في سهول بلاد الرافدين، حيث ولدت الحضارة وأطلقت أولى حروف التاريخ، تقف تلك الشامخة المباركة بشموخ الآباء وعطاء الأمهات، تتوج بخصلها الأخضر سماء العراق، وتمنح بثمارها الذهبية الحياة والبقاء. إنها النخلة، العمّة الحانية التي رافقت الإنسان العراقي منذ فجر التاريخ، شاهداً على مجده، ومشاركاً في أفراحه وأتراحه، ومنحته من خيراتها ما جعلها تستحق بجدارة أن يُطلق عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اكرموا عمتكم النخلة.
لم تكن النخلة مجرد شجرة في حياة العراقي، بل كانت رفيقته في بناء أول حضارة زراعية في العالم. في أرض سومر وأكد وبابل، كانت السواقي تهمس لأجذاعها، والعمالقة من أبناء الرافدين يتفيؤون ظلالها الوارفة. كانت ولا تزال رمزاً للعطاء والخير والكرامة، ومصدراً للغذاء والاقتصاد والحياة. لقد قدّسها الأقدمون، وأدركوا أن حياتهم مرتبطة بها، فجعلوها في أساطيرهم وآلهتهم، وشيدوا حول بساتينها قصص حبهم وأسرار مدنهم.
أما في ديننا الحنيف، فقد جاء تكريمها واضحاً جلياً. فقد ذكرت النخلة في القرآن الكريم في أكثر من عشرين موضعاً، تكرماً وتعظيماً. قال تعالى: "وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ" (ق: 9-10). وكانت رطبةً طيبةً هي الطعام الذي أنعم الله به على السيدة مريم (عليها السلام) لتسكن بها نفسها وتقر عينها عند ولادة نبي الله عيسى (عليه السلام): "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا" (مريم: 25).
وفي السنة النبوية الشريفة، حثّ النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) على زراعتها واعتبارها شجرة مباركة، فقال: إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها. وجاء في حديث عنه (ص): أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم. وأهل البيت (عليهم السلام) ساروا على هذا النهج، مؤكدين على قيمتها الغذائية والاقتصادية، وحاثين على العناية بها.
لكن هذه العمّة الكريمة تعرضت لأقسى أنواع الجحود والإهمال في وطنها الأول. فبعد أن كان العراق يضم أكثر من 30 مليون نخلة، يعتز بها كأغلى ثروة، بدأ عددها بالتراجع بسبب الحروب والإهمال المتعمد.
وكانت الفاجعة الكبرى في أحداث الانتفاضة الشعبانية المباركة عام 1991، عندما انتفض الشعب العراقي ضد ظلم الطغمة الحاكمة. في مدن الجنوب والوسطى، وخصوصاً في محافظة بابل، التي تشتهر ببساتينها الغناء وطريقها السياحي المخضرّ، وجد الثوار المطاردون ملاذاً آمناً بين أشجار النخيل الكثيفة، التي شكلت حصناً طبيعياً يحميهم.
ردّ نظام صدام المقبور على هذا التحدي بعقلية إبادة جماعية لا تفرق بين الإنسان والشجر. فأصدر أوامره بقطع آلاف النخيل في بابل الطريق المؤدي إلى مدينة الحمزة الغربي (ع) خصوصاً، ليس لأسباب عسكرية بحتة، بل كعقاب جماعي وليحرم الثوار من المأوى، وليقتلع من جذوره أي رمز للحياة والخصب والإيواء. جُرّفت البساتين، وقطعت الأشجار المثمرة التي عمرها مئات السنين، وحرقت بأمر من حزب البعث، ليس لشيء إلا لأنها احتضنت أبناءها الثوار. كانت جريمة بيئية وإنسانية واقتصادية شنيعة، لا تختلف عن جرائمه ضد البشر.
لو عرف القاطعون قيمة ما يقطعون، لما تجرأوا على فعلتهم. فالنخلة هي شجرة الحياة حقاً، وفوائدها تشمل كل مناحي الحياة .
فالنخل مصدر رزق للآلاف من المزارعين والعاملين في الصناعات التحويلية (التمور، السعف، الخوص، الجذوع). تصنع منها أكثر من 360 منتجاً. وهي رافد أساسي للتصدير ودعم الاقتصاد الوطني.
ثمرها (التمر) هو غذاء كامل، غني بالسكريات الطبيعية سريعة الامتصاص، والألياف، والمعادن (كالحديد والبوتاسيوم)، والفيتامينات. وهو مقوٍ للجسم، ومنظم للهضم، ومفيد للقلب والأعصاب.
و للبيئة تطلق كميات كبيرة من الأوكسجين، وتعدل المناخ، وتقلل من التصحر، وتثبت التربة، وتوفر بيئة ظليلة تقلل من احتياجات الري للمحاصيل الأخرى.
بعد سقوط النظام الصدامي، بدأت جهود متواضعة لإحياء هذه الثروة. ولكن الأمل الأكبر تجسد في اهتمام العتبات المقدسة في العراق بهذا الملف. فقد أطلقت العتبة الحسينية والعباسية ومؤسسات المرجعية الدينية مشاريع طموحة لزراعة ملايين النخيل.
ففي كربلاء والنجف وغيرها، تم إنشاء مشاتل كبيرة، وتوزيع ملايين الفسائل على المزارعين مجاناً، ضمن مشاريع(مشروع زراعة مليون نخلة) التابع للعتبة الحسينية، وغيرها.ليس لتعويض الخسارة فحسب، بل إحياءً لتراث ديني واقتصادي وبيئي، وتأكيداً عملياً على توجيهات الأئمة (عليهم السلام) بالاهتمام بالزراعة وإعمار الأرض.
النخلة في العراق ليست شجرةً فحسب، بل هي ذاكرة حية، ورمز للصمود والعطاء. جريمة قطعها كانت جريمة ضد الجمال والحياة نفسها. واليوم، ونحن نشاهد الجهود الجبارة لإعادتها إلى مجدها، علينا أن نعي قول نبينا (ص): اكرموا عمتكم النخلة. فلنكن جميعاًحكومة وشعباًسُعاةً في إعادة تاج الخضرة إلى جبين بلدنا الحبيب، لتظل عمتنا النخلة شامخةً، كريمةً، معطاءة، كما أرادها الله وأنبياؤه وأولياءه.







وائل الوائلي
منذ 13 ساعة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN