أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-9-2017
8183
التاريخ: 30-9-2017
19764
التاريخ: 3-10-2017
15457
التاريخ: 3-10-2017
10528
|
قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 14 - 19].
قال سبحانه {ألم تر} يا محمد {إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم} والمراد به قوم من المنافقين كانوا يوالون اليهود ويفشون إليهم أسرار المؤمنين ويجتمعون معهم على ذكر مساءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنين عن قتادة وابن زيد {ما هم منكم ولا منهم} يعني أنهم ليسوا من المؤمنين في الدين والولاية ولا من اليهود {ويحلفون على الكذب} أي ويحلفون أنهم لم ينافقوا {وهم يعلمون} أنهم منافقون {أعد الله لهم عذابا شديدا} أي في الآخرة {إنهم ساء ما كانوا يعملون} أي بئس العمل عملهم وهو النفاق وموالاة أعداء الله .
ثم ذكر سبحانه تمام الخبر عن المنافقين فقال {اتخذوا أيمانهم} التي يحلفون بها {جنة} أي سترة وترسا يدفعون بها عن نفوسهم التهمة والظنة إذا ظهرت منهم الريبة {فصدوا} نفوسهم وغيرهم {عن سبيل الله} الذي هو الحق والهدى {فلهم عذاب مهين} يهينهم ويذلهم ويخزيهم {لن تغني عنهم أموالهم} التي جمعوها {ولا أولادهم} الذين خلفوهم {من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ظاهر المعنى.
{يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له} أي يقسمون لله {كما يحلفون لكم} في دار الدنيا بأنهم كانوا مؤمنين في الدنيا في اعتقادهم وظنهم لأنهم كانوا يعتقدون أن ما هم عليه هو الحق {ويحسبون أنهم على شيء} أي ويحسب المنافقون في الدنيا أنهم مهتدون لأن في الآخرة تزول الشكوك وقال الحسن في القيامة مواطن فموطن يعرفون فيه قبح الكذب ضرورة فيتركونه وموطن يكونون فيه كالمدهوش فيتكلمون بكلام الصبيان الكذب وغير الكذب ويحسبون أنهم على شيء في ذلك الموضع الذي يحلفون فيه بالكذب.
{ألا إنهم هم الكاذبون} في أيمانهم وأقوالهم في الدنيا وقيل معناه أولئك هم الخائبون كما يقال كذب ظنه أي خاب أمله {استحوذ عليهم الشيطان} أي استولى عليهم وغلب عليهم لشدة اتباعهم إياه {فأنساهم ذكر الله} حتى لا يخافون الله ولا يذكرونه {أولئك حزب الشيطان} أي جنوده {ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} يخسرون الجنة ويحصل لهم بدلها النار.
______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص419-420.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ ولا مِنْهُمْ ويَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وهُمْ يَعْلَمُونَ} . الخطاب في {تر} إلى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ، والذين تولوا هم المنافقون ، والقوم المغضوب عليهم هم اليهود ، والخطاب في منكم للمسلمين ، والضمير في منهم لليهود ، والمعنى : أخبرني يا محمد عن المنافقين ، فقد والوا اليهود وتآمروا معهم على الإسلام والمسلمين ، وهم في حقيقتهم وواقعهم ليسوا من المسلمين ولا من اليهود مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . . وقد حلفوا متعمدين الكذب انهم مسلمون وانهم ما تكلموا على الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) ولا تآمروا عليه مع اليهود ، ومن أجل نفاقهم وأيمانهم الكاذبة {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} . وكل من أظهر خلاف ما أضمر فهو مسيء في أقواله وأفعاله لأنها بمعزل عن ذاته وحقيقته .
{اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} . قال صاحب البحر المحيط : {قرأ الجمهور أيمانهم بفتح الهمزة جمع يمين ، والجنة ما يتسترون به ويتقون} . والمعنى ان المنافقين يحاولون الستر على دسائسهم ومؤمراتهم بالايمان الكاذبة ، ويتقون بها من المسلمين ، ويخدعون من يبتغي الهداية وقصد السبيل ويصدونه عن غايته وبغيته . . ولكن اللَّه سبحانه لا تحجبه السواتر ، ولا تخفى عليه
الضمائر ، فهتك في الدنيا سترهم ، ولهم في الآخرة عذاب الحريق {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ ولا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} . سنحت لهم الفرصة في الحياة الدنيا فأضاعوها ، ولا شيء لمن سوّف وأهمل إلا العذاب ، أما الأموال والأولاد فلا ترجع ما قد فات . وتقدم مثله بالحرف الواحد في الآية 116 من سورة آل عمران ج 2 ص 142 .
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ} . ان للعباد في يوم القيامة مواقف لا موقفا واحدا ، يؤذن لهم بالكلام في بعضها دون بعض ، فإذا ما أذن اللَّه للمجرمين بالكلام حلفوا له كذبا وزورا تماما كما كانوا يحلفون في الدنيا للنبي والمسلمين ، وهم يعتقدون ان ايمانهم الفاجرة تدفع عنهم العذاب . . كيف واللَّه سبحانه يعلم انهم لكاذبون في ايمانهم وعقيدتهم ؟ . وتقدم مثله في الآية 22 من سورة الأنعام ج 3 ص 174 .
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} . دعتهم شياطين الأهواء والأغراض إلى الضلال والفساد فاستجابوا لها ، فأعمتهم عن الهدى وقادتهم إلى الضلال {أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ} لأن من أسلس زمامه لشيطان الهوى قاده إلى كل سوء وألقى به في المهالك لا محالة ، إما غدا أولا فبعد غد . . حتى ولو تسلح بالذرة والصواريخ .
_______________________
1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص275-276.
تذكر الآيات قوما من المنافقين يتولون اليهود ويوادونهم وهم يحادون الله ورسوله وتذمهم على ذلك وتهددهم بالعذاب والشقوة تهديدا شديدا، وتقطع بالآخرة أن الإيمان بالله واليوم الآخر يمنع عن موادة من يحاد الله ورسوله كائنا من كان، وتمدح المؤمنين المتبرئين من أعداء الله وتعدهم إيمانا مستقرا وروحا من الله وجنة ورضوانا.
قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم} إلخ، القوم المغضوب عليهم هم اليهود، قال تعالى: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60].
وقوله: {ما هم منكم ولا منهم} ضمير {هم} للمنافقين وضمير {منهم} لليهود، والمعنى: أن هؤلاء المنافقين لتذبذبهم بين الكفر والإيمان ليسوا منكم ولا من اليهود، قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ } [النساء: 143].
وهذه صفتهم بحسب ظاهر حالهم وأما بحسب الحقيقة فهم ملحقون بمن تولوهم، قال تعالى: { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] ، فلا منافاة بين قوله: {ما هم منكم ولا منهم} وقوله: {فإنه منهم}.
واحتمل بعضهم أن ضمير {هم} للقوم وهم اليهود وضمير {منهم} للموصول وهم المنافقون، والمعنى: تولوا اليهود الذين ليسوا منكم وأنتم مؤمنون ولا من هؤلاء المنافقين أنفسهم بل أجنبيون برآء من الطائفتين، وفيه نوع من الذم، وهو بعيد.
وقوله: {ويحلفون على الكذب وهم يعلمون} أي يحلفون لكم على الكذب أنهم منكم مؤمنون أمثالكم وهم يعلمون أنهم كاذبون في حلفهم.
قوله تعالى: {أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون} الإعداد التهيئة، وقوله: {إنهم ساء} إلخ، تعليل للإعداد، وفي قوله: {كانوا يعملون} دلالة على أنهم كانوا مستمرين في عملهم مداومين عليه.
والمعنى: هيأ الله لهم عذابا شديدا لاستمرارهم على عملهم السيىء.
قوله تعالى: {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين} الأيمان جمع يمين وهو الحلف، والجنة السترة التي يتقى بها الشر كالترس، والمهين اسم فاعل من الإهانة بمعنى الإذلال والإخزاء.
والمعنى: اتخذوا أيمانهم سترة يدفعون بها عن نفوسهم التهمة والظنة كلما ظهر منهم أمر يريب المؤمنين فصرفوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله وهو الإسلام فلهم - لأجل ذلك - عذاب مذل مخز.
قوله تعالى: {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} أي إن الذي دعاهم إلى ما هم عليه متاع الحياة الدنيا الذي هو الأموال والأولاد لكنهم في حاجة إلى التخلص من عذاب خالد لا يقضيها لهم إلا الله سبحانه فهم في فقر إليه لا يغنيهم عنه أموالهم ولا أولادهم شيئا فليؤمنوا به وليعبدوه.
قوله تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء} إلخ، ظرف لما تقدم من قوله: {أعد الله لهم عذابا شديدا} أو لقوله: {أولئك أصحاب النار} وقوله: {فيحلفون له كما يحلفون لكم} أي يحلفون لله يوم البعث كما يحلفون لكم في الدنيا.
وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] أن حلفهم على الكذب يوم القيامة مع ظهور حقائق الأمور يومئذ من ظهور ملكاتهم هناك لرسوخها في نفوسهم في الدنيا فقد اعتادوا فيها على إظهار الباطل على الحق بالأيمان الكاذبة وكما يعيشون يموتون وكما يموتون يبعثون.
ومن هذا القبيل سؤالهم الرد إلى الدنيا يومئذ، والخروج من النار وخصامهم في النار وغير ذلك مما يقصه القرآن الكريم، وهم يشاهدون مشاهدة عيان أن لا سبيل إلى شيء من ذلك واليوم يوم جزاء لا يوم عمل.
وأما قوله: {ويحسبون أنهم على شيء} أي مستقرون على شيء يصلح أن يستقر عليه ويتمكن فيه فيمكنهم الستر على الحق والمنع عن ظهور كذبهم بمثل الإنكار والحلف الكاذب.
فيمكن أن يكون قيدا لقوله: {كما يحلفون لكم} فيكون إشارة إلى وصفهم في الدنيا وأنهم يحسبون أن حلفهم لكم ينفعهم ويرضيكم، ويكون قوله: {ألا إنهم هم الكاذبون} قضاء منه تعالى في حقهم بأنهم كاذبون فلا يصغى إلى ما يهذون به ولا يعتنى بما يحلفون به.
ويمكن أن يكون قيدا لقوله: {فيحلفون له} فيكون من قبيل ظهور الملكات يومئذ كما تقدم في معنى حلفهم آنفا، ويكون قوله: {ألا إنهم هم الكاذبون} حكما منه تعالى بكذبهم يوم القيامة أو مطلقا.
قوله تعالى: {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون} الاستحواذ الاستيلاء والغلبة، والباقي ظاهر.
___________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص169-171.
حزب الشيطان :
هذه الآيات تفضح قسماً من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسماً ممّن ناجوا الرّسول كانوا من المنافقين، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتستّرون على مؤامراتهم، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.
يقول تعالى في البداية: {ألم تر إلى الذين تولّوا قوماً غضب الله عليهم}.
هؤلاء القوم الذين «غضب الله عليهم» كانوا من اليهود ظاهراً كما عرّفتهم الآية (60) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة: 60].
ثمّ يضيف تعالى: {ما هم منكم ولا هم منهم} فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كلّ يوم ويظهرون كلّ لحظة لكم بصورة جديدة.
وطبيعي أنّ هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] ، لأنّ المقصود هناك أنّهم بحكم أعدائكم، بالرغم من أنّهم في الحقيقة ليسوا منهم.
ويضيف ـ أيضاً ـ وإستمراراً لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فانّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة: {ويحلفون على الله الكذب وهم يعلمون}.
وهذه طريقة المنافقين، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.
ثمّ يشير تعالى إلى العذاب المؤلم لهؤلاء المنافقين المصرّين على الباطل والمعاندين للحقّ، حيث يقول تعالى: {أعدّ لهم عذاباً شديداً} وبدون شك فإنّ هذا العذاب عادل وذلك: {إنّهم ساء ما كانوا يعملون).
ثمّ للتوضيح الأكثر حول بيان سمات وصفات المنافقين يقول سبحانه: {اتّخذوا أيمانهم جنّة فصدّوا عن سبيل الله}(2).
يحلفون أنّهم مسلمون وليس لهم هدف سوى الإصلاح، في حين أنّهم منهمكون بفسادهم وتخريبهم ومؤامراتهم .. وفي الحقيقة فإنّهم يستفيدون من الإسم المقدّس لله للصدّ والمنع عن سبيل الله تعالى ...
نعم، إنّ الحلف الكاذب هو أحد علائم المنافقين، حيث ذكره سبحانه أيضاً في سورة المنافقين الآية (2) في معرض بيان أوصافهم.
ويضيف تعالى في النهاية: {فلهم عذاب مهين} أي مذلّ.
إنّهم أرادوا بحلفهم الكاذب تحسين سمعتهم وتجميل صورتهم، إلاّ أنّ الله سيبتليهم بعذاب أليم مذلّ، وقبل ذلك عبّر عنه سبحانه بأنّه «عذاب شديد»، كما في الآية (15) من هذه السورة، لأنّهم يحزنون قلوب المؤمنين بشدّة.
والظاهر أنّ كلا العذابين مرتبط بالآخرة، لأنّهما ذكرا بوصفين مختلفين: (مهين وشديد) فليسا تكراراً، لأنّ وصف العذاب بهذين الوصفين في القرآن الكريم يأتي عادةً لعذاب الآخرة، بالرغم من أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّ العذاب الأوّل مختّص بالدنيا أو عذاب القبر، وأنّ الثاني مختّص بعذاب الآخرة.
ولأنّ المنافقين يعتمدون في الغالب على أموالهم وأولادهم وهما (القوّة الإقتصادية والقوّة البشرية) في تحقيق مآربهم وحلّ مشاكلهم، فإنّ القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى بقوله تعالى: {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً}(3).
وهذه الأموال ستصبح لعنة عليهم وطوقاً في أعناقهم وسبباً لعذابهم المؤلم، كما يوضّح الله سبحانه وتعالى ذلك في قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180].
وكذلك بالنسبة لأولادهم الضالّين فإنّهم سيكونون سبباً لعذابهم، وأمّا الصالحون والمؤمنون فسيتبرّون منهم.
نعم، في يوم القيامة لا ملجأ إلاّ الله، وحينئذ يتجلّى خواء الأسباب الاُخرى، كما يتبيّن ذلك في قوله تعالى: { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] .
وفي ذيل الآية يهدّدهم ويقول: {اُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
وبهذه الصورة فقد وصف القرآن الكريم عذابهم أحياناً بأنّه «شديد»، وأحياناً بأنّه مذلّ و«مهين»، وثالثة بأنّه «خالد»، وكلّ واحدة من هذه الصفات متناسبة مع طبيعة أعمالهم.
والعجيب أنّ المنافقين لا يتخلّون عن نفاقهم حتّى في يوم القيامة أيضاً، كما يوضّح الله سبحانه ذلك في قوله: {يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم}(4).
إنّ يوم القيامة يوم تتجلّى فيه الأعمال، وحقيقة الإنسان التي كان عليها في الدنيا، ولأنّ المنافقين أخذوا هذه الحالة النفسية معهم إلى القبر والبرزخ، فإنّها ستتضح يوم القيامة أيضاً، ومع علمهم بأنّ الله سبحانه لا يخفى عليه شيء وأنّه علاّم الغيوب، إلاّ أنّهم ـ إنسجاماً مع سلوكهم المعهود ـ فإنّهم يحلفون أمام الله حلفاً كاذباً.
وطبيعي أنّ هذا لا يتنافى مع إعترافهم وإقرارهم بذنوبهم في بعض محاضر محكمة العدل الإلهي، لأنّ في يوم القيامة محطّات ومواقف مختلفة وفي كلّ واحدة منها برنامج.
