المنبر الحسيني ومسؤولية الكلمة: بين الوعي والخداع الفكري
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
23/10/2025
كنت على بيّنةٍ تامّة حين كتبت عن الشيخ مصطفى الأنصاري، إذ لم يكن الحديث عن شخصٍ بقدر ما كان عن ظاهرةٍ فكرية تتنامى في محيطنا، مصدرها دولة أوربية تسعى لهدم البنية العقائدية للمنظومة الشيعية من الداخل. وهو يمثل نموذجًا متقدمًا من نماذج ما يُسمّى بـ"التشيع اللندني" المنتشر على الساحة اليوم، الذي يرفع راية الدين ظاهرًا، لكنه في العمق يسعى لتشويش العقل وتقويض الثوابت، مستهدفًا الأسس الفكرية والروحية لمجتمعنا.
لقد بدا توظيف الشيخ للمنبر الحسيني مريبًا في جوهره، إذ تحوّل المنبر الذي كان يفترض أن يكون مساحة للوعي والارتقاء الروحي، إلى أداة لتقديم صورة مغايرة لابن عربي، صورة مزيّنة بالعبارات المختارة بعناية، تخفي ما هو مشهور في كتبه من إساءات للفكر الشيعي، ووصف أتباعه بألفاظ لا تليق ــ كالروافض والكلاب والخنازير، كما ورد في كتاب ابن عربي الفتوحات المكية الجزء الثالث والسبعون. هذه العبارات لا يمكن التغاضي عنها بحسن الظن أو تبريرها بالجهل، لأن من يقف على المنبر لا بد أن يكون مطلعًا على ما يقول. إن التغاضي عن هذه المواقف لا يصدر عن سهو بريء، بل عن انتماء فكري متعصّب لجهة تسعى لترويج فكر دخيل باسم الدين، مستغلة العاطفة الدينية كأداة لإقناع الشباب. والشيخ نفسه لا ينكر أنه يمدح ابن عربي ويروج للعرافة الفلسفية في محاضراته، ما يضاعف أثر ذلك على وعي المتلقين.
انحدرت محاضرة الشيخ على المنبر الحسيني إلى درجة لا يمكن السكوت عليها، حيث بدأ يسيء إلى الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وعند ذكر الإمام وفاطمة الزهراء عليهما السلام، ينزع عن كلامه الألقاب المشروعة، بينما يغدق على ابن عربي الألقاب من قبيل "الشيخ الأكبر" وقدس سره. هذا التناقض في المعاملة يفضح الانحياز الفكري والخطابي، ويضع المنبر الحسيني في موقف حساس للغاية، حيث يصبح ساحةً لترويج مشروع فكري يخالف جوهر مدرسة أهل البيت عليهم السلام. كما أنه يخاطب الإمام علي عليه السلام بلقب "أبو حسيوين"، وعندما يتكلم عن المعصومة القديسة سيدة نساء أهل الجنة عليها السلام في مشهد خطبتها من رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، يذكر لفظًا هابطًا آخر "من الدعامية إلى الدعامية"، وهي ألفاظ لا تليق بالمنبر الحسيني ولا بأجواء الخطاب الروحي.
من هنا، لا بدّ أن نقف طويلًا أمام هذا المسار الخطير، وألا نسمح بمرور مشاريع تهدف إلى تفريغ الفكر الشيعي من جوهره، عبر تمرير تصورات تستبطن ما يمكن تسميته بـ"التشيع اللندني". ذلك التشيع الذي يرفع الراية ظاهريًا، لكنه في العمق يسعى لإحلال العرفان المنحرف محل العصمة، وتمييع الفاصل بين الحق والباطل باسم التسامح والذوق والرمزية، متغاضيًا عن الثوابت التي حافظت عليها الحوزات العلمية عبر القرون.
الوعي هنا ليس خيارًا ثقافيًا فحسب، بل واجب ديني وأخلاقي. بعض المواقف لا تحتمل الحياد، لأن الحياد في هذا الميدان يُعدّ شكلًا من أشكال التأييد الصامت للفكر المنحرف، وإقرارًا غير مباشر بسلامة ما يهدف إلى تقويض أساس العقيدة. فالسكوت عن الانحرافات الفكرية على المنبر يشبه السماح بحرية انتشار السموم في جسد الأمة، وهو موقف ينعكس على الجيل الشاب الذي يعتاد على استساغة الأفكار المغلوطة في سياق ديني.
وعندما يدّعي الشيخ أن كتب ابن عربي تُدرَّس في الحوزات الشيعية أكثر مما تُدرَّس في الحوزات الدينية الأخرى، فإن هذه الجملة، رغم قصرها، تحمل أثرًا بالغ الخطورة، إذ تُلتقط بسهولة من عقول الشباب فترسخ فيها كحقيقة غير قابلة للنقاش. هكذا يُمرَّر الباطل بسلاسة في عملية ناعمة قد لا يلتفت إليها الكثير، لكنها من أخطر أساليب زرع الشك وتشويه صورة الحوزات العلمية. ولا يمكن تبرير هذا القول على أنه سوء فهم أو زلة لسان، لأن منبر الحسين عليه السلام ليس مكانًا للتجريب أو التساهل، ومن يعتليه يتحمّل مسؤولية كل كلمة يقولها أمام الله والتاريخ.
أخطر ما في هذا الفكر ليس ما يُقال في بطون الكتب فحسب، بل ما يُمرَّر عبر المنابر ووسائط الإعلام الحديثة إلى عقول الشباب المتعطشين للمعرفة الروحية. حين يُقدَّم ابن عربي بوصفه "الشيخ الأكبر" دون تمييز بين عرفانه المنحرف والعرفان المحمدي الأصيل، تُفتح أمام الجيل أبواب التأويل الباطني الذي يفرغ الدين من شريعته، ويجعل التجربة الشخصية بديلاً عن النص المعصوم، ويغريه بالاعتقاد بأن التجربة الفردية تفوق إرث النصوص المؤسسة للعقيدة.
الخطاب الحسيني، الذي وُجد ليوقظ الضمائر ويربط الناس بأهل العصمة، لا يجوز أن يتحوّل إلى منصة لترويج مناهج فكرية تذيب الفوارق بين الولاية والعرفان، ولا أن يُستغلّ الشعور الديني في تمرير مضامين تخالف جوهر مدرسة أهل البيت عليهم السلام. فالمنبر ليس ملكًا للخطيب، بل أمانة يُسأل، وكل انحراف فيه هو خيانة لرسالة الحسين عليه السلام، وخطر يطال استقرار الوعي الجمعي.
مسؤولية العلماء والخطباء والمثقفين اليوم مضاعفة؛ عليهم أن يحصّنوا المنبر من الاختراق الفكري، وأن يقدّموا للشباب خطابًا عقلانيًا رصينًا يميّز بين العرفان الإلهي الذي يصعد بالإنسان نحو الكمال، وبين العرفان الفلسفي الذي يذيب العقيدة في رمزية ضبابية لا تمتّ إلى الإسلام بصلة. المنبر الحسيني ليس ساحة لتصفية الحسابات الفكرية ولا ميدانًا لتجريب الطروحات الوافدة، بل منبر الحق الذي وُجد ليحفظ نقاء العقيدة ويصون الوعي من التضليل، ويظل مرجعًا للضمير الديني والأخلاقي.
قدسية المنبر لا تُستمد من هيبة الخطيب، بل من صدق الكلمة التي تُقال عليه، ومن صفاء النية التي تُقدّم بها للناس. ومن هنا، فإن صونه من التسييس والانحراف الفكري واجب شرعي وأخلاقي، لأن الكلمة حين تُقال من فوق المنبر تصبح عهدًا أمام الله، وتتحول إلى جزء من وعي الأمة وضميرها الجمعي، وترسخ في ذاكرة الجماعة مبادئ الصدق والعدالة والوعي الروحي.
فلنحفظ هذا العهد كما حفظ الحسين رسالته، ولنكن أوفياء لدمه بالكلمة الصادقة التي تُبقي المنبر الحسيني منارة للوعي، لا منصة للدعاية، وسراجًا للهداية لا وسيلة للاختراق الفكري. فالمسؤولية الفردية والجماعية هنا لا تحتمل التأجيل أو التهاون، لأن كل كلمة على المنبر الحسيني هي شهادة تُسجّل أمام الله، وعهد يحفظ نقاء الفكر ويصون الروح الجماعية للأمة.
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
23/10/2025
كنت على بيّنةٍ تامّة حين كتبت عن الشيخ مصطفى الأنصاري، إذ لم يكن الحديث عن شخصٍ بقدر ما كان عن ظاهرةٍ فكرية تتنامى في محيطنا، مصدرها دولة أوربية تسعى لهدم البنية العقائدية للمنظومة الشيعية من الداخل. وهو يمثل نموذجًا متقدمًا من نماذج ما يُسمّى بـ"التشيع اللندني" المنتشر على الساحة اليوم، الذي يرفع راية الدين ظاهرًا، لكنه في العمق يسعى لتشويش العقل وتقويض الثوابت، مستهدفًا الأسس الفكرية والروحية لمجتمعنا.
لقد بدا توظيف الشيخ للمنبر الحسيني مريبًا في جوهره، إذ تحوّل المنبر الذي كان يفترض أن يكون مساحة للوعي والارتقاء الروحي، إلى أداة لتقديم صورة مغايرة لابن عربي، صورة مزيّنة بالعبارات المختارة بعناية، تخفي ما هو مشهور في كتبه من إساءات للفكر الشيعي، ووصف أتباعه بألفاظ لا تليق ــ كالروافض والكلاب والخنازير، كما ورد في كتاب ابن عربي الفتوحات المكية الجزء الثالث والسبعون. هذه العبارات لا يمكن التغاضي عنها بحسن الظن أو تبريرها بالجهل، لأن من يقف على المنبر لا بد أن يكون مطلعًا على ما يقول. إن التغاضي عن هذه المواقف لا يصدر عن سهو بريء، بل عن انتماء فكري متعصّب لجهة تسعى لترويج فكر دخيل باسم الدين، مستغلة العاطفة الدينية كأداة لإقناع الشباب. والشيخ نفسه لا ينكر أنه يمدح ابن عربي ويروج للعرافة الفلسفية في محاضراته، ما يضاعف أثر ذلك على وعي المتلقين.
انحدرت محاضرة الشيخ على المنبر الحسيني إلى درجة لا يمكن السكوت عليها، حيث بدأ يسيء إلى الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وعند ذكر الإمام وفاطمة الزهراء عليهما السلام، ينزع عن كلامه الألقاب المشروعة، بينما يغدق على ابن عربي الألقاب من قبيل "الشيخ الأكبر" وقدس سره. هذا التناقض في المعاملة يفضح الانحياز الفكري والخطابي، ويضع المنبر الحسيني في موقف حساس للغاية، حيث يصبح ساحةً لترويج مشروع فكري يخالف جوهر مدرسة أهل البيت عليهم السلام. كما أنه يخاطب الإمام علي عليه السلام بلقب "أبو حسيوين"، وعندما يتكلم عن المعصومة القديسة سيدة نساء أهل الجنة عليها السلام في مشهد خطبتها من رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، يذكر لفظًا هابطًا آخر "من الدعامية إلى الدعامية"، وهي ألفاظ لا تليق بالمنبر الحسيني ولا بأجواء الخطاب الروحي.
من هنا، لا بدّ أن نقف طويلًا أمام هذا المسار الخطير، وألا نسمح بمرور مشاريع تهدف إلى تفريغ الفكر الشيعي من جوهره، عبر تمرير تصورات تستبطن ما يمكن تسميته بـ"التشيع اللندني". ذلك التشيع الذي يرفع الراية ظاهريًا، لكنه في العمق يسعى لإحلال العرفان المنحرف محل العصمة، وتمييع الفاصل بين الحق والباطل باسم التسامح والذوق والرمزية، متغاضيًا عن الثوابت التي حافظت عليها الحوزات العلمية عبر القرون.
الوعي هنا ليس خيارًا ثقافيًا فحسب، بل واجب ديني وأخلاقي. بعض المواقف لا تحتمل الحياد، لأن الحياد في هذا الميدان يُعدّ شكلًا من أشكال التأييد الصامت للفكر المنحرف، وإقرارًا غير مباشر بسلامة ما يهدف إلى تقويض أساس العقيدة. فالسكوت عن الانحرافات الفكرية على المنبر يشبه السماح بحرية انتشار السموم في جسد الأمة، وهو موقف ينعكس على الجيل الشاب الذي يعتاد على استساغة الأفكار المغلوطة في سياق ديني.
وعندما يدّعي الشيخ أن كتب ابن عربي تُدرَّس في الحوزات الشيعية أكثر مما تُدرَّس في الحوزات الدينية الأخرى، فإن هذه الجملة، رغم قصرها، تحمل أثرًا بالغ الخطورة، إذ تُلتقط بسهولة من عقول الشباب فترسخ فيها كحقيقة غير قابلة للنقاش. هكذا يُمرَّر الباطل بسلاسة في عملية ناعمة قد لا يلتفت إليها الكثير، لكنها من أخطر أساليب زرع الشك وتشويه صورة الحوزات العلمية. ولا يمكن تبرير هذا القول على أنه سوء فهم أو زلة لسان، لأن منبر الحسين عليه السلام ليس مكانًا للتجريب أو التساهل، ومن يعتليه يتحمّل مسؤولية كل كلمة يقولها أمام الله والتاريخ.
أخطر ما في هذا الفكر ليس ما يُقال في بطون الكتب فحسب، بل ما يُمرَّر عبر المنابر ووسائط الإعلام الحديثة إلى عقول الشباب المتعطشين للمعرفة الروحية. حين يُقدَّم ابن عربي بوصفه "الشيخ الأكبر" دون تمييز بين عرفانه المنحرف والعرفان المحمدي الأصيل، تُفتح أمام الجيل أبواب التأويل الباطني الذي يفرغ الدين من شريعته، ويجعل التجربة الشخصية بديلاً عن النص المعصوم، ويغريه بالاعتقاد بأن التجربة الفردية تفوق إرث النصوص المؤسسة للعقيدة.
الخطاب الحسيني، الذي وُجد ليوقظ الضمائر ويربط الناس بأهل العصمة، لا يجوز أن يتحوّل إلى منصة لترويج مناهج فكرية تذيب الفوارق بين الولاية والعرفان، ولا أن يُستغلّ الشعور الديني في تمرير مضامين تخالف جوهر مدرسة أهل البيت عليهم السلام. فالمنبر ليس ملكًا للخطيب، بل أمانة يُسأل، وكل انحراف فيه هو خيانة لرسالة الحسين عليه السلام، وخطر يطال استقرار الوعي الجمعي.
مسؤولية العلماء والخطباء والمثقفين اليوم مضاعفة؛ عليهم أن يحصّنوا المنبر من الاختراق الفكري، وأن يقدّموا للشباب خطابًا عقلانيًا رصينًا يميّز بين العرفان الإلهي الذي يصعد بالإنسان نحو الكمال، وبين العرفان الفلسفي الذي يذيب العقيدة في رمزية ضبابية لا تمتّ إلى الإسلام بصلة. المنبر الحسيني ليس ساحة لتصفية الحسابات الفكرية ولا ميدانًا لتجريب الطروحات الوافدة، بل منبر الحق الذي وُجد ليحفظ نقاء العقيدة ويصون الوعي من التضليل، ويظل مرجعًا للضمير الديني والأخلاقي.
قدسية المنبر لا تُستمد من هيبة الخطيب، بل من صدق الكلمة التي تُقال عليه، ومن صفاء النية التي تُقدّم بها للناس. ومن هنا، فإن صونه من التسييس والانحراف الفكري واجب شرعي وأخلاقي، لأن الكلمة حين تُقال من فوق المنبر تصبح عهدًا أمام الله، وتتحول إلى جزء من وعي الأمة وضميرها الجمعي، وترسخ في ذاكرة الجماعة مبادئ الصدق والعدالة والوعي الروحي.
فلنحفظ هذا العهد كما حفظ الحسين رسالته، ولنكن أوفياء لدمه بالكلمة الصادقة التي تُبقي المنبر الحسيني منارة للوعي، لا منصة للدعاية، وسراجًا للهداية لا وسيلة للاختراق الفكري. فالمسؤولية الفردية والجماعية هنا لا تحتمل التأجيل أو التهاون، لأن كل كلمة على المنبر الحسيني هي شهادة تُسجّل أمام الله، وعهد يحفظ نقاء الفكر ويصون الروح الجماعية للأمة.







وائل الوائلي
منذ 13 ساعة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN