الدستور العراقي: قراءة تحليلية في عدد مواده قبل وبعد التصويت عليه
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
24/10/2025
تمهيد
انطلاقًا من الاهتمام الأكاديمي بالشأن العام، ومن موقع المتابعة التحليلية للمسار السياسي والدستوري في العراق على مدى عقود، تأتي هذه الدراسة بوصفها محاولة لتشخيص الخلل البنيوي الذي أصاب الممارسة الدستورية بعد عام 2005، ولا سيّما في ما يتعلّق بالتغييرات التي طالت نصوص الدستور العراقي بعد الاستفتاء الشعبي. لا يقدّم هذا البحث فتوى قانونية أو حكمًا قضائيًا، بل يعتمد منهج المقارنة والتحليل الوثائقي بين النسخة التي صوّت عليها الشعب في الاستفتاء العام، وتلك التي باتت متداولة لاحقًا في مؤسسات الدولة. ومن ثمّ، فهو نداء مفتوح للحوار الوطني حول مفهوم الشرعية الدستورية وضرورة احترام الإرادة الشعبية التي تشكّل جوهر العقد بين الدولة والمواطن.
قدسية الوثيقة الدستورية ومصدر شرعيتها
تُعد الدساتير في النظم الديمقراطية عقودًا اجتماعية سامية، تقترب في مكانتها من القداسة، لما تمثّله من تعبير مباشر عن الإرادة العامة للشعب عبر الاستفتاء. ومن ثمّ، فإن شرعية الدستور لا تُستمدّ من السلطة أو من البرلمان، بل من التفويض الشعبي نفسه. وبناءً على ذلك، فإن أي تعديل ولو كان بحرف واحد لا يُعتدّ به ما لم يُطرح مجددًا على الاستفتاء العام، وإلا عُدّ تجاوزًا صريحًا على الإرادة الشعبية وخرقًا لمبدأ سيادة القانون، يرتقي إلى مستوى الجريمة الدستورية.
المشهد العراقي بعد 2003: السلطة فوق الدستور
شهد العراق بعد عام 2003 حالة من الانفصال التدريجي بين الطبقة السياسية والشعب، حيث أظهرت النخب الحاكمة ميلاً واضحًا إلى تغليب مصالحها الفئوية والحزبية على الالتزامات الدستورية التي أقرّها العراقيون. ومع استمرار هذا النهج، لم يعد مستغربًا أن يمتدّ الفساد من الممارسة الإدارية إلى البنية الدستورية نفسها، فيتحوّل النصّ الأعلى للدولة إلى مجالٍ للتلاعب والتعديل دون سندٍ من الإرادة الشعبية. وهكذا، أُقحم العراق في وضع شاذّ يتمثل بوجود دستورين: أحدهما أقرّه الشعب، وآخر تُدار به مؤسسات الدولة خلف الأبواب المغلقة.
مسودة الاستفتاء لعام 2005: وثيقة "دستورنا بين أيدينا"
عند العودة إلى استفتاء تشرين الأول/أكتوبر 2005، نجد أن المسودة التي وُزّعت على العراقيين كانت تحمل عنوان "دستورنا بين أيدينا"، وقد وُزعت عبر البطاقة التموينية لتصل إلى جميع الأسر العراقية. كُتب على غلافها أيضًا شعار "دستورنا خيمتنا" بخط أخضر رمزي يوحي بشمولية العقد الوطني.
تضمّنت المسودة ديباجة تبدأ بالآية الكريمة: "ولقد كرّمنا بني آدم"، تلتها (139) مادة دستورية، موزّعة من الصفحة الثالثة حتى الصفحة الثانية والخمسين. وفي نهايتها أُلحق ملحقٌ تفسيري بإشراف الشيخ الدكتور همام باقر حمودي، رئيس لجنة إعداد المسودة، يهدف إلى تبسيط المفاهيم الدستورية للقارئ. وقد أُقرّت هذه المسودة في الاستفتاء العام بنسبة 78، لتصبح منذ مطلع عام 2006 المرجعية القانونية العليا في جمهورية العراق.
الدستور الذي تغيّر بعد التصويت
إلا أن الواقع اللاحق كشف عن مفارقة خطيرة، إذ خضعت الوثيقة التي صوّت عليها الشعب إلى تعديلات غير معلنة بعد الاستفتاء، تمثلت في إدراج مواد جديدة وتغيير ترقيم أخرى، دون أن يُعرض ذلك على الناخبين. فبمراجعة النسخة المعتمدة حاليًا والمنشورة على الموقع الرسمي لمجلس النواب العراقي الطبعة السابعة، بغداد 2013 يتبيّن أن عدد المواد ارتفع من 139 مادة إلى 144 مادة، ما يعني إدخال خمس مواد جديدة لم تكن مطروحة أصلًا أثناء الاستفتاء.
إعادة هيكلة الدستور وتغيير تسلسل مواده
تكشف المقارنة بين النسختين عن تغييرات جوهرية في بنية وترقيم المواد:
1. إضافة المادتين (35) و(36) مما أدى إلى تغيير تسلسل المواد اللاحقة من (35 إلى 57) لتصبح (37 إلى 59).
2. تجزئة المادة (57) الأصلية إلى مادتين، أصبحتا (59) و(60)، ما غيّر تسلسل المواد التالية إلى (112).
3. إدراج المادة (113) التي رفعت الترقيم إلى (114141) .
4. إضافة المادة (142) التي جعلت آخر مواد الدستور تُرقم حتى (144) .
هذه التعديلات التي لم تُعرض على الشعب تشكّل خرقًا فاضحًا لمبدأ العقد الدستوري الذي لا يُعدّل إلا بإرادة الناخبين.
خطورة إدراج المادة (142)
تُعد المادة (142) من أخطر المواد المدخلة لاحقًا، لما تنطوي عليه من تحايل قانوني يمسّ مبدأ المساواة وسيادة الإرادة الشعبية. فهي تنشئ لجنة نيابية "ممثلة للمكونات" تقترح تعديلات دستورية، وتجيز تمريرها بأغلبية بسيطة في البرلمان، ثم تطرح للاستفتاء بشرط ألا تُرفض من ثلثي المصوّتين في ثلاث محافظات.
تحليلًا لذلك:
يمنح البند رابعًا أقلية جغرافية حق تعطيل قرار الأغلبية، وهو ما يناقض مبدأ المساواة في التصويت.
تُنشئ المادة آلية بديلة لتعديل الدستور خارج الإطار الأصلي المنصوص عليه في المادة (126) .
تستثني المادة الجديدة أحكام المادة (126) ذاتها، وهو ما يعادل تعطيلًا جزئيًا للنص الدستوري الأعلى.
وبذلك، غدت المادة (142) أداة لشرعنة الهيمنة السياسية وترسيخ المحاصصة، إذ جعلت التعديل الدستوري مرتهنًا بـ"توازن المكونات" لا بإرادة الأمة، وفتحت الباب أمام تمرير تعديلات جوهرية تخص الفدرالية، النفط والغاز، وصلاحيات الأقاليم.
التلاعب بالنصوص الأصلية
إلى جانب إدخال مواد جديدة، طالت التعديلات نصوصًا قائمة، من أبرزها المواد: (1)، (3)، (4-ثالثًا)، (8)، (9-ج)، (18-أولاً وثانيًا)، و(131) .
يظهر ذلك بوضوح في المادة (1)، إذ تغيّر نصها من:
"جمهورية العراق دولة مستقلة ذات سيادة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي اتحادي."
إلى النص الجديد:
"جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي اتحادي، وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق."
إضافة عبارات مثل "اتحادية واحدة" و"كاملة" و"وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق" ليست مجرد تحسين لغوي، بل تغيّر الدلالة القانونية لمفهوم الاتحاد ووحدة الدولة، ما يخلق التباسًا في تفسير السيادة وتوزيع الصلاحيات.
نتائج التلاعب: من العقد الدستوري إلى الدستور التوافقي
تُظهر هذه التغييرات أن العراق لم يُحكم منذ 2006 بدستور الاستفتاء، بل بما يمكن تسميته بـ "الدستور التوافقي"، وهو امتداد مباشر لمخرجات مؤتمر لندن 2002 الذي رعته الولايات المتحدة ومهّد لإعادة تشكيل النظام السياسي وفق أسس توافقية مشوّهة.
هذا الدستور "المحرّف" لا يمتّ بصلة قانونية إلى الوثيقة التي صوّت عليها الشعب، وقد بنيت على أساسه تشريعات وقوانين فاقدة للشرعية الدستورية. إنها أزمة تتجاوز البعد القانوني لتصيب الشرعية السياسية في صميمها.
تساؤلات حول غياب الرقابة الدستورية
يثور هنا تساؤل جوهري:
أين كانت السلطات الدستورية حين جرى هذا العبث
ألم تُحمّل المادة (64) من الدستور رئيس الجمهورية مسؤولية ضمان الالتزام بأحكامه
كيف أقرّ مجلس النواب تشريعات استندت إلى نصوص لم يصوّت عليها الشعب
وأين كانت السلطة التنفيذية حين تعاملت مع هذه النسخة المعدّلة كأساس لقوانينها
إن هذا الصمت الجماعي أمام التحريف يُعد تواطؤًا ضمنيًا، ويستوجب مساءلة قانونية وسياسية.
دعوة إلى التحقيق والمساءلة
بناءً على ما تقدّم، يوجَّه هذا المقال بوصفه نداءً إلى المدعي العام العراقي لفتح تحقيق رسمي في التعديلات التي طالت النص الدستوري، لما تمثله من اعتداء على الحق العام وإرادة الشعب ومشروعية الدولة. إن المساس بالدستور لا يمكن التعامل معه كخلاف إداري أو سياسي، بل كجريمة تمسّ سيادة الأمة.
الخاتمة: بين دستورين... وشعب واحد
تكشف القراءة التحليلية لنسخ الدستور المتداولة أن العراق يعيش منذ عام 2006 ازدواجية خطيرة: دستور أقرّه الشعب في استفتاء حر، ودستور آخر فُرض أمرًا واقعًا من خلال التعديلات غير الشرعية. هذه الازدواجية ليست مجرد خلل فني، بل انقلاب ناعم على العقد الاجتماعي ذاته.
إن استعادة المسار الدستوري الصحيح تبدأ بالاعتراف بهذه المفارقة، وبتشكيل لجنة وطنية عليا لمراجعة النسخة الأصلية التي صوّت عليها العراقيون، ومطابقتها بالنص المعتمد حاليًا. فليس من احترام القانون فقط، بل من الوفاء للعهد الذي كُتب على غلاف تلك الوثيقة التاريخية: "دستورنا بين أيدينا... ودستورنا خيمتنا."







وائل الوائلي
منذ 13 ساعة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN