العرفان ليس معلومات تقرأ في الكتاب، العرفان هُو علم تربوي. كما ان الطبيب لا يصبح طبيبا إلّا اذا تدرب سنين على الطب كذلك علم العرفان تدريبي، يحتاج ِإلى أستاذ عارف. أي ان هُناك أستاذ خاض تجربة روحية عرفانية وتربى على يّد اساتذة عرفاء يكون هُو أستاذ في تربية الاخرين على طريق العرفان.
والعرفان لهُ منازل ومقامات، أتعرّض سريعًا لبعض المنازل والمقامات:
المنزلُ الأول: تهذيب النفس وتهذيب النفس يمر بالمحاسبة ثم المعاتبة ثم المُراقبة ثم المواظبة ثم المحاربة. وهذه الخطوات لخصها النبي المصطفى في قوله: «حَاسِبوا أنفسكُم قبل أن تحَاسبوا».
المنزل الثاني: تربية النفس، أي بعد اصلاحها وتهذيبها تنتقل ِإلى تربيتها، والتربية لها مراتب ثلاثة: (التخلي والتحلي والتجلي). وهذه المراتب الثلاثة يجب السير بها تراتبيا فيجب التخلي من الذنوب والمعاصي والكدورات وكل ما يتعلق بالحجب الظلمانية أو النورانية ثم بعدها يبدأ بالتحلية وهي اكتساب الفضائل والمحامد والملكات الحسنة وبعدها يبدأ بالتجلي فإِذا وصل الإِنسان ِإلى المرتبة الثالثة وهي التجلِي بدأ يُبصر نُّور اللهِ فِي قلبهِ وبدأ يشعر بالتجلي الوجداني داخل وجدانه حينئذ مصداق للآية الشريفة ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.
أما المقامات هي:
مقام الإرادة: ويعتبره علماء العرفان هُو الخطوة الأولى في السلوك الحقيقي إِلى الله ، الإرادة يعني الشعور بالغربة، الإنسان إذا مر بالمراحل التِي ذكرنها يصل إلى مرحلة يشعر انهُ غريب في الدنيا، الشعور بالغربة والوحدة والوحشة والظلمة، وإِنهُ مُفتقر ِإلى الله فِي كُل آن وفِي كُل لحظة، كما وصف ضرار الإمام علي «يسْتَوْحِشُ مِنَ الدُّنْيَا، وَزَهْرَتِهَا، وَيَسْتَأْنِسُ مِنَ اللَّيْلِ وَوَحْشَتِهِ» اذا وصل إِلى هذا المُستوى إنهُ في حال غربة ووحشة وفقر إلى الله تبارك وتعالى، حينئذ تعطر بعطر الإرادة، وهِي أول الخطوات المهمة فِي العروج ِإلى الله تبارك وتعالى.
مقام الأسفار الأربعة:
أحَدُهَا: السَّفَرُ مِنَ الخَلْقِ إِلَى الحَقِّ.
وثَانِيهَا: السَّفَرُ بِالحَقِّ فِي الحَقِّ.
والسَّفَرُ الثَّالِثُ: يُقَابِلُ الأَوَّلَ لِأَنَّهُ مِنَ الحَقِّ إِلَى الخَلْقِ بِالحَقِّ.
والرَّابعُ: يُقَابِلُ الثَّانِي مِنْ وَجْهٍ، لِأَنَّهُ بِالحَقِّ فِي الخَلْقِ.
يقول العَلَّامَة الميرزا مُحَمَّد حسن النوري نجل الحكيم المتألِّه الْمَوْلى علي النوري {رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا} في حاشيته عَلَى ‹الأسفار› كلامًا بسيطًا يوضح كيفية الأسفار الأربعة، نــورده هنا كاملًا؛ للإفادة والإستفادة:
(اعلم أن الإنسان ما دام لم يشرع في سلوكه العلمي والنظري يشاهد الكثرة دائمًا ويغفل عن مشاهدة الوحدة وكل شيء يشاهده يشاهد بصفة الكثرة، والكثرة في نظره وشهوده مانعة عن شهود الوحدة، والوحدة محتجبة عنده بالكثرة، فإذا شرع في سلوكه العلمي من الآثار إِلى المؤثر ومن الموجودات إِلى الصانع تضمحل الكثرات عنده شيئًا فشيئًا إِلَى الوحدة الصرفة الحقة الحقيقية، بحيث لا يشاهد الكثرة أصلًا ويغفل عن مشاهدة الكثرات والنظر إِلَى أعيان الموجودات بالمرة وحنيئذٍ تصير الكثرة محتجبة بالوحدة ولا يشاهد إلَّا الوحدة ويستغرق في مشاهدتها عن مشاهدتها، ومنزلة هذا المنزل في السلوك الحالي منزلة السفر الأوَّل للسالك العارف الَّذي أشار إليه في الكتاب وهو السفر من الخلق إِلَى الحق أي من الكثرة إِلَى الوحدة، وإذا وصل إِلَى عالم الوحدة واحتجب عن مشاهدة الكثرة فحينئذٍ يستدل السالك بالسُّلوك العلمي من ذات الحق ووحدته عَلَىٰ أوصافه وأسمائه وأفعاله مرتبة بعد مرتبة؛ ويعرف خواص وجوبه ووجوده مرتبة ومنتظمة، وهذه المرتبة بمنزلة السفر الثاني للسالك في السلوك الحالي الَّذي هو في الحق بالحق، أمَّا في الحق فظاهر؛ لكون هذا السفر في صفات الحق وأسمائه وخواصه وأمَّا كونه بالحق لأن السالك حينئذ متحقق بحقيقة الحق وغافل عن مشاهده إنيته وإنية جميع الكثرات والأعيان فانٍ في ذاته وصفاته وأسمائه وباقٍ ببقائه لا بإبقائه فافهم إن كنت من أهل الأسرار وفي هذه المرتبة ربما انشرح صدر السالك عن الضيق والتزاحم وحلت عقود العجز عن لسانه بحيث يشاهد الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة ولا يحجبه مشاهده الوحدة عن مشاهده الكثرة ولا يشغله بالعكس ويصير جامعًا لكلتا النشأتين وبرزخًا بين المقامين؛ وذلك لسعة دائرة وجوده وانشراح صدره فحينئذٍ يصير قابلًا لكونه معلمًا للناقصين ومرشدًا لضعفاء العقول والنفوس ومنزلة هذه المرتبة من السُّلوك الحالي والعلمي منزلة السفر من الحق إِلَى الخلق بالحق وهو مرتبة النبوة والرسالة وفوق هذه المرتبة مرتبة أُخرى أعلى وأكمل وأدق وأتقن وهي الاستدلال عَلَى وجود الحق ووجود غيره بالحق بحيث لا يكون الوسط في البرهان عَلَى وجوده ووجود غيره ويسمى هذا الاستدلال والبرهان باللم وطريقة الصديقين ولكن هذه المرتبة ليست موقوفة عليها للتعليم والإرشاد والنبوة والرسالة بل هذه المرتبة كمال الإنسان بالقياس إِلَى نفسه فقط ولا مدخلية لها للتعليم وإن كانت هذه المرتبة لا تنفك عن المرتبة الثانية أيضًا وهو السفر في الحق بالحق لأن التحقيق بحقيقة الحق مستلزمة لهذا ولكن ليست هذه المرتبة موقوفة عليها للرسالة والتعليم بل الموقوف عليها فيهما هو المرتبة الأُولىٰ والثانية وهذه المرتبة منزلتها منزلة السفر الرابع وهو بالحق في الخلق) *1
ونذكر بيانا آخر لمعنى الأسفار الأربعة ذكره الشيخ المحقِّق كمال الدِّينِ عبد الرزاق الكاشي:
السَّفر هو توجه القلب إِلَى الحَقِّ تعالى، والأسفار أربعة:
الأَوَّل: هو السير إِلَى الله من منازل النفس إِلَى الوصول إِلَى الأُفق المبين، وهو نهاية مقام القلب ومبدأ التجليات الأسمائية.
الثاني: هو السير في الله بالاتصال بصفاته والتحقق بأسمائه إِلَى الأُفق الأعلی ونهاية الحضرة الواحدية.
الثالث: هو الترقي إِلَى عين الجمع والحضرة الأحدية، وهو مقام "قاب قوسَين" ما بقيت الأثينية، فإذا ارتفع فهو مقام "أو أدنىٰ"، وهو نهاية الولاية.
الرابع: السير بالله عن الله للتكميل، وهو مقام البقاء بعد الفناء والفرق بعد الجمع.
وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عدة أحاديث تتحدث عن هذه الأسفار الأربعة عندما يقول ﴿هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ علي حَقِيقَةِ البَصِيرَةِ؛ وَ بَاشَرُوا رُوحَ اليَقِينِ؛ وَاسْتَلاَنُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَ أَنسِوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، وَ صَحِبُوا الدُّنيَا بِأَبْدانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَلإ الاَعْلَي﴾ ويقول الإمام علي وهُو يصفُ هؤلاء العرفاء يقول: « إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الذِّكْرَ جِلاَءً لِلْقُلُوبِ، تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ، وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ، وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ، وَمَا بَرِحَ لِلَّه عَزَّتْ آلاَؤهُ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ، وَفِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ، عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِى فِكْرِهِمْ، وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ» هؤلاء هم العرفاء الذين تقرأ عنهم في الأدعية المٌشرفة ”وَاَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ، حَتّى تَخْرِقَ اَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ، وَتَصيرَ اَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ“، هذا العرفان هُو الذي ملئ قلب علي بن أبي طالب الذي يجعله إذا صلى ولا يشعر بالسهام تنفذ إلى جسده. هذا العرفان هُو الذي ملئ قلب الحُسين بن علي وكان يتذوق طعم الصلاة، ويُوصي أختهُ العقيلة بالصلاة، أُخية زينب ولا تنسيني من نَافلة الليل.
*1)الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج١، ص١٦ و١٧ | لــ حضرة العَلَّامَة صدر الإسلام مُحَمَّد بن إبراهيم الشيرازي الشهير بـ‹صدر المتألِّهين›، مؤسس ‹الحكمة الإلٰهية المتعالية› {رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَىٰ عَلَيْهِ}.
*2) المقالة منقولة بتصرّف.







وائل الوائلي
منذ 17 ساعة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN