سلسلة مفاهيم في الفيزياء
الجزء الثاني والسبعون: انهيار الواقع: تحديات نموذج GRW وحدود الحتمية الكمومية
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
30/10/2025

استكمالاً للمقال السابق نقول:
لاحظ أن ما يحدث في الكاشف هو ما يُحدد ما إذا كان الجسيم قد تم نقله أم لا؛ فبدون كاشف، لا يتم تحديد شيء، باستثناء خلال زمن قصير قصير جدا ، وهو متوسط زمن الانهيار لجسيم واحد.
وكما رأينا، حتى في حالة ضربة واحدة، فإن الزمن النموذجي بين الانهيارات يكون في حدود 0.01 ثانية، وهو أقل من الزمن الذي يستغرقه الإنسان للاستجابة لملاحظة بصرية. ومن هنا، فإن نموذج GRW يؤدي بالفعل إلى النتائج المطلوبة للمشاهدات.
كنموذج واقعي، فإن نموذج GRW في ميكانيكا الكم مهم للغاية. فهو يقدم فهمًا أعمق للنظرية الكمية، ويثير تساؤلات فلسفية وعلمية مثيرة، من قبيل: متى تحدث الملاحظة الواعية فعليًا خصوصًا وأن اختفاء الحدود غير المرغوب فيها في دالة الموجة هو اختفاء تقريبي فقط، فـ"الذيول" (tails) تظل موجودة دومًا.
كذلك، يوفر النموذج بنية يمكن من خلالها مناقشة أسئلة تتعلق بالعلاقة مع النسبية. أما ما إذا كان النموذج صحيحًا بالكامل فتبقى مسألة مفتوحة. ورغم أن الفكرة تبدو "غير طبيعية"، فقد ظهرت نسخ محسنة وأكثر إرضاءً، تستبدل الضربات العشوائية بعملية مستمرة. وقد تم تطوير هذا التعديل من قبل GRW أنفسهم، إضافة إلى فيليب بيرل وآخرين. وقد نُشرت مراجعات لهذا العمل ضمن سلسلة مقالات لجيراردي وبيرل في Proceedings of the Philosophy of Science Foundation 1990، الصفحات 19 و35.
تنبؤات نماذج الانهيار تختلف عن تنبؤات النظرية الكمية التقليدية؛ على سبيل المثال، فهي تنتهك قانون حفظ الطاقة.
وهذا يضع قيودًا على معلمات النموذج إذ يجب ألا تحدث العملية بسرعة كبيرة. فالنظام في حالته الأرضية (الأقل طاقة) قد يُثار عشوائيًا إلى حالة طاقة أعلى إذا تعرّض أحد مكوناته لضربة. وبالتالي، على سبيل المثال، ذرات الهيدروجين قد تبعث فوتونات تلقائيًا.
وقد أظهر فيليب بيرل وآخرون أن أفضل حد أعلى لمعدل هذه العمليات أو بتعبير أدق، الحد الأدنى لطول الزمن T يأتي من حقيقة أن البروتونات معروفة باستقرارها الشديد، بعمر يتجاوز 10(32) سنة. ونظرًا لأن البروتونات تتكون من ثلاث كواركات، فإن "ضرب" أحد هذه الكواركات قد يُدخل البروتون في حالة متهيجة تتحلل تلقائيًا. لكن عدم رصد مثل هذا الانحلال في الواقع يفرض قيودًا صارمة على نماذج GRW، وقد يؤدي إلى استبعاد بعض النسخ البسيطة منها.
يرى بعض الباحثين أن من مزايا النموذج أنه قابل للاختبار التجريبي بخلاف كثير من التفسيرات البديلة لميكانيكا الكم. إلا أن الحاجة إلى اختيار معلمات النموذج بعناية شديدة (لضمان أن تحدث عملية الانهيار بسرعة كافية عند القياس، ولكن ليس بسرعة مفرطة تُحدث تأثيرات يمكن رصدها) تُعد في نظر البعض نقطة ضعف.
لماذا "تآمرت" الطبيعة بهذا الضبط الدقيق لإخفاء هذه العملية عنا
ربما تكمن الإجابة، جزئيًا، في أن معلمات الانهيار ليست مستقلة عن باقي ثوابت الطبيعة، بل قد تنشأ من الجاذبية نفسها. ففي كتابه الواسع The Emperors New Mind منشورات جامعة أكسفورد، 1989، يطرح روجر بنروز أسبابًا أخرى للاعتقاد بأن الجاذبية قد تكون مرتبطة بانهيار الدالة الموجية. كما يقترح أن القدرة العقلية البشرية على تجاوز "الحوسبة الخوارزمية" ،أي الحسابات التي تعتمد على قواعد مغلقة، تشير إلى ضرورة وجود فيزياء جديدة فيزياء غير قابلة للحوسبة وهذه الفيزياء الجديدة قد تكون مرتبطة بانهيار دالة الموجة.
يتبع في الجزء 73