ما استوقفني في ضجّة الحفلة الغنائية لحفل مطربٍ لم أسمع باسمه قط لم تكن الألحان ولا الأضواء الصاخبة، بل ذاك المشهد المريب لفتياتٍ يافعات يصعدن إلى المنصّة، يعانقن المطرب ويقبّلنه أمام آلاف العيون، كأنّ الحياء أُقصي عمدًا إلى المقاعد الخلفيّة.
والمفارقة الصارخة أنّ الفئة ذاتها التي ملأت الدنيا ضجيجًا حول المدوّنة الجعفرية وادّعت أنّها تضطهد القاصرات، وزعمت أن الفتاة في هذا العمر لا تعي شيئًا من شؤون الحياة الزوجية هي نفسها من باركت هذا المشهد وعدّته حرّية شخصية، بل وادّعت أنّ الصبيّة القاصر تمتلك من الوعي ما يجعل فعلها فوق أيّ مساءلة
نحن لا نتحدّث عن الحكم الشرعي، بل عن تلك العاطفة الجارفة التي دفعت فتاة في الثالثة عشرة إلى تسلّق خشبة المسرح، والتشبّث بمطربٍ غريب بهذه الجرأة.
هذا المشهد وحده كافٍ لإثبات أن الفتيات في هذا العمر يملكن مشاعر الارتباط والانجذاب، وأنّ وعيهن العاطفي ليس بالصورة الباهتة التي يحاول المعترضون رسمها حين يناسبهم رسمها.
فإن كانت الفتاة كما يزعمون عاجزة عن فهم الحياة الزوجية، فبأيّ منطق يُتاح لها دخول الحفلات المختلطة وكيف يُفسح لها المجال للصعود إلى منصة غنائية، لتؤدي أمام الملأ ما يعجز عنه كثير من الراشدين حياءً
أليس هذا استغلالًا لعاطفة القاصرات، وزجًّا بهنّ في مساحات من الانزلاق الأخلاقي، بعد أن يُكسَر تدريجيًا في نفوسهن حاجزُ الحياء
الأغرب أنّ معظم الذين هاجموا المدوّنة الجعفرية صفقوا لمشهد المسرح وعدّوه حقًا شخصيًا، ولا أدري لماذا لا تصبح بالمنطق نفسه حريةً شخصية زواجُ فتاةٍ بلغت الخامسة عشرة، داخل محكمة، وبضوابط قانونية صارمة، وتوثيق رسمي
خصوصًا أنّ المدوّنة لم تُجز ما دون الخامسة عشرة أصلًا، بل جعلتها حدًّا لا يُتخطّى.
ومن هنا يتّضح أن الهجمة على المدوّنة الشيعية لم تكن دفاعًا عن قاصر صعدت المسرح
بل كانت حملة طائفية صِرفة، تشهد بذلك هوية المنابر التي قادت الضجيج: قنوات مأجورة لدولةٍ إقليمية صدرت لنا المفخخات والتكفيريين فيما مضى يعترف مسؤولوها بأن قوانينها ذاتها تشتمل على زواج القاصرات، ودستورها قائم في أغلبه على نصوص الشريعة الإسلامية.
على الضفّة المقابلة، حيث الحياء زينة، والالتزام قيمة، تقام في المذهب الجعفري احتفالات بسيطة ولكن مهيبة لفتياتنا المحتشمات عند بلوغهن سنّ التكليف الشرعي:
احتفالات ترعاها العتبات المقدسة، ويُحتفى فيها بالفتاة لا كـ"أنثى مستهلكة في سوق الأضواء"، بل كإنسانة بلغت مرحلة المسؤولية الروحية والأخلاقية.
هناك، تُمنح الفتاة قرآناً ووردة، لا عناقًا على المسرح.
وتُؤطَّر بوقار وعفة، لا بضوءٍ فاقع.
وتُكرّم بحضور عائلتها، لا باختلاطٍ عشوائي.
وهناك، تتعلّم معنى النضج لا معنى الانفلات.
إنّ هذه الاحتفالات، بكل بساطتها، تقول شيئًا مهمًّا:
أنّ المجتمع الذي يقدّر بناته لا يدفعهنّ إلى المنصّات، بل يرفعهنّ بالعلم والحياء والإيمان.
ولعلّ هذا هو المشهد الذي يتعمّد كثيرون تجاهله؛ لأنه لا ينسجم مع الخطاب الطائفي المستورد الذي يريد أن يرى قاصرًا فقط حين تكون من بيئة شيعية، وأن يرى بالغة حرّة حين تصعد على مسرحٍ صاخب.







وائل الوائلي
منذ 12 ساعة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN