ألقى المتولّي الشرعيّ للعتبة العبّاسية المقدّسة سماحةُ السيّد أحمد الصافي (دام عزّه) كلمةً خلال حفل افتتاح فعّاليات المؤتمر والمعرض الثاني للاختراعات، الذي يُقيمه مُنتدى المُختِرِعين العراقيّين برعاية العتبة العبّاسية المقدّسة تحت شعار: (كربلاءُ العطاءِ محطُّ رحالِ العلمِ والعُلماء).
حيث انطلقت فعّاليات المؤتمر مساءَ هذا اليوم الأربعاء (12 رجب المرجّب 1440هـ) الموافق لـ(20 آذار 2019م) ويستمرّ لثلاثة أيّام.
وفي ما يلي نصّ الكلمة:
للمرّة الثانية وإن شاء الله تعالى لمرّاتٍ قادمة، نلتقي في هذا المُلتقى العزيز علينا وهو مُلتقى الإبداع والاختراع، لنطّلع على ما جادت به أفكارُ إخوتنا الأعزّاء من كلّ أنحاء البلاد، مُثِبتين أنّهم لا زالوا موجودين في الساحة العلميّة، ولا زال الفكرُ العراقيّ ينبض بكلّ جديد، والقرآن الكريم أشار الى ملاحظةٍ مهمّة عندما قال (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)، وهذه الآيةُ الشريفة فيها محفّزات كبيرة وكثيرة لنا، فعلينا أن نفكّر ونتعلّم ونبحث، وهذا الطريق هو طريقٌ يبدأ ولا ينتهي، وهذا الخطاب خطابٌ لعموم البشريّة، أن مهما أوتينا من العلم يبقى هذا العلم علماً قليلاً بالقياس الى ما هو موجودٌ من علوم الى الآن لم تُكتشف، ونحن من الجاهلين بها.
مبيّناً: لا بأس بإشارةٍ قصيرة أشبه ما تكون بالهامش الى أنّ الكلام الذي نتحدّث فيه هو عن العلوم التطبيقيّة أو ما يُعبّر عنه بعِلْم الطبيعيّات، الذي يشمل هذه الاختراعات الطبّية والهندسيّة والكيميائيّة والفيزيائيّة، أمّا العلوم الإنسانيّة المتعلّقة بالاقتصاد والأسرة فالكلام هنا ليس فيها، لأنّ هذه العلوم لها طريقةٌ خاصّة في البحث وفي الاستنباط وفي الاستنتاج غير طريقة العلوم التطبيقيّة.
يُخطئ من يظنّ أنّ العلوم التطبيقيّة إذا تطوّرت يلزَمُنا أيضاً أن نكون بارعين في العلوم الإنسانيّة، وهذا اشتباهٌ في منهج البحث فأحدُهُما غير الآخر، ونحن عندما نتحدّث عن هذا المؤتمر إنّما نقصد العلوم الطبيعيّة، أمّا العلوم الإنسانيّة فمحلّها -واقعاً- ليس هنا، بل الحديثُ عنها حديثٌ مطوّل ولسنا في معرض البحث عنه.
وأضاف: بالنسبة الى العلوم الطبيعيّة أودّ أن أُشير الى مجموعةٍ من الأمور قد تتزاحم فيما بينها، لكن ما يمكن أن يُقال إنّنا سنتحدّث بأمورٍ بعضها لا ينبغي أن يُقال والبعض يُمكن أن يُقال وإن كان على نحو الإشارة، لا شكّ أنّنا في العراق عندنا مشكلة، وهذه المشكلة على ما يبدو لا يُراد لها أن تُحلّ، وأنا أتحدّث حديثاً عامّاً فليس مقصودُنا من الحديث أيّ جنبةٍ سياسيّة، لكن المقصود من الحديث هو حالة البلد والأمل بأنّ البلد لا بُدّ أن يتطوّر، ولا شكّ يعزّ علينا وعلى كلّ غيورٍ أن يرى البلد غير معافى وإنّما تتناوشه المشاكل، مشاكل متعدّدة كلّما نهض من واحدةٍ وقع في أخرى، وليس من الإنصاف بمقتضى انتمائنا للبلد أن نمرّ على هذه الأمور مرور الكرام.
هذه المشاكل التي يعاني منها البلد يُعدّ تشخيص المشكلة من الأمور الأساسيّة، ولعلّنا تحدّثنا في مناسبةٍ ما أنّنا إذا كنّا لا نستطيع أن نشخّص المشكلة لا يُمكننا أن نجد لها حلّاً مناسباً، وتشخيص المشكلة في بعض الحالات قد يُزعج لكن بالنتيجة لا بُدّ أن تُشخّص هذه المشكلة، أرى أنّ البلد فيه قضيّة لا أعلم من أين جاءت، لكن هذه المسألة تتكرّر وهي أنّنا لا نولي علماءنا وأساتذتنا في العلوم الطبيعيّة العناية المطلوبة، بل لا نُصغي لهم البتّة، إنّما إن مرّت بنا مشكلةٌ نذهب يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً ونُحاول أن نستجدي الحلول وإن كلّفنا ذلك أموالاً طائلة مع أنّ الحلول قد تكون في أبوابنا، وبعض الحلول قد تكون مجّانية لكن درجت عليها أفكارُ القوم وألسنتهم، وأصبحنا نبحث عن حلولٍ من خارج منظومتنا كبلد ووقعنا في مشاكل جمّة، والى الآن كلّما عرضت مشكلةٌ لا نفكّر بأنّ حلّها يكون عند أبناء البلد إنّما نيمّم شطر اليمين والشمال علّنا نظفر بحلّ، وإن جاءنا الحلّ وهو حلٌّ متواضع سترانا ننبهر به.
موضّحاً: والحلّ إذا كان فعلاً محطّ انبهار ومن أبناء بلدنا سنأخذه بحالةٍ من الاستصغار!! هذه المعادلة عندي أنا غير مفهومة!! لم أجدها إلّا في العراق!! كلّ بلدان العالم قبل أن تخرج من بلدها بحثاً عن الحلّ تفتّش عنه في داخل البلد، وبعد أن تعجز تذهب الى الآخرين وتجعل هناك شروطاً عديدة، إلّا نحن أحدنا لا يُصغي للآخر ولا يريد أن يُصغي ولا يحبّ أن يُصغي، ننبهر بحلول الآخرين ونترك أعزّتنا وإخوتنا ومُختَرِعينا، ولذلك أغلب الإخوة الذين عندهم أفكار بدأوا يُصابون بالإحباط، وهذا ليس وليد اليوم، أنا لا أتحدّث عن اليوم إنّما أقول هذه سلسلةٌ تاريخيّة أتعبتنا ولا أعلم الى أين سينتهي بنا المصير، وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على أنّ هناك خللاً في المنظومة الفكريّة لمن يتصدّى لبناء البلد، هذا عنده خللٌ في منظومته الفكريّة سواءً أحبَّ أن يسمع أو لم يحبَّ أن يسمع، من غير المعقول أنا أستنزف ثروات البلد على حلولٍ قد تأتي وقد لا تأتي بنتيجة، والحلول أمامي وأنا أُغمض عينيّ عنها، ما هو المبرّرُ لذلك؟!.
لو استطاع أحدٌ أن يُعطيني مبرّراً واقعيّاً لقبّلتُهُ في جبينه، لا يوجد مبرّر، كلّما قلّبنا الأمور ظهراً لبطن لم نجد لذلك مبرّراً أصلاً، مع أنّ أبناء البلد في كلّ العالم يتبوّؤون مقاعد جيّدة في كلّ دول العالم، وعندما تضع يدك على اختراعٍ واكتشافٍ أو جهةٍ رصينة ستجد أنّ وراءها عراقيّ، وعندما تأتي الى البلد تجد هذه الطامّة الكبرى، والشواهد على ذلك إخواني شواهد كثيرة وكبيرة، هذا ما يتعلّق بخارج منظومة المُختَرِع.
وأضاف السيّد الصّافي: أمّا ما يتعلّق به هذا الاحتفاء، فقد أردنا منه أن نشير الى نقطةٍ وهي أنّ على المُختَرِع أن لا ييأسَ وأن لا يُصيبَه الإحباط، بل عليه أن يبقى يُفكّر، فإذا كان الآن هناك بعضُ الذين لا يفهمونه ولا يقدّرونه فلعلّ الغد يكون ولوداً لمن يقدّر ويفهم، لكن علينا أن لا نيأس وأن نبقى نعمل ونكتشف ونخترع، والبلادُ عموماً تُبنى من هذا الطريق، طريق الإصرار على البقاء والإصرار على التفتيش عن الجيّد والإصرار على الاكتشاف، ومن هنا -وأعتقد أنّنا أشرنا الى ذلك في الكلمة الأولى قبل عامين- على جميع المراكز العلميّة أن توفّر ميزانيّةً خاصّة للبحوث.
مبيّناً: إنّ البلاد إذا توفّرت فيها ميزانيّات ماليّة للبحوث معنى ذلك أنّها بدأت تفكّر بالطريق الصحيحة وإذا لا فلا، وإن غضب مَنْ غضب وسخط مَنْ سخط، العلمُ ولودٌ، العلمُ ينمو، العلم يحتاج الى رعاية، والحمد لله العراق من البلدان المعروفة، لكن المشكلة أنّ العراق معروفٌ بالإبداع والاختراع، ومعروفٌ بعدم تبنّيه الاختراع والإبداع، وهذان أمران متناقضان جمعهما البلد للأسف الشديد، العقل العراقيّ عقلٌ ناضج وعقلٌ مبدع وجيّد لكنّه لا يُحتضن ولا يُرعى إلّا بشكلٍ جدّاً جدّاً متواضع.
موضّحاً: أعتقد أنّنا في الدورة السابقة من المؤتمر رأينا بعض الاختراعات ممّا يُعزّز كثيراً من الصناعات وبكلفٍ زهيدة جدّاً، عندما تُعرض على أحد المسؤولين تراه يطوي كشحاً عنها ويذهب الى آخرين، ويُنفق أضعافاً مضاعفةً من المال، ما هو إلّا استصغارٌ بأبناء البلد، وهذه -حقيقةً- مشكلةٌ كما قلت لا أعرف من أين جاءت، هذه مسألةُ الإحباط ومسألةُ عدم الثّقة بالآخرين مسألةٌ أعتقد أنّها جدّاً جدّاً مقزّزة، لذلك البلدُ لا يزال يراوح في مكانه إن لم يكن يتراجع، بل قد سمعنا من بعض مَنْ كانوا في خارج العراق أنّ بعض العراقيّين يأتوننا لأخذ دورةٍ في العِلْم الفلاني، وكنّا نحن نضحك بداخلنا نقول: إنّ هذه الدورة نحن أخذناها في العراق!! فكيف الآن تأتون الى بلدٍ غير العراق وتستردّون هذه الخبرة؟!! هي عندكم بين ظهرانيكم وما عليكم سوى أن تفتّشوا عنها.
مؤكّداً: أعتقد أنّ هذا الجانب جانبٌ مهمّ، إذا رأينا مشاكل البلد تُحلّ عن طريق جامعاتنا وعن طريق مفكّرينا معنى ذلك أنّ البلد فعلاً بدأ يتعافى، وإذا رأينا أنّ المسؤول بنفسه يقرع باب الجامعات ويقرع باب المُختَرِعين معنى ذلك أنّ البلد بدأ يتعافى، وإذا رأينا أنّ المُختَرِع يطرقُ الباب ولا يُفتح له فالبلدُ سيبقى في سباتٍ الى أن يأذن اللهُ تعالى.
مشيراً: لا أُريد أن يأخذ الإحباطُ مأخذه منكم، بالعكس أنا قلت في البدء نريدُ أن نشخّص المشكلة، فبعضُ المتصدّين يستحي من تشخيص المشكلة لمآرب، والإنسان إذا حام حول المشكلة بلا أن يضع يده عليها فلا يستطيع أن يجد لها الحلّ، لذا لابُدّ أن نكون بمستوىً من الجرأة لأنْ نشخّص المشكلة، المشكلةُ فينا وعندنا، وهذا البلدُ يمتاز بالكرم ويمتاز بالجود ويمتاز بالشجاعة ويمتاز بالإباء، ونحن الآن نعيش عصر الشجاعة، قبل سنتين عندما كنّا بخدمتكم كان العراق غير متعافي من منظّمة داعش الإرهابيّة، وبحمد الله تعالى اليوم العراق سليمٌ من هذه الجهة، من الذي أوصَلَ العراق الى هذه الحالة من المعافاة؟ هي تلك السواعدُ الحثيثة التي بذلت الغالي والنفيس من أجل أن يُطرد الإرهابُ خارج البلاد، ولعلّ المرجعيّة الدينيّة العُليا صرّحت بذلك أكثر من مرّة عن هذه البطولات والشجاعة عند شبابنا، التي كانت هي العامل الأساس الذي طرد هؤلاء الإرهابيّين.
وبيّن السيّد الصافي: حالةُ الجود والشجاعة والكرم والسخاء هي مفهومةٌ ومعروفة، لكن لا يُمكن أن تُستغلّ على حساب أبنائنا، أنا أريد للبلد أن يتطوّر، من الذي يطوّره؟ أقول: طوّره زيدٌ من الناس لأنّه يملك من العلم ومن الأفكار ما يُمكن أن يطوّر، المشكلة الفلانيّة عندنا وهناك مشاكل ومشاكل حقيقيّة، في جانب المياه عندنا مشاكل، في جانب الزراعة عندنا مشاكل، حتى في منظوماتنا الدفاعيّة عندنا مشاكل، عندنا مشاكل في الكثير من قضايا التكنولوجيا، أنا أُنفق أموالاً طائلة والمشكلة باقية من أجل زيدٍ وعمروا!! وأترك الحلّ للمشكلة الحقيقيّة وعندي من يحلّها بمختبراتٍ تحت يديّ صباحاً ومساءً!!، والأمر مكشوفٌ تمام الانكشاف بحيث لا يُمكن أن تخفى عنّي خافية من خلال ما موجودٌ في بلدي، هذا كلّه أتركه وأذهب الى غموضٍ في غموضٍ في غموض، كيف تُحلّ المشاكل؟!!.
ذكرنا ذلك لقدح قضيّةٍ في ذهن الإخوة هي أن لابُدّ أن يبقوا في عامل التحدّي، فأمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: (ربَّ همّةٍ أحيتْ أمّة)، لابُدّ أن تكون الهمم دائماً موجودة، واطرقوا الأبواب بكلّ أياديكم وبكلّ قوّة فلابُدّ أن تُفتح الأبواب، لا يُمكن للأبواب أن تبقى موصدةً لمزاج وأفكار بعض المتصدّين البعيدة عن الواقع، وقطعاً طريقُ المليون ميل يبدأ بخطوةٍ واحدة.
وأضاف: علينا أن نسعى وأن نجاهد من أجل أن نُثبت أنّنا لا زلنا مبدعين رغم كلّ الظروف التي أحاطت بالبلد، ولا زلنا أحياء والحمد لله العراق من البلدان المعروفة بأن يُعطي شهداء كثيرين، وحقيقةً الشهداءُ يجعلون البلد دائماً حيّاً، كلّما كثر الشهداء معنى ذلك أنّ هذا البلد حيّ ويريد أن يعيش ويبقى غير خانعٍ وغير خاضع، وما شاء الله عندما نعدّ شهداءنا لعلّ القائمة تطول، وإنّما ذكرتُ هؤلاء الشهداء لأنّنا نعيش ببركات تلك الدماء الزكيّة الطاهرة العزيزة علينا، حقيقةً قد فقدنا أناساً أعزّةً علينا جدّاً، لكن الذي يهوّن علينا الخطب أنّ تلك الدماء لم تكن بلا ثمن، بل كان ثمنها أن بقي هذا البلد بلداً معافىً طريّاً شبابيّاً وقويّاً.
أدعو الله تعالى أن يتمكّن مَنْ يتصدّى لخدمة البلد ويتوفّق أن يستعين بالكفاءات العراقيّة، ويتوفّق أن يستعين بالاختراعات العراقيّة، فهذا توفيقٌ له عندما يمدّ يده الى أبناء جلدته ويحلّ المشاكل من خلال الإخوة الأعزّاء الموجودين، والآخرين الذين لم يسمح لنا الظرف للتشرّف بحضورهم.
وفي الختام بيّن السيّد الصّافي: حقيقةً لا نملك إلّا الدعاء المستمرّ للإخوة الأعزّاء ولكلّ من حضر، وفي نفس الوقت نحن مؤيّدون ومساعدون وداعمون لكلّ الاكتشافات والاختراعات، وعليكم أن لا تهنوا ولا تحزنوا إنّما عليكم أن تبذلوا كلّ جهدٍ، على الأقلّ هذا تاريخ البلد يُحفظ، رغم كلّ الأزمات لا زال أبناء البلد في عافيةٍ وقوّة وتقدّم، إن شاء الله أنتم الذخيرة الطيّبة لهذا البلد ونحن نفخر بكم، والأجيال كلّها ستفخر بأنّ هناك طاقاتٍ علميّة لم تكلّ ولم تتعبْ رغم جميع الظروف.
أسأل الله تعالى أن يكحّل أعيننا دائماً بأن نراكم في مواقع مهمّة، ونرى آثار هذه الاكتشافات تعمّ البلد بخيراتها، ونسأله تعالى التوفيق لما يحبّ ويرضى وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.