أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-5-2017
377
التاريخ: 12-5-2017
527
التاريخ: 12-5-2017
527
التاريخ: 11-5-2017
455
|
قال تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوالْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } [الأحقاف : 33 - 35] .
قال سبحانه منبها على قدرته على البعث والإعادة فقال {أ ولم يروا} أي أ ولم يعلموا {أن الله الذي خلق السماوات والأرض} وأنشأهما {ولم يعي بخلقهن} أي لم يصبه في خلق ذلك إعياء ولا تعب ولم يعجز عنه يقال عيي فلان بأمره إذا لم يهتد له ولم يقدر عليه {بقادر} الباء زائدة وموضعه رفع بأنه خبر إن {على أن يحيي الموتى} أي فخلق السماوات والأرض أعجب من إحياء الموتى .
ثم قال {بلى} هو قادر عليه {إنه على كل شيء قدير} ثم عقبه بذكر الوعيد فقال {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أ ليس هذا بالحق} أي يقال لهم على وجه الاحتجاج عليهم أ ليس هذا الذي جوزيتم به حق لا ظلم فيه {قالوا} أي فيقولون {بلى وربنا} اعترفوا بذلك وحلفوا عليه بعد ما كانوا منكرين {قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} أي بكفركم في الدنيا وإنكاركم ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} أي فاصبر يا محمد على أذى هؤلاء الكفار وعلى ترك إجابتهم لك كما صبر الرسل ومن هاهنا لتبيين الجنس كما في قوله {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} وعلى هذا القول فيكون جميع الأنبياء هم أولو العزم لأنهم عزموا على أداء الرسالة وتحمل أعبائها عن ابن زيد والجبائي وجماعة وقيل أن من هاهنا للتبعيض وهو قول أكثر المفسرين والظاهر في روايات أصحابنا ثم اختلفوا فقيل أولو العزم من الرسل من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدمه وهم خمسة أولهم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن ابن عباس وقتادة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) قال وهم سادة النبيين وعليهم دارت رحا المرسلين وقيل هم ستة نوح صبر على أذى قومه وإبراهيم صبر على النار وإسحاق صبر على الذبح ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر ويوسف صبر في البئر والسجن وأيوب صبر على الضر والبلوى عن مقاتل وقيل هم الذين أمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين عن السدي والكلبي وقيل هم إبراهيم وهود ونوح ورابعهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن أبي العالية والعزم هو الوجوب والحتم وأولو العزم من الرسل هم الذين شرعوا الشرائع وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها .
{ولا تستعجل لهم} أي ولا تستعجل لهم العذاب فإنه كائن واقع بهم عن قريب وما هو كائن فكان قد كان وقع {كأنهم يوم يرون ما يوعدون} أي من العذاب في الآخرة {لم يلبثوا} في الدنيا {إلا ساعة من نهار} أي إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار لأن ما مضى كأن لم يكن وإن كان طويلا وتم الكلام ثم قال بلاغ أي هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من الله إليكم والبلاغ بمعنى التبليغ وقيل معناه ذلك اللبث {بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} أي لا يقع العذاب إلا بالعاصين الخارجين من أمر الله تعالى وقيل معناه لا يهلك على الله تعالى إلا هالك مشرك ولى ظهره الإسلام أو منافق صدق بلسانه وخالف بعمله عن قتادة وقيل معناه لا يهلك مع رحمة الله وتفضله إلا القوم الفاسقون عن الزجاج قال وما جاء في الرجاء لرحمة الله شيء أقوى من هذه الآية .
__________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص157-158 .
{أَولَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهً الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ ولَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
هذا الكون العجيب الذي دل على قدرة الخالق وعظمته يدل أيضا وبطريق أولى على انه تعالى قادر على إحياء الموتى ، لأن السبب الموجب للأمرين واحد ، وهو قدرة من إذا قال للشيء كن فيكون ، قال الإمام علي ( عليه السلام ) : عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى .
وتقدم هذا المعنى في عشرات الآيات ويأتي الكثير ، من ذلك قوله تعالى : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ } [ق : 15] . فكيف نعيا بالخلق الثاني ؟ .
{ويَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ } أي يعذبون بها ، ويقال لهم : {أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ } الذي كفرتم به من قبل ؟ { قالُوا بَلى ورَبِّنا } . أنكروا في الدنيا حيث يضرهم الإنكار ، وأقروا في الآخرة حيث لا ينفعهم الإقرار شيئا { قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } بل وتسخرون من الذين آمنوا بحساب اللَّه وعذابه ، ومثله : {ولَو تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى ورَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} - 30 الأنعام ج 3 ص 179 .
{فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } . جاء في كثير من التفاسير ان أولي العزم خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، ولقد كان لكل واحد منهم شريعة خاصة أوجب اللَّه العمل بها على جميع خلقه إلى عهد الذي يليه من الخمسة ، فتنسخ اللاحقة الشريعة السابقة إلى شريعة محمد ( ص ) سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، فإنها ناسخة غير منسوخة إلى يوم القيامة ، أما الأنبياء الآخرون فقد كان كل واحد منهم يعمل بشريعة من تقدمه من أولي العزم . . . وفي هذا روايات عن أهل بيت النبي ( صلى الله عليه واله ) وتومئ إليه الآية 13 من سورة الشورى : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً والَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى} حيث خص سبحانه الخمسة بالذكر دون غيرهم ، وكلمة شرع ظاهرة بالشريعة ، والخطاب في {إليك} لمحمد ( صلى الله عليه واله ) .
( ولا تَسْتَعْجِلْ} - العذاب - {لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ } . الخطاب في لا تستعجل لمحمد ( صلى الله عليه واله ) وضمير {لهم} وكأنهم يعود إلى الذين كفروا برسالته ، والمراد بما يوعدون عذاب جهنم ، والمعنى لا تستعجل العذاب يا محمد للذين كفروا فإنه نازل بهم في الآخرة لا محالة ، أما مكوثهم في
الدنيا وان طال فإنهم سوف يرونه لحظات حين ينزل بهم العذاب . . . ومثله {مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وبِئْسَ الْمِهادُ} - 197 آل عمران . وفي نهج البلاغة :
انما الدنيا متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب ، أو كما يتقشع السحاب .
( بلاغ ) أي القرآن بلاغ لرسالات اللَّه تعالى ، وهو حجة كافية ، وموعظة شافية لمن طلب الرشد والهداية { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ } ؟ كلا . . . {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ ، فِي جَنَّاتٍ وعُيُونٍ} - 52 الدخان .
_____________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص56-58 .
قوله تعالى : {أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر} إلخ ، الآية وما بعدها إلى آخر السورة متصلة بما تقدم من قوله تعالى : {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم} إلخ ، وفيها تتميم القول فيما به الإنذار في هذه السورة وهو المعاد والرجوع إلى الله تعالى كما أشرنا إليه في البيان المتقدم .
والمراد بالرؤية العلم عن بصيرة ، والعي العجز والتعب ، والأول أفصح على ما قيل ، والباء في {بقادر} زائدة لوقوعها موقعا فيه شائبة حيز النفي كأنه قيل : أ ليس الله بقادر .
والمعنى : أ ولم يعلموا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعجز عن خلقهن أولم يتعب بخلقهن قادر على إحياء الموتى – وهو تعالى مبدىء وجود كل شيء وحياته - بلى هو قادر لأنه على كل شيء قدير ، وقد أوضحنا هذه الحجة فيما تقدم غير مرة .
قوله تعالى : {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أ ليس هذا بالحق} إلى آخر الآية ، تأييد للحجة المذكورة في الآية السابقة بالإخبار عما سيجري على منكري المعاد يوم القيامة ، ومعنى الآية ظاهر .
