ترجمة الولي السبتي
والسبتي المذكور: هو سيدي أبو العباس أحمد بن جعفر السبتي الخزرجي (1) ، الولي الصالح العالم العارف بالله القطب ذو الكرامات الشهيرة، والمناقب الكثيرة، والأحوال الباهرة، والفضائل الظاهرة، والأخلاق الطاهرة، نزيل مراكش، وبها توفي سنة إحدى وستمائة، وولادته بسبتة عام أربعة وعشرين وخمسمائة، ودفن خارج مراكش، وقبره مشهور مقصود بإجابة الدعاء، وقد زرته مرارا كثيرة، فرأيت عليه من ازدحام الناس ما لا يوصف، وهو ترياق مجرب.
قال لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى: كان سيدي أبو العباس السبتي - رضي الله تعالى عنه - مقصودا في حياته، مستغاثا به في الأزمات، وحاله من أعظم الآيات الخارقة للعادة، ومبنى أمره على انفعال العالم عن الجود، وكونه حكمة في تأثير الوجود (2) ، له في ذلك أخبار ذائعة وأمثال باهرة؛ ولما توفي ظهر هذا الأثر على تربته، وتشبث بلحده، وانسحب على مكانه عادة حياته، ووقع الإجماع على تسليم هذه الدعوى، وتخطى الناس مباشرة قبره بالصدقة إلى بعثها له من أماكنهم على بعد المدى، وانقطاع الأماكن القصى (3) ، تحملهم أجنحة نياتهم فتهوي إليه بمقاصدهم من كل فج عميق، فيجدون الثمرة المعروفة والكرامة المشهورة.
وقال ابن الزيات (4) : كان أبو العباس قد أعطي بسطة في اللسان، وقدرة على الكلام، لا يناظره أحد إلا أفحمه، ولا يسأله إلا أجابه، كأن القرآن والحجج على طرف لسانه حاضرة، يأخذ بمجامع القلوب، ويسحر العامة والخاصة ببيانه، يأتيه المنكرون للإنكار فما ينصرفون إلا مسلمين منقادين، وشأنه كله عجيب، وهو من عجائب الزمان وحدثني مشايخنا أنهم سمعوه يقول: أنا القطب. وحدثني أبو الحسن الصنهاجي من خواص خدامه قال: خرجت معه مرة لصهريج غابة الرمان يوم عرفة، فجلسنا هناك وصلينا، فقال لي: إنما سمي هذا اليوم يوم عرفة لانتشار الرحمة فيه لمن تعرف إليه بالطاعات، وقد فاتنا عرفة، فتعال نمثل بهذا المكان ونعمل كما يعملون، لعل الله تعالى يتغمدنا برحمته معهم، فعمل (5) مكانا داثرا بالعين الكعبة، ومحل عنصر الماء الحجر، وموضعا آخر مقام إبراهيم، فطاف بالعين أسبوعا وأنا أطوف بطوافه، وكبر على العنصر في كل طواف، وصلى في مثل (6) المقام ركعتين تامتين، وأطال في سجود الثانية، ثم استند إلى الشجرة ثم قال لي: يا علي، اذكر كل حاجة لك من حوائج دنياك تقض، فإن الله تعالى وعد في هذا اليوم من تعرف له أن يقضي حوائجه، فقلت له: ما أريد إلا التوفيق، فقال لي: ما خرجت معك من باب المدينة حتى وفقت، فسألته عن حاله من بدايته إلى نهايته، وبم تنفعل له الأشياء ويستجاب له الدعاء ولم صار يأمر بالصدقة والإيثار من شكا إليه حالا أو تعذر عليه مطلب في هذه الدار فقال لي: ما آمر الناس إلا بما ينتفعون به، وإني لما قرأت القرآن وقعدت بين يدي الشيخ أبي عبد الله الفخار تلميذ القاضي عياض ونظرت في كتب الأحكام وبلغت من السن عشرين سنة وجدت قوله تعالى {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} فتدبرته وقلت: أنا مطلوب به، فلم أزل أبحث عنها (7) إلى أن وقفت على أنها نزلت حين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم حكم المؤاخاة، فأمرهم بالمشاطرة، ففهمت أن العدل المأمور به في الآية هو المشاطرة، ثم نظرت إلى حديث " تفترق أمتي على ثلاثين فرقة - الحديث " وأنه صلى الله عليه وسلم قاله صبيحة اليوم الذي آخى فيه ببن المهاجرين والأنصار، وذكر له الأنصار أنهم شاطروا المهاجرين، فقال لهم ذلك بأثره (8) ، فعلمت أن الذي هو عليه وأصحابه المشاطرة والإيثار، فعقدت مع الله تعالى نية أن لا يأتيني شيء إلا شاطرت فيه الفقراء، فعملت (9) عليه عشرين سنة، فأثمر لي الحكم بالخاطر (10) ، فلا أحكم على خاطري بشيء إلا صدق، فلما أكملت أربعين سنة راجعت تدبر الآية فوجدت الشطر هو العدل، والإحسان ما زاد عليه، فعقدت مع الله تعالى نية لا يأتيني قليل ولا كثير إلا أمسكت ثلثه وصرفت الثلثين لله تعالى، فعملت عليه عشرين سنة، فأثمر لي الحكم في الخلق بالولاية والعزل فأولي من شئت، وأعزل من شئت، ثم نظرت بعد ذلك في أول ما فرضه الله تعالى على عباده في مقام الإحسان، فوجدت شكر النعمة، بدليل إخراج الفطرة عن المولود قبل أن يفهم ووجدت أصناف من تصرف إليهم الصدقات (11) الواجبة [سبعة] وسبعة أصناف أخر صرفها فيها للإحسان والزيادة، وذلك أن لنفسك عليك حقا، وللزوجة حقا، وللرحم حقا، ولليتيم حقا، وللضعيف حقا، وذكر صنفين آخرين، فانتقلت لهذه الدرجة، وعقدت مع الله تعالى عقدا أن كل ما يأتيني أمسك سبعيه حق النفس وحق الزوجة وأصرف الخمسة أسباع لمستحقيها، فأقمت عليه أربعة عشر عاما، فأثمر لي الحكم في السماء، فمتى قلت يا رب قال لي: لبيك، ثم قال لي: إنها نهايتي بتمام عمري، وهو أن تنقضي لي ستة أعوام تكملة العشرين عاما.
قال الصنهاجي: فأرخت ذلك اليوم، فلما مات وحضرت جنازته تذكرت التاريخ المكتوب، وحققت العدد، فنقصت من ستة أعوام ثلاثة أيام خاصة، فيحتمل أن تكون من الشهور الناقصة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وقال أبو بكر ابن مساعد: جاء بعض السلاطين إلى أبي العباس وهو راكب، وقال له: إلى متى تحيرنا ولا تصرح لنا عن الطريق فقال له: هو الإحسان، فقال له: بين لي، فقال له: كل ما أردت أن يفعله الله تعالى معك فافعله مع عبيده.
وقال له أبو الحسن الخباز (12) : أما ترى ما فيه الناس من القحط والغلاء فقال: إنما حبس المطر لبخلهم، فلو تصدقوا لمطروا، فقل لأصحابك الفلاحين: تصدقوا بمثل ما أنفقتم تمطروا، فقال له: لا يصدقني أحد، ولكن مرني في خاصة نفسي، فقال له: تصدق بمثل ما أنفقت، فقال له: إن الله تعالى لا يعامل بالدين، ولكن أستسلف، فاحتال وتصدق بها كما أمره، قال: فخرجت إلى البحيرة التي عمرتها والشمس شديدة الحر، فأيت من المطر، ورأيت جميع ما غرست مشرفا على الهلاك، فأقمت ساعة فإذا سحابة أمطرت البحيرة حتى رويت، وظننت أن الدنيا كلها مطرت، فخرجت فإذا المطر لم يتجاوزها؛ انتهى.
والحكايات عنه في مثل هذا كثيرة.
وقال ابن الخطيب القسمطيني في رحلته (13) : حضرت عند الحاج الصالح الورع الزاهد أبي العباس أحمد بن عاشر بمدينة سلا، وقد سأله أحد الفقراء عن كرامة الأولياء، فقال له: لا تنقطع بالموت الكرامة، انظر إلى السبتي، يشير إلى الشيخ الفقيه العالم المحقق أبي العباس السبتي المدفون بمراكش، وما ظهر عند قبره من البركات في قضاء الحاجات بعقب الصدقات، سمعت يهوديا بمراكش يلهج ببركته وينادي باسمه في أمر أصابه لا مع المسلمين، فسألته عن سببه، فأخبر أنه وجد بركته في غير موطن، فسألته عما بدا له في وقت (14) ، فقال لي: وحق ما أنزل على موسى بن عمران ما أذكر لك إلا ما اتفق لي، سريت ليلة مع قافلة في مفازة، فعجرت دابتي، فما شككت في قتلي وسلب مالي، فجلست وبكيت، وبيني وبين الناس بعد، وقلت: يا سيدي أبا العباس، خاطرك، قال لي: والله ما أتممت الكلام إلا وأهل القافلة أصابهم سبب وقفوا به، وضربت دابتي، وخف عرجها، ثم زال، واتصلت بالناس، فقلت له: لم لم تسلم فقال: حتى يريد الله تعالى، وعجبت من كون ذلك من يهودي، وهذه شهادة من عدو في الدين. ولقد وقفت على قبره مرات، وسألت الله تعالى في أشياء يسر لي فيها سؤلي: منها أن أكون ممن يشتغل بالعلم ويوصف به، وأن ييسر علي فهم كتب عينتها، فيسر الله تعالى علي ذلك في أقرب مدة. وكان السبتي آية في أحواله، ما أدرك صحبته إلا الخواص من الناس، وكان أصل مذهبه الحض على الصدقة، وكان أمره عجبا في إجابة الدعاء بنزول المطر، واختصاصه بمكان دون آخر، وقال لأصحابه: أنا القطب، وكان تفقه على أبي عبد الله الفخار، ووقفت على قبره، وله بركات وأنوار. وكان السبتي آية في المناظرة، وأوذي باللسان كثيرا جدا فصفح وتجاوز.
ورأى (15) عبد الرحمن بن يوسف الحسني النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال له: يا رسول الله، ما تقول في السبتي قال: وكنت سيىء الاعتقاد فيه، فقال لي بعد أن تبسم: هو من السباق، قال: فقلت بين لي يا رسول الله، فقال: هو ممن يمر على الصراط كالبرق، قال: فخرجت بعد الصبح، فلقيني أبو العباس، فقال لي: ما رأيت وما سمعت والله لا تركتك (16) حتى تعرفني، فعرفته، فصاح: كلمة الصفا من المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ انتهى ببعض اختصار.
وقال ابن الزيات: وحدثني أبو العباس الصنهاجي وغيره أن رجلا يعرف بابن الشكاز (17) ، وكان غنيا فدار عليه الزمان وافتقر، حدث أنه وصل لأبي العباس السبتي وعليه ثوب خلق تظهر منه عورته، فشكا إليه حالته، فأخذ بيده إلى أن خرج معه من باب تاغزوت، فجاء إلى مطهرة هنالك، قال: فدخل أبو العباس المطهرة وتجرد من أثوابه وناداني، وقال لي: خذ هذه الثياب، فأخذتها، وكان بعد العصر، فأردت أن أرى ما يكون من أمره، فصعدت إلى حائط هناك إلى قرب المغرب، فإذا بفتى خرج من الباب على دابة معه رزمة ثياب، فلما رأيته نزلت إليه، فقال لي: أين الفقيه أبو العباس فقلت: ها هو في الساقية عريان، فقال لي: أمسك الدابة، فسمعت الفقيه يقول له: أين تلك الثياب فأخذها منه وخرج، فلما رآني قال لي: وما لك هنا قلت: يا سيدي خفت عليك، فلم أقدر على الانصراف وأتركك، فقال لي: أفترى الذي فعلت ما فعلت له يتركني ثم سألت الفتى عن سبب وصوله إليه، فذكر له أن إحدى الكرائم أمرته أن يحمل إليه تلك الثياب، وقالت له: لا تدفعها إلا للفقيه، ولا يلبسها إلا هو، وهذه قصة صحيحة مشهورة.
وقال ابن الخطيب: وروضته بباب تاغزوت أحد أبواب مراكش غير حافلة البناء، ربما يتبرع متبرع باحتفالها فلا تساعده الأقدار، وزرتها، وربما شاهدت في داخلها أشياخا من أهل التعفف والتصوف يسارقون خفية الناظر إلى مساقط رحمات الله تعالى عليها لكثرة زائريها، فيقتحم (18) ذو الحاجة بابها خالعا نعله مستحضرا نيته ويقعد بإزاء القبر ويخاطبه بحاجته، ويعين بين يدي النجوى صدقة على قبره، ويدسها في أواني في القبر معدة لذلك، ومن عجز عن النقدين تصدق بالطعام ونحوه، فإذا خف الزائرون آخر النهار عمد القائم إلى التربة إلى ما أودع هناك في تلك الأواني وفرقه على المحاويج الحافين بالروضة، ويحصون كل عشية، ويعمهم الرزق المودع فيها، وإن قصر عنهم كملوه في غده.
قال ابن الخطيب لسان الدين: وترافع خدام الروضة لقاضي البلد، وتخاصموا في أمر ذاك الرزق المودع هناك، فسألهم القاضي عن خرجه اليوم، فقالوا: يحصل في هذه الأيام في اليوم الواحد ثمانمائة مثقال ذهبا عينا، وربما وصل في بعض الأيام لألف دينار فما فوقها، فروضة هذا الولي ديوان الله تعالى في المغرب لا يحصى دخله ولا تحصر جبايته، فالتبر يسيل، واللجين يفيض، وذو الحاجة كالطير تغدو خماصا وترجع بطانا؛ يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
قال: وأنا ممن جرب المنقول عن القبر، فاطرد القياس، وتزيفت الشبهة، وتعرفت من بدء زيارته ما تحققت من بركته، وشهد على برهان دعوته؛ انتهى.
وقال الشيخ أبو الحجاج يوسف التادلي في كتابه " التشوف إلى رجال التصوف " (19) : كان أبو العباس جميل الصورة، أبيض اللون، حسن الثياب، فصيح اللسان، مقتدرا على الكلام، حليما صبورا، يحسن إلى من يؤذيه، ويحلم على من يسفه عليه، رحيما عطوفا محسنا إلى اليتامى والأرامل، يجلس حيث أمكنه الجلوس من الطرق والسوق، ويحض على الصدقة، ويذكر في فضلها آيات وأحاديث، ويأخذها ويفرقها على المساكين، ويرد أصول الشرع إلى الصدقة، ويفسرها بها، ويقول: معنى قول المصلي الله أكبر أي: من أن نضن عليه بشيء، فمن رأى شيئا من متاع الدنيا في نفسه أكبر فلم يحرم ولا كبر، ومعنى رفع اليدين للتكبير: تخليت من كل شيء لا قليلا ولا كثيرا، وهكذا يتكلم بنحو هذا في جميع العبادات، ويقول: سر الصوم أن تجوع، فإذا جعت تذكرت الجائع، وما يقاسيه من نار الجوع، فتتصدق عليه، فمن صام ولم يعطف على الجائع فكأنه لم يصم، إلى غير ذلك من كلامه في مثل هذا.
وكان إذا أتاه امرؤ يأمره بالصدقة، ويقول له: تصدق، ويتفق لك ما تريده، وأخباره في ذلك كثيرة عجيبة.
قال التادلي: وحدثني ولده الفقيه أبو عبد الله عن أبيه أنه قال: كان ابتداء أمري وأنا صغير أني سمعت كلام الناس في التوكل، ففكرت في حقيقته (20) فرأيت أنه لا يصح إلا بترك شيء، ولم يكن عندي منه [بد] ، فتركت الأسباب، واطرحت العلائق، ولم تتعلق نفسي بمخلوق، فخرجت سائحا متوكلا، وسرت نهاري كله فأجهدني الجوع والتعب، وقد نشأت في رفاهية [من العيش] (21) ، وما مشيت قط على قدمي، فبلغت قرية فيها مسجد، فتوضأت ودخلت المسجد فصليت المغرب ثم العشاء، وخرج الناس، فقمت لأصلي، فلم أقدر من شدة الجوع والتألم بالمشي، فصليت ركعتين، وجلست أقرأ القرآن إلى أن مضى جزء من الليل، فإذا قارع يقرع الباب بعنف، فاستجاب له صاحب الدار، فقال له: هل رأيت بقرتي فقال: لا، فقال: إنها ضلت وقد أكثر عجلها من الحنين فطلبتها فلم نجدها في القرية، فقال أحدهم: لعلها [دخلت] في المسجد وقت العتمة، ففتحوا باب المسجد ودخلوا فوجدوني، فقال صاحب البقرة: ما أظنك أكلت الليلة شيئا، فذهب وجاءني بكسرة خبز وقدح لبن، ثم ذهب ليأتيني بالماء فوجد بقرته في داخل الدار، فخرج لجيرانه وقال لهم: ما زالت البقرة من الدار، وما كان خروجي إلا لهذا الفتى الجائع في المسجد، ثم رغبني أن أمشي معه لمنزله، فأبيت.
وكان في أول أمره يسكن في الفندق (22) ويعلم الحساب والنحو ويأخذ الأجرة على ذلك، وينفقها على طلبة العلم الغرباء، ويمشي في الأسواق، ويذكر الناس، ويضربهم على ترك الصلاة، ويأتي بالطعام على رأسه.
وبات ليلة عند الطلبة فارتفعت أصواتهم بالمذاكرة، فإذا بالحرس قد قرعوا باب الفندق فقام إليهم القيم بخدمته، فقالوا له: ما تعلمون أن من رفع صوته بالليل يقتل ثم قعد اثنان من الحرس على باب الفندق ليحملونا إذا طلع الفجر للوالي (23) ، فجاء القيم فأخبرنا فأدركنا خوف عظيم، وأيقنا بالهلاك، فأخذ أبو العباس في الضحك ولا يبالي، ثم خلا بنفسه عند السحر ساعة ثم قال لنا: لا خوف عليكم، قد استوهبتكم من الله تعالى، وهذان الحرسيان الواقفان غدا يقتلان إن شاء الله تعالى، فقيل له: الجزاء عندك على الأفعال من الخير والشر، وهما لا يفعلا ما يوجب قتلهما، بل جزاؤهما يروعان كما روعانا، فقال: العلماء ورثة الأنبياء، وترويعكم عظيم لا يقابله منهم إلا القتل، فمازلنا نعارضه في ذلك حتى قال: عقوبتهما أن يضرب كل واحد منهما مائة سوط، ثم اجتاز عبد الله الخراز صاحب الوقت بالجامع الأعظم، فوجد حانوته (24) مفتوحا، ورأى الحرسيين على قرب، فلم يشك أنهما حلاه (25) ، فحملا إلى ربحه القصر قبل طلوع الفجر، فقال لنا أبو العباس: احضروا على ضربهما كما أرادا قتلكم، فتبعناهما، وحضرنا حتى ضرب كل واحد مائة سوط.
