العراق مهد التوحيد: قراءة تاريخية في نشأة نبي الله إدريس عليه السلام وتأثيره الحضاري
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
12/11/2025
منذ فجر التاريخ، لم تكن أرض الرافدين مجرّد ساحةٍ لقيام الحضارات المادية فحسب، بل كانت مهدًا للفكرة الكبرى التي غيّرت مجرى الوعي الإنساني: فكرة التوحيد. فهنا، على ضفاف دجلة والفرات، انبثقت البذرة الأولى للمعرفة السماوية، وتجلّى نور الإيمان قبل أن يتّسع أفق الأرض بالأنبياء والرسل. وفي هذا السياق، تبرز شخصية النبي إدريس عليه السلام بوصفها حلقةً تأسيسية في السلسلة النبوية، ورمزًا لوحدة العلم والدين في فجر الإنسانية.
تشير المصادر التاريخية واللغوية إلى ارتباط إدريس العميق بأرض العراق، مهد النبوات والعلم والمعرفة، فقد تربط روايات عديدة نسبه بجدّه شيث بن آدم الذي عاش واستقرّ في بابل، ما يجعل من الطبيعي أن تكون نشأته في هذا الامتداد الرافديني حيث سكنت ذرية آدم الأولى. وتجمع الروايات القديمة، الإسلامية منها واليهودية والمندائية، على أنّ إدريس عليه السلام كان النبي الذي جمع بين الحكمة والكتابة والعلم السماوي، وأوّل من خطّ بالقلم وخاط الثياب، وأوّل من نظر في علم النجوم وسير الكواكب، وربط مواسم الزراعة بحركة الشمس والقمر، ليضع بذلك أسس الزراعة المنظمة في تاريخ البشرية.
وتؤكّد نصوص المفسّرين والمؤرخين القدامى، مثل الطبري، واليعقوبي، والمسعودي، أنّ ميزاته هذه ارتبطت بالحضارة السومرية والأكدية في العراق، لا بالمجتمع المصري القديم الذي كان يعتمد في بداياته على الكتابة التصويرية (الهيروغليفية). ومن هنا يظهر بوضوح أنّ البيئة التي شهدت نشأته كانت حضارة راقية، تمثل المرحلة الأولى من الوعي الإنساني المنظّم، وهو ما يتوافق تمامًا مع طبيعة رسالته القائمة على العلم والنظام والتوحيد.
أما القول بمصريّة إدريس، فيبدو ناشئًا عن الخلط بين مقامه الدعوي ومكان ولادته، فالمصادر الإسلامية تُجمع على أنّه هاجر إلى مصر في وقت لاحق من حياته داعيًا الناس إلى التوحيد، فاستجاب له جمع من الحكماء والعلماء، حتى أصبح أثره الفكري ظاهرًا في ملامح الفكر الديني المصري القديم، الذي ازداد نزوعًا نحو عبادة الإله الواحد في بعض عصوره. ومع ذلك، لا تعني الهجرة الأصل، بل امتدادًا لنورٍ سبق أن انبثق من أرض الرافدين، حيث نزلت أولى الإلهامات السماوية بعد آدم وشيث.
وتظهر القراءة المقارنة بين النصوص الدينية واللقى الأثرية بوضوح أنّ التوحيد لم يكن ظاهرة مصرية الطابع، بل عراقية النشأة، إذ تميّزت حضارات وادي الرافدين بوجود مفاهيم التوحيد المبكر، مثل الإشارة إلى الإله الواحد في نصوص سومرية وأكدية متقدمة، مؤكدة أنّ هذا الإله هو خالق السماء والأرض. وهكذا، فإن ولادة إدريس في العراق ليست مجرد رواية دينية، بل حقيقة تاريخية تؤكد أنّ نور الإيمان والعلم بدأ من تلك الأرض التي كانت مهبط العقل ومشرق الوحي، ومنها انتقل إلى مصر وسائر العالم القديم.
نشأ إدريس في تلك البيئة بين عامي 4600 و4500 قبل الميلاد تقريبًا، فكان ذا عقل راجح وقلب موصول بالله. وقد جمع بين العلم والدين في شخصه، فهو أول من نقل الكتابة المنتظمة، وأول من نظم الزراعة، وأول من خاط الثياب، وأول من درس حركة النجوم والكواكب، مما جعله مؤسسًا لمنهج حضاري متكامل يجمع بين المعرفة الروحية والمادية. ورغم ذلك، واجه إدريس رفض قومه الذين تمسكوا بعبادة الكواكب، فصبر عليهم حتى أمره الله بالهجرة.
حوالي عام 4480 قبل الميلاد، وبعد أن أتم رسالته في أرض العراق وفلسطين، هاجر إدريس عليه السلام إلى مصر، واستقر في مدينة ممفيس (منف)، العاصمة الوليدة للمملكة المصرية المبكرة، التي كانت آنذاك في بدايات توحيد أقاليمها على يد ملوك عصر الأسرات الأولى. وقد حمل معه المعارف التي اكتسبها في العراق وفلسطين، فقدم للمصريين علم الفلك لتحديد مواسم الزرع والحصاد بدقة، والهندسة الزراعية لتنظيم الري وتوزيع المياه، والحساب لتوزيع المحاصيل، وكلها عناصر أساسية لتنظيم الحياة الزراعية والاقتصادية. ومن خلال هذه المعارف، أصبح إدريس رمزًا لامتداد الحضارة الرافدينية إلى مصر، ومؤسسًا نموذجًا للنبي العالم الذي يوحّد المعرفة بالرسالة.
ويرى المؤرخون المسلمون، مثل ابن خلدون، أنّ إدريس هو نفسه الذي عرفه المصريون باسم "هرمس"، بينما يربطه علماء المصريات بشخصية "تحوت"، إله الكتابة والحكمة في الأساطير المصرية، وهو ما يفسر أثره العميق في العلوم المصرية القديمة. وهكذا، يتأكد أنّ العراق كان المهد الأصلي للنور التوحيدي، فيما مثلت مصر محطة لاحقة لاستكمال تأثيره الحضاري والدعوي.
وهكذا، فإن رحلة إدريس عليه السلام من بابل إلى أريحا ثم إلى ممفيس لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل كانت حركة حضارية متكاملة، نقلت معها نور التوحيد والعلم والفنون من أرض الرافدين إلى مصر، مما جعله رمزًا يجمع بين الهداية الروحية والبناء المادي، بين النبوة والعلم، وبين فهم الكون وإصلاح الأرض، مؤسسًا نموذجًا فريدًا للنبي العالم الذي يوحّد المعرفة بالرسالة.
وفي نهاية حياته، رفعه الله كما جاء في القرآن الكريم: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا مريم: 57، وقد أكد حديث الإسراء والمعراج الصحيح الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التقى بإدريس في السماء الرابعة، مما يثبت رفعة مكانته بين الأنبياء. وهكذا يظهر إدريس عليه السلام في ضوء هذا التسلسل الزمني الموثق كجسر حضاري بين وادي الرافدين وفلسطين ووادي النيل، ونموذجًا للنبي المصلح والعالم الذي حمل نور التوحيد من العراق إلى العالم، رابطًا بين هدي السماء وبناء الأرض.







وائل الوائلي
منذ 13 ساعة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN