أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-8-2017
2482
التاريخ: 21-8-2017
2377
التاريخ: 21-8-2017
2562
التاريخ: 8-8-2017
2187
|
ممّا لا شكّ فيه أنّ لنفسيات الآباء ونزعاتهم وكمياتهم من العلم والخطر أو الانحطاط والضعة دخلاً تاماً في نشأة الأولاد وتربيتهم، إنّ لم نقل إنّ مقتضاهما هو العامل الوحيد في تكيّف نفسيات الناشئة، بكيفيات فاضلة أو رذيلة، فلا يكاد يرتأي صاحب أي خطة إلاّ أن يكون خلفه على خطته، ولا أن الخلف يتحرّى غير ما وجد عليه سلفه، ولذلك تجد في الغالب مشاكلة بين الجيل الأول والثاني في العادات والأهواء والمعارف والعلوم، اللهمّ إلاّ أن يوسد هناك تطوّر يكبح ذلك الاقتضاء.
وعلى هذا الناموس يسعنا أن نعرف مقدار ما عليه أبو الفضل (عليه السلام) من العلم والمعرفة وحسن التربية بنشوئه في البيت العلوي، منبثق أنوار العلم، ومحط أسرار اللاهوت، ومختبأ نواميس الغيب، فهو بيّت العلم والعمل، بيت الجهاد والورع، بيت المعرفة والإيمان:
بَيّتُ عَلاَ سَمكُ الضِراحُ رِفعَةً ... فَكانَ أعَلاَ شَرفَاً وأمَنعَا
أعزَهُ اللّهُ فَما تَهبِطُ فِي ... كَعبَتهِ الأملاكُ إلاّ خَضعَاً
بَيّتُ مِن القدّس ونَاهيِك بِهِ ... مَحطُ أسرِارِ الهُدى ومَوضِعَا
وكَان مأوى المُرتَجي والمُلتَجى ... فَما أعزّ شَأنهُ وأرفَعَا
وبسيف صاحب هذا البيت المنيع انجلت غواشي الإلحاد، وببيانه تقشّعت غيوم الشبّه والأوهام.
إذن، فطبع الحال يدلّنا على أنّ سيّد الأوصياء لم يبغِ بابنه بدلاً في حسن التربية الإلهية، ولا أنّ شظية الخلافة يروقه غير اقتصاص أثر أبيه الأقدّس، فلك هاهنا أن تحدّث عن بقيّة أمير المؤمنين في أيّ ناحية من نواحي الفضيلة، ولا حرج.
لم تكن كُلِّ البصائر في أبي الفضل (عليه السلام) اكتسابية، بل كان مجتبلاً من طينة القدّاسة التي مزيجها النور الإلهي، حتّى تكونت في صُلّب من هو مثال الحقّ، ذلك الذي لو كشف عنه الغطاء ما ازداد يقيناً، فلم يصل أبو الفضل (عليه السلام) إلى عالم الوجود إلاّ وهو معدن الذكاء والفطنة، وأُذن واعية للمعارف الإلهية، ومادة قابلة لصور الفضائل كُلّها، فاحتضنه حجر العلم والعمل، حجر اليقين والإيمان، وعادت أرومته الطيّبة هيكلاً للتوحيد، يغذّيه أبوه بالمعرفة، فتشرق عليه أنوار الملكوت، وأسرار اللاهوت، وتهب عليه نسمات الغيب، فيستنشق منها الحقائق.
دعاه أبوه (عليه السلام) في عهد الصبا وأجلسه في حجره وقال له: " قل واحد! فقال: واحد، فقال له: قل إثنين! قال: استحي أن أقول إثنين باللسان قلت واحداً إثنان " .
وإذا أمعنّا النظر في هذه الكلمة ـ وهو على عهد نعومة من أظفاره في حين أنّ نظراءه في ألسن لا يبلغون إلى ما هو دون ذلك الشأو البعيد ـ فلا نجد بدأ من البخوع بأنّها من أشعة تلك الإشراقات الإلهية، فما ظنّك إذن حينما يلتقي مع المبادئ الفيّاضة من أبيه سيّد الوصيين، وأخويه الإمامين سيّدي شباب أهل الجنّة، فلا يقتني من خزائن معارفهم إلاّ كُلّ دُرّ ثمين، ودرّي لامع.
وغير خفيّ ما أراده سيّدنا العبّاس، فإنّه أشار إلى أنّ الوحدانية لا تليق إلاّ بفاطر السموات والأرضين، ويجلّ مثله المتفرّع من دوح الإمامة أن يجري على لسانه الناطق بالوحدانية لباري الأشياء صفة تنزّه عنها سبحانه وتعالى وعنها ينطق كتابه المجيد: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] .
وممّا زاد في سرور أبيه أمير المؤمنين أنّ زينب العقيلة كانت حاضرة حينذاك وهي صغيرة فقالت لأبيها أتحبّنا؟ قال: بلى، فقالت: لا يجتمع حبّان في قلب مؤمن: حبّ اللّه، وحبّ الأولاد، وإن كان ولا بدّ فالحبّ للّه تعالى والشفقة للأولاد، فأعجبه كلامها وزاد في حُبّه وعطفه عليهما .
أمّا العلم ; فهو رضيع لبانه، وناهيك في حجر أبيه مدرسة يتخرّج منها مثل أبي الفضل (عليه السلام)! وما ظنّك بهذا التلميذ المصاغ من جوهر الاستعداد، وذلك الأُستاذ الذي هو عيّبة العلم الإلهي، وعلبة أسرار النبوّة، وهو المقيّض لنشر المعارف الربوبية، وتعلم الأخلاق الفاضلة، ونشر أحكام الإسلاّم، ودحض الأوهام والوساوس.
وإذا كان الإمام (عليه السلام) يُربّي البعداء الأجانب بتلك التربية الصحيحة المأثورة، حتّى استفادوا منه آسار التكوين، ووقفوا على غامض ما في النشأتين، وكان عندهم بواسطة تلك التربية علم المنايا والبلايا، كحبيب بن مظاهر، وميثم التمّار، ورشيد الهجري، وكميل بن زياد، وأمثالهم ; فهل من المعقول أن يذر قرّة عينّه، وفلذة كبده خلواً من أي علم؟!
أو أن قابلية المحلّ تربى بأولئك الأفراد دون سيّدنا العبّاس (عليه السلام)؟
لا واللّه، ما كان سيّد الأوصياء يضنّ بشيء من علومه، لا سيّما على قطعة فؤاده، ولا أنّ غيره ممّن انضوى إلى أبيه علم الهداية يشقّ له غباراً في القابلية والاستعداد.
فهنالك التقى مبدأ فيّاض، ومحلّ قابل للإفاضة، وقد ارتفعت عامّة الموانع، فذلك برهان على أنّ " عباس اليقين " من أوعيّة العلم، ومن الراسخّين فيه.
ثُمَّ هلمّ معي إلى جامعتين للعلوم الإلهية، ملازمتين للجامعة الأُولى في نشر المعارف، وتقيضهما لإفاضة التعاليم الحقّة لكُلِّ تلميذ، والرقي به إلى أوج العظمة في العلم والعمل، ألا وهما " كليّتا " السبطين الحسن والحسين (عليهما السلام). وانظر إلى ملازمته لأخويه بعد أبيه سيّد الأوصياء، ملازمة الظلّ لديه، فهناك يتجلّى لكَ أنّ سماء علمهما لم تهطل وبالاً إلاّ وعاد لؤلؤاً رطباً في نفسه، ولا أنفقا شيئاً من ذلك الكنز الخالد إلاّ واتخذه ثروة علميّة لا تنفد.
أضف إلى ذلك ما كان يرويه عن عقيلة بيت الوحي، زينب الكبرى، وهي العالمة غير المعلّمة بنصّ الإمام زين العابدين .
وبعد هذا كُلِّه، فقد حوى أبو الفضل من صفاء النفس، والجبلّة الطيّبة، والعنصر الزاكي، والإخلاص في العمل، والدؤوب على العبادة ; ما يفتح له أبواباً من العلم، ويوقفه على كنوز المعرفة، فيتفرّع من كُلِّ أصل فرع، وتنحلّ عنده المشكلات.
وإذا كان الحديث ينصّ على أنّ مَن أخلص للّه أربعين صباحاً انفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، إذن فما ظَنّك بمن أخلص للّه سبحانه طيلة عمره، وهو متخلّ عن كُلِّ رذيلة، ومتحلِّ بكُلِّ فضيلة، فهل يبقى إلاّ أن تكون ذاته المقدّسة متجلّية بأنوار العلوم والفضائل، وإلاّ أن يكون علمه تحقّقاً لا تعلّقاً؟!
وبعد ذلك فما أوشك أن يكون علمه وجدانياً، وإن برع في البرهنة وتنسيق القياس، ومن هنا جاء المأثور عن المعصومين (عليهم السلام): " إنّ العبّاس بن علي زُقَّ العِلمُ زقاً " .
وهذا من أبدع التشبيه والاستعارة، فإنّ الزقّ يستعمل في تغذية الطائر فرخه حين لم يقوِ على الغذاء بنفسه، وحيث استعمل الإمام (عليه السلام) ـ وهو العارف بأساليب الكلام ـ هذه اللفظة هنا، نعرف أنّ أبا الفضل (عليه السلام) كان محلّ القابلية لتلقي العلوم والمعارف، منذ كان طفلاً ورضيعاً، كما هو كذلك بلا ريب.
فلم يكن أبو الفضل بِدْعَاً من أهل هذا البيت الطّاهر الذي حوى العلم المتدفّق منذ الصغر، كما شهد بذلك أعداؤهم، ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام):
أنّ رجلاً مرّ بعثمان بن عفان وهو قاعد على باب المسجد، فسأله، فأمر له بخمسة دراهم، فقال له الرجل: أرشدني، قال عثمان: دونك الفتية الذين تراهم، وأومأ بيده إلى ناحية من المسجد فيها الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر، فمضى الرجل نحوهم وسألهم، فقال له الحسن: يا هذا، المسألة لا تحلّ إلاّ في ثلاث: دم مفجع، أو دين مقرح، أو فقر مدقع، أيّتها تسأل؟ فقال: في واحدة من هذه الثلاث، فأمر له الحسن بخمسين ديناراً، والحسين بتسعة وأربعين ديناراً، وعبد اللّه بن جعفر بثمانية وأربعين، فانصرف الرجل ومرّ بعثمان، فحكى له القصّة وما أعطوه، فقال له: ومَن لك بمثل هؤلاء الفتية، أولئك فطموا العلم فطماً، وحازوا الخير والحكمة.
قال الصدوق بعد الخبر: " معنى (فطموا العلم): أي قطعوه عن غيرهم وجمعوه لأنفسهم " .
وجاء في الأثر: أنّ يزيد بن معاوية قال في حقّ السجاد: " إنّه من أهل بيت زقوا العلم زقاً ".
ومن أجل ذلك قال العلاّمة المحقّق الفقيه المولى محمّد باقر ابن المولى محمّد حسن ابن المولى أسد اللّه ابن الحاج عبد اللّه ابن الحاج علي محمّد القائني، نزيل برجند، في كتاب الكبريت الأحمر ج3 ص45: " إنّ العبّاس من أكابر وأفاضل فقهاء أهل البيت، بل إنّه عالم غير متعلّم، وليس في ذلك منافاة، لتعليم أبيه (عليه السلام) إياه ".
وكان هذا الشيخ الجليل ثبتاً في النقل، منقّباً في الحديث، يشهد بذلك كبريته، تتلمذ (رحمه الله) في العراق على الفاضل الإيرواني، وميرزا حبيب اللّه الرشتي، والسيّد الشيرازي، وفي خراسان على السيّد مرتضى القائني، والعلاّمة محمّد تقي البجنردي، وكان له أربعة وثلاثون مؤلفاً.
ومن مستطرف الأحاديث ما حدّثني به الشيخ العلاّمة ميرزا محمّد علي الأُردبادي، عن حجّة الإسلاّم السيّد ميرزا عبد الهادي آل سيّد الأُمة الميرزا الشيرازي (قدس سره)، عن العالم البارع السيّد ميرزا عبد الحميد البجنردي، أنّه شاهد في كربلاء المشرّفة رجلاً من الأفاضل قد اغترّ بعلمه، وبلغ من غلوائه في ذلك أنّه كان في منتدى من أصحابه وجرى ذكر أبي الفضل، وما حمله من المعارف، الإلهية التي امتاز بها على سائر الشهداء، فصارح الرجل بأفضليته على العبّاس! واستغرب من حضر هذه الجرأة، وانكروا عليه، ولا موه على هذه البادرة، فطفق الرجل يبرهن على تهيئته بتعداد مآثره وعلومه، وما ينوء به من تهجّد وتنفل وزهادة، وقال: إن كان أبو الفضل العبّاس يفضل بأمثال هذه فعنده مثلها، والشهادة يوم الطفّ لا تقابل ما تحمله من العلوم الدينية وأُصولها ونواميسها.
فقام الجماعة من المجلس والرجل على ذلك الغرور والغلواء، غير نادم ولا متهيب.
ولمّا أصبحوا لم يكن لهم هَمّ إلاّ معرفة خبر الرجل، وأنّه هل بقي على غيّه أو أنّ الهداية الإلهية شملته؟ فقصدوا داره وطرقوا الباب، فقيل لهم: إنّ الرجل في حرم العبّاس، فتوجّهوا إليه ليستبروا خبره، فإذا الرجل قد ربط نفسه في الضريح الأقدّس بحبل شدّ طرفه بعنقه والآخر بالضريح، وهو تائب نادم ممّا فرط.
فسألوه عن شأنه وخبره؟ فقال: لمّا نمت البارحة، وأنا على الحال الذي فارقتكم عليه، رأيت نفسي في مجتمع من أهل الفضل، وإذا رجل دخل النادي وهو يقول: إنّ أبا الفضل قادم عليكم، فأخذ ذكره من القلوب مأخذاً حتّى دخل (عليه السلام) والنور الإلهي يسطع من أسارير جبهته، والجمال العلوي يزهو في محيّاه، فاستقرّ على كرسي في صدر النادي، والحضور كُلّهم خاضعون لجلالته، وخصتني من بينهم رهبة عظيمة، وفرق مقلق، لما أتذكّره من تفريطي في جنّب ولي اللّه، فطفق (عليه السلام) يحيّي أهل النادي واحداً واحداً حتّى وصلت النوبة إليّ.
ثُمّ قال لي: ماذا تقول أنت؟ فكاد أن يرتجّ عليّ القول، ثُمّ راجعت نفسي وقلت: في المصارحة منتدحاً عن الارتباك وفوزاً بالحقيقة، فأنهيت إليه ما ذكرته لكم بالأمس من البرهنة.
فقال (عليه السلام): أمّا أنا فقد درست عند أبي أمير المؤمنين وأخوي الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، وأنا على يقين من ديني بما تلقّيته من مشيختي من الحقائق ونواميس الإسلاّم، وأنت شاكّ في دينك، شاك في إمامك، أليس الأمر هكذا؟ فلم يسعني إنكار ما يقوله.
ثُمّ قال (عليه السلام): وأمّا شيخك الذي قرأت عليه، وأخذت منه فهو أتعس منك حالاً، وما عسى أن يكون عندك من أُصول وقواعد مضروبة للجاهل بالأحكام، يعمل بها إذا أعوزه الوصول إلى الواقع، وإنّي غير محتاج إليها، لمعرفتي بواقع الأحكام من مصدر الوحي الإلهي.
ثُمّ قال (عليه السلام): وفيّ نفسيات كريمة، وأخذ يعددها: من كرم، وصبر، ومواساة، وجهاد إلى غيرها، ولو قسّمت على جميعكم لما أمكنك حمل شيء منها.
على أنّ فيك ملكات رذيلة من حسد، ومراء، ورياء، ثُمّ ضرب بيده الشريفة على فمّ الرجل، فانتبه فزعاً نادماً، معترفاً بالتقصير، ولم يجد منتدحاً إلاّ بالتوسل بهِ، والإنابة إليه، صلوات اللّه عليه وعلى آبائه.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
العتبة الحسينية تطلق فعاليات المخيم القرآني الثالث في جامعة البصرة
|
|
|