وكراماته ومناقبه كثيرة لا تحصى.
وكان يقول (26) : أصل الخير في الدنيا والآخرة الإحسان، وأصل الشر فيهما البخل، قال الله تعالى " فأما من أعطى (الليل: 5) وقال عن إبليس " ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم " الأعراف: 17 وقال " ومنهم من عاهد الله " التوبة: 75 وقال " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " الحشر: 9 وقال " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة " القلم: 17 وقال " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم " آل عمران: 133 وقال " ليس البر أن تولوا وجوهكم " البقرة: 177 وقال " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض - الآية " الأحزاب: 72 فهذه الأمانة هي الرزق، فأعطت السموات ما فيها من الماء وهو المطر، والأرض ما فيها من الماء النازل من الجبال، والجبال ما فيها كذلك، وأنبتت الأرض وأبت إمساكها، فخزن الإنسان جميعها عنده ومنع المساكين إنه كان ظلوما جهولا، وفي الحديث " هم الأقلون ورب الكعبة، إلا من قال هكذا وهكذا - الحديث " ولما أراد الله تعالى إهلاك فرعون وقومه دعا عليهم موسى بالبخل، فقال " ربنا إنك آتيت فرعون - إلى قوله: دعوتكما " يونس: 88، 89 وكان رضي الله عنه في آخر عمره كثيرا ما يقرأ هذه الآية " أفرأيت الذي تولى - إلى قوله: سوف يرى " النجم: 23 وكان يقول: من قال إن الله تعالى لا يجازي على الصدقات فقد وافق اليهود في الفرية على الله تعالى لأنهم قالوا " يد الله مغلولة، غلت أيديهم " المائدة: 64 أي لا يجازي على الصدقات، قال الله تعالى " غلت أيديهم - إلى آخره " أي يجازي على العطاء كيف شاء. وكان يقول في قوله تعالى " والذين يكنزون الذهب والفضة - الآية " التوبة: 34 إنما كويت هذه المواضع لأن الغني يعرض عن المسكين بوجهه، ثم بجنبه، ثم بظهره، فعوقبت هذه المواضع بالكي بالنار لإعراضه عن الفقير، ومنازعه رحمه الله تعالى في أمثال هذا كثيرة؛ انتهى ملخصا.
وحدث أبو إسحاق إبراهيم بن أبي يعمور (27) أنه دخل صحبة الشيخ سيدي أبي العباس السبتي إلى الأمير السيد أبي سعيد عثمان يعوده، فقال له: ادع الله تعالى لي أيها الشيخ، فقال له: ارجع إلى الله تعالى حق الرجوع بحيث تتحقق أنه الممرض والمعافي، واخرج عن بعض ما عندك من فضول الدنيا لأبناء الجنس، لتكون ممهن وقي شح نفسه، فحينئذ يحصل لك ما ترجوه من الدعاء، ثم التفت إلى الحاضرين وقال: في المرض فوائد لا ينبغي أن تجهل: الأولى معرفة قدر العافية، الثانية تمحيص بعض الذنوب، الثالثة توقع الثواب، الرابعة تنقية الجسم من فضول الأخلاط، الخامسة كثرة ذكر الله تعالى والتضرع إليه، السادسة حدوث الرقة والشفقة، السابعة - وهي العظمى - الصدقة والخروج عن رذيلة البخل؛ انتهى. وحدث الكاتب أبو القاسم ابن رضوان عن أبي بكر ابن منظور عن بعض أعيان مراكش أنه توفي وأوصى ابنا له كان من أهل البطالة أن يعمد إلى ألف دينار من متخلفه، فيدفعها للشيخ سيدي أبي العباس السبتي، ففعل، وقال للشيخ: إن أبي توفي وأوصاني أن أدفع إليك هذه الألف دينار تضعها حيث شئت، فقال له الشيخ: قد قبلتها وصرفتها إليك، فقال له: يا سيدي، وما تأمرني أن أفعل بها قال: خذها ، قال: فانصرفت من عنده وسؤت ظنا بقوله، ثم قلت: وأنا أنفق مثل ذلك على عادتي في الوجه الذي يلذ لي، فلأفعلن بها ما أفعل بغيرها، فأخذتها في محفظة، وخرجت ألتمس الزنى، فإذا امرأة عل دابة وغلام يقودها، فأشرت إلى الغلام، فقال لي: نعم، واتبعني إلى بستان لي، فنزلت المرأة، فأدخلتها إلى قبة كانت في البستان، وأخذ الغلام الدابة وصار ناحية، وقال: أغلق الباب، ففعلت، ثم أقبلت إلى القبة فإذا المرأة تبكي بكاء شديدا حتى طال بكاؤها، وبكيت لبكائها، فقلت لها: ما شأنك فقالت: افعل ما دعوتني لأجله، ودع عنك هذا، ونحيبها يزيد، فقلت لها: إن المعنى الذي دعوتك لأجله لا يصلح مع البكاء، بل مع الأنس وانشراح الصدر وزوال الانقباض ورفع الخجل، فقالت: نترك البكاء ونرجع للأنس على ما تحب ويوفى غرضك، فقلت: لا، حتى أعلم سبب بكائك، وألححت عليها، فقالت: أتعرف حاجب الملك الذي سجنه قلت: نعم، قالت: فأنا ابنته ولم يبق له أحد غيري، وقد سجنه الملك وأخذ أمواله، فما زلت أبيع ما ترك أبي وأنفقه عليه، حتى لم يبق بيدي شيء، فلما أعيتني الحيلة فيما أنفقه ألجأت نفسي ووقفت هذا الموقف وأنا بكر ما رأى لي أحد وجها قط، فرميت لها بالألف دينار وقلت لها: والله لا قربت منك على هذا الوجه أبدا، فأنفقي الدنانير على والدك إلى أن تنفد، وابعثي لي غلامك أعلمه بمنزلي، ولازمي دارك، واستمري على صيانتك وإلا فضحتك، وتريني والله لا أزال أبيع أملاكي وأنفقها على والدك حتى أموت أو يفنى كل ما أملكه، ثم خرجت ألتمس الغلام وإذا بجماعة يطلبون البنت، وقالوا: إن الملك رضي عن والدها، ورد عليه ضياعه وأملاكه، ووصله بعشرة آلاف دينار، وقعد يلتمس بنته فلم توجد، فسقط في يد الغلام الذي كان مع الدابة، وظن أن الأمر على ما جرى بيني وبين البنت، فبادرته وقلت له: لا عليك، فتجاهل في خبرها حتى ينصرفوا، ودخلت إلى البنت وقلت لها: إن الملك قد رضي عن والدك، ورد عليه ماله ووصله، فسيري إلى دارك، فركبت دابتها وانصرفت، فدخلت على والدها فقال لها: أين كنت وما الذي أخرجك عن دارك وهم بها، فقالت له: أخرج عني كل من في الدار، ففعل، فأخبرته أمرها مع الشاب من أوله إلى آخره، ورمت إليه بالألف دينار، وقالت له: هذا الذي أعطاني لأنفق عليك، فقال أبوها: هذا والله هو الكبريت الأحمر، والله لو كان أبوه كنافا ما أنفت أن أزوجك منه، فوجه العبد الذي كان معها إلى الشاب، وقال له: إن سيدي يدعوك، قال: فخفت أن يوضع عنده الأمر على غير وجهه، ثم أقدمت إقدام من علم براءة نفسه، فدخلت عليه، فقام إلي وعانقني، وقد عرف لي مقامي (28) ، وقال: أما الآن وأنت من أعيان الناس فقد قرت بك عيني، وقال: والله لو كان أبوك كنافا ما أنفت لبنتي أن أزوجك منها، فما قام من المجلس حتى وجه إلى العدول وأشهد على نفسه بأنه زوج ابنته فلانة من هذا الشاب، ونقندها عنه الشطر الأول من العشرة آلاف دينار التي وصله بها الملك وأجل لها عنه الشطر الثاني، وأهدى لها من الحلي كذا وكذا، ومن الثياب كذا وكذا، حتى أتى على أكثر أملاكه حتى أنفقها على ذلك، فحصل من إشارة الشيخ السبتي - رضي الله عنه - في تلك الألف دينار على أضعاف مضاعفة من الأموال، وظفر ببنت حاجب الملك؛ انتهى. أكثر أملاكه حتى أنفقها على ذلك، فحصل من إشارة الشيخ السبتي - رضي الله عنه - في تلك الألف دينار على أضعاف مضاعفة من الأموال، وظفر ببنت حاجب الملك؛ انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع ترجمة الولي السبتي أنس الفقير: 7 - 9 وتعطير الأنفاس في التعريف بالشيخ أبي العباس لابن الموقت (ط. فاس 1918) ونيل الابتهاج 31 - 37 وعن هذا الأخير ينقل المقري؛ وراجع الأعلام للعباس بن إبراهيم 1: 239 - 338.
(2) في الأصل: الوجود، والتصويب عن التنبكي؛ وأورد العباس بن إبراهيم أن ابن رشد أرسل أبا القاسم الخزرجي ليعرف مذهب أبي العابس بمراكش، فلما نقل الخزرجي خبره إلى ابن رشد قال له: " هذا مذهبه أن الوجود ينعل بالجود " وهو مذهب فلان من قدماء الفلاسفة.
(3) نيل الابتهاج: المكان الأقصى.
(4) تنقل المصادر ترجمة السبتي عن التشوف، ولكن ابن الزيات صرح بأنه يفرد ترجمة السبتي إذ لا يكفي في ذكره الاختصار، وجعل ترجمته في آخر كتابه، إلا أنها لم تطبع مع سائر الكتاب، وقد نقل العباس بن إبراهيم ما ذكره ابن الزيات في تلك الترجمة.
(5) ق: فعمد؛ نيل الابتهاج: فجعل.
(6) في الأصل: قبل.
(7) نيل الابتهاج: فبحثت عن الآية.
(8) نيل الابتهاج: ذكر ذلك الحديث أثره.
(9) نيل الابتهاج: فبقيت.
(10) نيل الابتهاج: حكم الخاطر.
(11) نيل الابتهاج: أضاف من يعطى الصدقة.
(12) نيل الابتهاج: الجنان.
(13) يعني أنس الفقير، كما تقدم، انظره ص: 8.
(14) أنس الفقير: عما رأى له في أقرب وقت.
(15) ما يزال النقل مستمرا عن أنس الفقير.
(16) ق: لا أتركنك.
(17) نيل الابتهاج: السكان؛ ق: السكاك، والتصويب عن الأعلام.
(18) ق: فيقحم؛ نيل الابتهاج: فيلج.
(19) انظر الأعلام 1: 241.
(20) ق: دقيقة، والتصويب عن الأعلام.
(21) سقطت من ق.
(22) زاد التادلي في الأصل: الفندي الذي بأدجير، المعروف بفندق مقبل.
(23) الأعلام: لنقتل.
(24) ق: تابوته.
(25) حلاه: فتحاه؛ وفي الأعلام: فتحاها.
(26) انظر الأعلام: 258.
(27) أورده في الأعلام: 310 نقلا عن النفح.
(28) ق: وقد عرفني.
الاكثر قراءة في العصر الاندلسي
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة