أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-10-2017
5020
التاريخ: 26-10-2017
13106
التاريخ: 26-10-2017
8068
|
قال تعالى : {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُو فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ } [الحاقة: 19 - 34].
قسم سبحانه حال المكلفين في ذلك اليوم فقال {فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول} لأهل القيامة {هاؤم} أي تعالوا {اقرأوا كتابيه} وإنما يقوله سرورا به لعلمه بأنه ليس فيه إلا الطاعات فلا يستحيي أن ينظر فيه غيره وأهل اللغة يقولون إن معنى هاؤم خذوا {إني ظننت} أي علمت وأيقنت في الدنيا {إني ملاق حسابيه} والهاء لنظم رءوس الآي وهي هاء الاستراحة والمعنى إني كنت مستيقنا في دار الدنيا بأني ألقى حسابي يوم القيامة عالما بأني أجازي على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب فكنت أعمل بما أصل به إلى هذه المثوبة {فهو في عيشة راضية} أي في حالة من العيش راضية يرضاها بأن لقي الثواب وآمن العقاب.
{في جنة عالية} أي رفيعة القدر والمكان {قطوفها دانية} أي ثمارها قريبة ممن يتناولها قال البراء بن عازب يتناول الرجل من الثمرة وهو نائم وقد ورد في الخبر عن عطاء بن يسار عن سلمان قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا يدخل الجنة أحدكم إلا بجواز بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية وقيل معناه لا يرد أيديهم عن ثمرها بعد ولا شوك عن قتادة {كلوا واشربوا} أي يقال لهم كلوا واشربوا في الجنة {هنيئا بما أسلفتم} أي قدمتم من أعمالكم الصالحة {في الأيام الخالية} الماضية يعني أيام الدنيا ويعني بقوله {هنيئا} إنه ليس فيه ما يؤذي فلا يحتاج فيه إلى إخراج فصل بغائط أو بول .
ثم ذكر سبحانه حال أهل النار فقال {وأما من أوتي} أي أعطي {كتابه} الذي هو صحيفة أعماله {بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه} أي تمنى أنه لم يؤته لما يرى فيه مقابح أعماله التي يسود لها وجهه {ولم أدر ما حسابيه} أي ولم أدر أي شيء حسابي لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب وإنما هو كله عليه {يا ليتها كانت القاضية} الهاء في ليتها كناية عن الحال التي هم فيها وقيل هي كناية عن الموتة الأولى والقاضية القاطعة للحياة أي ليت الموتة الأولى التي متنا لم نحيي بعدها عن الفراء يتمنى دوام الموت وأنه لم يبعث للحساب وقال قتادة تمنى يومئذ الموت ولم يكن في الدنيا شيء عنده أكره من الموت.
{ما أغنى عني ماليه} أي ما دفع عني مالي من عذاب الله شيئا وقيل معناه إني قصرت همتي على تحصيل المال ليكشف الكرب عني فما نفعني اليوم {هلك عني سلطانيه} أي حجتي عن ابن عباس ومجاهد أي ضل عني ما كنت أعتقده حجة وقيل معناه هلك عني تسلطي وأمري ونهيي في دار الدنيا على ما كنت مسلطا عليه فلا أمر لي ولا نهي ثم أخبر سبحانه أنه يقول للملائكة {خذوه فغلوه} أي أوثقوه بالغل وهو أن تشد إحدى يديه ورجليه إلى عنقه بجامعة {ثم الجحيم صلوه} أي ثم أدخلوه النار العظيمة وألزموه إياها {ثم في سلسلة ذرعها} أي طولها {سبعون ذراعا فاسلكوه} أي اجعلوه فيها لأنه يؤخذ عنقه فيها ثم يجر بها قال الضحاك إنما تدخل في فيه وتخرج من دبره فعلى هذا يكون المعنى ثم اسلكوا السلسلة فيه فقلب كما يقال أدخلت القلنسوة في رأسي وقال الأعشى : ((إذا ما السراب ارتدى بالأكم))(2) وإنما ارتدى الأكم بالسراب ولكنه قلب وقال نوف البكالي كل ذراع سبعون باعا والباع أبعد مما بينك وبين مكة وكان في رحبة الكوفة وقال الحسن الله أعلم بأي ذراع هو وقال سويد بن نجيح إن جميع أهل النار في تلك السلسلة ولو أن حلقة منها وضعت على جبل لذاب من حرها.
ثم قال سبحانه {إنه كان لا يؤمن بالله العظيم} شأنه أي لم يكن يوحد الله في دار التكليف ولا يصدق به {ولا يحض على طعام المسكين} وهو المحتاج الفقير والمعنى أنه كان يمنع الزكاة والحقوق الواجبة {فليس له اليوم هاهنا حميم} أي صديق ينفعه {ولا طعام} أي ولا له اليوم طعام {إلا من غسلين} وهو صديد أهل النار وما يجري منهم فالطعام هوما هيئ للأكل ولذلك لا يسمى التراب طعاما للإنسان فلما هيئ الصديد لأكل أهل النار كان ذلك طعاما لهم وقيل إن أهل النار طبقات فمنهم من طعامه غسلين ومنهم من طعامه الزقوم ومنهم من طعامه الضريع لأنه قال في موضع آخر ليس لهم طعام إلا من ضريع وقيل يجوز أن يكون الضريع هو الغسلين فعبر عنه بعبارتين عن قطرب وقيل يجوز أن يكون المراد ليس لهم طعام إلا من ضريع ولا شراب إلا من غسلين كما قال الشاعر :
علفتها تبنا وماء باردا(3) *** حتى شقت همالة عيناها {لا يأكله} أي لا يأكل الغسلين {إلا الخاطئون} وهم الجائرون عن طريق الحق عامدين والفرق بين الخاطىء والمخطئ أن المخطئ قد يكون من غير تعمد والخاطىء المذنب المتعمد الجائر عن الصراط المستقيم قال امرؤ القيس :
يا لهف هند إذ خطئن كاهلا *** القاتلين الملك الحلاحلا(4).
________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص109-112.
2- الاكم جمع الاكمام : التل.
3- هذا المصراع يجعله بعض العلماء صدرا ، ويحمل عجزه ((حتى ثقت)) كما في الكتاب . ويجعله بعضهم عجزا ، وجعل صدره ((لما حططت الرحل عنها ورادا )) ومعنى المصراع ، علفتها تبنا وسقيتهما ماءا)) على تقدير عامل محذوف وجعل الواو عاطفة ، عطفت جملة على جملة . او ان المراد بقوله : ((علفتها)) أعطيتها . فالواو عاطفة ايضا ، وقد عطفت مفرادا على مفرد .
4- كاهل : ابو قبيلة من الاسد ، وهم قد قتلوا ((حجرا)) والد امرئ القيس في قصة طويلة . واراد من الملك الحلاحل في البيت والده. والحلاحل بمعنى السيد في عشيرته . و(هند) اخته . وفي اللسان : ((يا لهف نفسي )) وخطئن بمعنى أخطأن وفعله ضمير يرجع الى ((الخيل)) وان لم يجر لها ذكر . وهذا مثل قوله تعالى : {حتى توارت بالحجاب ) وقول لبيد : (حتى اذا ألقت يدا في كافر )، وغير ذلك .
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ} . قال سبحانه في الآية السابقة : {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ}.
وبين سبحانه هنا الفرق في يوم العرض بين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وليس المراد باليمين هنا الجمود و {الرجعية} ولا بالشمال {اليسار والتقدمية} وانما المراد باليمين اليمن والخير ، وبالشمال الشؤم والشر جريا على عادة العرب واصطلاحاتهم ، فإنهم يعبرون باليمين عن الخير ، وبالشمال عن الشر ، وقد كانوا يستخيرون بزجر الطير ، فإن طار عن اليمين تفاءلوا ، وان طار عن الشمال تشاءموا . وعليه يكون المعنى ان السعداء في يوم القيامة يعلنون على رؤوس الأشهاد عن أنفسهم وأعمالهم بفخر واعتزاز ، ويقولون لمن يرون أو لمن يسأل عن حالهم :
خذ ، واقرأ صحيفة أعمالنا ، فقد كنا نؤمن باللَّه واليوم الآخر ، وندخر له الذخائر .
{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ} أي مرضية ، وهي التي لا ينغصها شيء {فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخالِيَةِ} . هذا تفصيل بعد إجمال ، فكأن سائلا يسأل : ما هي هذه العيشة المرضية ؟ فأجاب سبحانه بأنها جنة عالية الشأن والقدر ، ثمارها قريبة وسهلة التناول ، وتقول الملائكة لأهل الجنة : كلوا من ثمار جنة الخلد هنيئا واشربوا من شرابها مريئا جزاء ما عملتم من الخيرات والمبرات . وأفرد سبحانه ضمير هو في عيشة بالنظر إلى لفظ {من} وجمع في كلوا واشربوا بالنظر إلى معناها ، وهو الجمع .
{وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ} وهو الذي كذب بالحساب والجزاء وطغى وبغى على العباد ، وعبّر سبحانه عنه بمن أخذ كتابه بالشمال للإشارة إلى ان أعماله عادت عليه بالشؤم والوبال كما أسلفنا {فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ولَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ} . تمنى لو انه لم يخلق أو لم يبعث من قبره ، تمنى ذلك بعد أن أيقن بعذاب لا دافع له من مال ولا جاه ولا حجة لو كان يملك شيئا من ذلك . . وانها أمنية الخاسر اليائس ، ولا شيء وراءها إلا قوله تعالى لملائكة العذاب : {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} .
اجمعوا يديه إلى عنقه بالقيد {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} . ألقوا به في نار جهنم {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ} . والسبعون ذراعا كناية عن هول السلسلة وعذابها الأليم ، وان وقعها على المجرم يقاس بأعماله وما ترك من سوء الآثار في المجتمع . ومن الطريف قول بعض المفسرين : (اختلفوا في هذا الذراع .
فقيل : انه الذراع المعروف . وقيل : هو ذراع الملك - أي ملك العذاب - وقيل : كل ذراع سبعون باعا ، وكل باع ما بين مكة والكوفة} . ولا أدري :
هل كان هذا القائل من مكة أم من الكوفة ؟ .
{إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ولا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ} . هذا بيان للسبب الموجب لعذابه الأليم ، وانه الكفر والطغيان وعدم الحث على البذل ، وفيه إيماء إلى ان على الأغنياء أن يبذلوا ويحثوا على البذل {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ}
لا قريب ينفع ولا أحد يشفع {ولا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} . صديد يسيل من أجسام أهل النار {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِئُونَ} الذين كانوا في الدنيا يأكلون أقوات المستضعفين وأعمال الكادحين .
_______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص406-408.
قوله تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه} قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، وللاثنين: هاؤما يا رجلان، وللجماعة: هاؤم يا رجال، وللمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة وليس بعدها ياء، وللمرأتين: هاؤما، وللنساء : هاؤن.
هذه لغة أهل الحجاز.
وتميم وقيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، وللاثنين: هاءا، وللجماعة: هاؤا، وللمرأة: هائي، وللنساء هاؤن.
وبعض العرب يجعل مكان الهمزة كافا فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكن، ومعناه: خذ وتناول، ويؤمر بها ولا ينهى.
انتهى.
والآية وما بعدها إلى قوله: {الخاطئون} بيان تفصيلي لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة والشقاء، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: } فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [الإسراء: 71] كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، والظاهر أن قوله: {هاؤم اقرءوا كتابيه} خطاب للملائكة، والهاء في {كتابيه} وكذا في أواخر الآيات التالية للوقف وتسمى هاء الاستراحة.
والمعنى: فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا واقرءوا كتابيه أي إنها كتاب يقضي بسعادتي.
قوله تعالى: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} الظن بمعنى اليقين، والآية تعليل لما يتحصل من الآية السابقة ومحصل التعليل إنما كان كتابي كتاب اليمين وقاضيا بسعادتي لأني أيقنت في الدنيا أني سألاقي حسابي فآمنت بربي وأصلحت عملي.
قوله تعالى: {فهو في عيشة راضية} أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقلي.
قوله تعالى: {في جنة عالية - إلى قوله - الخالية} أي هو في جنة عالية قدرا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وقوله: {قطوفها دانية} القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون وهوما يجتنى من الثمر والمعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.
وقوله: {كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية} أي يقال لهم: كلوا واشربوا من جميع ما يؤكل فيها وما يشرب حال كونه هنيئا لكم بما قدمتم من الإيمان والعمل الصالح في الدنيا التي تقضت أيامها.
قوله تعالى: {وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه} وهؤلاء هم الطائفة الثانية وهم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم وقد مر الكلام في معناه في سورة الإسراء، وهؤلاء يتمنون أن لولم يكونوا يؤتون كتابهم ويدرون ما حسابهم يتمنون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعد لهم.
قوله تعالى: {يا ليتها كانت القاضية} ذكروا أن ضمير {ليتها} للموتة الأولى التي ذاقها الإنسان في الدنيا.
والمعنى: يا ليت الموتة الأولى التي ذقتها كانت قاضية علي تقضي بعدمي فكنت انعدمت ولم أبعث حيا فأقع في ورطة العذاب الخالد وأشاهد ما أشاهد.
قوله تعالى: {ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية} كلمتا تحسر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنه كان يحسب أن مفتاح سعادته في الحياة هو المال والسلطان يدفعان عنه كل مكروه ويسلطانه على كل ما يحب ويرضى فبذل كل جهده في تحصيلهما وأعرض عن ربه وعن كل حق يدعى إليه وكذب داعيه فلما شاهد تقطع الأسباب وأنه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ذكر عدم نفع ماله وبطلان سلطانه تحسرا وتوجعا وما ذا ينفع التحسر؟.
قوله تعالى: {خذوه فغلوه - إلى قوله - فاسلكوه} حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه وإدخاله النار، والتقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و{غلوه} أمر من الغل بالفتح وهو الشد بالغل الذي يجمع بين اليد والرجل والعنق.
وقوله: {ثم الجحيم صلوه} أي أدخلوه النار العظيمة وألزموه إياها.
وقوله: {ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه} السلسلة القيد، والذرع الطول، والذراع بعد ما بين المرفق ورأس الأصابع وهو واحد الطول وسلوكه فيه جعله فيه، والمحصل ثم اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعا.
قوله تعالى: {إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين} الحض التحريض والترغيب، والآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ والإدخال في النار أي إن الأخذ ثم التصلية في الجحيم والسلوك في السلسلة لأجل أنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين ولا يبالي بما يقاسونه.
قوله تعالى: {فليس له اليوم هاهنا حميم - إلى قوله - الخاطئون} الحميم الصديق والآية تفريع على قوله: {إنه كان لا يؤمن} إلخ، والمحصل: أنه لما كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم هاهنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.
وقوله: {ولا طعام إلا من غسلين} الغسلين الغسالة وكان المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح ونحوه والآية عطف على قوله في الآية السابقة: {حميم} ومتفرع على قوله: {ولا يحض} إلخ، والمحصل: أنه لما كان لا يحرض على طعام المسكين فليس له اليوم هاهنا طعام إلا من غسلين أهل النار.
وقوله: {لا يأكله إلا الخاطئون} وصف لغسلين والخاطئون المتلبسون بالخطيئة والإثم.
____________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص351-353.
{فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه }(2) .
إن الفرحة تملؤه بصورة لا مثيل لها ، حتى يكاد يطير من شدة فرحته ، حيث أن كل ذرة من ذرات وجوده تغمرها الغبطة والسعادة والشكر لله سبحانه على هذه النعم والتوفيق والهداية التي من الله بها عليه ويصرخ ( الحمد لله ) .
ثم يعلن بافتخار عظيم فيقول : {إني ظننت أني ملاق حسابيه} (3).
" ظن " في مثل هذه الموارد تكون بمعنى ( اليقين ) إنه يريد أن يقول : إن ما تفضل به الله تعالى علي كان بسبب إيماني بهذا اليوم ، والحقيقة أن الإيمان بالحساب والكتاب يمنح الإنسان روح التقوى ، والتعهد والإحساس بالمسؤولية ، وهذا من أهم عوامل تربية الإنسان .
ثم يبين الله تعالى في الآيات اللاحقة جانبا من جزاء وأجر هؤلاء الأشخاص حيث يقول : {فهو في عيشة راضية} ( 4 ) .
وبالرغم من أن الجملة أعلاه تجسد كل ما يستحق أن يقال في هذا الموضوع ، إلا أنه سبحانه يضيف للتوضيح الأكثر : {في جنة عالية} .
إن الجنة التي تكون عالية ورفيعة بشكل لم ير أحد مثلها قط ، ولم يسمع بها ، ولم يتصور مثلها .
{قطوفها دانية} ( 5 ).
حيث لا جهد مكلف ولا مشقة ولا صعوبة في قطف الثمار ، ولا عائق يحول من الإقتراب للأشجار المحملة بالثمار ، وجميع هذه النعم في متناول الأيدي بدون استثناء .
وفي آخر آية - مورد البحث - يوجه البارئ عز وجل خطابه المملوء بالحب والمودة والإعتزاز إلى أهل الجنة بقوله : {كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية} .
وهكذا كانت هذه النعمة العظيمة التي منحها الله لهؤلاء المتقين جزاء أعمالهم الصالحة التي ادخروها ليوم كان فيه الحساب الحق ، وأرسلوها سلفا أمامهم ، وإن الأعمال الخيرة والمحدودة هي التي أثمرت هذه الثمار الكبيرة حيث ظل الرحمة الإلهية واللطف الرباني .
وقوله تعالى : {وأما من أوتى كتبه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ( 25 ) ولم أدر ما حسابيه ( 26 ) يا ليتها كانت القاضية ( 27 ) ما أغنى عنى ماليه ( 28 ) هلك عنى سلطانيه }
يا ليتني مت قبل هذا :
كان الحديث في الآيات السابقة عن ( أصحاب اليمين ) حيث صحائف أعمالهم بأيديهم اليمنى ، ويوجهون نداءهم إلى أهل المحشر بكل فخر للاطلاع على صحيفة أعمالهم وقراءتها ، ثم يدخلون جنات الخلد حيث تكون مستقرهم الأبدي .
أما هذه الآيات فتستعرض الطرف المقابل لأصحاب اليمين وهم ( أصحاب الشمال ) وتقدم مقارنة بين المجموعتين ، حيث يقول تعالى : {وأما من أوتي كتابه بشماله ، فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه} (6) .
{ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية} (7) .
نعم ، في ذلك اليوم العظيم ، يوم البعث ويوم البروز والظهور ، يوم الحساب والمحكمة الإلهية العظيمة ، حيث تتوضح وتنكشف حقيقة الأعمال القبيحة والسيئة للإنسان . . وعندما يواجهها يبدأ يجأر ويصرخ ويطلق الزفرات الساخنة المتلاحقة من الأعماق على المصير السيء الذي أوصل نفسه إليه ، والشر الذي جلبه عليها ، ويتمنى أن يقطع علاقته بماضيه الأسود تماما ، ويتمنى أن يموت ويفنى ويتخلص من هذه الفضيحة الكبيرة المهلكة ، ويعبر عن هذا الشعور قوله تعالى : {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } [النبأ: 40] .
وذكرت تفاسير أخرى - أيضا - لمعنى قوله : يا ليتها كانت القاضية منها أن المقصود من ( القاضية ) هي الموتة الأولى ، يعني يا ليتنا لم نحي مرة أخرى ونبعث من جديد ، في حين كان أقبح شيء في نظرهم هو الموت ، ويتمنى هؤلاء أن لو استمر موتهم ولم يواجهوا الخزي في حياتهم الثانية في المحكمة الإلهية العادلة .
وقيل أن المقصود من " القاضية " ( نفخة الصور ) الأولى حيث عبر عنها ب ( القارعة ) أيضا ، ويعني ذلك تمنيهم عدم حدوث النفخة الثانية ، لذا فهم يقولون : يا ليت لم تكن هذه النفخة ، إلا أن التفسير الذي تحدثنا عنه في البداية أنسب من الجميع .
__________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص398-402.
2 - " هاؤم " كما يقول أصحاب اللغة هي بمعنى ( خذوا ) وإذا كان المخاطب جمع مذكر ، فيقال : ( هاؤم ) ، وإذا جمعت جمع مؤنث ( هائن ) وإذا كان مفردا مذكرا كان ( هاء ) وتكون ( بالفتح ) ، وإذا كان مفردا مؤنثا فإن ( الهاء ) تكون مكسورة ، وللتثنية هاؤما ، يقول الراغب في المفردات : ( هاء ) تستعمل بمعنى الأخذ ، و ( هات ) بمعنى العطاء .
3 - ال " هاء " في ( حسابيه ) تكون ( هاء الاستراحة ) ، أو ( هاء السكتة ) ، وليس لها معنى خاص . أيضا في ( كتابيه ).
4 - " الرضا " تكون عادة حالة وصفة للأشخاص ، إلا أنه سبحانه جعلها صفة للحياة نفسها في الآية أعلاه ، وهذه تمثل نهاية التأكيد ، يعني أنها حياة يعمها الرضا والسرور .
5 - " قطوف " جمع ( قطف ) على وزن ( حزب ) بمعنى أن الثمر قد اقتطف ، وتأتي أحيانا بمعنى الثمار المهيئة للاقتطاف أيضا .
6 - ال ( هاء ) في ( كتابيه ) و ( حسابيه ) و ( ماليه ) و ( سلطانيه ) وكذلك في الكلمات التي ستأتي في الآيات اللاحقة هي ( هاء السكتة ) أو ( الاستراحة ) وكما قلنا فإن هذه الهاء ليس لها معنى خاص ، بل إنها تعتبر وقفا لطيفا في مثل هذه الكلمات ، ولها تناسب مع الوضع الروحي وحالة الأشخاص الذين يقولون مثل هذا الكلام ( يرجى الانتباه لذلك ).
7 - جملة ( كانت القاضية ) لها محذوف تقديره : ( كانت هذه الحالة القاضية ).
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|