سلسلة مفاهيم في الفيزياء
الجزء السبعون: الدالة الموجية دون اختزال نظريات الكم في بحثها عن الحقيقة
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
20/10/2025
تُعد نظريات المتغيرات المخفية، التي تتعامل مع الدالة الموجية بوصفها "موجة دليلية" (pilot wave) ، من بين النماذج القليلة التي تدّعي أنها تقدم وصفًا كاملًا لميكانيكا الكم.
ويُقصد بكمالها أنها لا تفترض وجود عمليات فيزيائية غير موصوفة داخل إطار النظرية، بل تحافظ على اتساق داخلي دون الحاجة إلى آليات غامضة خارجية.
في هذه النظريات، يكون اللاتموضع (non-locality) في العالم الكمومي أمرًا جوهريًا، مما يضعها على طرف نقيض من التصورات الكلاسيكية. نموذج دي بروليبوم، أو ما يُعرف بنظرية الموجة القائدة، يُعتبر من أكثر هذه النماذج تطورًا. ففي هذا التصور، يُنسب لكل جسيم موقع محدد في كل لحظة زمنية، وتقوم الدالة الموجية بتوجيهه من خلال "معادلة التوجيه"، بحيث ينشأ السلوك الكمومي الظاهري من تفاعل الجسيم مع هذه الموجة وفق ديناميكا حتمية.
لا يحدث انهيار للدالة الموجية في هذا النموذج، بل تستمر في التطور وفق معادلة شرودنغر، وتكون نتائج القياس انعكاسًا لمتغيرات أولية غير مرئية. هذه الرؤية تعيد الحتمية إلى الفيزياء، لكنها تفعل ذلك على حساب القبول بوجود طبقة واقعية غير قابلة للرصد المباشر.
رغم ما في هذه النظريات من وضوح رياضي، إلا أن بعض النماذج المطروحة حاليًا ليست مقنعة من حيث البنية الجمالية أو البساطة.
الاعتراضات المبنية على عدم الأناقة تظل ذات طابع ذاتي، ولذلك ينبغي الحذر عند استخدامها، خصوصًا أن البدائل الأخرى تنطوي بدورها على قدر كبير من الغموض.
من الممكن، مع ذلك، أن يكون في القبول بنظريات المتغيرات المخفية تجاهلًا لما قد تقوله لنا الظواهر الكمومية: أن الواقع قد يكون غريبًا على نحو جذري، بحيث لا يمكن تصويره ضمن القوالب الفكرية التي اعتدناها.
من هذا المنظور، فإن الرسالة الإيجابية لتفسير كوبنهاغن تتمثل في دعوته للتخلي عن أدوات التفكير الكلاسيكي. فالتفسير التقليدي، كما صاغه مؤسسو هذه المدرسة، يرى في الدالة الموجية كائنًا رياضيًا ينكمش عند القياس ليعطي نتيجة محددة.
لكن هذا "الاختزال" لا ينبثق من معادلة شرودنغر، بل يُفترض حدوثه عند لحظة غير محددة، ما يجعله غير موضوعي وغير محسوم رياضيًا. هذا التناقض دفع كثيرًا من الفيزيائيين إلى اقتراح صيغ بديلة لا تتطلب اختزالًا للدالة الموجية.
تفسير العوالم المتعددة، الذي طرحه هيو إيفرت، يُعد من أكثر التفسيرات راديكالية. فهو لا يفترض أي انهيار أو متغيرات خفية. بل يرى أن كل احتمال كمومي يتحقق فعلًا، ولكن في فرع منفصل من الكون. عملية القياس لا تُنتج نتيجة واحدة، بل تؤدي إلى تشعب الواقع ذاته.
ورغم أن هذا التفسير يوسّع صورة العالم بشكل يتجاوز الخبرة اليومية، إلا أنه يحظى بقبول متزايد نظرًا لاتساقه الرياضي وابتعاده عن الافتراضات الخارجية. وهو يتشارك مع نظرية المتغيرات المخفية خاصية الاستغناء عن اختزال الدالة الموجية، حيث يستمر تطورها الخطي وفق معادلة شرودنغر دون انقطاع. لا يتم اختيار أحد فروع التراكب عبر عملية غير حتمية، بل تستمر جميع الفروع في الوجود بشكل متوازٍ.
ربما يكون تردد الفيزيائيين في قبول هذا النوع من التفسيرات، وما يترتب عليه من تعددية في الأكوان، مشابهًا لتردد العلماء سابقًا في قبول أن الأرض ليست مركز الكون. ميكانيكا الكم تفتح أمامنا رؤى غير مألوفة حول طبيعة الواقع. وربما نكون بالفعل في بداية الطريق نحو تفسير أعمق، سواء من خلال نماذج المتغيرات المخفية، أو عبر صياغات معدّلة مثل تصحيحات بيرل (Pearle corrections) التي تهدف لتفسير آلية القياس بطريقة موضوعية.
في جميع الأحوال، يبقى السؤال الجوهري قائمًا: هل الدالة الموجية تمثل كيانًا واقعيًا، أم أنها تعكس فقط معرفتنا بالنظام
الجواب عن هذا السؤال لن يحسم فقط تفسير ميكانيكا الكم، بل سيحدد أيضًا حدود ما يمكن اعتباره "واقعًا" في الفيزياء الحديثة.
وإذا كان علينا أن نحرر تفكيرنا من التحيزات الراسخة حول ما هو ممكن ومسموح به في الفيزياء، فربما يكون هذا هو المفتاح. في كل الأحوال، إنه احتمال مثير لمستقبل العلم.
يتبع في الجزء 71







وائل الوائلي
منذ 13 ساعة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN