت من يد النصرانية، وأن يكون عقده على الجزيرة الخضراء ورندة وغيرهما من البلاد الأندلسية، فلا بد من مطالعة محل والدنا السلطان أمير المسلمين أبي سعيد أيده الله واستطلاع ما يراه، وحينئذ نعمل بحسب نظره الجميل ومقتضاه، وأكد على نقروز في أنه إن انقاد لهذا الأمر فليعقد معه هدنة لأمد من الدهر بقدر ما يتسع لتعريفكم بهذه الحال وإعلامكم، ويستطلع فيها نظر مقامكم، فما هو إلا أن عاد يوم تاريخ هذا بكتاب ملك قشتالة، وقد أجاب إلى الصلح وانقاد إليه، على حسب ما شرط عليه، وأعطى مهادنة مدة شهر فبرير ليعرف فيها مقامكم، ويعلم ما لديه، ووافق ذلك وصول الشيخ الفقيه الأجل أبي عبد الله ابن حبشية أعزه الله من بابكم الكريم أسماه الله، فأخذ معه في هذا القصد، واستفهم عما لديه من مقامكم في ذلك من الإمضاء أو الرد، فذكر أنكم قد أذنتم لمعظمكم في عقد السلم على ما يراه من الأحكام، إذ ظهر فيها المصلحة لأهل الإسلام، فلما عرف مذهبكم الصالح، وقصدكم الناجح، رأى أن يوجه إلى ملك النصارى من يخلص معه حال الصلح، على ما يعود إن شاء الله تعالى على المسلمين بالنجح، وقدم تعريفكم بما دار من الحديث بين يدي جوابه الوافد على مقامكم صحبة الفقيه أبي عبد الله أعزه الله تعالى، ولا يخفى على مقامكم حاجة هذه البلاد في الوقت إلى هدنة يستدرك بها رمقها مما لقيته من جهد الحرب، وما حل بها في هذه السنين من القحط والجدب، فالصلاح بحمد الله في هذه الحال بادي الظهور، وإلى الله عاقبة الأمور.

" هذا ما تزيد لدى معظم مقامكم، وما يتزيد بعد فليس إلا المبادرة إلى مطالعتكم وإعلامكم، وما كان إمساك الفقيه أبي عبد الله ابن حبشية في هذه الأيام إلا لانتظار خبر الصلح، حتى يأتيكم به مستوفى الشرح، وها هو قد أخذ في الرجوع إلى بابكم الأسمى، والقدوم إلى حضرتكم العظمى، والله يصل سعودكم ويحرس وجودكم ويبلغكم أملكم ومقصودكم، والسلام.

ومن إنشاء ابن الجياب رحمه الله تعالى في العزاء بالسلطان أبي الحسن المريني ما صورته بعد الصدر:

" أما بعد حمد الله الواحد القهار، الحي القيوم حياة لا تتقيد (39) بالأعصار، القادر الذي كل شيء في قبضة قدرته محصور بحكم الاضطرار، الغني في ملكوته فلا يلحقه لاحق الافتقار، المريد الذي بإراته تصريف الأقدار، وتقدير الآجال والأعمار، العالم الذي لا تغرب عن علمه خفايا الأسرار، وخبايا الأفكار، مالك الملك وأهله، ومدبر الأمور بحكمته معدله، تذكرة لأولي الألباب وعبرة لأولي الأبصار، خالق الموت والحياة لينقلنا من دار الفناء إلى دار القرار، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله المصطفى المختار، الذي نهتدي بهديه الكريم في الإيراد والإصدار، والأحلاء والإمرار، في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، بسيره الكريمة الآثار، ونتعزى بالمصيبة به عما دهم من المصائب الكبار، ونقدم منه إلى ربنا شفيعاً ماحياً للأوزار، وآخذاً بالحجز عن النار، ونعلم أننا باتباع سبيله نسعد سعادة الأبرار، وبإقامة ملته وحماية شرعته ننال مرضاة الملك الغفار، والرضى عن آله وصحبه، وأوليائه وحزبه، الذين ظاهروه في حياته على إقامة الحق الساطع الأنوار، وخلفوه في أمته قائمين بالعدل حامين للذمار، والدعاء لمحل أبينا والدكم قدس الله روحه، وبرد ضريحه، بالرحمة التي تتعهد روضته التي هي أذكى من الروض المعطار، والرضوان الذي يتبوأ به مبوأ صدق في الملوك المجاهدين الأخيار، ولمقامكم الأعلى بسعادة المقدار، وتمهيد السلطان وبلوغ الأوطار، فإنا كتبناه - كتب الله لكم عوائد النصر، وربط على قلبكم بالصبر - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى عندما تحقق لدينا النبأ الذي فت في الإعضاد، وشب نار الأكباد، والحادث الذي هد أعظم الأطواد، وزلزل الأرض لراسية الأوتاد، والواقع الذي لولا وجودكم لمحا رسم الأجواد، وعطل رسوم الجهاد، وكسا الآفاق ثوب الحداد، والخطب الذي ضاقت له الأرض بما رحبت، وأمرت الدنيا بما عذبت، من وفاة محل أبينا أكبر ملوك المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، والدكم ألحفه الله تعالى برود رضاه، وجعل جنته نزله ومثواه، ونفعه بما أسلف من الأعمال الكريمة، وما خلده من الآثار العظيمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون تسليماً لما قضاه، ورضى بما أنفذه وأمضاه، وعند الله نحتسب منه والداً شفيقاً، حانياً رفيقاً، لم يزل يولي الجميل قوله وفعله، ويصل لنا من أسباب عنايته ما اقتضاه فضله، وما هو أحق به وأهله.

 

" وكنا طول حياته لم نجد أثراً لفقد الوالد، لما أولانا من جميل العوائد، وكرم المقاصد، جزاه الله أحسن جزاءه، وأعاننا على توفية حقه وأدائه، ولمثل هذه المصيبة - ولا مثل لها - تظلم الأرجاء، ويضيق الفضاء، وتبكيه مسومة الجياد، ومعالم الجهاد، والسيوف في الأغماد، وشتى العباد والبلاد، فلا تسألوا كيف هو عندنا موقع هذا الخطب العظيم، والحادث المقعد المقيم، والرزية التي لا رزية مثلها، والحادثة التي أصيبت بها الملة وأهلها، فوجدناه لفقده يتضاعف مع الآناء، ويتجدد تذكار ما أسلف من أعمال الملوك الفضلاء، ولكنه أمر حتم، وقضاء من الله جزم، وسبيل يسلك عليها الأول والآخر، والآني والغابر، وليس إلا التسليم، لما حكم به الحكيم العليم.

ولما انتهى إلينا هذا النبأ الذي ملأ القلب حسرة والعين عبرة، وتوارت شتى الأنباء، وغلب اليأس فيها على الرجاء، وجدنا له ما يوجد لفقد الأب الذي ابتدأ بالإحسان والإجمال، وأولى عوارف القبول والإقبال، ولكنه ما أطفأ نار ذلك الوجد، وجبر كسر ذلك الفقد، إلا ما من الله به علينا وعلى المسلمين من تقلدكم ذلك الملك الذي بكم سمعت معالمه، وقامت مراسمه، وعليكم انعقد الإجماع، وبولايتكم استبشرت الأصقاع، وكيف لا تستبشر بولاية الملك الصالح الخاشع الأواب، صاحب الحرب والمحراب، عدة الإسلام، وعلم الأعلام، من ثبتت فضائله أوضح من محيا النهار، وسارت مكارمه في الآفاق أشهر من المثل السيار.

" وقد كان محل أبينا والدكم رضي الله عنه لما علم من فضائلكم الكريمة الآثار، وما قمتم به من حقه الذي وفيتموه توفية الصلحاء الأبرار، ألقى إليكم مقاليد سلطانه، وآثر إليكم أثر قبوله ورضوانه، حتى انفصل عن الدنيا وقد ألبسكم من أثواب رضاه ما تنالون به قرة العين، وعز الدارين، والظفر بكلتا الحسنيين، فتلك المملكة بحمد الله تعالى قد قام بها حامي ذمارها، وابن خيارها، ومطلع أنوارها، الملك الرضي العدل الطاهر، قوام الدياجي وصوام الهواجر، حسنة هذا الزمان، ونخبة ذلك البيت المؤسس على التقوى والرضوان، فالحمد لله على أن جبر بكم صدع الإيمان، وانتضى منكم سيفاً مسلولاً على عبدة الصلبان، وأقر بكم ملك آبائكم الملوك الأعاظم، وتدارك بولايتكم أمر هذا الرزء المتفاقم، فإن فقدنا أعظم مفقود، فقد ظفرنا بأكرم مقصود، وما مات من أبقى منكم سلالة طاهرة تحيي سنن المعالي والمكارم، وتعمل على شاكلة أسلافها الأكارم، فتلك المملكة قد أصبحت بحمد الله ونور سعدكم في أرجائها طالع، وسيف

 

بأسكم في أعدائها قاطع، وعزمكم الأمضى لأمرها جامع مانع، وقد أوت منكم إلى الملجإ الأحمى، واستمسكت بإيالتكم العظمى، وعرفت أنكم ستبدون فيها من آثار دينكم المتين، وفضلكم المبين، ومعاليكم القاطعة البراهين، ما يملؤها عدلاً وإحساناً، وتبلغ به آمالها مثنى ووحداناً، فهنيئأً لنا ولها أن صارت في ملككم، وأن تشرفت بملككم، وألقت مقاليدها إلى من يحمي حماها، ويدفع عداها، وليهن ذلك المقام الأعلى ما أولاه من العز المكين، وما قلده من الملك الذي هو نظام الدنيا والدين، وأن أعطاه راية الجهاد فتلقاها باليمين، لينصر بها ملة الرسول الصادق الأمين، فله الفخر بذلك على جميع السلاطين، وأما هذه البلاد الأندلسية حماها الله فهي وإن فقدت من السلطان الأعلى أبي سعيد أكرم ظهير، ووقع مصابه منها بمحل كبير، فقد لجأت منكم إلى من يحميها، ويكف بأس أعاديها، ويبتغي مرضاة خالقها فيها، فملككم بحمد الله تعالى مقتبل الشباب، جديد الأثواب، عريق الأنساب، أصيل الأحساب، ومجدكم جار على أعراقه جري الجياد العراب.

" وإنا لما ورد علينا هذا النبأ معقباً بهذه البشرى، ووفد علينا ذلك الخبر مردفاً بهذه المسرة الكبرى، علمنا أن الله سبحانه قد رأب ذلك الصدع بهذا الصنع الجميل، وتلافى ذلك الخطب بهذا الخير الجزيل، فأخذنا من مساهمتكم في الأمور النصيب الوافر، ورأينا أن آمالنا منكم قد جلت من محياها السافر، وعينا للوفادة على بابكم لينوب عنا في العزاء والهناء عين الأعيان الفضلاء، ووجه القواد والكرماء.

ولنقتصر على هذا المقدار من كلام الرئيس ابن الجياب، رحمه الله تعالى؛ ويظهر لي أن نظمه إلى طبقة من نثره، وعلى كل حال فهو لا يتكلف نظماً ولا نثراً، رحمه الله تعالى ورضي عنه وعامله بمحض فضله.

2- ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الفقيه الكاتب البارع العلامة النحوي اللغوي صاحب العلامة بالمغرب الشهير الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي (40) قال في " الإحاطة " فيه ما ملخصه: عبد المهيمن بن محمد بن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن محمد الحضرمي، أبو محمد، شيخنا الرئيس، صاحب القلم الأعلى بالمغرب.

من " الإكليل ": تاج المفرق، وفخر المغرب على المشرق، أطلع منه نوراً أضاءت له الآفاق، وأثر منه بذخيرة حملت أحاديثها الرفاق، ما شئت من مجد سامي المصاعد والمناقب، نشأ بسبتة بلده بين علم يقيده، وفخر يشيده، وطهارة يلتحف مطارفها، ورياسة يتفيأ وارفها، وأبوه رحمه الله تعالى قطب مدارها، ومقام حجها واعتمارها، فسلك الوعوث من المعارف والسهول، وبذ على حداثة سنه الكهول، فلما تحلى من الفوائد العلمية بما تحلى، واشتهر اشتهار الصباح إذا تجلى، تنافست فيه همم الملوك الأخاير، استأثرت به الدول على عادتها في الاستئثار بالذخاير، فاستقلت بالسياسة ذراعه، وأخدم الذوابل والسيوف يراعه، وكان عين الملك التي بها يبصر، ولسانه الذي يسهب به أو يختصر، وقد تقدمت له إلى هذه البلاد الوفادة، وجلت به عليها الإفادة، وكتب عن بعض ملوكها، وانتظم في عقودها الرفيعة وسلوكها، وله في الآداب الراية الخافقة، والعقود المتناسقة، ومشيخته حافلة تزيد عن الإحصاء، وشعره منحط عن محله من العلم والشهرة، وإن كان داخلاُ تحت طور الإجادة، فمن ذلك قوله:

تراءى سحيراً والنسيم عليل ... وللنجم طرف بالصباح كليل

وللفجر نهر خاضه الليل فاعتلت ... شوى أدهم الظلماء منه خجول

بريق بأعلى الرقمتين كأنه ... طلائع شهب في السماء تجول

فمزق ساجي الليل منها شراره ... وخرق ستر الغيم منه نصول

تبسم ثغر الروض عند ابتسامه ... وفاضت عيون للغمام منه همول

ومالت غصون البان نشوى كأنها ... يدار عليها من صباه شمول

وغنت على تلك الغصون حمائم ... لهن حفيف فوقها وهديل

إذا سجعت في لحنها ثم قرقرت ... يطيح خفيف دونها وثقيل

سقى الله ربعاً لا تزال تشوقني ... إليه رسوم دونها وطلول

وجاد رباه، كلما ذر شارق ... من الوتق هتان أجش هطول

وما لي أستسقي الغمام ومدمعي ... سفوح على تلك العراص همول

وعاذلة باتت تلوم على السرى ... وتكثر من تعذالها وتطيل

تقول إلى كم ذا فراق وغربة ... ونأي على ما خيلت ورحيل

ذريني تسعى للتي تكسب العلا ... سناء وتبقي الذكر وهو جميل

فإما تريني من ممارسة الهوى ... نحيلاً فحد المسرفي نحيل

وفوق أنابيب اليراعة صعدة ... تزين، وفي قد القناة ذبول

ولولا السرى لم يجتل البدر كاملاً ... ولا بات منه للسعود نزيل

ولولا اغتراب المرء في طلب العلا ... لما كان نحو المجد منه وصول

ولولا نوال ابن الحكيم محمد ... لأصبح ربع المجد وهو محيل

وزير سما فوق السماك جلالة ... وليس له إلا النجوم قبيل

من القوم: أما في الندي فإنهم ... هضاب، وأما في الندى فسيول

حووا أشرف العلياء إثرناً ومكسباً ... وطابت فروع منهم وأصول

وما جونة هطالة ذات هيدب ... مرتها شمال حرجف وقبول

لها زجل من رعدها ولوامع ... من البرق عنها للعيون كلول

كما هدرت وسط القلاص وأرسلت ... شقاقها عند الهياج فحول

بأجود من كف الوزير محمد ... إذا ما توالت للسنين محول

ولا روضة بالحسن طيبة الشذا ... ينم عليها إذخر وجليل

وقد أزكيت للزهر فيها مجامر ... تعطر منها للنسيم ذيول

وفي مقل النوار للطل عبرة ... ترددها أجفانها وتجيل

بأطيب من أخلاقه الغر كلما ... تفاقم خطب للزمان يهول

حيت أبا العبد الإله مناقباً ... تفوت يدي من رمها وتطول

فغرناطة مصر أنت خصيبها ... ونائل يمناك الكريمة نيل

فداك رجالاً حاولوا درك العلا ... ببخل، وهل نال العلاء بخيل

تخيرك المولى وزيراً وناصحاً ... فكان له مما أراد حصول

وألقى مقاليد الأمور مفوضاً ... إليك فلم يدم يمينك سول

وقام بحفظ الملك منك مؤيد ... نهوض بما أعيا سواك كفيل

وساس الرعايا منك أشوس باسل ... مبيد العدا للمعتفين منيل

وأبلج وقاد الجبين كأنما ... على وجنتيه للنضار مسيل

تهيم بها العلياء كأنها ... بثينته في الحب وهو جميل

له عزمات لو أعير مضاءها ... حسام لما نالت ظباه فلول

سرى ذكره في الخافقتين فأصبحت ... إليه قلوب العاملين تميل

وأعدى قرضي جوده وثناؤه ... فأصبح في أقصى البلاد يجول

إليك أبا فخر الوزارة أرقلت ... برحلي هوجاء النجاء ذلول

فليت إلى لقياك ناصية الفلا ... بأيدي ركاب سيرهن ذميل

تسددني سهماً لكل ثنية ... ضوامر أشباه القسي نحول

وقد لفظتني الأرض حتى رمت إلى ... ذراك برحلي هوجل وهجول

فقيدت أفراسي به وركائبي ... ولذ مقام لي به وحلول

وقد كنت ذا نفس عزوف وهمة ... عليها لأحداث الزمان ذحول

وتهوى العلا حظي وتغري بضده ... لذاك اعترته رقة ونحول

 

وتأبى لي الأيام إلا إدالة ... فصونك لي، إن الزمان مديل

فكل خضوع في جنابك عزة ... وكل اعتزاز قد عداك خمول

وقال:

أبت همتي أن يراني امرؤ ... على الدهر يوماً له ذا حضوع

وما ذاك إلا لأني اتقيت ... بعز القناعة ذل الخشوع

مولده بسبتة عام ستة وسبعين وسبعمائة، وتوفي في تونس ثاني عشر شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة في الطاعون، وكانت جنازته مشهورة رحمه الله تعالى؛ انتهى.

وحكي أن السلطان أبا الحسن المريني سب الشيخ عبد المهين الحضرمي بمجلس كتابه، فأخذ عبد المهين القلم وكسره، وقال: هذا هو الجامع بيني وبينك، ثم إن السلطان أبا الحسن ندم، وأفضل عليه، وخجل مما صدر منه وأحسن إليه.

وكان عبد المهين ينطق بالكلام معرباً، ويرتفع نسبه إلى العلاء بن الحضرمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل سلفه من اليمن، وكان جدهم الأعلى عبدون لحقه الضيم ببلده، فارتحل إلى المغرب، فنزل سبتة.

ولعبد المهيمن الحضرمي شيخ أجلاء كابن أبي الربيع النحوي وابن الشاط وابن مسعود وغيرهم. وكان ذا سعد وسؤدد حسن الحظ، رأيت خطه بإجازته لأبي عبد الله ابن مرزوق وغيره. وكان عالي الهمة سرياً، أعطى المنصب حقه، وكان لا يحتمل الضيم واحتقار العلم، وكان سريع الجواب: حكي أن القاضي المليلي وأبا محمد عبد المهيمن الحضرمي المذكور صاحب العلامة للسلطان أبي الحسن حضرا مجلس السلطان، فجرى ذكر الفقيه ابن عبد الله الرزاق، فقال المليلي: جمع من الفنون كذا، حتى وضع يده على أبي محمد عبد المهيمن، وقال

مخاطباً للسلطان: ويكتب لك احسن من ذا، فوضع عبد المهيمن يده على المليلي وقال: نعم يا مولاي، ويقضي لك أحسن من ذا.

وقال ابن الخطيب القسمطيني الشهير بابن قنفذ في وفياته ما نصه: وفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة توفي الشيخ الراوية المحدث بابن الكاتب أبو محمد عبد المهيمن ابن محمد بن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد الحضرمي، السبتي، ومن أشياخه الأستاذ ابن أبي الربيع وابن الغماز وابن صالح الكناني وغيرهم من الأعلام؛ انتهى.

وقال غيره: إن والد عبد المهيمن توفي غرة صفر سنة اثني عشر وسبعمائة، رحمه الله تعالى.

وحكي أن الشيخ أبا محمد عبد المهيمن ذكر يوماً بني العزفي فأثنى عليهم، فقال له أحد الحسنيين، وكان بينهم شيء: إنهم كانوا لا يحبون أهل البيت، فكيف حبك أنت لهم يعني لأهل البيت، فقال: أحبهم حب التشرع، لا حب التشييع؛ انتهى.

قيل: يعني بالعزفيين أهل الدولة الثانية، وأما أهل الأولى فكانوا من المختصين بمحبة الآل، وهم أحدثوا بالمغرب تعظيم ليلة الميلاد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام.

ومن أغرب ما وقع للرئيس عبد المهيمن الحضرمي من التشبيه قوله:

لقد راقني مرأى سجلماسة الذي ... يقر له في حسنه كل منصف

كأن رؤوس النخل في عرصاتها ... فواتح سورات بآخر مصحف

وهذا من التشبيه العقيم الذي لم يسبق إليه فيما أظن. وكان سبب قوله ذلك أن السلطان أمير المسلمين أبا الحسن المريني لما تحرك لقتال أخيه السلطان أبي علي عمر بسجلماسة فظفر بها استمطر أنواء أفكار الكتاب وغيرهم في تشبيه النخل، فقال عبد المهيمن ما مر، فلم يترك مقالاً لقائل.

وقد أنشد الحافظ ابن مرزوق الحفيد قال: أنشدني شيخنا ولي الدين الرئيس

أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي لشيخه الرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي السبي رحمه الله تعالى قوله:

يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة ... باب الغني، كذا حكم المقادير

وإنما الناس أمثال الفراش، فهم ... يلفون حيث مصابيح الدنانير

قلت: ورأيت هذين البيتين في كتاب روح الشحر وروح الشعر للعالم الكاتب ابن الجلاب منسوبين لأبي المتوكل الهيثم بن أحمد السكوني الإشبيلي، قال: أنشدني أبو الحجاج الحافظ، قال: أنشدني الهيثم، فذكر البيتين، وكان تاريخ وفاته قبل أن يخلق عبد المهيمن، فتعين أن البيتين ليسا من نظمه، وإنما تمثل بهما ونسبتهما له وهم لا محالة، والله أعلم.

وأما ما اشتهر على الألسنة بالمغرب من أن أبا حيان مدح عبد المهيمن بقوله:

ليس في الغرب عالم ... مثل عبد المهيمن

نحن في العلم أسوة ... أنا منه وهو مني

فقد نسبه ابن غازي إلى أبي حيان كما اشتهر، لكن تاريخ مرور أبي حيان بالمغرب كان قيل ظهور عبد المهيمن بلا خفاء، وهو عندي محمول على أحد أمرين: أن المراد عبد المهيمن جد عبد المهيمن المذكور، أو أن أبا حيان كتب بالبيتين من مصر بعدما ظهر عبد المهيمن وصارت له الرياسة بالمغرب إذ أبو حيان عاش إلى ذلك الزمان بلا ريب، ولذا لما ذكر لسان الدين ابن الخطيب في كتابه الكتيبة الكامنة في أنباء أهل المائة الثامنة الشيخ أبا حيان قال: وهذا الرجل طالت حياته حتى أجاز ولدي.

ولعبد المهيمن المذكور أخبار غير ما قدمناه منع منها الاختصار. وقد ألف الخطيب ابن مرزوق باسم ولد (41) ولده فهرسته المشهورة، وحلاه في صدرها أحسن حلية، وهو أهل لذلك. وقد ذكره مولاي الجد في شيوخه كما تقدم، وقال فيه: إنه إمام الحديث والعربية، وكاتب الدولة العثمانية والعلوية، فليراجع ذلك فيما سبق في ترجمة الجد.

وأبو سعيد ابن عبد المهيمن كان عالي الهمة كآبائه، ولما بويع السلطان أبو عنان طلب منه أن يكون مرتسماً في جملة كتاب بابه، فامتنع، وقال: لا أكون تحت حكم غيري، وعنى بذلك أن أباه كان رئيس الكتاب، فكيف يكون هو مرؤوساً بغيره فلم ترض همته رحمه الله تعالى إلا برتبة أبيه أو الترك، وارتحل أبو سعيد محمد المذكور، وكان فقيهاً عالماً، من فاس لسبتة إلى أن توفي بها سنة 787، وكان قليل الكلام، جميل الرواء، حسن الهيئة والبزة والشكل، روى عن والده وعن الحجار وكتب له سنة 724، وروى عن الفقيه أبي الحسن ابن سليمان والرحالة ابن جابر الوادي آشي وابن رشيد وغيرهم.

وابن أبي سعيد هذا اسمه عبد المهيمن كجده، وكان صاحب القلم الأعلى، روى عن أبيه وجده وغيرهما، رحم الله الجميع.

3- ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الإمام العلامة قاضي الجماعة أبو البركات ابن الحاج البلفيقي (42) : نادرة الزمان، وشاعر ذلك الأوان، وهو محمد ابن محمد بن إبراهيم بن محمد ابن الشيخ الولي أبي إسحاق ابن الحاج البلفيقي، وكان أبو البركات أحد رجال الكمال علماً ومجداً وسؤدداً ومكتسباً، وقد عرف به في الإحاطة بترجمة مد فيها النفس، وكتب ابنه على أول الترجمة ما صورته:

رحمك الله تعالى يا فقيه الأندلس وحسيبها وصدرها وشيخها، وبرد ضريحك، فلله ما أفدت من نادرة واكتسبت من فائدة؛ انتهى.

وحكى في " الإحاطة " (43) أنه لما استسقى وحصلت الإجابة أنشده لسان الدين:

ظمئت إلى السقيا والأباطح والربى ... حتى دعونا العام عاماً مجديا

والغيث مسدول الحجاب، وإنما ... علم الغمام قدومكم فتأدب

ثم ذكر في الإحاطة تأليف أبي البركات وشعره، إلى أن قال حاكياً عن أبي البركات ما صورته: ومما نظمته وقد أكثروا من التعجب لملازمتي البناء وحفر الآبار (44) :

في احتفار الأساس والآبار ... وانتقال التراب والجيار

وقعودي ما بين رمل وآج ... ر وجص والطوب والأحجار

وامتهاني بردي بالطين والما ... ء ورأسي ولحيتي بالغبار

نشوة لم تمر قط على قل ... ب خليع وما لها من خمار

من غريب البناء أن بنيه ... متعبون يهوون طول النهار

يبتغون الوصال من صانعيه ... والبدار إليه كل البدار

فإذا حل في ذراهم تراهم ... يشتهون منه بعيد المزار

من عذيري من لائم في بنائي ... وهو لي الترجمان عن أخباري

ليس يدري معناه من ليس يدري ... أن ما عنده على مقدار

أقتدي بالذي يقول بناها ... ذلك الخالق الحكيم الباري

وبمن يرفع القواعد من بي ... ت عتيق للحج والزوار

وبمن كان ذا جدار وقد كا ... ن أبوه من صالحي الأبرار

وبما قد أقامه الخضر المخ ... صوص علماً بباطن الأسرار

كان تحت الجدار كنز، وما أد ... راك ما كان تحت كنز الجدار

وبمن من قضى من آبائي الغ ... ر الألى شيدوا رفيع المنار

فالذي قد بنوه نبني له مث ... لاً ونجري له على مضمار

قد بنينا من المساجد دهراً ... ثم نبني لجارها خير جار

مثلما قد بنيت للمجد أمثا ... ل مبانيهم بكل اعتبار

فالمباني لسان حالي ولي في ... ها لعمري ذكر من الأذكار

روح أعمالنا المقاصد، لكن ... حيث تخفى تخفى مع الأعذار

فعسى من قضى ببنيان هذي ال ... مدار يقضي لنا بعقبى الدار

ثم قال في الإحاطة بعد كلام: ومن نظمه في الإنحاء على نفسه، واستبعاد وجود المطالب في جنسه، قال مما نظمته يوم عرفة عام خمسين وسبعمائة وأنا منزو في غار ببعض جبال المرية (45) :

زعموا أن في الجبال رجالاً ... صالحين قالوا من الأبدال

وادعوا أن كل من ساح فيها ... فسيلقاهم على كل حال

فاخترقنا تلك الجبال مراراً ... بنعال طوراً ودون نعال

ما رأينا بها خلاف الأفاعي ... وشبا عقرب كمثال النبال

وسباع يجرون بالليل عدواً ... لا تسلني عنهم بتلك الليالي

ولو أنا كنا لدى العدوة الأخ ... رى رأينا نواجذ الرئبال

وإذا أظلم الدجى جاء إبلي ... س إلينا يزور طيف خيال

هو كان الأنيس فيها ولولا ... هـ أصيبت عقولنا بالخبال

خل عنك المحال يا من تعنى ... ليس يلقى الرجال غير الرجال

وجمع شعره وسماه العذب والأجاج من كلام أبي البركات ابن الحاج،

 

وسمى أبو القاسم ما استخرجه منه ب " اللؤلؤ والمرجان من بحر أبي البركات ابن الحاج يستخرجان ".

ومن نظم الشيخ أبي البركات ابن الحاج قوله رحمه الله تعالى:

ألا ليت شعري هل لما أنا أرتجي ... من الله في يوم الجزاء بلاغ

وكي لمثلي أن ينال وسيلة ... لها عن سبيل الصالحين مراغ

وكم رمت دهري فتح باب عبادة ... يكون بها في الفائزين مساغ

فكدت ولم أفعل وكيف وليس لي ... المعينان بها صحة وفراغ

لأصبحت من قوم دعاهم إلى الرضى ... منادي الهدى فاستنكروه فراغوا

أباغ ترى أخراه من يزدهيه من ... زخارف دنياه باغ

ويضرب صفحاً عن حقيقة ما طوت ... فيلهيه زور قد أتته مصاغ

إذا ما بدا للرشد نهج بيانه ... يراع بع عن وحشته فيراغ

فيا رب برد العفو هب لي إذا غلت ... من الحر في يوم حساب دماغ

فمن حرق للنفس فيه لواعج ... ومن خجل للوجد فيه صباغ

وعظتك نفسي لو أنبت، وفي الذي ... وعظت به لو ترعوين بلاغ

وأنشد القاضي أبو البركات في هذا الروي قول شيخه الأستاذ أبي علي ابن سليمان القرطبي:

ألا هل إلى ما أرتضيه بلاغ ... وكيف يرى يوماً إليه فراغ

وقد قطعت دوني قواطع جمة ... أراع لها مهما جرت وأراغ

وما لي إلا عفو رب وفضله ... ففيه إلى ما أرتجيه بلاغ

وكان القاضي أبو البركات من بيت كبير علماً وصلاحاً وزهداً، وجده الإمام الولي العارف سيدي أبو إسحاق ابن الحاج أشهر من نار على علم، وقبره مشهور بمراكش وقد زرته بها، وله كرامات مشهورة.

وحكى في مزية المرية من كراماته جملة؛ قال حفيده الشيخ أبو البركات:

دخلت على الشيخ الصالح العابد المجتهد الحاج أبي عبد الله محمد بن علي البكري، المعروف بابن الحاج، في منزله بالمرية عائداً قال: أظنه في مرضه الذي مات فيه، فقال حين سألته عن حاله: ادع لي، فقلت له: يا سيدي، بل أنت تدعو لي، فقال لي: شرح الله صدرك، ونور قلبك بنور معرفته! فمن عرف الله لم يذكر غيره، فقد حكى سيدي أبو جعفر ابن مكنون عن جدك قال: كنت مع سيدي أبي إسحاق ابن الحاج بمراكش فقال لي: هل ترى في المنام شيئاً فقلت: نعم، أرى كأني في المرية أمشي من الدار (46) إلى المسجد، ومن كذا إلى كذا، فأعرض عني وقال: ألا ترى إلا الله قال: ثم مر به في أثناء كلامه ابنه محمد، فقال لي: رأيت هذا والله ما أدري أن لي ابناً حتى يمر بي، ولا أذكره إذا غاب عني، ولا أرى إلا الله؛ انتهى.

ومن تآليف أبي البركات رحمه الله تعالى كتاب ذكر فيه أخبار سلفه رضي الله عنهم، وذكر جملة من كرامات جده سيدي أبي إسحاق المذكور، نفعنا الله به.

ومن شعر جده المذكور قوله:

ألا كرم الله البلاد بخطبة ... هم حسنات الدهر لا نابهم خطب

رعايتهم فرض على كل مسلم ... وحبهم حقاً قد أوجده الرب

إذا ما سألت الله شيئاً فسل بهم ... فتعظيمهم قرب، وغيبتهم حرب

وقوله:

شكا فشكا قلبي خبالاً مبرحاً ... على غير علم كان مني بشكواه

وما التقت أسرار إلا بجامع ... من النعت سلطان الحقيقة سواه

فيا فرحة المجهود إن بات سره ... وسر الذي يهواه مأواه مأواه

ومن أجله قد كان بالبعد راضياً ... فكيف ترى مغناه والقلب مثواه

بدا فبدت أعلام ضدين في الهوى ... هما عجب لولا الدليل وفحواه

برؤيته فارقت موتي لبعده ... ومت بها من أجل علمي ببلواه

فها أما حي ميت بلقائه ... ولم ينج من لم يسعد الفهم نجواه

إذا لم تكن أنت الحبيب بعينه ... رضى وعتاب ضل من قال يهواه

وأكذب ما يلفى الفتى وهو صادق ... إذا لم يحقق بالأفاعيل دعواه

وقوله رضي الله تعالى عنه:

الحب في الله نور يستضاء به ... والهجر في ذاته نور على نور

جنب أخا حدث في الدين ذا غير ... إن المغير في نكس وتغيير

حاشا الديانة أن تبنى على خبل ... سبحان خالقنا من قول مثبور

إن الحقائق لا تبدو لمبتدع ... كذا المعارف لا تهدى لمغرور

تالله لو أبصرت عيناه أو ظفرت ... يمناه ما ظل في ظن وتقدير

حقق ترى عجب إن كنت ذا أدب ... ولا يغرنك الجهال بالزور

إن الطريقة في التنزيل واضحة ... وما تواتر من وحي ومشهور

فافهم هديت هدى الرحمن واهد به ... هدى يفيدك يوم النفخ في الصور

وقوله صدر رسالة وجه بها إلى ابنه محمد أيام قراءته بإشبيلية:

إذا شئت أن تحظى بوصلي وقربتي ... فجنب قريب السوء واصرم حباله

وسابق إلى الخيرات واسلك سبيلها ... وحصل علوم الدين واعرف رجاله

وكان رحمه الله تعالى كثيراً ما يتمثل ببيتي مهيار الديلمي، وهما:

ومن عجب أني أحب إليهم ... وأسأل شوقاً عنهم وهم معي

وتبكيهم عني وهم في سوادها ... ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي

وحدث القاضي أبو البركات حفيده عن ابن خميس التلمساني المتقدم الذكر قال: سمعت بعض الأشياخ يقول: كان الشيخ أبو إسحاق البلفيقي الكبير يقول: اجتمع لنا في الله أربعون ألف صاحب.

وحكى الشيخ أبو البركات عن الشيخ الصالح الصوفي أبي الأصبغ ابن عزرة قال: هذه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أخذتها عن رابك الشيخ الصالح أبي عبد الله محمد بن علي بن الحاج مشافهة، وقال لي: إنها صلاة أبي إسحاق ابن الحاج جدك، وهي: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد صلاة دائمة مستمرة تدوم بدوامك، وتبقى ببقائك، وتخلد بخلودك ولا غاية لها دون مرضاتك، ولا جزاء لقائها ومصليها غير جنتك والنظر إلى وجهك الكريم.

ونقل أبو البركات المذكور عن جده أنه كان يستفتح مجلسه بالمرية بهذا الدعاء: اللهم اجعلنا في عياذ منك منيع، وحصن حصين، وولاية جميلة، حتى تبلغنا آجالنا مستورين محفوظين، مبشرين برضوانك يوم لقائك، قال: وفي وسط الدعاء وآخره: واكفنا عدونا إبليس، وأعداءنا من الجن والإنس بعافيتنا وسلامتنا.

وكان الشيخ رضي الله عنه يواصل أربعين يوماً. ومن مآثره أنه بنى ثمانية عشر جباً في مواضع متفرقة ونحو عشرين مسجداً وبنى أكثر سور حصن بلفيق، كل ذلك من ماله.

وقال رضي الله عنه في بعض رسائله: الصوفي عبارة عن رجل عدل تقي صالح زاهد، غير منتسب لسبب من الأسباب، ولا مخل بأدب من الآداب، قد عرف شأنه وزمانه، وملكت مكارم الأخلاق عنانه، لا ينتصر لنفسه، ولا يتفكر في غده وأمسه، العلم خليله، والقرآن دليله، والحق حفيظه ووكيله، نظره إلى الخلق بالرحمة، ونظره إلى نفسه بالحذر والتهمة؛ انتهى.

وأحوال هذا الشيخ عجيبة، وكراماته شهيرة، وإنما ذكرنا هذا النزر اليسير تبركاً بذكره رضي الله عنه في هذا الكتاب، وتطفلاً على رب الأرباب أن ينفعنا بأمثاله ويحقق لنا النجاة والمتاب، إنه على ذلك قدير.

رجع إلى أخبار أبي البركات - ولما وقع بينه وبين ابن صفوان ما يقع بين المتعاصرين رد عليه ابن صفوان، فانتصر لأبي البركات بعض طلبته بتأليف شواظ من نار ونحاس يرسل على من لم يعرف قدره وقدر غيره من الناس وهو قدر رسالة الشيخ أو أطول، وألفي على ظهره بخط الشيخ أبي البركات ما صورته:

قد شبع الكلب كما ينبغي ... من حجر صلد ومن مقرع

فإن يعد من بعد ذا الذي ... قد كان منه فهو ممن نعي

ومن بديع نظم الشيخ أبي البركات رحمه الله تعالى قوله:

يلومونني بعد العذار على الهوى ... ومثلي في وجدي له لا يفند

يقولون أمسك عنه قد ذهب الصبا ... وكيف أرى الإمساك والخيط أسود

وقوله في المجبنات:

ومصفرة الخدين مطوية الحشا ... على الجبن المصفر يؤذن بالخوف

لها بهجة كالشمس عند طلوعها ... ولكنها في الحين تغرب في الجوف

وفي هذين البيتين تورية متعددة.

وحدث القاضي أبو البركات أنه لما أراد الانصراف عن سبتة قال هل السيد الشريف أبو العباس رحمه الله تعالى: متى عزمت على الرحيل فأنشد أبو البركات:

أما الرحيل فدون بعد غد ... فمتى تقول الدار تجمعنا

فأنشد الشريف رحمه الله تعالى:

لا مرحباً بغد ولا أهلاً به ... إن كان تفريق الأحبة في غد

وحكي أن السيد أبا العباس الشريف المذكور ساير القاضي أبا البركات في بعض أسفاره زمن الشباب ببر الأندلس أعاده الله تعالى فلما انتهينا إلى قرية ترليانة، وأدركهما النصب، واشتد عليهما حر الهجير، نزلا وأكلا على ظهره تحت شجرة مستظلاً بظلها، ثم التفت إلى السيد أبي العباس وقال:

ماذا تقول فدتك النفس في حالي ... يفنى زماني في حل وارتحال وأرتج عليه، فقال لأبي العباس: أجز، فقال بديهاً:

كذا النفوس اللواتي العز يصحبها ... لا ترضي بمقام دون آمال

دعها تسر في الفيافي والقفار إلى ... أن تبلغ السؤل أو موتاً بتجوال

الموت أهون من عيش لدى زمن ... يُعلي اللئيم ويدني الأشرف العالي

ولما أوقع الشيخ أبو البركات على زوجه الحرة العربية أم العباس عائشة بنت الوزير المرحوم أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الكتاني ثم المغيلي طلقة كتب نسختها بما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وعلى آل محمد، يقول عبد الله الراجي رخمته محمد المدعو بأبي البركات ابن الحاج خار الله له ولطف به: إن الله جلت قدرته لما أنشأ خلقه على طبائع مختلفة وغرائز شتى، ففيهم السخي والبخيل، والشجاع والجبان، والغبي والفطن، والكيس والعاجز، والمسامح والمناقش، والمتكبر والمتواضع، إلى غير ذلك من الصفات المعروفة من الخلق، كانت العشرة لا تستمر بينهم إلا بأحد أمرين: إما بالاشتراك في الصفات أو في

بعضها، وإما بصبر أحدهما على صاحبه إذا عدم الاشتراك، ولما علم الشارع أن بني آدم على هذا الوضع شرع لهم الطلاق ليستريح إليه من عيل صبره على صاحبه، توسعة عليهم، وإحساناً منه إليهم، فلأجل العمل على هذا طلق كاتب هذا عبد الله محمد المذكور زوجه الحرة العربية المصونة عائشة ابنة الشيخ الوزير الحسيب النزيه الأصيل الصالح الفاضل الطاهر المقدس المرحوم أبي عبد الله محمد المغيلي، طلقة واحدة، ملكت بها أمر نفسها دونه، عارفاً قدره قصد بذلك إراحتها من عشرته، طالباً من الله أن يغني كلاً من سعته، مشهداً بذلك على نفسه في صحته وجواز أمره يوم الثلاثاء أول يوم من شهر ربيع الثاني عام أحد وخمسين وسبعمائة؛ انتهى.

ومن نوادره رحمه الله تعالى أنه لما استناب بعض قضاة المرية الفقيه أبا جعفر المعروف بالقرعة في القضاء بخارج المرية من عمله فاتفق أن جاء بعض الجنانين بفحص المرية يشتكي من جائحة أو أذاية أصابت جنانه، ففسدت غلته لذلك، فأخذ ذلك الجنان قرعة وأشار إليها مشتكياً، وقال: هذه القرعة تشهد بما أصاب جناني، فقال الشيخ أبو البركات عند ذلك: غريبتان في عام واحد: القرعة تقضي، والقرعة تشهد.

وكان له رحمه الله تعالى من هذا النمط كثير.

وقال رحمه الله تعالى: نظمت صبيحة يوم السبت السابع والعشرين لرجب عام خمسة وأربعين وسبعمائة، وقد رأيت في النوم كأني أريد إتيان امرأة لا تحل لي، فيأتي رقيب فيحول بيني وبين ذلك المرة بعد المرة، قولي:

ألا كرم الله الرقيب فإنه ... كفاني أموراً لا يحل ارتكابها

وبالغ في سد الذريعة فاغتدى ... يلاحظني نوماً ليغلق بابها

وقال رحمه الله: أنشدني شيخي أبو عبد الله ابن رشيد عند قراءتي عليه

شرحه لقوافي أبي الحسن حازم، وقد باحثته يوماً مناقشة في بعض ألفاظ من الشرح المذكور:

تسامح ولا تستوف حقك كله ... وأغض فلم يستوف قط كريم

ومن نظم الشيخ أبي البركات قوله:

ألا خل دمع العين يهمي بمقلتي ... لفرقة عين الدمع وقف على الدم

فللماء فيه رنة شجنية ... كرنة مسلوب الفؤاد متيم

وللطير فيه نغمة موصلية ... تذكرني عهد الصبا المتقدم

وللحسن أقمار به يوسفية ... ترد إلى دين الهوى كل مسلم

وله رحمه الله تعالى:

ما كل من شد على رأسه ... عمامة يحظى بسمت الوقار

ما قيمة المرء بأثوابه ... السر في السكان لا في الديار

وله سامحه الله تعالى:

إذا ما كتمت السر عمن أوده ... توهم أن الود غير حقيقي

ولم أخف عنه السر من ضنة به ... ولكنني أخشى صديق صديقي

وله وقد جلس في حلقة بعض المشايخ واستدبر بعض الفضلاء ولم يره، بسبتة:

إن كنت أبصرتك لا أبصرت ... بصيرتي في الحق برهانها

لا غرو أني لم أشاهدكم ... فالعين لا تبصر إنسانها

ومما يعجبه رحمه الله من قوله، قال في الإحاطة ويحق أن يعجبه:

تطالبني نفسي بما ليس لي به ... يدان فأعطيها الأمان فتقبل

عجبت لخصم لج في طلباته ... يصالح عنها بالمحال فيفصل

ومما أورد له في الإحاطة وذكر نه لو رحل راحل إلى خراسان لما أتى إلا بهما:

رعى الله إخوان الخيانة إنهم ... كفونا مؤونات البقاء على العهد

فلو قد وفوا كنا أسارى حقوقهم ... نراوح ما بين النسيئة والنقد

وقد تمثل القاضي أبو البركات في مخاطبة له للسان الدين بقول القائل:

أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهبي

أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمساً من المغرب

وحكى غير واحد منهم ابن داود البلوي أن القاضي أبا البركات لما عزم على الرحلة إلى المشرق كتب إليه ابن خاتمة بما صورته:

أشمس الغرب حقاً ما سمعنا ... بأنك قد سئمة من الإقامه

وأنك قد عزمت على طلوعٍ ... إلى شرق سموت به علامه

لقد زلزلت منا كل قلب ... بحق الله لا تقم القيامه

قال الحاكي: فحلف أبو البركات أن لا يرحل من إقليم فيه من يقول مثل هذا؛ انتهى. يشير بقوله " لقد زلزلت - إلخ " إلى طلوع الشمس من مغربها.

قلت: ولما عزمت على هذه الرحلة كتب إلي بعض أصحابنا المغاربة بالآبيات المذكورة متمثلاً، ولم أرجع عن العزم، والله غالب على أمره.

قال الوزير لسان الدين رحمه الله تعالى: وما أحسن قول شيخنا أبي البركات معتذراً عن زرقة عينيه:

حزنت عليك العين يا مغنى الهوى ... فالدمع منها بعد بعدك ما رقى

ولذاك ما ظهرت بلون أزرق ... أوما ترى ثوب المآتم أزرقا

قال رحمه الله تعالى: وهو من الغريب.

وقال بعض الشيوخ: كنت أقرأ على الشيخ أبي البركات التفسير، فنسيت ذات ليلة السفر الذي كنت أقرأ فيه بمنزلي، فاتفق أن حضر الجامع الصحيح للبخاري، فقال الشيخ بعد أن أردت القراءة عليه من أوله: افتح في أثناء الأوراق ولا تعين، وما خرج لك من ترجمة لجهة اليمين فاقرأها، فعلت، فإذا غزوة أحد، فقرأت الحديث الأول من الباب، وهو عن عقبة بن عامر، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا شهيد عليكم، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكنني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الشيخ قوله " صلى على قتلى أحد " لفظ الصلاة يطلق لغة على الدعاء، وشرعاً على الأفعال المخصوصة المعلومة، وإذا دار اللفظ بين الشرعي واللغوي فحمله على الشرعي أولى حتى يدل الدليل على خلافه، فقوله " صلى على قتلى أحد " يحتمل الصلاة الشرعية، ويكون ذلك منسوخاً إذا قد تقرر أنه لا يصلى على شهيد المعترك ولا على من قد صلى عليه، ولمن يعارضه أن يقول: إن قتلى أحد متفرقون في أماكن، فلا تتأتى الصلاة الشرعية عليهم، إذ الصلاة الشرعية إنما تتأتى لو كانوا مجتمعين، والجواب أنهم وإن كانوا متفرقين تجمعهم جهة واحدة، وليس بعد ما بينهم بحيث لا تتأتى معه الصلاة عليهم، هذا، وإن احتمل حمله على الصلاة اللغوية، وقوله " كالمودع للأحياء والأموات " أما وداعه للأحياء فلا إشكال فيه، وأما الأموات فمعنى وداعه لهم وداع الدعاء لهم، لأنه إذا مات فقد حيل بينه وبين الدعاء لهم، فلا جرم يودعهم بالدعاء لهم قبل أن يحال بينه وبين ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم " إني بين أيديكم " أي أتقدم قبلكم، وقوله صلى الله عليه وسلم " بين أيديكم فرط " أي متقدم، وبين إذا أضيفت إلى الأيدي تستعمل فيما قبل زمانك وفيما بعده، والمعنى هنا في قوله " بين أيديكم " أي أتقدم قبلكم، وقوله صلى الله عليه وسلم " وأنا شهيد عليكم " فيه وجهان، أحدهما: أن يخلق الله في قلبه علماً ضرورياً يميز به بين البر والفاجر، فيشهد بما خلق الله في قلبه من ذلك، إذ لا تكون الشهادة إلا على أمر مشاهد، ومعلوم أنه لم يشاهد ما فعل بعده من أمته فيخلق الله له علماً بذلك، الوجه الثاني: أن يخبره الله تعالى بذلك كما في حديث الحوض: ليذدان عنه أقوام كما يذاد البعير الضال فأقول: ألا هلم، ألا هلم، فيقال: إنهم قد غيروا بعدك، فأقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً، فشهد بما أخبره الله تعالى به، وهو نظير ما روي في تفسير قوله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " من أن قوم نوح يقولون: كيف تشهدون علينا وزمانكم متأخر عن زماننا فيقولون: لأن الله تعالى قص علينا أخباركم في كتابه، فقال " إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه - إلى آخره ".

وقوله صلى الله عليه وسلم " وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا " نظره صلى الله عليه وسلم إلى الحوض فيه وجهان، أحدهما: أن يكون نظره إليه بقلبه، إذا كان قد أطلعه الله عليه ليلة الإسراء، فصار مرتسماً في قلبه، فيكون نظره إليه بعين قلبه، كما يرتسم في قلب أحدنا شكل بيته وما فيه من المتاع والثياب وغير ذلك؛ الثاني: أن يكون الله تعالى قد كشف له عنه، فيكون نظره إليه بعينه مشاهدة، وقوله صلى الله عليه وسلم " وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا " إن قيل: كيف قال ذلك وقد ارتد عن الإسلام من ارتد من العرب بعده فالجواب أنه إنما خاطب بذلك من لم يشرك من أصحابه ومن بعدهم من التابعين وغيرهم من أمته، ولم يراع رعاع العرب وجهالهم، إذ لا اعتبار بهم لاحتقارهم. وقوله عليه الصلاة والسلام " ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها " قد وقع ما خشي منه عليه الصلاة والسلام من المنافسة في الدنيا، فكان كما ذكر صلى الله عليه وسلم؛ انتهى.

وحدث الشيخ أبو البركات قال: كنت ببجاية بمجلس الإمام ناصر الدين المشدالي أيام قراءتي عليه، وقد أفاض طلبة مجلسه بين يديه: هل الملائكة أفضل أم الأنبياء فقلت: الدليل لأن الملائكة أفضل أن الله أمرهم بالسجود لآدم، قال: فجعل الطلبة ينظر بعضهم إلى بعض، حتى قال لي بعضهم: استند يا سيدنا، كأنه يقول: استند إلى حائط ليزول هوس رأسك، وكانت عبارتهم في ذلك، وكل منهم يقول لي نحو ذلك إزراء، وقال لي الإمام ناصر الدين: أبصر فإنهم يقولون الحق، وكانت لغته أن يقول: أبصر، قال: فقلت: أتقولون إن أمر الله للملائكة بالسجود لآدم أمر ابتلاء واختبار قالوا: نعم، قلت: أفيختبر العبد بتقبيل يد سيده ليرى تواضعه قالوا: لا، فإن ذلك من شأن العبد دون أن يؤمر، بل السيد يختبر تواضعه بأن يأمر بالسجود للعبد، قلت: فكذا الملائكة، لو أمرت بالسجود لأفضل منها لكان بمنزلة أمر العبد بالسجود لسيده، قال: فكأنما ألقمتهم حجراً.

قال الشيخ أبو البركات: وهذه كحكاية أبي بكر ابن الطيب مع بعض رؤساء المعتزلة، وذلك أنه اجتمع معه في مجلس الخليفة، فناظره في مسألة رؤية الباري، فقال له رئيسهم: ما الدليل أيها القاضي على جواز رؤية الله تعالى قال: قوله تعالى " لا تدركه الأبصار " فنظر بعض المعتزلة إلى بعض وقالوا: جن القاضي وذلك أن هذه الآية هي معظم ما احتجوا به على مذهبهم، وهو ساكت، ثم قال لهم: أتقولون إن من لسان العرب قولك الحائط لا يبصر قالوا: لا، قال: أتقولون أن من لسان العرب الحجر لا يأكل قولوا: لا، قال: فلا يصح إذاً نفي الصفة إلا عما من شأنه صحة إثباتها له، قالوا: نعم، قال: فكذلك قوله تعالى " لا تدركه الأبصار " لولا جواز إدراك الأبصار له لم يصح نفيه عنه فأذعنوا لما قال، واستحسنوه.

وقال الشيخ أبو البركات: كنت ببجاية، وقدم علينا رجل من فاس برسم الحج يعرف بابن الحداد، فركب الناس في الأخذ عنه والرواية لما يحمله كل صعب وذلول، مع أنه لم تكن منزلته هناك في العلم، فعجبت لذلك، حتى قلت لبعض الطلبة: لقد أخذتموه بكلتا اليدين، ولم أركم مع من هو أعلى قدراً منه كذلك، فقالوا لي: لأنه قدم علينا ونحن لا نعرفه، وهو في زي حسن، بخادم يخدمه، يظن من يراه أن أباه من أعيان أهل بلده، فسألناه أحي أبوه أم لا قال: بل حي، قلنا: أهو من أهل العلم قال: لا، هو دلال في سوق الخدم، فلذلك آثرناه على من هو فوقه في العلم، قال: فقلت لهم: حق له أن ترتفع منزلته ويعلا صيته لتخلقه وفضله.

وفوائد أبي البركات كثير.

ومن تواليفه المؤتمن على أنباء أبناء الزمن كتاب مفيد جداً. وهو رضي الله عنه من ذرية العباس بن المراد السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحساب إلى يوم الدين.

وقال الشيخ أبو البركات: ذكر لي أن الفقيه الكاتب أبا الحسن ابن الجياب يحدث عني، ولا أذكر الآن أني قلت ذلك، ولكنني لما سمعته علمت أنه مما من شأني أن أقوله وهو أني قلت: مثل العالم مثل رجل يصب ماء في قفة، إن واظب على صب الماء بقيت القفة ملأى، وإن ترك صب الماء بقيت القفة لا شيء فيها من الماء، فكذلك العالم: إن واظب على طلب العلم بقي العلم لم ينقص منه شيء، وإن ترك الطلب ذهب علمه؛ انتهى.

ونقلت ممن رأى كلام ابن الصباغ في ترجمة أبي البركات ما نصه: لما ورد مدينة فاس في غرض الهناء والعزاء على أمير المسلمين أبي بكر السعيد ابن أمير المؤمنين أبي عنان، وأبصر الدار غاصة بأرباب الدولة الفاسية ولم يعدم منها عدا شخصه، والولد على أريكة أبيه أنشد:

 

لما تبدلت المجالس أوجهاً ... غير الذين عهدت من جلسائها

ورأيتها محفوفة بسوى الألى ... كانوا حماة صدورها وبنائها

أنشدت بيتاً سائراً متقدماً ... والعين قد شرقت بجاري مائها

أما القباب فهي كقبابهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها

وأظن أنه (47) تمثل بالأبيات بسره، وإلا يبعد أن يقولها في ذلك الحفل لما في ذلك من التعرض للهلك، والله سبحانه أعلم.

وحكى بعضهم أنه كان جالساً في دهليز بيته مع بعض الأصحاب، فدخلت زوجته من الحمام وهي بغير سراويل لقرب الحمام من البيت، فانكشف ساقها، فدخل خلفها مسرعاً، وغاب ساعة ثم خرج وأنشد:

كشفت على ساق لها فرأيته ... متلألئاً كالجواهر البراق

لا تعجبوا إن قام منه قيامتي ... إن القيامة يوم كشف الساق

وله في خديم اسمه يحيى احتجم محجمة واحدة:

أراني يحيى صنعة في قفائه ... مهذبة لما تبادر للباب

أرى (48) الخمس فيها لا تفارق ساعة ... فصور بالموسى بها شكل محراب

وتوفي الشيخ القاضي أبو البركات المذكور بشوال سنة 771 رحمه الله تعالى.

4- ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الشيخ الحكيم العلامة التعاليمي، الشاعر البليغ، أعجوبة زمانه في الاطلاع على علوم الأوائل، أبو زكريا يحيى بن هذيل (49) وقد قال في الإحاطة في حقه (50) ما ملخصه: يحيى ابن أحمد بن هديل التجيبي، أبو زكريا، شيخنا؛ جرى ذكره في التاج المحلى بما نصه: درة بين الناس مغفلة، وخزانة على كل فائدة مقفلة، وهدية من الدهر الضنين لبنيه محتفلة، أبدع من رتب التعاليم وعلمها، وركض في الألواح قلمها، وأتقن من صور الهيئة ومثلها، وأسس قواعد البراهين وأثلها، وأعرف من زوال شكاية، ودفع عن جسم نكاية، إلى غير ذلك من المشاركة في العلوم، والوصول من المجهول إلى المعلوم، والمحاضرة المستفزة للحلوم، والدعابة التي ما خالع العذار فيها بالملوم، فما شئت من نفس عذبة الشيم، وأخلاق كالزهر من بعد الديم، ومحاضرة تتحف المجالس والمحاضر، ومذاكرة يروق النواظر زهرها الناضر، وله أدب ذهب في الإجادة كل مذهب، وارتدى من البلاغة بكل رداء مذهب، والأدب نقطة من حوضه، وزهرة من زهرات روضه، وسيمر له في هذا الديوان ما يبهر العقول، ويحاسن بروائه ورائق بهائه الفرند المصقول، فمن ذلك ما خرجته من ديوانه المسمى بالسليمانيات والعزفيات (51) قوله:

ألا استودع الرحمن بدراً مكملاً ... بفاس من الدرب الطويل مطالعه

ففي فلك الأزرار يطلع سعده ... وفي أفق الأكباد تلفى مواقعه

يصير مرآه منجم مقلتي ... فتصدق في قطع الرجاء قواطعه (52)

تجسم من ماء الملاحة (53) خده ... وماء الحيا فيه ترجرج مائعه

تلون كالحرباء في خجلاته ... فيحمر قانيه ويبيض ناصعه

إذا اهتز غنى حليه فوق نحره ... كغصن النقا غنت عليه سواجعه

يؤكد (54) حتف الصب عامل قدره ... وتعطف من واو العذار توابعه

أعد الورى سيفاً كسيف لحاظه ... فهذا هو الماضي وذاك مضارعه (55)

وقال:

وصالك هذا أم تحية بارق ... وهجرتك أم ليل السليم لتائق

أناديك والأشواق تركض جمرها (56) ... بصفحة خدي من دموع سوابق

أبارق ثغر من عذيب رضابه ... قضت مهجتي بين العذيب وبارق

ومنها:

فلا تتعبن ريح الصبا في رسالة ... ولا تخجل الطيف الذي كان طارقي

متى طعمت عيني الكرى بعد بعدكم ... فإني في دعوى الهوى غير صادق

وقال:

بدا بدر فوقه الليل عسعسا ... وجنة أنس في صباح تنفسا

حوى النجم قرطاً والدراري مقلداً ... وأسبل من الذوائب حندسا

كأن سنا الإصباح رام يزورنا ... وخاف العيون الرامقات فغلسا

أتى يحمل التوراة طبياً مزنراً ... لطيف التثني أشنب الثغر ألعسا

وقابل أحبار اليهود بوجهه ... فبارك عليه ربي (57) وقدسا

فصير دمعي أعيناً شرب سبطه ... وعمري تيهاً والجوانح مقدساً

ومنها:

رويت ولوعي عن ضلوعي مسلسلاً ... فأصبحت في علم الغرام مدرسا

نفى النوم عني كي أكون مسهداً ... فأصبحت في صيد الخيال مهندسا

غزال من الفردوس تسقيه أدمعي ... ويأوي إلى قلبي مقيلاً ومكنسا

طغى ورد خديه بجنات (58) صدغه ... فأضعفه بالآس نبتاً وما أسا

وهذا البيت محال على معنى فلاحي، قال أهل الفلاحة: إن الآس إذا اغترس بين شجر الورد أضعفه بالخاصية.

وقال رحمه الله تعالى ورضي عنه (59) :

نام طفل النبت في حجر النعامى ... لاهتزاز الطل في مهد الخزامى

وسما (60) الوسيمي أغصان النقا ... فهوت تلثم أفوا الندامى

كحل الفجر لهم جفن الدجى ... وغدا في وجنة الصبح لثاما

تحسب البدر محيا ثمل ... قد سقته راحة الصبح مداما

حوله الزهر (61) كؤوس قد غدت ... مسكة الليل عليهم ختاما

يا عليل الريح رفقاً علني ... أشف بالسقم الذي حزت سقاما

أبلغن شوقي عريباً باللوى ... همت في أرض بها حلوا غراما

فرشوا فيها من الدر حصى ... ضربوا فيها من المسك خياما

كنت أشفي غلة من صدكم ... لو أذنتم لجفوني أن تنام

واستفدت الروح من ريح الصبا ... لو أتت تحمل من سلمى سلاما

وقال منها أيضاً:

نشأت للصب منها زفرة ... تسكب الدمع على الربع سجاما

طرب البرق مع القلب بها ... وبها الأنات طارحن الحماما

طلل لا تشتفي الأذن به ... وهو للعينين قد ألقى كلاما

ترك الساكن لي من وصله ... ضمة الجدران لئماً والتزاما

نزعات من سليمان بها ... فهم القلب معانيها فهاما

شادن يرعى حشاشات الحشا ... حسب حظي منه أن أرعى الذماما

وقال (62) :

أأرجو أماناً منك واللحظ غادر ... ويثبت عقلي (63) فيك والطرف ساحر

ومنها:

أعد سليمان أليم عذابه ... لطائر قلبي فهو للبين صائر (64)

أشاهد منه الحسن في كل نظرة ... وناظر أفكاري بمغناه (65) ناظر

دعت للهوى أنصار سحر جفونه ... فقلبي له عن طيب نفس مهاجر

إذا شق عن بدر الدجى أفق زره ... فإني بتمويه العواذل كافر

وفي حرم السلوان طابت خواطري ... وقلبي لما في وجنته مجاور

وقد ينزع القلب المبلى (66) لسلوة ... كما اهتز من قطر الغمامة طائر

يقابل أغراضي بضد مرادها ... ولم يدر أن الضد للضد قاهر

ونار اشتياقي صعدت مزن أدمعي ... فمضر سري فوق خدي ظاهر

وقد كنت باكي العين والبين غائب ... فقل لي كيف الدمع (67) والبين حاضر

وليس النوى بالطبع مراً، وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر (68)

وقال:

يا بارقاً قاد الخيال فأومضا ... اقصد بطيفك مدنفاً قد غمضا

ذاك الذي قد كنت تعهد نائماً ... بالسهد من بعد الأحبة عوضا

لا تحسبني معرضاً عن طيفه ... لكن منامي عن جفوني أعرضا

ومنها:

عجب الوشاة لمهجتي أن لم تذب ... يوم النوى وتشككت فيما مضى

خفيت لهم من سر صبري آية ... ما فهمت إلا سليمان الرضى

لله درك ناهجاً سبل الهوى ... فلمثله أمر الهوى قد فوضا

أمنت نملاً فوق خدك سارحاً ... وسللت سيفاً من جفونك منتضى

وقال في المدح:

حريص على جر الذوائب والقنا ... إذا كعت الأبطال والجو عابس

ويعتنق الأبطال، لولا سقوطها ... لقلت: لتوديع أتته الفوارس

إذا اختطفتهم كفه فسروجهم ... مجال، وهم في راحتيه فرائس

وقال يمدح السلطان أبا الوليد ابن نصر عند قدومه من فتح أشكر (69) :

بحيث البنود الحمر والأسد الورد ... كتائب سكان السماء لها جند (70)

وتحت لواء النصر ملك هو الورى (71) ... تضيق به الدنيا إذا راح أو يغدو

تأمنت الأرواح في ظل بنده ... كأن جناح الروح من فوق بند

فلو رام إدراك النجوم لنالها ... ولو هم لانقادت له الهند والسند

ومنها:

بعيني بحر النقع تحت أسنة ... تنمنمه وهناً كما نمنم البرد

سماء عجاج والأسنة شهبها ... ووقع القنا رعد إذا وقع الهند

وظنوا أن الرعد والصعق في السما ... محاق به من أيده الصعق والرعد

عجائب أشكال سما هرمس بها ... مهندسة تأتي الجبال فتنهد

ألا إنها الدنيا تريك عجائباً ... وما في القوى منها فلا بد أن (72) يبدو

وقال وهو معتقل:

تباعد عني منزل وحبيب ... وهاج اشتياقي والمزار قريب

وإني على قرب الحبيب مع النوى ... يكاد إذا اشتد الأنين يجيب

لقد بعدت عني ديار قريبة ... عجبت لجار الجنب وهو قريب

أعاشر أقواماً تقر نفوسهم ... فللهم فيها عند ذاك ضروب

إذا شعروا من جارهم بتأوه ... أجابته منهم زفرة ونحيب

فلا ذاك يشكوهم هذا تأسفاً ... لكل امرئ مما دهاه نصيب

كأني في غاب الليوث مسالم ... يروعني منه الغداة وثوب

تحكم فيها الدهر والعقل حاضر ... بكل قياس والأديب أديب

ولو مال بالجهال ميلته بنا ... لجاء بعذر: إن ذا لعجيب

رفيق بما لا ينثني عن جريمة ... بطوش بمن ما أوبقته ذنوب

ويطعمنا منه بوارق خلب ... نقول عساه يرعوي فيؤوب (73)

إذا ما تشبثنا بأذيال برده ... دهتنا إذا جر الخطوب خطوب

أدار علينا صولجاناً، ولم يكن ... سوى أنه بالحادثات لعوب

ومنها:

أيا دهر إني قد سئمت تهدفي ... أجرني فإن السهم منك مصيب

إذا خفق البرق الطروق أجابه ... فؤادي ودمع المقلتين سكوب

وإن طلع الكف الخضيب بسحرة ... فدمعي بحناء الدماء خضيب

تذكرني الأسحار (74) دارا ألفتها ... فيشتد حزني والحمام دروب

إذا علقت نفسي بليت وربما ... تكاد تفيض أو تكاد تذوب

دعوتك ربي والدعاء ضراعة ... وأنت تناجى بالدعا فتجيب

لئن كان عقبى الصبر فوزاً وغبطة ... فإني على الصبر الجميل دروب

قال: وبعثت إليه هدية من البادية، فقال يصف منها ديكاً:

أيا صديقاً جعلته سندا ... فراح فيما أحبه وغدا

طلبت منكم سريدكاً (75) خنثاً ... وجئتم لي مكانه لبدا

صير مني مؤرخاً ولكم ... ظللت من علمه من البلدا

قلت له: آدم أتعرفه ... قال: حفيدي بعصرنا ولدا

نوح وطوفانه رأيتهما ... قال: علونا بفيضه أحدا

فقلت: هل لي بجرهم خبر ... فقال: قومي وجيرتي السعدا

فقلت: قحطان هل مررت به ... قال: نفثنا ببرده العقدا

فقلت: صف لي سبا وساكنها ... فعند هذا تنفس الصعدا

فقال: كم لي بدجنهم سحراً ... من صرخة لي وللنوم هدا

فقلت: هاروت هل سمعت به ... فقال: ريشي لسهمه نفدا

فقلت: كسرى وآل شرعته ... فقال: كنا بجيشه وفدا

ولوا وصاروا وها أنا لبد ... فهل رأيتم من فوقهم أحدا

ديك إذا ما انثنى لفكرته ... رأى وجوداً طرائقاً قددا

يرفل في طيلسانه ولهاً ... قد صير الدهر لونه كمدا

إذا دجا الليل غاب هيكله ... كأن حبراً عليه قد جمدا

كأنما جلنار لحيته ... برجان جازا من الهواء مدى

كأن حصناً علا بهامته ... أعده للقتال فيه عدا

يرنو بياقوتتي لواحظه ... كأنما اللحظ منه قد رمدا

كأن منجالتي ذوائبه ... قوس سماء من أصله بعدا

وعوسج مد من مخالبه ... طغى بها في نقاده وعدا

فذاك ديك جلت محاسنه ... له صراخ بين الديوك بدا

يطلبني بالذي فعلت به ... فكم فللنا بلبتيه مدا

وجهته محنة لآكله ... والله ما كان ذاك منك سدى

ولم نزل بعد نستعدي عليه بإقراره بقتله، ونطلبه بالقود عند تصرفه بالعمل، فيوجه الدية لنا في ذلك رسائل.

وقال في غرض أبي نواس (76) :

طرقنا ديور القوم وهناً وتغليسا ... وقد شرفوا الناسوت إذ عبدوا عيسى

وقد رفعوا الإنجيل فوق رؤوسهم ... وقد قدسوا الروح المقدس تقديسا

فما استيقظوا إلا لصكة بابهم ... فأدهش رهباناً وروع قسيسا

وقام بها البطريق يسعى ملبياً ... وقد لين الناقوس رفعاً وتأنيسا

فقلنا له أمناً فإنا عصابة ... أتينا لتثليث وإن شئت تسديسا

وما قصدنا إلا الكؤوس وإنما ... لحنا له في القول خبثاً وتدليسا

ففتحت الأبواب بالرحب منهم ... وعرس طلاب المدامة تعريسا

فلما رأى رقي (77) أمامي ومزهري ... دعاني أتأنيساً لحنت وتلبيسا

وقام إلى دن بفض ختامه ... فكبس أجرام الغياهب تكبيسا

وطاف بها رطب البنان مزنر ... فأبصرت عبداً صير الحر مرؤوسا

سلافاً حواها القار لبساً فخلتها ... مثالاً من الياقوت في الحبر مغموسا

ومنها:

إلى أن سطا بالقوم سلطان نومهم ... ورأس فتيل (78) الشمع نكس تنكيسا

وثبت إليه بالعناق فقال لي: ... بحق الهوى هب لي من الضم تنفيسا

كتبت بدمع العين صفحة خده ... فطلس حبر الشعر كتبي تطليسا

فبئس الذي احتلنا وكدنا عليهم ... وبئس الذي قد أضمروا قبل ذا بيسا

فبتنا يرانا الله شر عصابة ... نطيع بعصيان الشريعة إبليسا

وقال بديهة في غزالة من النحاس ترمي الماء على بركة:

عنت لنا من وحشة ... جاءت لورد الماء ملء عنانها

وأظنها إذا حددت آذانها ... ريعت بنا فتوقفت بمكانها

حيت بقرني رأسها إذ لم تجد ... يوم اللقاء تحية ببنانها

حنت على الندمان من إفلاسهم ... فرمت قضيب لجينها لحنانها (79)

لله در غزالة أبدت لنا ... در الحباب تصوغه بلسانها

لسان الدين: وفلج المذكور، فلزم منزلي لمكان فضله ووجوب حقه، وقد كانت زوجته توفيت، وصحبه عليها وجد، فلما ثقل وقربت وفاته استدعاني وكاد لسانه لا يبين، فأوصاني وقال:

إذا مت فادفني حذاء حليلتي ... يخالط عظمي في التراب عظامها

ولا تدفنني في البقيع فإنني ... أريد إلى (80) يوم الحساب التزامها

ورتب ضريحي كيفما شاءه الهوى ... تكون أمامي أو أكون أمامها

لعل إله العرش يجبر صدعتي ... فيعلي مقامي عنده ومقامها

ومات رحمه الله تعالى في الخامس والعشرين لذي قعدة لعام ثلاثة وخمسين وسبعمائة ودفن بحذاء زوجته كما عهد رحمه الله تعالى؛ انتهى.

ومن نظم ابن هذيل:

وظبي زارني والليل طفل ... إلى أن لاح لي منه اكتهال

وألغى الشك من وصل فقلنا ... بليل الشك يرتقب الهلال

5- ومن أشياخ لسان لدين: الشيخ أبو بكر ابن ذي الوزارتين، وهو - أعني أبا بكر – الوزير الكاتب الأديب الفاضل المشارك المتفنن المتبحر في الفنون أبو بكر محمد ابن الشيخ الشهير ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم الرندي (81) ، ومن نظمه قوله (82):

تصبر إذا ما أدركتك ملمة ... فصنع إله العالمين عجيب

وما يلحق (83) الإنسان عار بنكبة ... ينكب فيها صاحب وحبيب

 

ففي من مضى للمرء ذي العقل أسوة ... وعيش كرام الناس ليس يطيب

ويوشك أن تهمي سحائب نعمة ... فيخضب ربع للسرور جديب

إلهك يا هذا قريب لمن دعا ... وكل الذي عند القريب قريب

قال ابن خاتمة: وأنشدني الوزير أبو بكر مقدمه على المرية غازياً مع الجيش المنصور، قال: أنشدني أبي:

ولما رأيت الشيب حل بمفرقي ... نذيراً بترحال الشباب المفارق

رجعت إلى نفسي فقلت لها انظري ... إلى ما أرى، هذا ابتداء الحقائق

 

[ترجمة أبي عبد الله ابن الحكيم]

وبيتهم بيت كبير، وأخذ عن غير واحد وعن والده، وهو ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد (84) بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى، اللخمي، الرندي، الكاتب البليغ الأديب الشهير الذكر بالأندلس، وأصل سلفه من إشبيلية من أعيانها، ثم انتقلوا إلى رندة في دولة بني عباد، ويحيى جد والده هو المعروف بالحكيم (85) لطبه، وقدم ذو الوزارتين على حضرة غرناطة أيام السلطان أبي عبد الله محمد بن محمد بن نصر إثر قفوله من الحج في رحلته التي رافق بها العلامة أبا عبد الله ابن رشيد الفهري، فألحقه السلطان بكتابه، وأقام يكتب له في ديوان الإنشاء إلى أن توفي هذا السلطان وتقلد الملك بعده ولي عهده أبو عبد الله المخلوع فقلده الوزارة والكتابة، وأشرك معه في الوزارة أبا سلطان عبد العزيز بن سلطان الداني، فلما توفي أبو سلطان أفرده السلطان بالوزارة، ولقبه ذا الوزارتين، وصار صاحب أمره إلى أن توفي بحضرة غرناطة قتيلاً نفعه الله تعالى غدوة يوم الفطر مستهل شوال سنة ثمان وسبعمائة، وذلك لتاريخ خلع سلطانه وخلافة أخيه أمير المسلمين أبي الجيوش مكانه، ومولده برندة سنة ستين وستمائة.

وكان رحمه الله تعالى علماً في الفضيلة والسراوة ومكارم الأخلاق، كريم لنفس واسع الإيثار، متين الحرمة عالي الهمة، كاتباً بليغاً أديباً شاعراً، حسن الخط يكتب خطوطاً على أنواع كلها جميلة الانطباع، خطيباً فصيح القلم زاكي الشيم، مؤثراً لأهل العم والأدب براً بأهل الفضل والحسب، نفقت بمدته للفضائل أسواق، وأشرقت بإمداده للأفاضل آفاق. ورحل للمشرق كما سبق، فكانت إجازته البحر من المرية، فقضى فريضة الحج، وأخذ عمن لقي هنالك من الشيوخ، فمشيخته متوافرة، وكان رفيقه كما مر الخطيب أبا عبد الله ابن رشيد الفهري، فتعاونا على هذا الغرض، وقضيا منه كل نفل ومفترض، واشتركا فيمن أخذا عنه من الأعلام، في كل مقام، وكانت له عناية بالرواية وولوع بالأدب، وصبابة باقتناء الكتب، جمع من أمهاتها العتيقة، وأصولها الرائقة الأنيقة، ما لم يجمعه في تلك الأعصر أحد سواه، ولا ظفرت به يداه، أخذ عنه الخطيب الصالح أبو إسحاق ابن أبي العاصي، وتدبج معه رفيقه أبو عبد الله ابن رشيد وغير واحد، وكان ممدحاً، وممن مدحه الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي والرئيس أبو الحسن ابن الجياب، وناهيك بهما.

ومن بديع مدح ابن الجياب له قصيدة رائقة يهنيه فيها بعيد الفطر منها في أولها (86) :

يا قادماً عمت الدنيا بشائره ... أهلا بمقدمك الميمون طائره

ومرحباً بك من عيد تحف به ... من السعادة أجناد تظافره

قدمت فالخلق في نعمى وفي جذل ... أبدى بك البشر باديه وحاضره

والارض قد لبست أثواب سندسها ... والروض قد بسمت منه أزاهره

حاكت يد الغيث في ساحاته حللاً ... لما سقاها دراكاً منه باكره

فلاح فيها من الأنوار باهرها ... وفاح فيها من النوار عاطره

وقام فيها خطيب الطير مرتجلاً ... والزهر قد رصعت منه منابره

موشي ثوب طواه الدهر آونة ... فها هو اليوم للأبصار ناشره

فالغصن من نشوة يثني معاطفه ... والطير من طرب تشدو مزاهره

وللكمام انشقاق عن أزاهرها ... كما بدت لك من خل ضمائره

لله يومك ما أزكى فضائله ... قامت لدين الهدى فيه شعائره

فكم سريرة فضل فيك قد خبئت ... وكم جمال بدا للناس ظاهره

فافخر بحق على الأيام قاطبة ... فما لفضلك من ند يظاهره

فأنت في عصرنا كابن الحكيم إذا ... قيست بفخر أولي العليا مفاخره

يلتاح منه بأفق الملك نور هدى ... تضاءل الشمس مهما لاح زاهره

مجد صميم على عرش السماك سما ... طالت مبانيه واستعلت مظاهره

وزارة الدين والعلم التي رفعت ... أعلامه والندى الفياض زاخره

وليس هذا ببدع من مكارمه ... ساوت أوائله فيه أواخره

يلقى الأمور بصدر منه منشرح ... بحر وآراؤه العظمى جواهره

راعى أمور الرعايا معملاً نظراً ... كمثل علياه معدوماً نظائره

والملك سير في تدبيره حكماً ... تنال ما عجزت عنه عساكره

سياسة الحلم لا بطش يكدرها ... فهو المهيب وما تخشى بوادره

لا يصدر الملك إلا عن إشارته ... فالرشد لا تتعداه مصايره

تجري الأمور على أقصى إرادته ... كأنما دهره فيه يشاوره

وكم مقام له في كل مكرمة ... أنست موارده فيها مصادره

ففضلها طبق الآفاق أجمعها ... كأنه مثل قد سار سائره

فليس يجحده إلا أخو حسد ... يرى الصباح فيعشى منه ناظره

لا ملك أكبر من ملك يدبره ... لا ملك أسعد من ملك يوازره

يا عز أمر به اشتدت مضاربه ... يا حسن ملك به ازدانت محاضره

تثني البلاد وأهلوها بما عرفوا ... ويشهد الدهر آتيه وغابره

بشرى لآمله الموصول مأمله ... تعساً لحاضره المقطوع دابره

فالعلم أشرقت نور مطالعه ... والجود قد أسبلت سحاً مواطره

والناس في بشر، والملك في ظفر ... عال على كل عالي القدر قاهره

والأرض قد ملئت أمناً جوانبها ... بيمن من خلصت فيها سرائره

وإلى أياديه من مثنى وموحدة ... تساجل البحر إن فاضت زواخره

فكل يوم تلقانا عوارفه ... كساه أمواله الطولى دفاتره

فمن يؤدي لمن أولاه من نعم ... شكراً ولو أن سحباناً يظاهره

يا أيها العيد بادر لثم راحته ... فلثمها خير مأمول تبادره

وافخر بأن قد لقيت ابن الحكيم على ... عصر يباريك أو دهر تفاخره

ولى الصيام وقد عظمت حرمته ... فأجره لك وافيه ووافره

وأقبل العيد فاستقبل به جذلاً ... واهنأ به قادماً عمت بشائره

ومن نثر ذي الوزارتين آخر إجازة ما صورته: وها أنا أجري معه على حسن معتقده، إلى ما رآه بمقتضى تودده، وأجيز له ولولديه أقر الله بهما عينه، وجمع بينهما وبينه، رواية جميع ما نقلته وحملته، وحسن اطلاعه يفصل من ذلك ما أجملته، فقد أطلقت لهم الإذن في جميعه، وأبحت لهم الحمل عني ولهم الاختيار في تنويعه، والله سبحانه يخلص أعمالنا لذاته، ويجعلها في ابتغاء مرضاته، قال هذا محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم حامداً لله عز وجل، ومصلياً.

ومن شعر ذي الوزارتين ابن الحكيم قوله (87) :

ما أحسن العقل وآثاره ... لو كان لازم الإنسان إيثاره

يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصون الحر أسراره

لا سيما إن كان في غربة ... يحتاج أن يعرف مقداره

وقوله رحمه الله (88) :

إني لأعسر أحياناً فيلحقني ... يسر من الله إن العسر قد زالا

يقول خير الورى في سنة ثبتت ... " أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا "

وهو من أحسن ما قال رحمه الله.

ومن شعر ذي الوزارتين المذكور قوله (89) :

فقدت حياتي بالعراق ومن غدا ... بحال نوى عمن يحب فقد فقد

ومن أجل بعدي عن ديار ألفتها ... جحيم فؤادي قد تلظى وقد

وقد سبقه إلى هذا القائل:

أواري أواري بالدموع تجلداً ... وكم رمت إطفاء اللهيب وقد وقد

فلا تعذلوا من غاب عنه حبيبه ... فمن فقد المحبوب فقد

كذا رواه ابن خاتمة، ورواه غيره هكذا:

أواري أواري والدموع تبينه

وهو الصواب، قال ابن خاتمة: وأنشدني رئيس الكتاب الصدر البليغ الفاضل أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان النجاري، قال: أنشدني رئيس الكتاب الجليل أبو محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي، قال: أنشدني رئيس الكتاب ذو الوزارتين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم رحمه الله:

صح الكتاب وعنه ... واختم على مكنته

واحذر عليه من مخا ... لسة الرقيب بجفنه

واجعل لسانك سجنه ... كيلا ترى في سجنه

قال ابن خاتمة: وفي سند هذه القطعة نوع غريب من التسلسل.

وحكى أن ذا الوزارتين المذكور لما اجتمع مع الجليل الفقيه الكاتب ابن أبي مدين أنشده ابن أبي مدين (90) :

عشقتكم بالسمع قبل لقاكم ... وسمع الفتى يهوى لعمري كطرفه

وحببني ذكر الجليس إليكم ... فلما التقينا كنتم فوق وصفه

فأنشد ذو الوزارتين ابن الحكيم:

ما زلت أسمع عن عيناك كل سناً ... أبهى من الشمس أو أجلى من القمر

حتى رأى بصري فوق الذي سمعت ... أذني فوفق بين السمع والبصر

ويعجبني في قريب من هذا المعنى قول الحاج الكاتب أبي إسحاق الحسناوي (91) رحمه الله:

سحر البيان بناني صار يعقده ... والنفث في عقده من منطقي الحسن

لا أنشد المرء يلقاني ويبصرني ... أنا المعيدي فاسمع بي ولا ترني

رجع - وقال لسان الدين في عائد الصلة في حق ذي الوزارتين ابن الحكيم ما صورته (92) : كان رحمه الله فريد دهره سماحة وبشاشة ولوذعية وانطباعاً، رقيق الحاشية، نافذ العزمة، مهتزاً للمديح، طلقاً للآمل، كهفاً للغريب، برمكي المائدة مهلبي الحلوى (93) ، ريان من الأدب، مضطلعاً بالرواية، مستكثراً من الفائدة، يقوم على المسائل الفقهية، ويتقدم الناس في باب التحسين والتقبيح، ورفع راية الحديث والتحديث، نفق بضاعة الطلب، وأحيا معالم الأدب، وأكرم العلم والعلماء، ولم تشغله السياسة عن النظر، ولا عاقة تدبير الملك عن المطالعة والسماع، وأفرط في اقتناء الكتب حتى ضاقت تصوره عن خزائنها، وأثرت أنديته من ذخائرها، قام له الدهر على رجل، وأخدمه صدور البيوتات وأعلام الرياسات، وخوطب من البلاد النازحة، وأمل في الآفاق النائبة؛ انتهى المقصود منه.

ومن أحسن ما رثي به الوزير ابن الحكيم رحمه الله قول بعضهم:

قتلوك ظلماً واعتدوا ... في فعلهم حد الوجوب

ورموك أشلاء، وذا ... أمر قضته لك الغيوب

إن لم يكن لك سيدي ... قبر فقبرك في القلوب

وقال لسان الدين في الإحاطة في حق رحلة ذي الوزارتين ابن الحكيم ما صورته (94) : رحل إلى الحجاز الشريف من بلده على فتاء سنه أول عام ثلاثة وثمانين وستمائة، فحج وزار، وتجول في بلاد المشرق منتجعاً عوالي الرواية في مظانها، ومنقراً عنها عند مسني شيوخها، وقيد الأناشيد الغربية والأبيات المرقصة، وأقام بمكة شرفها الله من شهر رمضان إلى انقضاء المسم، فأخذ بها عن جماعة، وانصرف إلى المدينة المشرفة، ثم قفل مع الركب الشامي إلى دمشق، ثم كر إلى المغرب، لا يمر بمجلس علم أو نعلم إلا روى أو روى، واحتل رندة حرسها الله أواخر عام خمسة وثمانين وستمائة، فأقام بها عيناً في فرابته، وعلماً في أهله، معظماً لديهم، إلى أن أوقع السلطان بالوزراء من بني حبيب الوقيعة البرمكية وورد رندة في أثر ذلك، فتعرض إليه وهنأه بقصيدة طويلة من أوليات شعره أولها (95) :

هل إلى رد عشيات الوصال ... سبب أم ذاك من ضرب المجال؟

فلما أنشدها إياه أعجب به وبحسن خطه ونصاعة ظرفه، فأثنى عليه، واستدعاه إلى الوفادة على حضرته، فوفد آخر عام ستة وثمانين، فأثبته في خواص دولته، وأحظاه لديه، إلى أن رقاه إلى كتابة الإنشاء ببابه، واستمرت حاله معظم القدر مخصوصاً بالمزية، إلى أن توفي السلطان ثاني الملوك من بني نصر، وتقلد الملك بعده ولي عهده أبو عبد الله، فزاد في إحظائه وتقريبه، وجمع له بين الكتابة والوزارة، ولقبه بذي الوزارتين، وأعطاه العلامة، وقلده الأمر فبعد الصيت وطاب الذكر، إلى أن كان من أمره ما كان؛ انتهى ملخصاً.

وقال في الإحاطة بعد كلام طويل في ترجمته: قال شيخنا الوزير أبو بكر ابن الحكيم ولده: وجدت بخطه رحمه الله تعالى رسالة خاطب بها أخاه الأكبر أبا إسحاق إبراهيم افتتحها بقصيدة أولها (96) :

ذكر اللوى شوقاً إلى أقماره ... فقضى أسى أو كاد من تذكاره

وعلا زفير حريق نار ضلوعه ... فرمى على وجناته بشراره (97)

وقد ذكرناها في غير هذا المحل.

وقال مما يكتب على قوس (98) :

أنا عدة للدين في يد من غدا ... لله منتصراً على أعدائه

أحكي الهلال وأسهمي في رجمها ... لمن اعتدى تحكي رجوم (99) سمائه

قد جاء في القرآن أني عدة ... إذ نص خير الخلق محكم آيه

وإذا العدو أصابه سهمي فقد ... سبق القضاء بهلكه وفنائه

قال لسان الدين (100) : ومن توقيعه ما نقلته من خط ولده، يعني أبا بكر، في كتابه المسمى بالموارد المستعذبة وكان بوادي آش الفقيه الطرائفي (101)، فكتب إلى خاصة والدي أبي جعفر ابن داود، قصيدة على روي السين، يتشكى فيها من مشرف بلدهم إذ ذاك أبي القاسم ابن حسان منها:

فيا صفي أبي العباس كيف ترى ... وأنت أكيس من فيها من أكياس

ولوه إن كان ممن ترتضون به ... فقد دنا الفتح للأشراف في فاس

ومنها يستطرد ذكر ذي الوزارتين:

للشرق فضل فمنه أشرقت شهب ... من نورهم أقبسونا كل مقباس

فوقع عليها رحمه الله تعالى:

إن أفرطت بابن حسان غوائله ... فالأمر يكوه ثوب الذكر والباس

وإن تزل به في جورة قدم ... كان الجزاء له ضرب على الراس

فقد أقامني المولى بنعمته ... لبث أحكامه بالعدل في الناس

ثم أطال في أمره، إلى أن قال في ترجمه قتله ما صورته (102) : واستولت يد الغوغاء على منازله، شغلهم بها مدبر الفتنة خيفة من أن يعاجلوه قبل تمام أمره، فضاع بها مال لا يكتب، وعروض لا يعلم لها قيمة من الكتب والذخيرة والفرش والآنية والسلاح والمتاع والخرثي، وأخفرت ذمته، وتعدى به عدوه القتل إلى المثلة، وقانا الله مصارع السوء، فطيف بشلوه، وانتهب، فضاع ولم يقبر، وجرت فيه شناعة كبيرة، رحمه الله تعالى؛ انتهى المقصود منه.

رجع:

6- ومن مشايخ لسان الدين الأستاذ أبو الحسن علي القيجاطي (103) .

وقال في حقه في الإحاطة ما محصله: علي بن عمر بن إبراهيم بن عبد الله الكناني، القيجاطي، أبو الحسن، أوحد زمانه علماً وتخلقاً وتواضعاً وتفنناً، ورد على غرناطة مستدعى عام اثني عشر وسبعمائة، وقعد بمسجدها الأعظم يقرأ فنوناً من العلم من قراءات وفقه وعربية وأدب، وولي الخطابة، وناب عن بعض القضاة بالحضرة، مشكور المأخذ حسن السيرة عظيم النفع، وقصده الناس وأخذوا عنه، وكان أديباً لوذعياً فكهاً حلواً، وهو أول أستاذ قرأت عليه القرآن والعربية والأدب إثر قراءة المكتب، وله تآليف في فنون وشعر ونثر، فمن شعره قوله (104) :

روض المشيب تفتح أزهاره ... حتى استبان ثغامه وبهاره

ودجى الشباب قد استبان صباحه ... وظلامه قد لاح في نهاره

فاتى حمام لا يعاف وقوعه ... ومضى غراب لا يخاف مطاره

والعمر مثل البدر يبدو حسنه ... حيناً ويعقب بعد ذاك سراره

ما للإخاء تقلصت أفياؤه ... ما للصفاء تكدرت آثاره

والحر يصفح إن أخل خليله ... والبر يسمح إن تجرأ جاره

فتراه يدفع إن تمكن جاهه ... وتراه ينفع إن علا مقداره

ولأنت تعلم أنني زمن الصبا ... ما زلت زنداً والحياء سواره

ولأنت تعلم أنني زمن الصبا ... ما زلت ممن عف فيه إزاره

والهجر ما بين الأحبة لم يزل ... ترك الكلام أو السلام مثاره

ولكم تجافى عن جفاء خليله ... فطن، وقد ظفرت به أظفاره

ولكم أصر على التدابر مدبر ... أفضى إلى ندم به إصراره

فأقام كالكسعي بان نهاره ... أو كالفرزدق فارقته نواره

أنكرتم من حق معترف لكم ... بالحق ما لا ينبغي إنكاره

والشرع قد منع التقاطع نصه ... قطعاً، ونقد وردت به أخباره

والسن سن تورع وتبرع ... وتسرع لتشرع تختاره

ما يومنا من أمسنا قدك اتئد ... ذهب الشباب فكيف ينفى عاره

هلا حظرتم أو حذرتم منه ما ... حق عليكم حظره وحذاره

عجباً لمن يجري هواه لغاية ... محدودة إضماره مضماره

يأتي ضحاً ما كان يأتيه دجى ... فكأنه ما شاب منه عذاره

فيعد ما تفنى به حسناته ... ويعيد ما تبقى به أوزاره

فالنفس قد أجرته ملء عنانها ... يشتد في مضمارها إحضاره

والمرء من إخوانه في جنة ... بل جنة تجري بها أنهاره

واليمن قد مدت إليه يمينه ... واليسر قد شدت عليه يساره

شعر به أشعرت بالنصح الذي ... يهديه من أشعاره إشعاره

ولو اختبرتم نقده بمحكة ... لامتاز بهرجه ولاح نضاله

هذا هدى فبه اقتده تنل المنى ... أو أنت في هذا وما تختاره

وعليكم مني سلام مثلما ... أرجت بروض يانع أزهاره

وقال من قصيدة رثائية (105) :

حمام حمام فوق أيك الأسى تشدو ... تهيج من الأشجان ما أوجد الوجد

وذلك شجو في حناجرنا شجاً ... وذلك هزل في ضمائرنا جد

أرى أرجل الأرزاء تشتد نحونا ... وأيديها تسعى إلينا فتمتد

ونحن أولو سهو عن الأمر ما لنا ... سوى أمل إيجابنا عنده جحد

فإن خطرت للمرء ذكرى بخاطر ... فتسبيحة الساهي إذا سمع الرعد

مصاب به قدت قلوب وأنفس ... لدينا إذا في غيره قطعت برد

تلين له الصم الصلاب وتنهمي ... عيون ويبكي عنده الحجر الصلد

فلا مقلة ترنو، ولا أذن تعي ... ولا رائحة تعطو، ولا قدم تعدو

وقد كان يبدو الصبر منا تجلداً ... وهذا مصاب صبرنا فيه ما يبدو

مولده عام خمسين وستمائة، وتوفي بغرناطة ضحى السبت في السابع والعشرين لذي الحجة عام ثلاثين وسبعمائة، وحضره السلطان فمن دونه، رحمه الله تعالى؛ وانتهى.

7- ومنهم العلامة شيخ الشيوخ أبو سعيد فرج بن لب (106) .

قال في " الإحاطة " في حقه ما محصله: فرج من قاسم بن أحمد بن لب،

قال ابن الصباغ: من شعر ابن لب يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إذا القلب ثار أثار ادكارا ... لقلبي فأذكى عليه أوارا

تروم جفوني لنار الهوى ... خموداً فتهمي دموعاً غزارا

فماء جفوني يسح انهمالا ... ونار فؤادي تهيج استعارا

أطيل العويل صباحاً مساء ... كئيبا ولست أطيق اصطبارا

رقيت مراقي للحب شتى ... فأفنى مراراً وأحيا مرارا

أحن اشتياقاً لريح سرت ... وأبدي هياماً لبرق أنارا

حنيناً وشوقاً إلى معلم ... حوى شرفاً خالداً لا يجارى

به أسكن الله أسمى الورى ... نبياً كريماً وصحباً خيارا

هو المصطفى المنتقى المجتبى ... أرى معجزات وآياً كبارا

يحق علينا ركوب البحار ... وجوب القفار إليه ابتدارا

ومنها:

فيا فوز من فاز في طيبة ... بلثم المغاني جداراً جدارا

وألصق خداً على تربها ... وأكمل حجاً بها واعتمارا

وأهدى السلام لخير الأنام ... على حين وافى عليه مزارا

فيا هادي الخلق دار نعيم ... تناهت جمالاً وطابت قرارا

لأنت الوسيلة والمرتجى ... ليوم يرى الناس فيه سكارى

وما هم سكارى، ولكنهم ... دهتهم دواه فهاموا حيارى

ترى المرء للهول من أمه ... ومن أقربيه يطيل الفرارا

وكل يخاف على نفسه ... فيكسوه خوف الإله انكسارا

فصلى الإله، رسول الهدى، ... عليك، وأبقى هداك منارا

وقدس ربي ثرى روضة ... يعم الجهات سناها انتشارا

 

أعبر شذا المسك منها الثرى ... بل المسك منه شذاه استعارا

هنيئاً لمن بهداك اهتدى ... ومغناك وافى، وإياك زارا

وقصد رحمه الله تعالى بهذه القصيدة معارضة قصيدة الشبهاب محمود التي نظمها بالحجاز في طريق المدينة الشرفة على ساكنها الصلاة والسلام، وهي طويلة، ومطلعها:

وصلنا السرى وهجرنا الديارا ... وجئناك نطوي إليك القفارا

وقد تبارى الشعراء في هذا الوزن وهذا الروي، ومنه القصيدة المشهورة:

أقول وآنست بالحي نارا

ولابن لب رحمه الله تعالى الفتاوى المشهورة

وقال في الإحاطة في حقه ما محصله: فرج بن قاسم بن أحمد بن لب التغلبي غرناطي أبو سعيد، من أهل الخير والطهارة والذكاء والديانة وحسن الخلق، رأس بنفسه وبرز بمزية إدراكه وحفظه، فأصبح حامل لواء التحصيل وعليه مدار الشورى وإليه مرجع الفتوى، لقيامه على الفقه وغزارة علمه وحفظه، إلى المعرفة بالعربية واللغة، ومعرفة التوثيق والقيام على القرارات والتبريز في التفسير، والمشاركة في الأصلين والفرائض والأدب، وجودة الحفظ؛ وأقرأ بالمدرسة النصرية في الثامن والعشرين لرحب عام أربعة وخمسين وسبعمائة، معظماً عند الخاصة والعامة، مقروناً اسمه بالتسويد، قعد للتدريس ببلده على وفور الشيوخ، وولي الخطابة بالجامع. قرأ على القيجاطي، والعربية على ابن الفخار، وأخذ عن ابن جابر الوادي آشي، فمن شعره في النسيب (107) :

خذوا للهوى من قلبي اليوم ما أبقى ... فما زال قلبي كله للهوى رقا

دعوا القلب يصلى في لظى الوجد ناره ... فنار الهوى الكبرى وقلبي هو الأشقى

سلوا اليوم أهل الوجد ماذا به لقوا ... فكل الذي يلقون بعض الذي ألقى

فإن كان عبد يسأل العتق سيداً ... فلا أبتغي من مالكي في الهوى عتقا

بدعوى الهوى يدعو أناس وكلهم ... إذا سئلوا طرق الهوى جهلوا الطرقا

فطرق الهوى شتى ولكن أهله ... يحوزون في يوم السباق بها السبقا

وكم جمعت طرق الهوى بين أهلها ... وكم أظهرت عند السوى بينهم فرقا

بسيما الهوى تسمو معارف أهله ... فحيث ترى سيما الهوى فاعرف الصدقا

فمن زفرة تزجي سحائب عبرة ... إذا زفرة ترقى فلا عبرة ترقا (108)

إذا سكتوا عن وجدهم أعربت به ... بواطن أحوال وما عرفت نطقا

وقال في وداع شهر رمضان:

أأزمعت يا شهر الصيام رحيلا ... وقاربت يا بدر الزمان أفولا

جدك قد جدت بك الآن رحلة ... رويدك أمسك للوداع قليلا

نزلت فأزمعت الرحيل كأنما ... نويت رحيلاً إذ نويت نزولا

وما ذاك إلا أن أهلك قد مضوا ... تفانوا فأبصرت الديار طلولا

تفكرت في الأوقات (109) ناشئة التقى ... أشد به وطأ وأقوم قيلا

وهي طويلة.

وكان موجوداً عند تأليف الإحاطة رحمه الله تعالى؛ انتهى بالمعنى.

وقال الحافظ ابن حجر: إنه صنف كتاباً في الباء الموحدة، وأخذ عن شيخنا بالإجازة قاسم بن علي المالقي، ومات سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة؛ انتهى.

وقال تلميذه المنتوري ما نصه: من شيوخي الشيخ الأستاذ الخطيب المقرئ المتفنن المفتي أبو سعيد ابن لب، مولده سنة إحدى وسبعمائة، وتوفي ليلة السبت لسبع عشرة ليلة مضت من ذي الحجة عام اثنين وثمانين؛ انتهى.

وهو مخالف لما سبق عن ابن حجر، لكن صاحب البيت أدرى، إذ قال: شيخنا الفقيه الخطيب الأستاذ المقرئ العالم العلم الصدر الأوحد الشهير، كان شيخ الشيوخ وأستاذ الأستاذين بالأندلس، إليه انتهت فيها رياسة الفتوى في العلوم، كان أهل زمانه يقفون عندما يشير إليه، قرأ على أبي علي القيجاطي بالسبع، وتفقه عليه كثيراً في أنواع العلوم، ولازمه إلى أن مات، وأجازه عامة، وعليه اعتمد، وأخذ عن أبي جعفر ابن الزيات، وأبي إسحاق ابن أبي العاصي، وابن جابر الوادي آشي، وقاضي الجماعة أبي بكر، سمع عليه البخاري، وتفقه عليه، وقرأ عليه أكثر عقيدة المقترح تفهماً، وبعض الإرشاد وبعض التهذيب، وعن أبي محمد ابن سلمون، والبركة أبي عبد الله الطنجالي الهاشمي، وأجازه؛ انتهى بمعناه.

وبالجملة فهو من أكابر علماء المالكية بالمغرب حتى قال المواق فيه: شيخ الشيوخ أبو سعيد ابن لب، الذي نحن على فتاويه في الحلال والحرام؛ انتهى.

وقل من لم يأخذ عنه في الأندلس في وقته، فممن أخذ عنه الشاطبي، وابن علاق، وأبو محمد ابن جزي، والأستاذ ابن زمرك، في خلق كثير من طبقتهم، ثم من الطبقة الثانية أبو يحيى ابن عاصم، وأخوه القاضي (110) أبو بكر ابن عاصم، والشيخ أبو القاسم ابن سراج، والمنتوري، في خلق لا يحصون.

وله تواليف، فمنها شرح جمل الزجاجي، وشرح تصريف التسهيل، وكتاب " ينبوع عين الثرة (111) في تفريع مسألة الإمامة بالأجرة "، وله فتاوى مدونة بأيدي الناس، وممن جمعها الشيخ ابن طركاط الأندلسي، وله كتابة في مسألة الأدعية إثر الصلوات على الهيئة المعروفة، وقد رد عليه في هذا التأليف تلميذه أبو يحيى ابن عاصم الشهيد في تأليف نبيل انتصاراً لشيخه أبي إسحاق الشاطبي، رحم الله تعالى الجميع.

8- ومن أشياخ لسان الدين ابن الخطيب أبو القاسم ابن جزي، ففي " الإحاطة " (112) ما ملخصه: محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي، الكلبي، أبو القاسم، من أهل غرناطة، وذوي الأصالة والنباهة فيها، شيخنا، وأصل سلفه من ولبة من حصن البراجلة، نزل بها أولهم عند الفتح صحبة قريبهم أبي الخطار حسام بن ضرار الكلبي، وعند خلع دولة المرابطين كان لجدهم يحيى رياسة وإفراد بالتدبير، وكان رحمه الله تعالى على طريقة مثلى من العكوف على العلم، والاقتصار على الاقتيات من حر النشب، والاشتغال بالنظر والتقييد والتدوين، فقيهاً حافظاً قائماً على التدريس، مشاركاً في فنون من عربية وفقه وأصول وقراءات وأدب وحديث، حفظة للتفسير، مستوعباً للأقوال، جماعة للكتب، ملوكي الخزانة، حسن المجلس، ممتع المحاضرة، قريب الغور، صحيح الباطن، تقدم خطيباً بالمسجد الأعظم من بلده على حداثة سنه، فاتفق على فضله، وجرى على سنن أصالته، قرأ على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير العربية والفقه والحديث والقرآن، وعلى ابن الكماد، ولازم الخطيب أبا عبد الله ابن رشيد وطبقتهم كالحضرمي وابن أبي الأحوص وابن برطال وأبي عامر ابن ربيع الأشعري والولي أبي عبد الله

الطنجالي وابن الشاط.

وله تواليف منها وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم والأنوار السنية في الكلمات السنية والدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الأخبار، والقوانين الفقهية وتلخيص مذهب المالكية والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية وكتاب تقريب الوصول إلى علم الأصول وكتاب النور المبين في قواعد عقائد الدين، وكتاب المختصر البارع في قراءة نافع وكتاب أصول القراء الستة غير نافع وكتاب الفوائد العامة في لجن العامة إلى غير ذلك مما قيده في التفسير والقراءات وغير ذلك، وله فهرسة كبيرة اشتملت على جملة كبيرة من علماء المشرق والمغرب.

ومن شعره قوله في الأبيات الغينية ذاهباً مذهب المعري وابن المظفر والسلفي وأبي الحجاج ابن الشيخ وأبي الربيع ابن سالم وابن أبي الأحوص وغيرهم من علماء المشرق والمغرب:

لكل بني الدنيا مراد ومقصد ... وإن مرادي صحة وفراغ

لأبلغ في علم الشريعة مبلغاً ... يكون به لي للجنان بلاغ

ففي مثل هذا فلينافس أولو النهى ... وحسبي من دار الغرور بلاغ

فما الفوز إلا في نعيم مؤبد ... به العيش رغد والشراب يساغ

وقال:

أروم امتداح المصطفى فيردني ... قصوري عن إدراك تلك المناقب

ومن لي بحصر البحر والبحر زاخر ... ومن لي بإحصاء الحصى والكواكب

ولو أن أعضائي غدت ألسناً إذاً ... لما بلغت في المدح بعض مآربي

ولو أن كل العالمين تألفوا ... على مدحه لم يبلغوا بعض واجب

فأمسكت عنه هيبة وتأدباً ... وعجزاً وإعظاماً لأرفع جانب

ورب سكوت كان فيه بلاغة ... ورب كلام فيه عتب لعاتب

وقال:

يا رب إن ذنوبي اليوم قد كثرت ... فما أطيق لها حصراً ولا عددا

وليس لي بعذاب النار من قبل ... ولا أطيق لها صبراً ولا جلدا

فانظر إلهي إلى ضعفي ومسكنتي ... ولا تذيقنني حر الجحيم غدا

وقال:

وكم من صفحة كالشمس  تبدو ... فيسلي حسنها قلب الحزين

غضضت الطرف عن نظري إليها ... محافظة على عرضي وديني

مولده يوم الخميس تاسع ربيع الثاني عام ثلاثة وتسعين وستمائة، وفقد وهو يحرض الناس يوم الكائنة بطريف ضحوة يوم الاثنين تاسع جمادى الأولى عام أحد وأربعين وسبعمائة، وعقبه ظاهر بين القضاء والكتابة؛ انتهى.

 

8- ومنهم القاضي الأديب جملة الظرف أبو بكر ابن شبرين (113) :

وقد استوفى ترجمته في الإحاطة وذكره أيضاً في ترجمة ذي الوزارتين ابن الحكيم بأن قال بعد حكايته قتل ابن الحكيم ما صورته (114) : وممن رثاه شيخنا أبو بكر ابن شبرين رحمه الله تعالى بقوله:

سقى الله أشلاء كرمن على البلى ... وما غض من مقدارها حادث البلا

ومما شجاني أن أهين مكانها ... وأهمل قدراً ما عهدناه مهملا

ألا اصنع بها يا دهر ما أنت صانع ... فما كنت إلا عبدها المتذللا

سفكت دماً كان الرقوء نواله ... لقد جئتما شنعاء فاضحة الملا

بكفي سبنتى (115) أزرق العين مطرق ... عدا فغدا في غيه متوغلا

لنعم قتيل القوم في يوم عيده ... قتيل تبكيه المكارم والعلا

ألا إن يوم ابن الحكيم مثكل ... فؤادي، فما ينفك ما عشت مثكلا

فقدناه في يوم أغر محجل ... ففي الحشر نلقاه أغر محجلا

سمت نحوه الأيام وهو عميدها ... فلم تشكر النعمى ولم تحفظ الولا

تعاورت الأسياف منه ممدحاً ... كريماً سما فوق السماكين مزحلا

وخانته رجل في الطواف به سعت ... فناء بصدر للعلوم تحملا

وجدل (116) لم يحضره في الحي ناصر ... فمن مبلغ الأحياء أن مهلهلا

يد الله في ذاك الأديم ممزقاً ... تبارك ما هبت جنوباً وشمألا (117)

ومن حزني أن لست أعرف ملحداً ... له فأرى للترب منه مقبلا

رويدك يا من قد غدا شامتاً به ... فبالأمس ما كان العماد المؤملا

وكنا نغادي أو نراوح بابه ... وقد ظل في أوج العلا متوقلا

ذكرناه يوماً فاستهلت جفوننا ... بدمع إذا ما أحل العم أخضلا

ومازج منا الحزن طول اعتبارنا ... ولم ندر ماذا منهما كان أطولا

وهاج لنا شجواً تذكر مجلس ... له كان يهدي الحي والملأ الألى

به كانت الدنيا تؤخر مدبراً ... من الناس حتماً أو تقدم مقبلا

لتبك عيون الباكيات على فتى ... كريم إذا ما أسبغ العرف أجزلا

على خادم الآثار تتلى صحائحاً ... على حامل القرآن يتلى مفصلا

على عضد الملك الذي قد تضوعت ... مكارمه في الأرض مسكاً ومندلا

على قاسم الأموال فينا على الذي ... وضعنا لديه كل إصر على علا

وأنى لنا من بعده متعلل ... وما كان في حياتنا متعللا

ألا يا قصير العمر يا كامل العلا ... يميناً لقد غادرت حزناً مؤثلا

يسوء المصلى أن هلكت ولم تقم ... عليك صلاة فيه يشهدنا الملا

وذاك لأن الأمر فيه شهادة ... وسنتها محفوظة لن تبدلا

فيا أيها الكريم الذي قضى ... سعيداً حميداً فاضلاً ومفضلا

لتهنك من رب السماء شهادة ... تلاقي ببشرى وجهك المتهللا

رثيتك عن حب في جوانحي ... فما ودع القلب العميد وما قلى (118)

ويا رب من أوليته منك نعمة ... وكنت له ذخراً عتيداً وموئلا

تناساك حتى ما تمر بباله ... ولم يدكر ذاك الندى والتفضلا

يرابض في مثواك كل عشية ... صفيف شواء أو قديراً معجلا (119)

لحى الله من ينسى الأذمة رافضاً ... ويذهل مهما أصبح الأمر مشكلا

حنانيك يا بدر الهدى فلشد ما ... تركت بدور الأفق بعدك أفلا

وكنت لآمالي حياة هنيئة ... فغادرت مني اليوم قلباً مقتلاً

فلا وأبيك الخير ما أنا بالذي ... على البعد ينسى من ذمامك ما خلا

فأنت الذي آويتني متغرباً ... وأنت الذي أكرمتني متطفلا

فآليت لا ينفك قلبي مكمداً ... عليك ولا ينفك دمعي مسبلاً

وكتب ابن لسان الدين على هامش هذه القطعة ما صورته: شكر الله وفاءك يا ابن شربين وقدس لحدك، وأين مثلك في الدنيا حسناً ووفاء وعلماً لا كما فعل ابن زمرك في ابن الخطيب مخدومه، قاله علي بن الخطيب؛ انتهى.

9- ومن أشياخ لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الشيخ الأستاذ العلامة العلم الأوحد الصدر المصنف المحدث الأفضل الأصلح الأروع الأتقى الأكمل أبو عثمان سعد ابن الشيخ الصالح التق الفاضل المبرور المرحوم أبي جعفر أحمد بن ليون، التجيبي (120) ، رضي الله عنه تعالى، وهو من أكابر الأئمة الذين أفرغوا جهدهم في الزهد والعلم والنصح، وله تواليف مشهورة، منها اختصار بهجة المجالس لابن عبد البر، واختصار المرتبة العليا لابن راشد لقفصي، وكتاب في الهندسة، وكتاب في الفلاحة، وكتاب كمال الحافظ وجمال اللافظ في الحكم والوصايا والمواعظ، وكان مولعاً باختصار الكتب، وتواليف تذيد عن المائة فيما يذكر، وقد وقفت منها بالمغرب على أكثر من عشرين.

ومما (121) حكي عن بعض كبراء المغرب أنه رأى رجلاً طوالاً فقال لمن

حضره: لو رآه ابن ليون لاختصره، إشارة إلى كثرة اختصاره للكتب.

ومن تواليفه كتاب نفح السحر في اختصار روح الشحر (122) وروح الشعر لابن الجلاب الفهري، رحمه الله، ومنها كتاب أنداء الديم في الوصايا والمواعظ والحكم وكتاب الأبيات المهذبة في المعاني المقربة وكتاب نصائح الأحباب وصحائح الآداب أورد فيه مائتي قطعة من شعره تتضمن نصائح متنوعة، ولننقح منها نبذة فنقول: منها في التحريض على العلم قوله رحمه الله تعالى:

زاحم أولي العلم حتى ... تعتد منهم حقيقه

ولا يردك عجز ... عن أخذ أعلى طريقه

فإن من جد يعطى ... فيما يحب لحوقه

وقوله:

شفاء داء العي حسن السؤال ... فاسأل تنل علماً، وقل لا تبال

واطلب فالاستحياء والكبر من ... موانع العلم فما إن ينال

وقوله:

" علمت شيئاً وغابت عنك أشياء " (123) ... فانظر وحقق فما للعلم إحصاء

للعلم (124) قسمان: ما تدري، وقولك لا ... أدري، ومن يدعي الإحصاء هذاء

وقوله:

من لم يكن علمه في صدره نشبت ... يداه عند السؤالات التي ترد

العلم ما أنت في الحمام تحضره ... وما سوى ذلك التكليف والكمد

وقوله:

الدرس رأس العلم فاحرص عليه ... فكل ذي علم فقير إليه

من ضيع الدرس يرى هاذياً ... عند اعتبار الناس ما في يديه

فعزة العالم من حفظه ... كعزة المنفق فيما عليه

وقال (125) رحمه الله تعالى في غير ما سبق:

ثلاث مهلكات لا محاله ... هوى نفس يقود إلى البطاله

وشح لا يزال يطاع دأباً ... وعجب ظاهر في كل حاله

وقال:

اللهو منقصة بصاحبه ... فاحذر مذلة مؤثر اللهو

واللغو نزه عنه سمعك لا ... تجنح له، لا خير في اللغو

وقال:

لا تمالىء على صديقك وادرأ ... عنه ما اسطعت من أذى واهتضام

ما تناسى الذمام قط كريم ... كيف ينسى الكريم رعي الذمام

تطعم الكلب مرة فيحامي ... عنك، والكلب في عداد اللئام

وقال:

احذر مؤاخاة الدنيء فإنها ... عار يشين ويورث التضريرا

فالماء يخبث طعمه لنجاسة ... إن خالطته ويسلب التطهيرا

وقال:

تحفظ من الناس تسلم ولا ... تكن في تقربهم ترغب

ولا تترك الحزم في كل ما ... تريد، ولا تبغ ما يصعب

وقال:

إخوانك اليوم إخوان الضرورة لا ... تثق بهم يا أخي في قول أو فعل

لا خير في الأخ إلا أن يكون إذا ... عرتك نائبة يقيك أو يسلي

وقال:

طلب الإنصاف من قل ... ة إنصاف فساهل

لا تناقش وتغافل ... فاللبيب المتغافل

قلما يحظى أخو الإن ... صاف في وقت بطائل

وقال:

من خافه الناس عظموه ... وأظهروا بره وشكره

ومن يكن فاضلاً حليماً ... فإنما حظه المضره

فامرر وكن صارماً مبيراً ... يهبك من قد تخاف شره

وقال:

إن تبغ عدلاً فما ترضى لنفسك من ... قول وفعل به أعمل في الورى تسد

وكل ما ليس ترضاه لنفسك لا ... تفعله مع أحد تكن أخا رشد

وقال:

حسبي الله لقد ضلت بنا ... عن سبيل الرشد أهواء النفوس

عجباً أن الهوى هون وأن ... نؤثر الهون وإذلال الرؤوس

 

وقال:

من يخف شره يوف الكرامه ... ويوالى الرعاية المستدامه

وأخو الفضل والعفاف غريب ... يحمل الذل والجف والملامه

وقال:

دع من يسيء بك الظنون ولا ... تحفل به إن كنت ذا همه

من لم (126) يحسن ظنه أبداً ... بك فاطرحه تكتفي همه

وقال:

نزه لسانك عن قول تعاب به ... وارغب بسمعك عن قيل وعن قال

لا تبغ غير الذي يعنيك واطرح ال ... فضول تحيا قرير العين والبال

وقال:

كثرة الأصدقاء كثرة غرم ... وعتاب يعيي وإدخال هم

فاغن بالبغض قانعاً وتغافل ... عنهم في قبيح فعل وذم

وقال:

ذل المعاصي ميتة يا لها ... من ميتة لا ينقضي عارها

عز التقى هو الحياة التي ... ذو العقل والهمة يختارها

وقال:

لا تسمع يوماً صديقك قولاً ... فيه غض ممن يحب الصديق

إن بر الصديق لا شك منه ... لصديق الصديق أيضاً فريق

 

وقال:

للجار حق فاعتمد بره ... واحمل أذاه مغضياً ساترا

فالله قد وصى به فاغتفر ... زله الباطن والظاهرا

وقال:

سالم الناس ما استطعت وداري ... أخسر الناس أحمق لا يداري

ضرك الناس ضر نفسك يجني ... لا يقوم الدخان إلا لنار

وقال:

النصح عند الناس ذنب فدع ... نصح الذي تخاف أن يهجرك

الناس أعداء لنصاحهم ... فاترك هديت النصح فيمن ترك

وقال:

تجري الأمور على الذي قد قدرا ... ما حيلة أبداً ترد مقدرا

فارض الذي يجري القضاء به ولا ... تضجر فمن عدم الرضى أن تضجرا

وقال:

أخوك الذي يحميك من الغيب جاهداً ... ويستر ما تأتي من السوء والقبح

وينشر ما يرضيك في الناس معلناً ... ويغضي ولا يألو من البر والنصح

وقال:

لا تصحب الأردى فتردى معه ... وربما قد تقتفي منزعه

فالحبل إن يجرر على صخرة ... أبدى بها طريقة مشرعه

ما فات أو كان لا تندم عليه فما ... يفيد بعد انقضاء الحادث الندم

ارجع إلى الصبر تغنم أجره وعسى ... تسلو به فهو مسلاة ومغتنم

وقال:

السخط عند النائبات زيادة ... في الكرب تنسي ما يكون من الفرج

من لم يكن يرضى بما يقضى فيا ... لله ما أشقى وأصعب ما انتهج

وقال:

إن تبتغ الإخوان ما إن تجد ... أخاً سوى الدينار والدرهم

فلا تهنهما وعززهما ... تعش عزيزاً غير مستهضم

وقال:

من يستهن بصديقه ... يعن العدو على أذاته

بر الصديق مهابة ... للمرء تخمل من عدائه

فاحفظ صديقك ولتكن ... تبدي المحاسن من صفاته

وقال:

نعوذ بالله من شر اللسان كما ... نعوذ بالله من شر البريات

يجني اللسان على الإنسان ميتته ... كم للسان من آفات وزلات

وقال:

من لم يكن مقصده مدحة ... فقد أتى بحبوحة العافيه

محبة المدحة رق بلا ... عتق، وذل يا له داهيه

من لا يبالي الناس مدحاً ولا ... ذماً أصاب العيشة الراضيه

 

وقال:

شر إخوانك من لا ... تهتدي فيه سبيلا

يظهر الود ويخفي ... مكره داء دخيلا

يتقي منك اتقاء ... وهو يوليك الجميلا

وقال:

قوام العيش بالتدبير فاجعل ... لعيشك منه في الأيام قسطا

وخذ بالصبر نفسك فهو عز ... تلوذ به إذا ما الخطب شطا

وقال:

العيش ثلث فطنة ... والغير منه تغافل

فتغافل إن كنت امرأ ... إيثار عيشك تامل

وقال:

ينفذ المقدور حتماً لا يرد ... فعلاء الحرص دأباً والكمد

أرح النفس تعش في غبطة ... وكل الأمر إلى الله فقد

وقال:

زر من تحب ثم زره ولا ... تمل واجعله دأباً موضع النظر

لولا متابعة الأنفاس ما بقيت ... روح الحياة ولا دامت مدى العمر

وقال:

لا تترك الحزم في شيء فإن به ... تمام أمرك في الدنيا وفي الدين

من ضيع الحزم تصحبه الندامة في ... أيامه ويرى ذل المهاوين

 

