سلسلة مفاهيم في الفيزياء
الجزء الثامن والستون: ما لا يُحاط بموضع: تأملات في وجود لا يعرف المكان والزمان
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
15/10/2025
ليست للدالة الموجية موضع محدد، وليس من المنطقي أن نسأل عن مقدار وجودها في منطقة معينة من الفضاء.
إن التصور التقليدي بأن الأشياء التي "تكون" موجودة يجب أن تقع في مواضع محددة يتعارض مع ما تقترحه ميكانيكا الكم.
وربما تكون هذه هي الرسالة الجوهرية التي ينبغي أن نستوعبها: أن فكرة تموضع الوجود في الفضاء ليست من الضرورات، بل من المسلمات الذهنية التي قد لا تنطبق على الواقع الكمي.
إنه درس صعب. الاعتقاد بأن ما هو موجود يجب أن يكون في مكان ما مترسخ عميقًا في وعينا، وقد يصعب علينا تقبّل نقيضه. ولكن هل هذا الاعتقاد نابع من طبيعة الواقع أم من حدود أساليب تفكيرنا
تشير ميكانيكا الكم إلى الاحتمال الثاني: أنها حدود فكرية، لا ضرورات واقعية.
وهذا ما يجعل مقولة أينشتاين تبدو ذات صلة كبيرة، حين قال في سياق مختلف:
"الزمان والمكان أنماط في الفكر، وليسا ظروفًا نعيش فيها."
وفي ضوء هذا، يمكننا أن نتخيل أن نظرية كاملة فعلاً عن الطبيعة لا ينبغي أن تفترض وجود الفضاء والزمان بوصفهما معطَيَيْن، بل أن تنشئهما من داخلها، كما تُنشئ سائر خصائص الواقع. من وجهة النظر هذه، ليس الفضاء إطارًا يحتوي على الدالة الموجية، بل لعل الفضاء نفسه مندرج فيها، مشتق من بنيتها العميقة.
هذا يقودنا إلى إعادة النظر في ما ناقشناه سابقًا من أفكار تتعلق بـ"الشمولية" أو (holism)، أي أن بعض الأشياء في الطبيعة لا يمكن تقسيمها إلى مكوّنات مستقلة. أحكامنا المسبقة كثيرًا ما تقودنا إلى الاعتقاد بأن كل ما في الطبيعة قابل للتجزئة المكانيّة؛ لكن الدالة الموجية بحسب ميكانيكا الكم قد تكون مثالًا بارزًا على ما لا يُجزأ بهذا الشكل.
هنا يظهر أيضًا ارتباط وثيق مع مقترحات سابقة عرضناها حول أن اختزال الدالة الموجية قد يتطلب إدخال تعديلات غير خطية على نظرية الكم. ففي النظرية الخطية، يكون تأثير الكل هو مجموع الأجزاء، لا أكثر. لكن في النُظُم غير الخطية، قد يظهر سلوك "كلي" لا يمكن استنتاجه من الأجزاء وحدها، أي أن تقسيم الكيان إلى وحدات محلية قد يُفقد شيئًا جوهريًا من الحقيقة.
هذه الأفكار لا تزال في طورها الأولي، ولم تنضج بما يكفي لتقديم صياغة رياضية أو نموذجية متماسكة. لكن من اللافت أننا حين نغادر مجال الفيزياء، نجد أمثلة توضيحية مشابهة. فمثلًا، من النادر أن يُتوقع من "فكرة" أن يكون لها موقع مكاني. ومن الصعب جدًا أيضًا تحديد موضع الوعي نفسه. ولطالما باءت محاولات تفسير الوعي من خلال تفكيكه إلى عناصر أبسط بالفشل.
ربما تقدم الأديان بعض المقاربات الرمزية القريبة من هذه الفكرة. فقد كان شائعًا في الأديان البدائية تصوّر الإله ككائن فيزيائي في مكان معين. غير أن التصورات الدينية المعاصرة تحررت من هذا القيد المكاني، وذهبت إلى القول بوجود مطلق لا تحدّه جهة.
آدم وحواء ظنّا أنه يمكنهما الاختباء من الله، النبي يونس عليه السلام حاول أن يفرّ عبر البحر. لكن بمرور الزمن، أصبحت العقيدة الدينية ترى الله في كل مكان، وتُردد تعبيرات رمزية مثل:
"إن صعدت إلى السماوات فأنت هناك؛ وإن نزلت إلى الهاوية فأنت هناك أيضًا. وإن أخذت أجنحة الصبح وسكنت في أقصى البحر، فهناك أيضًا تمسكني يدك."
ربما يكون اللاهوت قد تخطّى قيود الرؤية المكانية، فهل آن للفيزياء أن تفعل الشيء ذاته
الميكانيكا الكمومية قد تكون بوابتنا لتوسيع مفهوم "الوجود" خارج التصوّرات المألوفة.
يتبع في الجزء التاسع والستين.







وائل الوائلي
منذ 13 ساعة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN