كل مجموعة من البشر تتبنى فكرة وتفسيرا للكون، للعالم، للوجود، للمصير...، وهذا ما يصطلح عليه بالرؤية الكونية، فكل جماعة تستند لرؤية كونية معينة، لها أهدافها وواجباتها ومحظوراتها ومسؤولياتها وهذه نتائج تابعة بالضرورة للتصوّر الذي تتبناه الجماعة.
ومعنى الرؤية الكونية فلا نقصد منه الاحساس بالكون عبر الحاسة البصرية بل المقصود بالرؤية بمعنى معرفة الكون، فالمعرفة أساسية بها، فضلا عن انها من مختصات الانسان، بخلاف الحس المشترك مع بعض الكائنات الاخرى لذا فإن الرؤية الكونية مرتبطة بالمعرفة التي هي من مختصات الانسان المرتبطة بقوة العقل والتفكير.
الحيوانات تحس بالكون والانسان يحس بالكون ويفسره.
تفسير الانسان للكون يختلف باختلاف منشأه ومصدره وهنا توجد ثلاثة أنواع للتصور لما حولنا وهي:
اولا: الرؤية الكونية التجريبية
المقصود من هذه الرؤية أنها القائمة على العلم المعتمد على الفرضية والتجربة، فالعالم التجريبي عندما يأتي لظاهرة معينة تنقدح في ذهنه فرضية فيدخلها للمختبر ويجرب عليها فإن أيدتها التجارب تأخذ صفة المبدأ العلمي ويبقى هذا المبدأ ما لم تحل محله فرضية اقوى واشمل وافضل فالعلوم الحسية تسلك طريق التجربة العملية للكشف عن العلل والمعلولات.
مزايا الرؤية الكونية ونقائصها:
التجارب العلمية ذات مزايا اهمها انها محدودة وجزئية ومشخصة فيستطيع العلم التجريبي تزويدنا بآلاف المعلومات عن ورقة نبات واحدة وهذه جزئية محدودة ومشخصة اما نقائصها:
1- محدودية نطاقها: محدودية العلوم التجريبية يجعلها قاصرة على تفسير جميع ابعاد الكون وما حولنا لأن الكثير من الظواهر لا تخضع للتجربة، فالتجربة تستطيع معرفة بعض العلل والمعلولات لكن عند البعض الآخر تصل الى طريق مسدود فلا يمكنها تفسير بداية العالم ونهايته، هدفية العالم أو عبثيته، قوانين التاريخ للمجتمعات، وجود سبب وعلة كبرى ... الى غيرها من المباحث والمفاهيم.
وبمثال بسيط العلم التجريبي يرى العالم ككتاب قديم سقطت أوراقه الاولى والاخيرة
من هنا فالعلم التجريبي الحسي عاجز عن الاجابة على اهم مسائل الرؤية الكونية وهي اعطاء صورة عامة كلية عن مجموع العالم.
2- التزلزل وعدم الثبات: يرى العلم التجريبي ان العالم متغيّر باستمرار فهو قائم على اساس التجربة لا على اساس المبادئ العقلية البديهية فالتجارب لها قيمة وقتية وغير ثابتة في الجانب النظري، وبهذا فالمنهج الحسي المتزلزل لا يمكن ان يكون قاعدة للإيمان وذلك لأن الايمان يتطلب قاعدة قوية وثابتة لا يعتريها التزلزل، فضلا عن اقتصار الرؤية التجريبية على الجانب العملي الفاقد للجانب النظري، والايديولوجية بحاجة لقاعدة ذات قيمة نظرية لا عملية، فالقيمة النظرية هي القادرة على تقديم صورة لواقع العالم، وفي عالمنا الحالي ازدادت القيمة العملية عكسيا مقارنة بالقيمة النظرية.
مما تقدم يتضح لنا خصائص الرؤية التي نحتاجها وهي:
- ان تجيب على المسائل الأساسية المرتبطة بالعالم لا بجزء منه.
- ان يكون الجواب ثابتا موثوقا خالدا لا مؤقتا عابرا.
- ان يكون ذا قيمة نظرية كاشفة للواقع لا قيمة عملية فنية محضة.
والتصوّر التجريبي أو الرؤية التجريبية فاقدة لهذه الخصائص.
ثانيا: الرؤية الكونية الفلسفية
هذه الرؤية لم تبلغ تفريعات الرؤية التجريبية ولكنها استندت لمبادئ اساسية وهي:
- البداهة بمعنى ان المبدأ غير قابل للإنكار.
- عامة شاملة ومتصفة بنوع من الجزم فلا تزلزل بها.
فالتصور الفلسفي يجيب على الاسئلة المستندة عليها الايديولوجية بتشخيصه للعالم وتفسيره إياها بجميع أبعاده.
نتيجة ما تقدم ان التصور الفلسفي والتجريبي كلاهما مقدمتان للعمل ولكن بشكلين مختلفين فالرؤية الحسية مقدمة للعمل لمانحيتها الانسان قدرة التغيير والتصرف بالطبيعة، والرؤية الفلسفية مقدمة للعمل لتشخيصها اتجاه العمل وطريقة اختيار نهج الحياة وتعيين المواقف وليبلور الانسان نظرته للكون والحياة.
ثالثا: الرؤية الكونية الدينية
ان التصوّر الديني يمكن اعتباره نوع من التصوّر الفلسفي فبينهما حدود مشتركة خلافا للتصوّر الحسي الحاصر للحقيقة بالمادة والحواس.
في بعض الاديان كالإسلام فإن التصور للعالم يعتمد على نفس المنهج الفلسفي عموما اي الاستدلال العقلي فجميع المسائل الاساسية تقبل الاستدلال والبرهنة عقليا.. فالتصوّر الاسلامي عقلي فلسفي، واضافة لما تقدّم من خصائص المنهج الفلسفي يُضاف عليها في المنهج الديني قداسة المبادئ، فالايديولوجية التي تقدم للبشرية منهاج حياة يتطلب الايمان بمبادئها ولا يمكن الايمان الا ان اكتسب طابع من الحرمة والقداسة فضلا عن طابع الخلود والثبات في الأصول.
مما تقدم يمكن وضع معايير لتصوراتنا لتكون جيدة وهي كالاتي:
1- ان تكون قابلة للإثبات والاستدلال.
2- ان يمنح للحياة معنى ويزيل عنها العبثية.
3- ان يمنح النفوس اندفاعا وشوقا وهدفية.
4- ان يعطي طابع التقديس للأهداف الانسانية والاجتماعية ليبعث في نفوس معتنقيه الاستعداد للتضحية وتجاوز الذات.
5- ان يكوّن روح الالتزام والمسؤولية في نفوس الافراد واتجاه انفسهم ومجتمعهم.
بناءا على ما تقدم من مقدمات وتصورات نذكر الرؤية المختارة الجامعة لكل الخصائص اللازمة الا وهي (الرؤية الكونية التوحيدية).
هذه الرؤية تصرّح ان العالم غائي وذو اهداف وخلق نتيجة حكمة وتدبير وكل الموجودات تسير الى كمالها.
الرؤية الكونية التوحيدية تعني ان العالم قطب واحد ومحور واحد ومبدأه ومرجعه واحد وكل موجودات العالم تتحرك في اتجاه واحد نحو مركز واحد وفق نظام منسجم.
في الرؤية الكونية التوحيدية كل الموجودات تسير وفق نظام وقوانين لا تتخلف، والانسان بهذه الرؤية يتمتع بكرامة خاصة ويتحمل مسؤوليات كبيرة.
في هذه الرؤية يكون العقل والمنطق والاستدلال اسناد لها وتأييد.. فالعقل يرى ان هذا العالم دليل على وجود خالق حكيم عليم.
في هذه الرؤية يكون للحياة معنى وروح وهدف وتكون دافعة للإنسان نحو تكامله بل لها جاذبية وحماس ونشاط ولا تجعله يقف عند مرحلة معينة فيكون الانسان في الرؤية -ان اعتقد بها- باذلا مضحيا.
ختاما فإن الاسلام دين قام على اساس التصور التوحيدي وطرح التوحيد بأنقى الاشكال والصوّر فالخالق في الاسلام هو المبدأ وليس كمثله شيء وهو غني وكل شيء محتاج اليه وهو قادر على كل شيء وموجود في كل مكان ولا يخلو منه أي مكان وهو عليم بكل شيء وليس بجسم ورؤيته غير ممكنة.
فالعالم مخلوق موجه ولم يخلق عبثا بل له اهداف حكيمة وهذا كله تحت عناية الهية ان انقطعت لحظة واحدة يفنى ويزول كل شيء، والعالم قائم على اساس الاسباب والمسببات وقائم على اساس العقل وهذا النظام هو الاحسن والاكمل.
والعالم خاضع لقضاء الله وقدره والقضاء والقدر يوجِدان كل شيء عن طريق علته الخاصة به، وارادة الله تجري في العالم بشكل سنة والسنن لا تتغير وتحدث التغيرات بناءا عليها.
الانسان بموجب ذلك كله موجود حر ومختار مسؤول متحكم بمصيره وهو يتمتع بكرامة خاصة ولائق بتحمل اعباء الخلافة الالهية ، والدنيا لا تنفصل عن الاخرة بل هي مرتبطة بها كعلاقة الطفولة بالشيخوخة فالثاني حصيلة الاول.
والحمد لله رب العالمين.
1444/3/9







وائل الوائلي
منذ 17 ساعة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN