يمكن للعبقرية أن تواتي بني البشر في أوقات غير متوقعة. في السطور التالية نلقي نظرة على سيرة بعض المخترعين الجسورين الذين أسهموا في تطوير التقنية الخاصة بابتكار أطراف صناعية تعويضية ودفع هذه التقنية إلى الأمام.
في الفترة القصيرة الماضية، حظي الشاب إيستون لاشابيل بفكرة رائعة لابتكار ذراع صناعية آلية بمواصفات متطورة، وذلك بعدما انتابه الملل، كما يقول، خلال وجوده في فصله المدرسي.
فقد اكتشف لاشابيل عن طريق الصدفة بديلا أرخص ثمنا لتلك الأطراف الصناعية التعويضية المتاحة في الوقت الحالي.
وعلى أي حال، يحفل التاريخ الخاص بابتكار الأطراف الصناعية وتطويرها بمثل هذه اللحظات التي شهدت التوصل إلى إنجازات رائعة تأتي عفو الخاطر.
يُعتقد أن أقدم أطراف صناعية تعويضية قابلة للاستخدام بالفعل عرفها العالم كانت قد ظهرت في مصر القديمة، وكانت عبارة عن نموذجين لأصبعيّ قدم صناعييّن. ويسبق هذان النموذجان - وبعدة مئات من السنوات - ما يُعرف بـ"ساق كابيوا الرومانية"، التي كانت تعد في السابق أقدم طرف صناعي تعويضي عرفه العالم على الإطلاق.
واكتسب الأصبعان التعويضيان الفرعونيان تفردهما بسبب فعاليتهما في أداء الوظيفة المنوطة بهما. فبينما كانت مهمة الأطراف التعويضية، التي عرفها العالم في بداية ظهور مثل هذه المبتكرات، تنحصر على الأغلب في كونها وسيلة لتجميل مستخدميها ممن فقدوا طرفا أو أطرافا من أجسادهم، فإن الأصبعيّن الصناعييّن اللذين شهدتهما مصر القديمة شكلاّ نموذجا مبكرا على الأطراف التعويضية التي تؤدي الوظيفة المنوطة بها بحق.
تقول جاكي فينش، التي كانت تعمل وقت إعداد هذا الموضوع في جامعة مانشستر البريطانية: "يُعتقد أن الأصبع الكبير للقدم يتحمل نحو 40 في المئة من وزن الجسم، وأنه مسؤول عن دفع جسم المرء إلى الأمام".
ويشار إلى أنه في الوقت الحاضر، لا يتم تصميم وتصنيع أصابع قدم صناعية تعويضية سوى بعد دراسة مكثفة لطريقة مشي من سيستخدمها، وذلك بالاستعانة بكاميرا وغير ذلك من معدات الرصد والملاحظة الأخرى.
وقد اختارت فينش متطوعيّن لتجربة نسخ مماثلة لهذين الأصبعين عليهما. وكان من المفاجئ أن تلك النسخ كانت مريحة للغاية.
وتقول فينش إن النتائج التي توصلت إليها "تشير بقوة إلى أن هذين التصميمين كان من شأنهما جعل الأصبعين الصناعييّن قادريّن على أن يكونا بديليّن لنظيريّهما المفقوديّن، ولذا يمكن أن يُصنفّا من بين الأجهزة التعويضية. وإذا ما كان الحال كذلك فإنه يبدو أن بزوغ فجر هذا الفرع من الطب يجب أن يُنسب قطعا لقدماء المصريين".
تصميمات عصور الظلام
بوجه عام، لم تشهد مسألة ابتكار أطراف صناعية تعويضية وتصنيعها سوى تقدم محدود في هذه الحقبة. رغم ذلك، فإن الصورة التي تُظهر ذراعا تعويضية مصنوعة من الحديد - استخدمها فارس ألماني قاتل في جيوش الإمبراطور الروماني المقدس شارل الخامس وكان يُدعى جوتز فون بِرلشينغين (1480 – 1562) – تُبيّن كيف تطورت مثل هذه الأطراف في ذلك الوقت لتحتوي على مفصلات.
وكانت الأطراف التعويضية من ذلك القبيل باهظة الثمن، ولكنها سمحت لمن يستعين بها ممن فقدوا طرفا أو أكثر بمواصلة مسيرتهم كفرسان مقاتلين.
وكان من الممكن لـ"فون بِرلشينغين" استخدام الأصابع المزودة بمفاصل والمتصلة بذراعه التعويضية للإمساك بدرعٍ ما، أو للقبض على لجام الفرس أو حتى للإمساك بسهم على شكل ريشة. وقد تم تصنيع هذه الذراع لحساب ذاك الفارس الألماني على يد خبير متخصص في صنع الأسلحة.
وبعد عدة قرون، قفز الطلب على الأطراف الصناعية التعويضية إلى عنان السماء، بفعل العدد الكبير من الضحايا الذين سقطوا خلال الحرب الأهلية الأمريكية. بل إن العديد من المحاربين القدماء لجأوا إلى تصميم الأطراف الصناعية التي يستعينون بها بأنفسهم، في ظل تدني الإمكانيات التي تُتاح لهم من خلال استخدام الأطراف التعويضية التي كانت موجودة في ذلك الوقت.
وفي تلك الفترة، حصل جيمس هِنغر، وهو من بين أوائل من بُترت أطرافهم جراء الحرب الأهلية الأمريكية، على براءة اختراع لما سُمي "الطرف التعويضي الذي ابتكره هِنغر". كما أن رجلا آخر يُدعى صامويل ديكر صمم ذراعين تعويضيتين استخدمهما بنفسه، وأصبح أحد رواد تصميم الأطراف الصناعية التعويضية التي تتألف من عدة وحدات.
وقد زوّد ديكر ذراعيه الصناعيتيّن بملعقة، إدراكاً منه لضرورة أن تكفل مثل هذه الأطراف التعويضية لمن يستعين بها القدرة على أداء مختلف أنشطة حياته اليومية.
وفي تلك الفترة، أصبح تصميم الأطراف التعويضية يستهدف منح مبتوري الأطراف من الشبان القدرة على استعادة بعض القدرات التي كانوا ينعمون بها سابقا حينما كانوا أصحاء، وليس فقط توفير طرف تعويضي لهم، بدلا من ذاك الذي فقدوه.
وهكذا أصبح بوسع جيل من الشبان – للمرة الأولى - مواصلة حياتهم والقيام بأنشطتهم وهم يعانون من بتر في الأطراف، إلى حد أن رجلا مثل ديكر واصل مسيرته، ليشغل منصب الحاجب الرسمي لمجلس النواب الأمريكي.
وفي حدود عام 1900، بدأ رواد تصميم الأطراف الصناعية التعويضية، تبني فكرة ابتكار أطراف ذات قدرات متخصصة بشكل أكبر.
ولذا بدا تصميم هذه الأطراف يهدف إلى ما يتجاوز مجرد استخدامها لتجميل شكل من يرتديها من مبتوري الأطراف، لتصبح أكثر تطورا وذات أغراض محددة على نحو متزايد.
وفي هذا الإطار، تُظهر الصورة يدا صناعية صُمِمَت لأداء مهمة معينة واحدة لا غير، إذ تبدو أصابعها منبسطة ومنفرجة، كما أن أصابع السبابة والوسطى والبنصر تبدو أقصر من اللازم، بجانب وجود بطانة في طرفيّ أصبعيّ الإبهام والخنصر من الداخل.
ويشكل هذا الطرف التعويضي نموذجا لذراع صناعية صُنِعتْ خصيصا لعازفة بيانو، كانت ستؤدي مقطوعة موسيقية في قاعة ألبرت هول بالعاصمة البريطانية لندن عام 1906. وقد مكنّت هذه الأصابع المنبسطة تلك العازفة من العزف على أصابع البيانو التي تغطي درجات السلم الموسيقى السبع بالكامل.
ورغم الشهرة الكبيرة التي تمتعت بها عازفة البيانو تلك لفترة وجيزة، فلا يعلم أحد في الوقت الحاضر اسمها. وقد بذل المسئولون عن متحف العلوم بلندن، حيث تُحفظ هذه الذراع التعويضية حاليا، كل ما بوسعهم للتعرف على هويتها. ولذا فإذا ما كنت - عزيزي القارئ - على علم باسمها فلا تتردد في الاتصال لمد يد العون في هذا الشأن.
الأساليب الحديثة
نظراً للعدد الهائل من الضحايا الذين سقطوا خلال الحرب العالمية الأولى، أصبحت الأطراف الصناعية التعويضية تُنتج حينذاك - وللمرة الأولى – على نطاق واسع وضخم. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، شهد مستشفى والتر رييد العسكري تصنيع عدد كبير من تلك الأطراف ليستعين بها المحاربون العائدون مبتوري الأطراف من جبهة القتال.
وفي الصورة الموجودة أدناه، نرى نموذجا لطرف تعويضي أُلحِقتْ به أداة للحام المعادن وأدوات أخرى، لتمكين من بُترِت أطرافهم من العودة إلى العمل بعد انتهاء الحرب.
لكن لم تكن كل هذه الأدوات صالحة للعمل وقادرة على أداء مهامها. من جهة أخرى، يمكن لزوار المتحف الوطني للصحة والدواء في الولايات المتحدة مشاهدة طرف تعويضي زُوِدَ بأداة لتمكين من يستعين به من لعب البيسبول.
وحتى اليوم، لا يزال مستشفى والتر رييد العسكري مركزا لتصنيع الأطراف الصناعية التعويضية في الولايات المتحدة، أي بعد مئة عام من بدء استخدامه لهذا الغرض.
وقد واصلت تقنيات تصنيع الأطراف الصناعية التعويضية تطورها في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ولكن حتى قبيل اندلاع تلك الحرب، ابتكر دَو دورانس يدا صناعية مُزودة بكلاّبة مزدوجة تُمكِنُ صاحبها من استخدامها لأداء مهام دقيقة.
وعقب انتهاء الحرب، حظيت هذه اليد بالشعبية بين من استخدموها من العمال مبتوري الأطراف، إذ أنها جعلت بمقدور هؤلاء العودة لأعمالهم، نظرا لأنها كانت تمكنهم من الإمساك بالأشياء والتعامل معها ببراعة. ويُشار إلى أن تصميم هذه اليد التعويضية هو أحد التصميمات القليلة التي ظلت دون تغيير يذكر طيلة القرن الماضي.
وفي ثلاثينيات القرن الماضي، استعرض دورانس قدرة تلك اليد على القيام بمهام متعددة، عبر قيادته سيارة بواسطتها.
أما في المملكة المتحدة، فقد أصبحت مستشفى الملكة ماري بضاحية روهامبتون اللندنية مركزا لتصنيع الأطراف التعويضية خلال الحرب العالمية الثانية. وقد فتح المركز أبوابه عام 1939.
وفي عامه الأول، قدم خدماته إلى 10 آلاف و987 من المحاربين القدماء، بالإضافة إلى أنه أرسل بالبريد 16 ألفا و251 طرفا تعويضيا آخر لمن طلبوها. ومع اندلاع الحرب، تم توسيع نطاق عمل المركز بفعل إدراك حقيقة أن نحو أربعين ألفا من العسكريين البريطانيين الذين خاضوا الحرب العالمية الأولى كانوا قد فقدوا أحد أطرافهم خلالها.
لكن عدد من بُتِرتْ أطرافهم خلال الحرب العالمية الثانية بلغ نصف هذه الحصيلة تقريبا. وكما يشير ليون جيليس، الذي عمل جراحا استشاريا في مستشفى الملكة ماري بين عامي 1943 و1967، فإن هناك عوامل ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى أدت لتقليص حاجة الأطباء إلى بتر أطراف جرحى الحرب التي تلتها.
ومن بين هذه العوامل، تطور الأساليب المستخدمة في الجراحة، وكذلك في علاج تلوث الجروح، بجانب توافر إمكانية نقل الدم للجنود المصابين جراء القتال.