ثمّ يضيف عزّوجلّ أنّهم بهذا اليمين الكاذب يظنّون أنّه بإمكانهم كسب منفعة أو دفع ضرر: {ويحسبون أنّهم على شيء}.
إنّ هذا التصور الواهي ليس أكثر من خيال، إلاّ أنّ تطبّعهم على هذه الأساليب في الدنيا وتخلّصهم ممّا يحدق بهم من أخطار بواسطة الأيمان الكاذبة ونيل بعض المنافع الدنيوية لأنفسهم، وبذلك فإنّهم يحملون هذه الملكات السيّئة معهم إلى هناك، حيث تفصح عن حقيقتها.
وأخيراً تنتهي الآية بهذه الجملة: {ألا إنّهم هم الكاذبون}.
ويمكن أن يكون التصريح مرتبطاً بالدنيا، أو القيامة، أوكليهما، وبهذه الصورة سيفتضح.
وفي آخر آية مورد البحث يبيّن الباري عزّوجلّ المصير النهائي للمنافقين العمي القلوب بقوله تعالى: {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله اُولئك حزب الشيطان ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون).
«استحوذ» من مادّة (حوذ) على وزن (موز) في الأصل بمعنى الجزء الخلفي لفخذ البعير، ولأنّ أصحاب الإبل عندما يسوقون جمالهم يضربونها على أفخاذها، فقد جاء هذا المصطلح بمعنى التسلّط أو السوق بسرعة.
نعم، إنّ المنافقين المغرورين بأموالهم ومقامهم، ليس لهم مصير سوى أن يكونوا تحت سيطرة الشيطان وإختياره ووساوسه بصورة تامّة، وينسون الله بصورة كليّة، إنّهم ليسوا منحرفين فحسب، بل إنّهم في زمرة الشيطان وهم أنصاره وحزبه وجيشه في إضلال الآخرين.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في بداية وقوع الفتن والخلافات «أيّها الناس، إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، يتولّى فيها رجال رجالا، فلوأنّ الباطل خلص لم يخف على ذي حجى، ولو أنّ الحقّ خلص لم يكن إختلاف، ولكن يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معاً، فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى»(5).
كما يلاحظ نفس هذا التعبير في كلام الإمام الحسين (عليه السلام) عندما شاهد صفوف أهل الكوفة بكربلاء كالليل المظلم والسيل العارم أمامه، حيث قال: «فنعم الربّ ربّنا وبئس العباد، أنتم أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرّسول محمّد ثمّ أنّكم رجعتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ثمّ أضاف (عليه السلام): فتبّاً الموت لكم ولما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون»(6).
وسنتطرّق إلى بحث تفصيلي حول حزب الشيطان وحزب الله، في نهاية الآيات اللاحقة إن شاء الله.
_________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص39-43.
2 ـ «جنّة» في الأصل من مادّة (جنّ) على وزن (فنّ) بمعنى تغطية الشيء، ولأنّ الدرع يغطّي الإنسان من ضربات العدو فيقال له (جنّة ومجن ومجنة).
3 ـ اعتبر بعض المفسّرين أنّ كلمة «عذاب» هنا مقدرة وقالوا: إنّ المقصود هو(من عذاب الله)، (القرطبي وروح البيان والكشّاف)، ويوجد هنا إحتمال آخر، وهو أنّ الآية ليس لها تقدير والمراد من كلمة (الله) هو أنّهم لا يجدون ملجأً آخر غيره.
4 ـ «يوم» ظرف ومتعلّق بـ (اذكر) المحذوفة، أو متعلّق بما قبله يعني «لهم عذاب مهين»، أو «اُولئك أصحاب النار»، إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل أنسب.
5 ـ اُصول الكافي، ج1 ، ص54، نور الثقلين، ج5 ص267. نهج البلاغة الخطبة ، 50 (بتفاوت يسير)
6 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص266.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|