وقال:

كن إذا زرت حاضر القلب واحذر ... أن تمل المزور أو أن تطيلا

لا تثقل على جليس وخفف ... إن من خف عد شخصاً نبيلا

وقال:

من خلا عن حاسد قد ... مات في الأحياء ذكره

إنما الحاسد كالنا ... ر لعود طاب نشره

لا عدمنا حاسداً في ... نعمة ليست تسره

وقال:

حبيبك من يغار إذا زللتا ... ويغلظ في الكلام متى أسأتا

يسر إن اتصفت بكل فضل ... ويحزن إن نقصت أو انتقصتا

ومن لا يكترث بك لا يبالي ... أحدت عن الصواب أم اعتدلتا

وقال:

لن لمن تخشى أذاه ... والقه في باب داره

إنما الدنيا مدارا ... ة فمن تخشاه داره

وقال:

حسد الحاسد رحمه ... لا يرى إلا لنعمه

إنما الحاسد يشكو ... حر أكباد وغمه

لا عدمنا حاسداً في ... نعمة تكثر همه

وقال:

تبديل شخص بشخص ... خسران الاثنين جمله

فاشدد يديك على من ... عرفت، وارفع (127) محله

فإن قطع خليل ... بعد التواصل زله

وقال:

أنت بخير ما تركت الظهور ... والقال والقيل وطرق الشرور

من خاض بحراً فهو لا بد يب ... تل ومن يجر يصبه العثور

سلامة المرء اشتغال بما ... يهمه لنفسه من أمور

وقال:

أنت حر ما تركت الطمعا ... وعزيز ما تبعت الورعا

وكفى بالعز مع حرية ... شرفاً يختاره من قنعا

وقال:

خل بنيات الطرق ... ووافق الناس تفق

من خالف الناس أتى ... أعظم أبواب الحمق

فكن مع الناس فتر ... ك جملة الناس خرق

وقال:

لا تضق صدراً بحاسد ... فهو في نار يكابد

من يرى أنك خير ... منه تعروه شدائد

إنما الحاسد يشقى ... وهو لا يحظى بعائد (128)

وقال (129) :

من يستمع في صديق قول ذي حسد ... لا شك يقصيه فاحذر غيلة الحسد

يهابك الناس ما تدني الصديق فإن ... أقصيته زدت للأعداء في العدد

وقال:

كم من أخ صحبته ... والنفس عنه راغبه

خشيت، إن فارقته ... بالهجر، سوء العاقبه

وقال:

إذا كانت عيوبك عند نقد ... تعد فأنت أجدر بالكمال

متى سلمت من النقد البرايا ... وحسبك ما تشاهد في الهلال

وقال:

إذا انطوت القلوب على فساد ... فإن الصمت ستر أي ستر

فلا تنطق وقلبك فيه شيء ... بغير الحق واحذر قول شر

وقال:

إن كنت لا تنصر الصديق فدع ... سماعك القول فيه واجتنب

سماع عرض الصديق منقصة ... لا يرتضيها الكريم ذو الحسب

وقال:

أنت في الناس تقاس ... بالذي اخترت خليلا

فاصحب الأخيار تعلو ... وتنل ذكراً جميلا

 

صحبة الخامل تكسو ... من يواخيه خمولا

وقال:

اسمح يزنك السماح ... إن السماح رباح

لا تلق إلا ببشر ... فالبشر فيه النجاح

تقطيبك الوجه جد ... أجل منه المزاح

وقال:

من كنت تعرفه كن فيه متئداً ... يكفيك من خلقه ما أنت تعرفه

لا تبغ من أحد عرفته أبداً ... غير الذي كنت منه قبل تألفه

وقال:

حاسب حبيبك كالعدو تدم له ... ولك المحبة، فالتناصف روحها

من كان يغمض في حقوق صديقه ... نقصت مودته وشيب صريحها

وقال:

تغافل في الأمور ولا تناقش ... فيقطعك القريب وذو الموده

مناقشة الفتى تجني عليه ... وتبدله من الراحات شده

وقال:

إن شئت تعرف نعمة الله التي ... أولاك فانظر كل من هو دونكا

لا تنظر الأعلى فتنسى ما لدي ... ك ومن من الضعفاء يستجدونكا

وقال:

عجباً أن ترى قبيح سواكا ... وتعادي الذي يرى منك ذاكا

 

لو تناصفت كنت تنكر ما في ... ك وترضى الوصاة ممن نهاكا

وقال:

جرب الناس ما استطعت تجدهم ... لا يرى الشخص منهم غير نفسه

فالسعيد السعيد من أخذ العف ... وودارى جميع أبناء جنسه

وقال:

فرط حب الشيء يعمي ويصم ... فليكن حبك قصداً لا يصم

نقص عقل أن يغطي حسك الح ... ب أو يلهيك عن أمر مهم

وقال:

سلم وغض (130) احتسابا ... فذا هو اليوم أسلم

النقد نار تخلي ... في القلب جمراً (131) تضرم

فاطو اعتراضك واغفل ... عن عيب غيرك تسلم

وقال:

عدة الكريم عطية ... لا مطل في عدة الكريم

المطل تحريض العدا ... ة، وذاك من فعل اللئيم

فدع المطال إذا وعد ... ت فإنه عمل ذميم

وقال:

من تناسى ذنوبه قتلته ... وأبانت عنه الولي الحميما

ذكرك الذنب نفرة عنه تبقي ... لك إنكار فعله مستديما

وقال:

عجباً لمادح نفسه لا يهتدي ... لتنقص يبديه فيه مدحها

مدح الفتى عند التحدث نفسه ... ذكرى معايبه فيدرى قبحها

وقال:

من حسنت أخلاقه عاش في ... نعمى وفي عز هنيء وود (132)

ومن تسؤ للخلق أخلاقه ... يعش حقيراً في هموم وكد

وقال:

من كان يحمي ناسه [صار ذا ... عز و] (133) هابته نفوس البشر

ومن يكن يخذل أحبابه ... هان، ومن هان فلا (134) يعتبر

وقال:

قارب وسدد إذا ما كنت في عمل ... إن الزيادة في الأعمال نقصان

ما حالف القصد في كل الأمور هوى ... نفس، وكل هوى شؤم وحرمان

وقال:

بقدر همته يعلو الفتى أبداً ... لا خير في خامل الهمات ممتهن

هيهات يعلو فتى خمول همته ... يقوده لابتذال النفس والمهن

وقال:

اصحب ذوي الحدة وارغب عن ال ... خبيث فالصحبة ذاك داؤها

وانظر إلى قول نبي الهدى ... خيار أمتي أحداؤها

قال:

ما صديق الإنسان في كل حال ... يا أخي غير درهم يقتنيه

لا تعول عن سواه فتغدو ... خائب القصد دون ما تبتغيه

وقال:

يستفز الهوى للإنسان حتى ... لا يرى غير محنة أو ضلال

ويرى الرشد غير الرشد، ويغدو ... يحسب الحق من ضروب المحال

وقال:

لا تبالغ في الشر مهما استطعتا ... وتغافل واحلم إذا ما قدرتا

فانقلاب الأمور أسرع شيء ... وتجازى بضعف ما قدرتا (135)

وقال:

مثل عواقب ما تأتي وما تذر ... واحذر فقد ترتجي أن ينفع الحذر

لا تقدمن على أمر بلا نظر ... فإن ذلك فعله كله خطر

وانظر وفكر لما ترجو توقعه ... فعمدة العاقل التفكير والنظر

وقال:

حافظ على نفسك من كل ما ... يشينها من خلل أو زلل

واحرص على تخليصها بالذي ... تنجو به من قول أو من عمل

وقال:

سكر الولاية ما له صحو ... وكلامها وحراكها زهو

يهذي الفتى أيام عزتها ... فإذا تقضت نابه شجو

فحذار لا تغررك صولتها ... وزمانها فثبوتها محو

وقال:

دع الجدال ولا تحفل به أبدا ... فإنه سبب للبغض ما وجدا

سلم تعش سالماً من غير متعبة (136) ... قرير عين إذا لم تعترض أحدا

وقال:

إذا ترى المبتلى اشكر أن نجوت ولا ... تشمت به ولتسل من ربك العافيه

وخف من أن تبتلى كما ابتلي فترى ... كما تراه وما تقيك من واقيه

وقال:

العمر ساعات تقضى فلا ... تقضها في السهو والغفله

واعمل لما أنت له صائر ... ما دمت من عمرك في مهله

ولا تكن تأوي لدينا وقل ... لا بد لا بد من النقله

وقال:

كن رفيقاً إذا قدرت حليما ... وتغافل تسلك طريقاً قويما

لا تظن الزمان يبقي على من ... سره أو ينيل عزاً سليما

إن للدهر صولة وانقلاباً ... ولهذا نعيمه لن يدوما

وقال:

من لم يكن ينفع في الشده ... فلا تكن معتمداً وده

لا تعتمد إلا أخا حرمة ... إن ناب خطب تلفه عده

وخل من يهزأ في وده ... ولا ترى في معضل جده

وقال:

أخوك الذي تلفيه في كل معضل ... يدافع عنك السوء بالمال والعرض

ويستر ما تأتي من القبح دائماً ... وينشر ما يرضي وإن سؤته يغضي

وقال:

لا تنه عما أنت فاعله ... وانظر لما تأتيه من ذنب

وابدأ بنفسك فانهها فإذا ... تقفو الصواب فأنت ذو لب

وقال:

ليس الصديق الذي يلقاك مبتسماً ... ولا الذي في التهاني بالسرور يرى

إن الصديق الذي يولي نصيحته ... وإن عرت شدة أغنى بما قدرا

وقال:

عجباً لمستوف منافع نفسه ... ويرى منافع من سواه تصعب

ما ذاك إلا عدم إنصاف ومن ... عدم التناصف كيف يرجو يصحب

وقال:

من عدم الهمة في راحة ... من أمره يكرم أو يهتضم

 

وإنما يشقى أخو همة ... فإن الانكاد بقدر الهمم

وقال:

قلما تنفع المداراة إلا ... عند أهل الحفاظ والأحساب

من يداري اللئيم فهو كمن يس ... تعمل الدر في نحور الكلاب

وقال:

دنياك هذي عرض زائل ... تفتن ذا الغرة والغفله

فاعمل لأخراك وقدم لها ... ما دمت من عمرك في مهله

وقال:

نصيحة الصديق كنز فلا ... ترد ما حييت نصح الصديق

وخذ من الأمور ما ينبغي ... ودع من الأمور ما لا يليق

وقال:

أنت حر ما لم يقيدك حب ... أو تكن في الورى يرى لك ذنب

الهوى كله هوان وشغل ... والمعاصي ذل يعانى وكرب

وقال:

هون عليك الأمورا ... تعش هنيئاً قريرا

واعلم بأن الليالي ... تبلي جديداً خطيرا

وتستبيح عظيماً ... ولا تجير حقيرا

وقال:

ألف صديق قليل ... والود منهم جميل

كما عدو كثير ... إذ ضره لا يزول

فلا تضيع صديقاً ... فالنفع فيه جليل

وقال(137):

دع الحسود تعاتبه لظى حسده ... حتى تراه لقى يموت من كمده

ما للحسود سوى الإعراض عنه وأن ... يبقى إلى كربه في يومه وغده

وقال:

الناس حيث يكون الجاه والمال ... فخل عنك ولا تحفل بما قالوا

وعد عمن يقول العلم قصدهم ... أو الصلاح أما تبدو له الحال

انظر لماذا هم يسعون جهدهم ... يبن لك الحق ولا يعروه إشكال

وقال:

توسط في الأمور ولا تجاوز ... إلى الغايات فالغايات غي

كلا الطرفين مذموم إذا ما ... نظرت وأخذك المذموم عي

وقال:

عامل جميع الناس بالحسنى ... إن شئت أن تحظى وأن تهنا

ولا تسئ يوماً إلى واحد ... فتجمع الراحة والأمنا

وقال:

لا تفكر فللأمور مدبر ... وارض ما يفعل المهيمن واصبر

أنت عبد وحكم مولاك يجري ... بالذي قد قضى عليك وقدر

وقال:

إذا رأيت القبيحا ... فقل كلاماً مليحا

وأغض واستر وسلم ... وكن حليماً صفوحا

تعش هنيئاً وتلقى ... براً وشكراً صريحا

وقال:

من ينكر الإحسان لا توله ... ما عشت إحساناً فلا خير فيه

البذر في السباخ ما إن له ... نفع فذره فهو فعل السفيه

وقال:

من لم يكن بنفع في وده ... دعه ولا تقم على عهده

ود بلا نفع عناء فلا ... تعن بشيء حاد عن حده

وقال:

در مع الدهر كيفما ... دار إن شئت تصحبه

ودع الحذق جانباً ... ليس بالحذق تغلبه

وحذار انقلابه ... فكثير تقلبه

وقال:

من ليس يغني في مغيب عنك لا ... تحفل به فوداده مدخول

يثني عليك وأنت معه حاضر ... فإذا تغيب يكون عنك يميل

وقال:

دع نصح من يعجبه رأيه ... ومن يرى ينجحه سعيه

النصح إرشاد فلا توله ... إلا فتى يحزنه غيه

لا يقبل النصح سوى مهتد ... يقوده لرشده هديه

وقال:

البخت أفضل ما يؤتى الفتى فإذا ... يفوته البخت لا ينفك يتضع

يكفيك في البخت تيسير المور وأن ... يكون ما ليس ترضى عنك يندفع

وقال:

افعل الخير ما استطعت ففعل ال ... خير ذكر لفاعليه وذخر

وتواضع تنل علاء وعزاً ... فاتضاع النفوس عز وفخر

وقال:

صديق المرء درهمه ... به ما دام يعظمه

فصنه ما استطعت ولا ... تكن في اللهو تعدمه

ففقر المرء ميتته ... لذا تغدو فترحمه

وقال:

لا تقرب ما اسطعت خل عدو ... فخليل العدو حلف عداوه

وتحفظ منه وداره وانظر ... هل ترى من سيماه إلا القساوة

وقال:

لا تعد ذكر ما مضى فهو أمر ... قد تقضى وقد مضى لسبيله

وتكلم فيما تريد من الآ ... تي ودبر للشيء قبل حلوله

وقال:

قساوة المرء من شقائه فإذا ... يلين ساد بلا أين ولا نصب

 

لا يرحم الله إلا الراحمين، فمن ... يرحم ينل رحمة في كل منقلب

وقال:

جئ بالسماح إذا ما جئت في غرض ... ففي العبوس لدى الحاجات تصعيب

سماحة المرء تنبي عن فضيلته ... فلا يكن منك مهما اسطعت تقطيب

وقال:

لا تسامح يوماً دنياً إذا ما ... قال في فاضل كلاماً رديا

إن قصد الدني إنزال أهل ال ... فضل حتى يرى عليهم عليا

وقال:

خذ من القول بعضه فهو أولى ... وتحفظ مما يقول العداة

ربما تأخذ الكلام بجد ... وهو هزل قد نمقته عدات

فاحترز من غرور الاقوال واعلم ... أن الاقوال بعضها كذبات

وقال:

نافس الأخيار كيما ... تحرز المجد الأثيلا

لا تكن مثل سراب ... ريء لم يشف غليلا

إنما أنت حديث ... فلتكن ذكراً جميلا

وقال:

الصمت عز حاضر ... وسلامة من كل شر

فإذا نطقت فلا تك ... ثر واجتنب قول الهذر

وحذار مما يتقى ... وحذار من طرق الغرر

 

وقال:

سلامة الإنسان في وحدته ... وأنسه فيها وفي حرفته

ما بقي اليوم صديق ولا ... من ترتجي النصرة في صحبته

فقر في بيتك تسلم ودع ... من ابتلي بالناس في محنته

وقال:

مطاوعة النساء إلى الندامه ... وتوقع في المهانة والغرامه

فلا تطع الهوى فيهن واعدل ... ففي العدل الترضي والسلامه

وقال:

كانت مشاورة الإخوان في زمن ... قول المشاور فيهم غير متهم

والآن قد يخدع الذي تشاوره ... إشماتاً أو حسداً يلقيك في الندم

فاضرع إلى الله فيما أنت تقصده ... يهديك للرشد في الأفعال والكلم

وقال:

عد عمن يراك تصغر عنه ... وتحفظ من قربه وأبنه

إن من لا يراك في الناس خيراً ... منه فالخير في التحفظ منه

وقال:

رزانة المرء تعلي قدره أبداً ... وطيشه مسقط له وإن شرفا

فاربأ بنفسك من طيش تعاب به ... وإن تكن حزت معه (138) العلم والشرفا

وقال:

الصدق عز فلا تعدل عن الصدق ... واحذر من الكذب المذموم في الخلق

من لازم الصدق هابته الورى وعلا ... فالزمه دأباً تفز بالعز والسبق

وقال:

ليس التفضل يا أخي أن تحسنا ... لأخ يجازي بالجميل من الثنا

إن التفضل أن تجازي من أسا ... لك بالجميل وأنت عنه في غنى

وقال:

من واصل اللذات لا بد أن ... تعقبه منها الندامات

فخذ من اللذات واترك ولا ... تسرف ففي الإسراف آفات

وقال:

دع معجباً بنفسه ... في غيه ولبسه

لا يقبل النصح لها ... من نخوة برأسه

فخله لكيده ... وعجبه بنفسه

وقال:

عتب الصديق دلالة ... منه على صدق المودة

فإذا يقول فقصده ال ... تنزيه عما قام عنده

فاحلم إذا عتب الصديق ... ولا تخيب فيك قصده

وقال:

ترتجى (139) في النوائب الإخوان ... هم لدى كل شدة أعوان

فإذا لم يشاركوا فسواء ... هم والأعداء كيفما قد كانوا

وقال:

انصر أخاك على علاته أبداً ... تهب وتسلك سبيل العز والظفر

ولا تدعه إلى الإشمات مطرحاً ... فإن ذلك عين الذل والصغر

وقال:

من عز كانت له الأيام خادمة ... تريه آماله في كل ما حين

ومن يهن أولغت فيه المدى وأرت ... له النوائب في أثوابها الجون

وقال:

خل المنجم يهذي في غوايته ... واقصد إلى الله رب النجم والفلك

لو كان للنجم حكم لم تجد أحداً ... يخالف النجم إلا انهد في درك

وقال:

حماية المرء لمن يصحب ... تدل أن أصله طيب

لا خير فيمن لا يرى ناصراً ... صديقه وهو له ينسب

وقال:

يا عاتباً من لا له همة ... ألا اتئد إلى متى تعتب

هل يسمع الميت أو يبصر ال ... أعمى محال كل ما تطلب

وقال:

لا يعرف الفضل لأهل الفضل ... إلا أولو الفضل من أهل العقل

هيهات يدري الفضل من ليس له ... فضل، ولو كان من أهل النبل

 

وقال:

لا تطلب المرء بما اعتدت من ... أخلاقه والمرء في وهن

تنتقل الأخلاق لا شك مع ... تنقل الحالات والسن

وقال:

لا تعامل ما عشت غيرك إلا بالذي أنت ترتضيه لنفسك

ذاك عين الصواب فالزمه فيما تبتغيه من كل أبناء جنسك

وقال:

باعد الناس يوالوكا واعتزل عنهم يهابوكا

فإذا ما تصطفيهم وقعوا فيك وعابوكا

وقال:

إياك لا تخذل الصديقا وارع له العهد والحقوقا

نصرته ما قدرت عز تمهده للعلا طريقا

فلا تسامح به عدواً وكن له ناصراً حقيقا

وقال:

حدث جليسك ما أصغى إليك، فإن تراه يعرض فاقطع عنه وانصرف

خفف فقد يضجر الذي تجالسه طول المقام أو التحديث في سرف

وقال:

جماع الخير في ترك الظهور ... وإظهار التواضع والبرور

وفي أضدادها من غير شك ... جميع وجوه أنواع الشرور

 

وقال:

محبة الدرهم طبع البشر ... فاقنع من المرء بما قد حضر

وقس على نفسك في بذله ... تقف على تحقيق عين الخبر

وقال(140):

لا يلم غير نفسه كل من قد ... عرض النفس أن تهان فذلا

ينظر العاقل الأمور فيأبى ... أن يرى منه غير ما هو أولى

وقال:

أعذر الناس من أتته المضره ... من أخ كان يرتجي منه نصره

مثل من (141) غص بالشراب ف ... كان الهلك فيما رجاه يدفع ضره

وقال:

سلم تعش سالماً مما يقال ... من يعترض يعترض في كل حال

نقد الفتى غافلاً عن عيبه ... لا يرتضى عند (142) أرباب الكمال

وقال:

تواضع المرء ترفيع لرتبته ... وكبره ضعة من غير ترفيع

في نخوة الكبر ذل لا اعتزاز له ... وفي التواضع عز غير مدفوع(143)

وقال:

إياك لا تنكر فضيلة كل من ... تدري فضيلته فترمى بالحسد

إنكارها يجني عليك تنقصاً ... ويزيده شرفاً يديم لك الكمد

وقال:

انصر أخاك ما استطعت فإنما ... تعتز بالإخوان ما عزوا

من يخذل الإخوان يخذل نفسه ... ويهن وما لهوانه عز وقال:

إذا جزاك بسوء من أسأت له ... فذاك عدل وما في العدل من زلل

جزاء سيئة بالنص سيئة ... لا حيف في ذاك في قول ولا عمل

وقال:

نفس وشيطان ودنيا والهوى ... يا رب سلم من شرور الأربعة

أنت المخلص من رجاك وإنني ... أرجوك فيما أتقي أن تدفعه وقال:

لا تعظم يا أخي نف ... سك إن شئت السلامه

من يعظم نفسه يج ... ن امتهاناً وملامه

فتواضع تلق عزاً ... واحتفاء وكرامه وقال:

دع لذة الدنيا فمن يبتلى ... بحبها ذاق عذاب السموم

لذاتها حلم، وأيامها ... لمح، ولكن كم لها من هموم

محبة الدنيا هلاك، فمن ... يرومها أهلكه ما يروم

 

 

وقال:

كل خل يعد ما أنت تخطي ... لا تعول على صفاء وداده

إنما الخل من تناسى خطايا ... ك ويبقى له جميل اعتقاده

وقال:

من عامل الناس بالإنصاف شاركهم ... في مالهم وأحبوه بلا سبب

إنصافك الناس عدل لا تزال به ... تعلو إلى أن ترى في أرفع الرتب

وقال:

قل جميلاً إن تكلمت ولا ... تقل الشر فعقبى الشر شر

من يقل خيراً ينل خيراً، ومن ... يقل الشر إذاً يخشى الضرر

وقال:

إذا التأمت أمورك بعض شيء ... بأرضك فاستقم فيها ولازم

فما في غربة الإنسان خير ... وما بالغربة الدنيا تلايم

وقال:

إلى متى تسرح مرخى العنان ... قل يا أخي حتى متى ذا الحران

ارجع إلى الله وخل الهوى ... فما الهوى يا صاح إلا هوان

قد انذر الشيب فهل سامع ... أنت فمصغ للذي قد أبان

وقال:

من يكفر النعمة لا بد أن ... يسلبها من حيث لا يشعر

ومن يكن يشكرها معلناً ... دامت له نامية تكثر

 

وقال:

اعذر أخا الفقر في أن ... يضيق ذرعاً بنفسه

الفقر موت، ولكن ... من للفقير برمسه

إن الفقير لميت ... ما بين أبناء جنسه

وقال:

كما تدين أنت يا صاحبي ... تدان فاعمل عمل الفاضل

أنت كما أنت فخل الذي ... تزين النفس من الباطل

وأين أنت ثم أنت أدر ذا ... حسبك فاحذر زلل العاقل

وقال:

مالك ما أنفقته قربة ... لله، والباقي حساب عليك

فقدم المال ترد آمناً ... من بعده وهو ثواب لديك

وقال:

دع مدح نفسك إن أردت زكاءها ... فبمدح نفسك من مقامك تسقط

ما أنت تخفضها يزيد علاؤها ... والعكس، فانظر أيما لك أحوط

وقال:

ذو النقص يصحب مثله ... فالشكل يألف شكله

فاصحب أخا الفضل كيما ... تقفو بفعلك فعله

أما ترى المسك دأباً ... يكسب طيباً محله

وقال:

من عيني المرء يبدو ما يكتمه ... حتى يكون الذي يرعاه يفهمه

ما يضمر المرء يبدو من شمائله ... لناظر فيه يهديه توسمه

وقال:

إنما الدنيا خيال ... وأمانيها خبال

حبها سكر، ولكن ... وصلها ما أن ينال

فتنزه عن هواها ... فهوى الدنيا ضلال

وقال:

قلما يؤذيك من لا يعرفك ... فتحفظ من صديق يألفك

لا تثق بالود ممن تصطفي ... كم صديق تصطفيه يتلفك

وقال:

لا تضجرن بالأمور وارض بما ... يقضي به الله فهو مكتتب

ما قدر الله لا مرد له ... فما يفيد العناء والتعب

وقال:

تنزه عن دنيات الأمور ... وخذ بالحزم في الأمر الخطير

فأشراف الأمر لها جمال ... وخطر في البهاء وفي الظهور

وفي سفسافها لا شك وهن ... وتمهين يشين مدى الدهور

وقال:

من يبتلى من أهله بمنغص ... يصبر، فما أحد بغير منغص

من أزمنت بالوجه منه قرحة ... يعزم على ضرر يشين مخصص

وقال:

من كان في عزته داره ... وكرر المشي إلى داره

قبل يدا تعجز عن قطعها ... ولن لمن تخشى من أضراره

وقال:

لا تبتغ النعمة من جائع ... لم يرها قبل لآبائه

لا يرشح الإناء ما لم يكن ... ملآن قد أفعم من مائه

وقال:

مروءة المرء رأس ماله ... وصونه أشرف اعتماله

من لم يصن نفسه تردى ... وزال عن رتبة اكتماله

وقال:

ترك المطامع عزه ... واليأس أهنا وأنزه

هيهات يعتز مثر ... أضحى للأطماع نهزه

نزاهة النفس عز ... ما ذل من يتنزه وقال:

تعظيمك الناس تعظيم لنفسك في ... قلوب الأعداء طراً والأوداء

من يعظم الناس يعظم في النفوس بلا ... مؤونة وينل عز الأعزاء

وقال:

اقنع من الناس بمقدار ما ... يعطون لا تبتغ منهم مزيد

حسبك من كل امرئ قدر ما ... يعطيك فالأطماع ما إن تفيد

وقال:

لن إذا كانت الأمور صعابا ... وتواضع لها تجدها قرابا

دار من شئت تنتفع منه واترك ... صولة الكبر فهي تجني عذابا

لا تكن تأخذ الأمور بعنف ... من يعاني الأمور بالعنف خابا

وقال:

سامح الناس إن أساؤوا إليكا ... وتغافل إذا تجنوا عليكا

ما ترى كيف أنت تعصي ومولا ... ك يزيد الإنعام دأباً لديكا

وقال:

اغتنم ساعة الأنس ... وانس ما كان بالأمس

ليس للمرء من الدن ... يا سوى راحة نفس

من يكن حلف هموم ... باع دنياه ببخس

وقال:

حبك الشيء يغطي قبحه ... فتراه حسناً في كل حال

لا يرى المحبوب إلا حسناً ... كان قبح فيه مع ذا أو جمال

حتم (144) الحب على ذي الحب أن ... لا يرى المحبوب إلا في كمال

وقال:

يحسب الناقص أن الناس قد ... غفلوا عن حاله في ضعته

لا يرى الناقص إلا أنه ... كامل من نعته في صفته

غلط المرء يغطي عقله ... أن يرى النقص الذي في جهته (145)

وقال:

أيام عمرك هذي ... ساعاتها رأس مالك

فاحرص على الخير فيها ... قبل أوان ارتحالك

فإنما أنت طيف ... تجتاب سبل المهالك

وقال:

تجد الناس على النقص ولا ... تجد الكامل إلا من ومن

زمن الباطل وافى أهله ... وكذاك الناس أشباه الزمن

وقال:

قل جميلاً إذا أردت الكلاما ... تجن عزاً مهنأ مستداما

إن قول القبيح يورث بغضاً ... وصغاراً عند الورى وملاما

وقال:

حسن الظن تعش في غبطة ... إن حسن الظن من أوقى الجنن (146)

من يظن السوء يجزى مثله ... قلما يجزى قبيح بحسن وقال:

إن تبغ إخوان الصفاء فهم ... تحت التراب انتقلوا للقبور

إخوانك اليوم كأزمانهم ... مشتبهون في جميع الأمور

وقال:

ومستقبح من أخ خلة ... وفيه معايب تسترذل

كأعمى يخاف على أعور ... عثاراً وعن نفسه يغفل

وقال:

من يبتغ الود من الناس ... يكن لما قالوه بالناسي

أغض عن الناس تنل ودهم ... إنك لا تغنى عن الناس

وقال:

أعيت مع الناس الحيل ... وبار فيهم العمل

في أي وجه أملوا ... يخيب منهم الأمل

فآثر العزلة عن ... هم تنج من كل خلل

وقال:

لا ترج غير الله في شيء تنل ... ما تبتغيه وتكف كل تخوف

الله أعظم من رجوت فثق به ... فهو الذي أعطى وأنجى من كفي

وقال:

توسل إلى الله في كل ما ... تحب بمحبوبه المصطفى

تنل ما تحب كما تبتغي ... وحسبك جاهاً به وكفى

انتهى ما لخصت واخترت من الكتاب المذكور.

وهذه نبذة من كتابه (147) " الأبيات المهذبة في المعاني المقربة " فمن ذلك قوله:

اكتم السر واجعل الصدر قبره ... لا تبح ما حييت منه بذره

أنت ما لم تبح بسرك حر ... فإذا بحت صرت عبداً بمره

من يرد أن يعيش عيشاً هنيئاً ... يتحفظ مما عسى أن يضره

 

وقال:

عداوة العاقل مع عسرها ... آمن من صداقة الأحمق

يمكن الأحمق من نفسه ... عمداً ومن أحبابه يتقي

لا يحفظ الأحمق خلاً ولا ... يرضاه للصحبة إلا شقي

وقال:

إذا أمعنت في الدنيا اعبتاراً ... رأيت سرورها رهن انتحاب

بعاد عن تدان، وافتقار ... عن استغنا، وشيب عن شباب

حياة كلها أضغاث حلم ... وعيش ظله مثل السراب

وقال:

من تره يسرف ماله ... يتلفه في لذة وانهماك

فذلك المغبون في رأيه ... يسلك بالنفس سبيل الهلاك

وقال:

من لا يرى في الناس قاصرة ... عن الكمالات لم يكمل له أدب

ومن يكن راضياً عن نفسه أبداً ... فذاك غر عن الآداب محتجب

آداب الإنسان تحقيقاً تواضعه ... وجريه دائماً على الذي يجب

وقال:

يحق الحق حتماً دون شك ... وإن كره المشكك والملد

صريح الحق قد يخفى ولكن ... بعيد خفائه لا شك يبدو

وقال:

كل ما قد فات لا رد له ... فلتكن عن ذاك مصروف الطمع

أيعود الحسن من بعد الصبا ... قلما أدبر شيء فرجع

وقال:

اغتنم غفلة الزمان وبادر ... لذة العيش ما بقيت سليما

أمر هذي الحية أيسر من أن ... تغتدي فيه لائماً أو ملوما

وقال:

لا تغرنك صولة الجاه يوماً ... أو تظنن أنها تتمادى

صولة الجاه لفح نار ولكن ... كل نار لا بد تلفى رمادا

وقال:

تنح عن الناس مهما استطعت ... ولا تك في الناس راغب

من اعتمد الناس يشقى ولا ... يرى غير منتقد عائب

وقال:

لا تقل يوماً أنا ... فتقاسي محنا

من يعظم نفسه ... يلق هونا وعنا

شر ما يأتي الفتى ... مدحه لو فطنا

وقال:

الناس إخوان ذي الدنيا وإن قبحت ... أفعاله، وغدا لا يعرف الدنيا

يعظمون أخا الدنيا وإن عثرت ... يوماً به أولغوا فيه السكاكينا

وقال:

العدل روح بها تحيا البلاد كما ... هلاكها أبداً بالجور ينحتم

 

الجور شين به التعمير منقطع ... والعدل زين به التمهيد ينتظم

يا قاتل الله أهل الجور كم خربت ... بهم بلاد وكم بادت بهم أمم

وقال:

اليأس أسلى وأغنى ... من نيل ما يتمنى

يسلو أخو اليأس حتى ... يهنا ولا يعنى

لليأس برد فمن لم ... يذقه لم يتهنا

وقال:

إذا عظمت نفس امرئ صار قدره ... حقيراً، وحيث احتل فالذل صاحبه

يسود ويعلو ذو التواضع دائماً ... ويحظى كما يرضى وتقضى مآربه

وقال:

ود من يصطفيك للنفع زور ... والجميل الذي يريك غرور

إنما الود ود من ليس يخشى ... فيك ممن يلوم أو من يضير

وقال:

اشكر لمن والاك معروفا ... تكن بفضل النفس معروفا

شكر أخي المنة عدل فكن ... بالعدل مهما اسطعت موصوفا

من يكفر الإحسان لا بد أن ... يلفى عن الإحسان مصروفا

وقال:

حسب الإنسان ماله ... وهو في الدنيا كماله

يضجر الفقر أخا الح ... لم وإن طال احتماله

عزة المرء غناه ... وبه تحسن حاله

 

وقال:

لا تصاحب أبداً من ... عقله غير متين

إن نقص العقل داء ... يتقى مثل الجنون

صحبة الأحمق عار ... لاحق في كل حين

وقال(148):

وافق الناس إن أردت السلامه ... إن روح الوفاق روح كرامه

من يوافق يعش هنيئاً قريراً ... آمناً من أذية وملامه

فتوق الخلاف واحذر أذاه ... فركوب الخلاف عمداً ندامه

وقال:

ظلمات الخطوب مهما ادلهمت ... يجلها كالصباح فجر انفراج

أرح النفس لا تبت حلف هم ... كم هموم فيها السرور يفاجئ

وقال:

من لم يكن يقصد أن يحمدا ... يعش هنيئاً وينل أسعدا

من يبتغي المدحة لا بد أن ... يلحقه الذل وأن يجهدا

عيش الفتى في ترك تقييده ... وموته البحت إذا قيدا

وقال:

قل لأهل الحاجات مهما ابتغوها ... حسبكم ما أتى من التنبيه

إن تريدوا الحاجات من غير بطء ... فاطلبوها عند الحسان الوجوه

وقال:

خذ الأمور برفق واتئد أبداً ... إياك من عجل يدعو إلى وصب

الرفق أحسن ما تؤتى الأمور به ... يصيب ذو الرفق أو ينجو من العطب

من يصحب الرفق يستكمل مطالبه ... كما يشاء بلا أين ولا تعب

وقال:

من يبتغي السؤدد لا بد أن ... يرهقه الجهد فلا يضجر

يصعب إدراك المعالي فمن ... يرم لحاق بعضها يصبر

لا يحصل السؤدد هيناً ولا ... يظفر بالبغية إلا جري

وقال:

عاش في الناس من درى قدر نفسه ... ثم دارى جميع أبناء جنسه

علم الإنسان قدره نبل عقل ... وذكاء يبين عن فضل حدسه

وقال:

عظم الناس تنل تعظيمهم ... واجتنب تحقيرهم فهو الردى

من ير الناس بتحقير يكن ... عندهم مؤذى حقيراً أبدا

لا يغرنك إهمال امرئ ... ربما يؤذي الذباب الأسدا

وقال:

حب الرياسة يا له من داء ... كم فيه من محن وطول عناء

طلب الرياسة فت أعضاد الورى ... وأذاق طعم الذل للكبراء

إن الرياسة دون مرتبة التقى ... فإذا اتقيت علوت كل علاء

 

وقال:

لا تركنن إلى بشر ... إن شئت تأمن كل شر

ذهب الذين إذا ركن ... ت لهم أمنت من الضرر

لم يبق إلا شامت ... أو من يضر إذا قدر

وقال:

خل رأي الجهال ما اسطعت واتبع ... رأي أهل الحلوم والتجريب

لا تحد عن مشورة في مهم ... فهي مما تنمي حياة القلوب

رأي أهل الصلاح نور يجلي ... ظلمة الكرب في ليالي الخطوب

وقال:

لا يرتضي بالدون إلا امرؤ ... مقصر ذو همة خامله

الموت خير من حياة الفتى ... مهتضماً ذا رتبة سافله

روح حياة المرء من عزه ... من ذل مات الميتة العاجله

وقال:

استغن عمن تشاء ... فالله يغنيك عنه

من أمل الناس يشقى ... وليس يقنع منه

فإن ظفرت بحر ... فاحفظ عليه وصنه

وقال:

خذ من صديقك قدر ما يعطيكا ... لا تبغ أزيد واحذر أن يجفوكا

من يبغ مقدار الذي يحتاجه ... من أخيه يبق مخيباً متروكا

شأن الألى رزقوا الحجى أن يقنعوا ... فابغ القناعة إنها تغنيكا

وقال:

هن إذا عز أخوكا ... واخش أن يقرض فيكا

إن من عاند أقوى ... منه قد ضل سلوكا

نقص عقل أن تعادي ... بشراً لا يتقيكا

وقال:

تنزه ما حييت عن القبيح ... وخالف من يرى رد النصيح

وخذ بالحزم مهما اسطعت واحذر ... من أن يلقيك حزمك في فضوح

فلا تعدل عن الحق التفاتاً ... لغير الحق من بعد الوضوح

وقال:

لا تخف في الحق لوما ... صدقه ينجيك حتما

ينجلي الحق ويبدو ... نوره لا يتعمى

شأن ذي الحق اهتداء ... وأخو الباطل أعمى

وقال:

عامل بجد جميع الناس تحظ به ... وجنب الهزل إن الهزل يرديكا

الجد أحسن ما تبديه من خلق ... والجد أشرف ما في الناس يعليكا

من لازم الجد هابته النفوس ومن ... يهزل يكن أبداً في الناس مهتوكا

وقال:

كفاك الله شر من اصطفيتا ... وضر من اعتمدت ومن عرفتا

جميع الناس موتى عنك إلا ... معارفك الذين لهم ركنتا

تحفظ من قريب أو صديق ... وكن في الغير دهرك كيف شئتا

وقال:

من كان يرغب عن أحبابه ويرى ... تقريب أعدائه لا شك يهتضم

يدنى العدو فلا تدنو مودته ... هيهات كل معاد قربه ندم

فاحفظ صديقك واحذر أن تعاديه ... إن الصديق إذا عاديته يصم

وقال:

جامل عدوك كي يلين حقده ... فكيف بعض البعض من إيذائكما

واحفظ صديقك ما استطعت فإنه ... أدرى بطرق الضر من أعدائكا

وقال:

إذا ظفرت بمن أنحى عليك فخذ ... بالحلم فيه ودع ما منه قد فرطا

إن المسيء إذا جازيته أبداً ... بفعله زدته في غيه شططا

العفو أحسن ما يجزى المسيء به ... يهينه أو يريه أنه سقطا

وقال:

قاتل عدوك بالفضائل إنها ... أعدى عليه من السهام النفذ

كسب الفضائل عدة تعليك في ... رتب بها سبل السعادة تحتذي

فاحرص على نيل الفضائل جاهداً ... إن الفضيلة صعبة في المأخذ

وقال:

وعد الكريم وفاء ... تجنيه كيف تشاء

ما حال قط كريم ... ولا ثناه التواء

فأنجز الوعد مهما ... وعدت فهو الزكاء

وقال:

ليس الغنى عن كثرة الغرض ... إن الغنى في النفس إن ترض

رأس الغنى ترك المطامع عن ... زهد بلا ميل ولا غرض

فازهد تعش أغنى البرية في ... عز بلا هم ولا مضض

وقال:

زمن الفضائل قد مضى لسبيله ... ولوى بطيب العيش وشك رحيله

ركدت رياح الجد بعد هبوبها ... وعلا فريق الهزل بعد خموله

هيهات ما زمن الكرام وما هم ... ذهبوا وجد الدهر في تحويله

وقال:

مروءة المرء ثوبه ... والعري في الناس عيبه

بثوبه المرء يعلو ... قدراً ويحفظ قربه

من لم يصن ثوبه لم ... يصن وإن لاح شيبه

وقال:

لا تصخ ما بقيت حياً لقول ... ليس يجني عليك إلا المضره

واطرح ما أتاك منه وجنب ... من يرى بالفضول واتق ضره

وقال:

ثقيل تراه النفس في العين كالقذى ... وكالجبل الراسي على الصدر والقلب

تثير غموم المرء رؤية وجهه ... وتشكو جفاه الأرض شكوى ذوي الكرب

وقال:

أما ترى الأشجار مصفرة ... أوراقها كالشمس عند المغيب

ما هي إلا صفرة آذنت ... بأنها ترحل عما قريب

وقال:

كل ما تحب وتشتهي ... ودع الطبيب وما يرى

حفظ الغذاء مشقة ... ليست ترد مقدرا

كم عد من متحفظ ... كم صح ممن قصرا

كل التحفظ زائد ... لا بد مما قدرا

وقال:

من كان يأكل ما اشتهى ... ويرى مخالفة الطبيب

سيرى مضرة ما أتى ... بطراً ويندم عن قريب

إن التحفظ في الأمو ... ر لشيمة الفطن اللبيب

من لم يكن متحفظاً ... يخطي ويبعد أن يصيب

وقال:

وللحمام حاءات إذا ما ... ظفرت بها عثرت على النعيم

فحناء وحكاك مجيد ... وقل حجر يمر على الأديم

وحوض مفعم ماء لذيذاً ... وحجام على النهج القويم

وللحلق الحديدة حين تنمى ... وأطيبها حديث أخ كريم

وقال في الغزل، وهي آخر كتابه المذكور:

الله أكبر جلت فتنة البشر ... بنور غرتك المغني عن البصر

شمس تطلع في أفق الجمال لها ... نور تألق في داج من الشعر

ووردة الخد في أبراد سوسنها ... شقائق زانها التغليف بالدرر

ومسكة الخال فوق الخد شاهدة ... بأن إبداعها إحكام مقتدر

وهذه نبذة من كتابه " أنداء الديم في المواعظ والوصايا والحكم " وكل ما فيه كالذي قبله من نظمه رحمه الله تعالى، فمن ذلك قوله رحمه الله:

العلم نور وهدى ... فكن بجد طالبه

واحرص عليه واعتمد ... فيه الأمور الواجبه

من لازم العلم علا ... على الأنام قاطبه

وقال:

خالف النفس عند قصد هواها ... تبق ما عشت سالماً من أذاها

فاتباع الهوى هوان ولكن ... هان للنفس وكي تنال مناها

وقال:

من يخالف في شيء الناس يرجع ... هدفاً للسهام من كل راشق

كن مع الناس كيف كانوا، ووافق ... إن من لا يوافق الناس مائق

وقال:

أرح النفس تنتفع بحياتك ... واغنم العيش قبل يوم وفاتك

واطرح عيب من سواك، وسالم ... جملة الناس يغفلوا عن أذاتك

واعتبر بالذين بادوا، وبادر ... ما يدانيك من سبيل نجاتك

وقال:

سالم الناس ما استطعت، وجامل ... من يعاديك إن أردت السلامه

وتنزه عن القبيح وجنب ... من يرى بالفضول واحذر كلامه

 

وقال:

صديقي أنت ما أبقى بخير ... وموتي وغير محتاج إليكا

فإن أحتج إليك فأنت مني ... بريء لا صداقة لي عليكا

وقال:

من أنت عنه غني ... كن فيه مثل اعتقاده

فإن يكن منه ود ... فجازه بوداده

وإن يكن منه بعد ... فخله لبعاده

وقال:

عليك بنفسك لا تشتغل ... بشيء سواها وخل الفضول

تعش رائح القلب في غبطة ... فلا من يضر ولا من يقول

وقال:

اترك الفكر في الأمور ودعها ... فكما قدرت تكون الأمور

كل فكر وكل رأي وحزم ... غير مجد إذا جرى المقدور

وقال:

هون عليك خطوب الدهر إن لها ... نهاية والتناهي عنده الفرج

واصبر فإن لحسن الصبر عاقبة ... بصبحها ظلمة المكروب تنبلج

وقال:

احذر البخل إنه شر خلق ... يتحلى به وشر طريقه

من يجد غير مسرف فهو في النا ... س موقى تثني عليه الخليقه

وقال:

الذل في طلب الإفادة عزة ... فاحرص على نيل الإفادة ترشد

إن التعزز في الذي تحتاجه ... كبر، وكبر المرء أقبح مقصد

وقال:

دع من عرفت ولا تشدد عليه يداً ... وداره وتحفظ منه ما بقيا

أما ترى البلد الذي نشأت به ... محقراً كلما أصبحت معتليا

وغيره من بلاد الله قاطبة ... يعليك، لا سيما إن كنت متقيا

وقال:

ينبغي للذي تحلى بعقل ... أن يرى كالبازي مدة عمره

بين أيدي الملوك أو في فلاة ... خيفة من شرور أبناء دهره

وقال:

العزل يضحك ذله ... من تيه سلطان الولايه

فإذا وليت فسر على ... نهج الدماثة والرعايه

واقصد مداراة الورى ... واحذر كيود ذوي السعايه

وقال:

لا تقبل الحكم على بلدة ... نشأت فيها، إنه يحقد

رياسة المرء على الأهل وال ... جيران والخلان لا تحمد

وقال:

هي الدنيا إذا فكرت فيها ... رأيت نعيمها سماً نقيعا

فلا تحفل بها واحذر أذاها ... فإن لسمها قتلاً ذريعا

ولا تأسف على ما فات منها ... وبادر في حياتك أن تطيعا

وقال:

كن وحيداً ما عشت تحيا بخير ... سالماً من شرور كل البريه

إن من لا يخالط الناس يبقى ... دهره لا تعروه منهم أذيه

وقال:

لا تبح ما حييت يوماً بسر ... لصديق ولا لغير صديق

إن سراً يجاوز الصدر فاش ... يدريه العدا ومن في الطريق

وقال:

لا تصاحب ما عشت إلا الكبارا ... تنم ذكراً وتعتلي مقدارا

إن من ماشى في طريق حقيراً ... يكتسي منه مهنة واحتقارا

فتحفظ من أن تؤاخي دنياً ... فهو يعديك ذلة وصغارا

وقال:

محدثات الأمور أردى الشرور ... فتحفظ من محدثات الأمور

إنما المحدثات غي فدعها ... واجتهد أن ترى مع الجمهور

كل من يتبع الحوادث يشقى ... ويرى نفسه بغير نظير

وقال:

من تفضلت عليه ... أنت لا شك أميره

ومن احتجت إليه ... أنت بالرغم أسيره

ومن استغنيت عنه ... أنت في الدنيا نظيره

 

 

 

وقال:

لم يبق من يطمع في وده ... كلا ولا من ترتضى صحبته

الناس أشباه ذئاب فهل ... يعلم ذئب حسنت عشرته

من يبتغي اليوم صديقاً كما ... يرضى فقد زلت به بغيته

وقال:

فاعل الخير موقى كل ما ... يتقي من ضر أو من فتنة

ليس يخشى فاعل الخير أذى ... إن فعل الخير أوقى جنة

وقال:

تحفظ من صديقك في أمور ... فربتما يضر بك الصديق

من اعتمد الصديق ولم يبال ... يصبه الضر وهو به خليق

وقال:

لا تركنن لمخلوق وكن أبداً ... ممن توكل في الدنيا على الله

ولا تمل لسواه ما حييت فمن ... يرجو سوى الله هاو حبله واهي

وقال:

طلب الغاية اتباع غوايه ... فاعتمد في الأمور ترك النهايه

من يكن راضياً بما يتسنى ... عاش عيش الملوك دون أذايه

وقال:

لا تعتمد أبداً على مخلوق أن ... تبغ النجاح (149) وتقصد الرشدا

من يرج غير الله يحرم رشده ... ويذل وهو مخيب قصدا

وقال:

سفر المرء قطعة من عذابه ... فيه تخليق جسمه وثيابه

إنما العيش للفتى بين أهل ... هـ وخلانه وفي أحبابه

من يرده بخير الله يكفى (150) ... كرب تجواله وذل اغترابه

وقال:

سلم ولا تعترض يوماً على أحد ... إن شئت تسلم من حقد وأضرار

من يعترض يعترض لا شك وهو حر ... بذاك فالشر مقدار بمقدار

وقال:

إن الصديق لعون ... في كل ما تبتغيه

فلا تسئ لصديق ... واحذر وقوعك فيه

فالمرء قيل كثير ... بنفسه وأخيه وقال:

افعل الخير ما استطعت تنل ما ... تبتغيه من الثناء الجميل

فاعل الخير آمن ليس يخشى ... صرف دهر ولا حلول جليل

وقال(151):

بحق الحق حتماً دون شك ... وإن كره المشكك والملد

صريح الحق قد يخفى، ولكن ... بعيد خفائه لا شك يبدو

وقال:

إن شئت عزاً دائماً ... فاسلك سبيل من اقتنع

إن القناعة عزة ... والذل عاقبة الطمع

المرء إن قنع اعتلى ... قدراً وإن طمع اتضع

وقال:

استعن في الأمور بالكتمان ... وتحفظ من شر كل لسان

كل ما لا يدرى من أمرك فضل ... ليس فيه شيء من الخسران

وقال:

من مال عنك بشبر ... مل أنت عنه بميل

فالله يغنيك عنه ... فمنه كل جميل

فليس في الود خير ... مع ترك حسن القبول

وقال:

لا تقطعن صديقاً ... وإن يضق بك صدرا

واحرص عليه وزده ... إن يجف براً وشكرا

فإن قطع صديق ... لا شك يعقب ضرا

وقال:

خل التأنق في اللباس وسر على ... نهج الأفاضل في اختصار الملبس

إن التأنق في اللباس يكثر ال ... حساد والأعداء للمتلبس

فالبس كمثل الناس لا تخرج عن ال ... معتاد في شيء فتخطي أو تسي

 

وقال:

لا تحقرن عدواً ... ولو يكون كذره

واحذره ما اسطعت واجهد ... أن لا تحرك شره

إن البعوضة تؤذي ال ... ملوك فوق الأسره

وقال:

ما أهنأ الإنسان في عيشه ... ما بين أهليه وفي منزله

الذل في الغربة يا كربها ... وكرب من قوض عن معقله

وفي اقتلوا أو اخرجوا شاهد ... ساوى خروج المرء مع مقتله

وقال:

المال يستر عيب النرء فاقتنه ... واحفظه تبق موقى مدة الزمن

من ضيع المال أبدى عيبه وجنى ... تمهينه أبداً من كل ممتهن

وقال:

سريرة المرء تبديها شمائله ... حتى يرى الناس ما يخفيه إعلانا

فاجعل سريرتك التقوى ترى أملاً ... في كل ما أنت تبغيه وبرهانا

وقال:

ما تمت الدنيا لشخص ولا ... أمل ذا فيها سوى من فتن

عادتها الفتك بمن رامها ... وكل من أعرض عنها أمن

فلا تغرنك بلذاتها ... فإن من غر بها قد غبن

وقال:

لا يكن عندك الخديم نديماً ... إن قدر الخديم دون النديم

من ينادم خديمه يتأذى ... ويصير الخديم غير خديم

إنما يصلح الخديم ابتعاد ... واشتغال بشأنه المعلوم

وقال:

تثبت في الأمور ولا تبادر ... لشيء دون ما نظر وفكر

قبيح أن تبادر ثم تخطي ... وترجع للتثبت دون عذر

وقال:

كن في زمانك كيف يرضى أهله ... لاتعد طورهم ولا تتبدل

فإذا ترى الحمقى تحامق معهم ... وإذا ترى العقلاء فلتتعقل

من لم يكن أبداً كأهل زمانه ... يشقى، ولا يحظى بنيل مؤمل

وقال:

الفاضل اليوم غريب بلا ... عون على شيء من الحق

إن غاب لم يحضر وإن قال لم ... يسمع يؤبه بما يلقي

ما أضيع الفاضل يا ويحه ... كأنه ليس من الخلق

وقال وهو آخر أنداء الديم:

لعز عاقبة التقى ... والذل عاقبة الرياسه

فإذا اتقيت علوت في ... أهل المجادة والنفاسه

وإذا رأست نزلت في ... طرق التخلق والسياسه

فلتختر التقوى ولا ... ترأس فتخطيك الكياسه

وكان تاريخ فراغه من كتاب أنداء الديم نصف شعبان عام واحد وثلاثين وسبعمائة.

ولنذكر يعض أناشيده التي كان ينشدها أهل مجلسه ببلد قصبة المرية أعادها

 

الله تعالى، فمما أنشده رحمه الله تعالى لأبي العباس أحمد بن العريف صاحب " محاسن المجالس " (152) :

من لم يشاور عالماً بأصوله ... فيقينه في المشكلات ظنون

من أنكر الأشياء دون تيقن ... وتثبت فمعاند مفتون

الكل تذكار لمن هو عالم ... وصوابها بمحالها معجون

والفكر غواص عليها مخرج ... والحق فيها لؤلؤ مكنون

وأنشد رحمه الله تعالى من وجادة:

أعوذ بالله من أناس ... تشيخوا قبل أن يشيخوا

احدودبوا وانحنوا رياء ... فاحذرهم إنهم فخوخ

وأنشد لنفسه رحمه الله تعالى:

أقلل العشرة تغبط ... إن من أكثر ينحط

وعليك الصدق واحذر ... أن ترى في القول تشتط

والزم الصمت إذا ما ... خفت أن تلحى فتغلط

فعلى الفاضل يلفى ... كل مفضول مسلط

وأنشد لنفسه أيضاً:

جنة العالم لا أد ... ري إذا ما احتاج حنه

فإذا ما ترك الجن ... ة بانت فيه جنه

فالزم الجنة تسلم ... إنما الجنة جنه

وأنشد للحلاج رحمه الله تعالى (153) :

يا بدر يا شمس يا نهار ... أنت لنا جنة ونار

تجنب الإثم فيك إثم ... وخشية العار فيك عار

يخلع فيك العذار قوم ... فكيف من لا له عذار

وأنشد مما ينسب للحلاج أيضاً:

سقمي في الحب عافيتي ... ووجودي في الهوى عدمي

وعذاب ترتضون به ... في فمي أحلى من النعم

ما لضر في محبتكم ... عندنا والله من ألم

وأنشد لسيدي أبي العباس ابن العريف في محاسن المجالس وهي أحسن ما قيل في طول الليل (154) :

لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى

لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلا

إن العاشقين عن قصر اللي ... ل وعن طوله من الفكر شغلا

وأنشد رحمه الله تعالى مما أنشده بعض الوعاظ الغرباء:

عانقت لام صدغها صاد لثمي ... فأرتها المرآة في الخد لصا

فاسترابت لما رأت ثم قالت ... أكتاباً أرى ولم أر شخصا

قلت بالكشط ينمحي، قالت اكشط ... بالثنايا وتابع الكشط مصا

ثم لما ذهبت أكشط قالت ... كان لصاً فصار والله فصا

قلت إن الفصوص تطبع باللث ... م على خد كل من كان رخصا

وأنشد لابن خفاجة:

وأغر كاد لطافة وطلاقة ... ينساب ماء بيننا مسكوبا

قد قام في سطر الندامى فاستوى ... فحسبته ألفاً به مكتوبا

وأكب يشربها وتشرب ذهنه ... فرأيت منه شارباً مشروبا

مشمولة بينا ترى في كفه ... ماء ترى في خده ألهوبا

وأنشد لابن عبد ربه صاحب العقد مما نسبه له الفتح في " مطمح الأنفس ومسرح التأنس " (155):

يا لؤلؤاً يسبي العقول أنيقا ... ورشاً بتقطيع القلوب رفيقا

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... دراً يعود من الحياء عقيقا

وإذا نظرت إلى محاسن وجهه ... ألفيت وجهك في سناه عريقا

يا من تقطع خصره من رقة ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا

وأنشد لابن عبد ربه أيضاً:

ودعتني بزفرة واعتناق ... ثم قالت: متى يكون التلاقي

وتصدت فأشرق الصبح منها ... بين تلك الجيوب والأطواق

يا سقيم الجفون من غير سقم ... بين عينيك مصرع العشاق

إن يوم الفراق أفظع يوم ... ليتني مت قبل يوم الفراق

وأنشد له أيضاً:

هيج البين دواعي سقمي ... وكسا جسمي ثوب الألم

أيها البين أقلني مرة ... فإذا عدت فقد حل دمي

يا خلي الذرع نم في غبطة ... إن من فارقته لم ينم

ولقد هاج لقلبي سقماً ... حب من لو شاء داوى سقمي

وأنشد للمصحفي (156) :

صفراء تطرق في الزجاج، فإن سرت ... في الجسم دبت مثل صل لادغ

عبث الزمان بجسمها فتسترت ... عن عينه برداء نور سابغ

خفيت على شرابها فكأنما ... يجدون رياً في إناء فارغ

وأنشد لابن شهيد (157) :

هب من رقدته منكسراً ... مسبل للكم مرخ للردا

يمسح النعسة عن عيني رشاً ... صائد في كل يوم أسدا

شربت أعطافه خمر الصبا ... وسقاه الحسن حتى عربدا

رشأ بل غادة ممكورة ... عممت صبحاً بليل أسودا

أححت (158) من عضتي في نهدها ... ثم عضت حر وجهي (159) عمدا

فأنا المجروح من عضتها ... لا شفاني الله منها أبدا

وأنشد لصفوان بن إدريس:

حمى الهوى قلبه وأوقد ... فهو على أن يموت أو قد

وقال عنه العذول سال ... قلده الله ما تقلد

وباللوى شادن عليه ... جيد غزال ولحظ فرقد

علله ريقه بخمر ... حتى انتشى طرفه فعربد

لا تعجبوا لانهزام طرفي ... فجيش أجفانه مؤيد

أنا له كالذي تمنى ... عبد، نعم، عبده وأزيد

إن بسملت عينه لقتلي ... صلى فؤادي على محمد

وأنشد لأبي علي إدريس بن اليماني:

علقته شادناً صغيراً ... وكنت لا أعشق الصغارا

يسفر عن مستنير وجه ... صير جنح الدجى نهارا

لم أر من قبل ذاك ماء ... أضرم فيه الحياء نارا

وأنشد للرمادي، أو لابن برد القرطبي (160) :

لما بدا في لازور ... دي الحرير وقد بهر

كبرت من فرط الجما ... ل وقلت: ما هذا بشر

فأجابني: لا تنكروا ... ثوب السماء على القمر

وأنشده من وجادة:

يا ذا الذي عذب محبوبه ... أنخت عيس العز مغنى الهوان

لم ينبت الشعر على خده ... بل دب في أصداغه عقربان

رفقاً على نفسك لا تفنها ... فجوهر الأنفس در يصان

وأنشد من حديقة ابن يربوع:

غزا القلوب غزال ... حجت إليه العيون

خطت بخديه نون ... وآخر الحسن نون

وأنشد من وجادة:

أودع فؤادي حرفاً أو دع ... ذاتك تؤذى، أنت في أضلعي

وارم سهام اللحظ أو كفها ... أنت بما ترمي مصاب معي

موقعها قلبي، وأنت الذي ... مسكنه في ذلك الموضع

وأنشد من حديقة ابن يربوع:

يخط الشوق شخصك في ضميري ... على بعد التزاور خط زور

وتدنيك الأماني من فؤادي ... دنو البرق من لمح البصير

فلا تذهب فإنك نور عيني ... إذا ما غبت لم تطرف بنور

وأنشد للوزير المصحفي:

لعينيك في قلبي على عيون ... وبين ضلوعي للشجون فنون

لئن كنت صباً مخلقاً في يد الهوى ... فحبك غض في الفؤاد مصون

نصيبي من الدنيا هواك، وإنه ... عذابي، ولكني عليه ضنين

وأنشد لصالح بن شريف:

أيها العاذل بالله اتئد ... لك قلب في ضلوعي أو كبد

هي أجفاني فذرها تنهمي ... هي أحشائي فدعها تتقد

لا تظن الحب شيئاً هيناً ... ليس في الحب قياس يطرد

أنت خلو وأنا صب شج ... فإذا حدثت عني قل وزد

فاترك اليوم ملامي إنه ... يترك الشيء إذا ما لم يفد

أنا أسلو عن حبيبي ساعة ... يا عذولي، قل هو الله أحد

وأنشد له أيضاً:

وافى وقد زانه جمال ... فيه لعشاقه اعتذار

ثلاثة ما لها شبيه: ... الوجه والخد والعذار

فمن رآه رأى رياضاً ... الورد والآس والبهار

وأنشد من " حديقة " ابن يربوع:

عليك بإكرام وبر لستة ... من الناس واحذر شرهم وتوقه

طبيب وحجام وشيخ وشاعر ... وصاحب ديوان ومن يتفقه

وأنشد لبعض الصوفية:

ما ترى عند أحمق ... في أمور توسطا

بل تراه في أمره ... مفرطاً أو مفرطا

وأنشد لبعض الأدباء (161) :

الصبر أولى بوقار الفتى ... من قلق يهتك ستر الوقار

من لازم الصبر على حالة ... كان على أيامه بالخيار

ولنقتصر من ترجمة ابن ليون على هذا القدر، فقد حصلت الإطالة، بل ونكتفي من مشايخ لسان الدين بمن ذكرنا.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ترجمة ابن الجياب في الكتيبة الكامنة: 183 ونيل الابتهاج: 193 ونثير فرائد الجمان: 239 (رقم: 6) ودرة الحجال 2: 435 والديباج المذهب: 207 والإحاطة: 330 (وهي موجزة) .

(2) ليس بعشك فادرجي: مثل يقال في من يدخل نفسه في ما لا يعنيه.

(3) ص ق: جيادي.

(4) سقط البيت من ق.

(5) انظر نثير فرائد الجمان: 241.

(6) نثير: تجرر نخوة.

(7) ق: فوحقها.

(8) ق ونثير: بفنونها.

(9) نثير: جزرا.

(10) ق: ليقبسا.

(11) ق ص: أآمل.

(12) ص: خزيان.

(13) ق: مفاصل.

(14) ص: وغرك.

(15) سقط هذا البيت من ق.

(16) وقع البيت بعد تاليه.

(17) وقع البيت ثالثا في ص.

(18) هذه قراءة ص؛ وفي ق: شحمها شرطا.

(19) الكتيبة الكامنة: 189.

(20) الكتيبة: خاطبت.

(21) اليعقوب: ذكر الحجل.

(22) يعني فاء الكلمة وهو حرف الحاء.

(23) الكتيبة: وهو إذا صغرته مخففا.

(24) إشارة إلى الآية " أو سلما في السماء " (الأنعام: 25) .

(25) إذا صحف " سلم " أصبح " يثلم " أي يتكسر.

(26) أخوه هو المنبر.

(27) من بني النجار: من صنع النجار.

(28) أي أن قضب الروض تميد فهي " مائدة " أي متمايلة.

(29) في هذا البيت كناية عن القلم.

(30) بياض في ق ص.

(31) تبدل هذا العجز مع العجز التالي في ق.

 (32) يشير إلى أن الرجل الصالح عاب السفينة التي كانت لغلامين يتيمين كما جاء

في سورة الكهف.

(33) تصحيف صقر بعد قلبه هو " رفض " أي مذهب الرافضة.

(34) تصحيف حوت هو " حوب " أي الذنب.

(35) ق: خشية الإطالة.

(36) يشير إلى قول لبيد " ألا كل شيء ما خلا الله باطل ".

(37) الشري: الحنظل.

(38) ق: قصد التشوق.

(39) ق: تنفد.

(40) قد مر التعريف بعبد المهيمن الحضرمي وذكر مصادر ترجمته (ص: 240) من هذا الجزء.

(41) ولد: سقطت من ق.

(42) قد ذكرنا مصادر ترجمة ابن الحاج البلفيقي في المجلد الأول من النفح (ص: 516) .

(43) الإحاطة 2: 103.

(44) لم يرد هذا في الإحاطة.

(45) الإحاطة: 117.

(46) من الدار: سقطت من ق.

(47) ق: وأظنه.

(48) ص ق: رأى.

(49) ترجمة ابن هذيل في الإحاطة، الورقة: 381 ونثير فرائد الجمان: 320 (رقم: 13) والكتيبة الكامنة: 73 (ووردت ترجمته خطأ تحت اسم ابن شقرال) والدرر الكامنة 4: 412.

(50) في حقه: سقطت من ق.

(51) ص: بالسليمانية؛ الكتيبة: السليمانيات والعربيات، والقصيدة في الكتيبة: 77.

(52) القطع: من اصطلاحات المنجمين بمعنى النقص أو سوء الطالع.

(53) الكتيبة: نور الملاحة.

(54) في ق ص: يذكر؛ ويؤكد: مناسبة للتلاعب النحوي في البيت.

(55) ق ص: يضارعه.

(56) الكتيبة: حمرها.

(57) الربي: الحبر من أحبار اليهود (Rabbi) .

(58) ق ص: لجنان.

(59) الكتيبة: 74 والنثير: 322 وقد سبقت أبيات منها في المجلد: 3 ص: 357.

(60) الكتيبة والنثير: وسقى؛ والمقابلة بين " سما " و " هوت ".

(61) الكتيبة والنثير: الشهب.

(62) الكتيبة: 75.

(63) الكتيبة: قلبي.

(64) الكتيبة: صابر.

(65) الكتيبة: لمعناه.

(66) الكتيبة: الشجي.

(67) الكتيبة: فقل كيف حال الدمع.

(68) أخذه من قول الشاعر:

وما اخضر ذاك الخال نبتا وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر

(69) يريد السلطان إسماعيل بن فرج، هاجم حصن أشكر سنة 724، وأشكر من عمل بسطة، وفي ق ص: أشكو؛ وانظر الكتيبة: 77 - 79.

(70) حذف بعد هذا البيت أبياتا مثبتة في الكتيبة.

(71) الكتيبة: الشرع ... الهدى.

(72) ص: لإبانه.

(73) ق: فيتوب.

(74) ق: الأشجار.

(75) السريدك: يصغير سردوك وهو الديك.

(76) الكتيبة: 79.

(77) ق ص والكتيبة: زقي؛ ولعله الرق - بالراء المهملة - ليطابق المزهر.

(78) ق ص: قبيل السمع؛ والتصويب من الكتيبة.

(79) سقط البيت من ق.

(80) ق ص: أفي.

(81) ترجمة أبي بكر الحكيم في الإحاطة 2: 199 والكتيبة الكامنة: 195.

(82) الإحاطة: 206 والكتيبة: 195.

(83) الإحاطة والكتيبة: يدرك.

(84) الإحاطة: محمد بن محمد.

(85) هذه ترجمة والد أبي بكر ابن الحكيبم عن الإحاطة 2: 279.

(86) الإحاطة 2: 285.

(87) الإحاطة: 194. قلت: وورد في المجلد 3: 347 منسوبا لصالح بن شريف الرندي.

(88) المصدر نفسه.

(89) المصدر نفسه.

(90) الإحاطة: 294.

(91) ص: الخساوي.

(92) الإحاطة: 279.

(93) كذا في الإحاطة؛ وفي ق ص: الخلوة.

(94) الإحاطة: 279.

(95) أورد في الإحاطة: 289 - 291 جملة من أبياتها.

(96) الإحاطة: 292.

(97) سقط الشطر الثاني من ق.

(98) الإحاطة: 295.

(99) الإحاطة: نجوم.

(100) الإحاطة: 295.

(101) كذا في ق ص؛ وفي الإحاطة: الطريفي.

(102) انظر الإحاطة: 301.

(103) ترجمة أبي الحسن القيجاطي في الكتيبة: 37 والديباج: 207 ونيل الابتهاج: 292 وبغية الوعاة: 344 والإحاطة، الورقة: 323، وقد أوجز الترجمة في النسخة التي اعتمدت عليها وحذف أشعاره.

(104) الكتيبة: 38.

(105) الكتيبة: 38.

(106) ترجمة فرج بن لب في الكتيبة: 67 ونيل الابتهاج: 211 وبغية الوعاة: 372 والإحاطة، الورقة: 356، وقد غمز منه لسان الدين في الكتيبة بعد أن أثنى عليه في الإحاطة.

(107) الكتيبة: 68.

(108) ترقى: تصعد، وترقأ: تسكن وتكف عن البكاء.

(109) ق: الأوفاق.

(110) ق ص: والقاضي.

(111) نيل الابتهاج: الشره.

(112) ترجمة أبي القاسم ابن جزي في الكتيبة: 46 وأزهار الرياض 3: 184 والديباج: 295 ونيل الابتهاج: 235 والمقري ينقل هنا وفي الأزهار عن الإحاطة.

(113) ترجمة ابن شبرين في الإحاطة 2: 176 والمرقبة العليا: 153 والكتيبة: 166.

(114) انظر الإحاطة 2: 302.

(115) ق ص: سبت؛ السبنتي: النمر، والشطر من قصيدة تنسب للشماخ في رثاء سيدنا عمر (رض) والبيت:

وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتي أزرق العين مطرق (انظر طبقات

ابن سلام: 111) .

(116) ص: وجندل؛ والإشارة إلى قول الشاعر:

من مبلغ الأحياء أم مهلهلا ... أضحى قتيلا في الفلاة مجندلا

(117) من قول الشماخ أيضا:

جزى الله خيرا من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق

(118) من الآية القرآنية " ما ودعك ربك وما قلى

(119) من قول امرئ القيس " صفيف شواء أو قدير معجل ".

(120) ترجمة ابن ليون في التكملة: 86 (باسم سعيد) ونيل الابتهاج: 105 والإحاطة، الورقة: 365.

(121) ق: وقد.

(122) ق: دوح الشجر؛ ص: روح السحر.

(123) عجز بيت لأبي نواس، وصدره: " فقل لمن يدعي في العلم فلسفة ".

(124) ق: العلم.

(125) ق: وقوله، وكذلك جرى في كثير من المواضع.

(126) ص: من لا.

(127) ق: واعرف.

(128) ق ص: بفائد.

(129) وقعت القطعة بعد التي تليها في ق.

(130) ص: وأغض.

(131) ق ص: تحلى، جمر.

(132) ص: هنيئا يود.

(133) سقط من ق ص، وأكملناه من المطبوع.

(134) ص: فما.

(135) هكذا في ص؛ وفي ق: ما فعلنا.

(136) ص: متبعة.

(137) سقط البيتان من ق.

(138) ق: منه.

(139) ص: يرتجى.

(140) سقط البيتان من ق.

(141) ق ص: كصدر.

(142) ق: عنه.

(143) ق: مرفوع.

(144) ق: ختم.

(145) ق: وجهته.

(146) في المطبوعة: أقوى الفطن.

(147) ق: كتاب.

(148) سقطت هذه القطعة من ق.

(149) ق: النجاة.

(150) هذه رواية ص؛ وفي ق: يكفيه.

(151) سقط البيتان من ق، لأنهما وردا ص: 578.

(152) لم ترد في محاسن المجالس (ط. باريس 1933) .

(153) ديوان الحلاج: 62.

(154) انظر محاسن المجالس: 89 وليست الأبيات لابن العريف.

(155) أكثر هذه القطع أورده المقري في الأجزاء السابقة، انظر 3: 564.

(156) انظر ج 1: 594، 604.

(157) انظر ج 3: 358، 443.

(158) في ق ص: أحجمت؛ وآثرنا رواية الذخيرة، وقد صوبناه في موضعه من قبل.

(159) ق ص: خدي.

(160) انظر ما تقدم ج 3 ص: 546.

(161) هما لغانم المالقي، انظر 3: 398، 4: 28.

 

EN

تصفح الموقع بالشكل العمودي