قوله تعالى : {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم} إلى آخر الآية ، تفريع على حقية المعاد على ما دلت عليه الحجة العقلية وأخبر به الله سبحانه ونفي الريب عنه .
والمعنى : فاصبر على جحود هؤلاء الكفار وعدم إيمانهم بذاك اليوم كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم بالعذاب فإنهم سيلاقون اليوم بما فيه من العذاب وليس اليوم عنهم ببعيد وإن استبعدوه .
وقوله : {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} تبيين لقرب اليوم منهم ومن حياتهم الدنيا بالإخبار عن حالهم حينما يشاهدون ذلك اليوم فإنهم إذا رأوا ما يوعدون من اليوم وما هيىء لهم فيه من العذاب كان حالهم حال من لم يلبث في الأرض إلا ساعة من نهار .
وقوله : {بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} أي هذا القرآن بما فيه من البيان تبليغ من الله من طريق النبوة فهل يهلك بهذا الذي بلغه الله من الإهلاك إلا القوم الفاسقون الخارجون عن زي العبودية .
وقد أمر الله سبحانه في هذه الآية نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل وفيه تلويح إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم فليصبر كصبرهم ، ومعنى العزم هاهنا أما الصبر كما قال بعضهم لقوله تعالى : {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [الشورى : 43] ، وإما العزم على الوفاء بالميثاق المأخوذ من الأنبياء كما يلوح إليه قوله : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا } [طه : 115] ، وإما العزم بمعنى العزيمة وهي الحكم والشريعة .
وعلى المعنى الثالث وهو الحق الذي تذكره روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هم خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم ولقوله تعالى : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } [الشورى : 13] ، وقد مر تقريب معنى الآية .
وعن بعض المفسرين أن جميع الرسل أولوا العزم ، وقد أخذ {من الرسل} بيانا لأولي العزم في قوله : {أولوا العزم من الرسل} وعن بعضهم أنهم الرسل الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام الآية 83 - 90 لأنه تعالى قال بعد ذكرهم : { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [الأنعام : 90] .
وفيه أنه تعالى قال بعد عدهم : {ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم} ثم قال : {فبهداهم اقتده} ولم يقل ذلك بعد عدهم بلا فصل .
وعن بعضهم أنهم تسعة : نوح وإبراهيم والذبيح ويعقوب ويوسف وأيوب وموسى وداود وعيسى ، وعن بعضهم أنهم سبعة : آدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ، وعن بعضهم أنهم ستة وهم الذين أمروا بالقتال : نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان ، وذكر بعضهم أن الستة هم نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب ، وعن بعضهم أنهم خمسة وهم : نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى ، وعن بعضهم أنهم أربعة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، وذكر بعضهم أن الأربعة هم نوح وإبراهيم وهود ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم أجمعين .
وهذه الأقوال بين ما لم يستدل عليه بشيء أصلا وبين ما استدل عليه بما لا دلالة فيه ، ولذا أغمضنا عن نقلها ، وقد تقدم في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب بعض الكلام في أولي العزم من الرسل فراجعه إن شئت .
_____________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18 ، ص178-180 .
فاصبر كما صبر أولو العزم :
تواصل هذه الآيات ـ وهي آخر آيات سورة الأحقاف ـ البحث حول المعاد ، حيث جاءت الإشارة إلى مسألة المعاد في الآيات السابقة حكاية عن لسان مبلغي الجن . هذا من جهة .
ومن جهة أُخرى فإنّ سورة الأحقاف تتحدث في فصولها الأولى عن مسألة التوحيد ، وعظمة القرآن المجيد ، وإثبات نبوة نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتبحث في آخر فصل من هذه السورة مسألة المعاد لتكمل بذلك البحث في الأصول الإعتقادية الثلاثة .
تقول الآية الأولى : (أولم يروا أنّ الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحي الموتى بلى إنّه على كلّ شيء قدير) فإنّ خلق السماوات والأرض مع موجوداتها المختلفة المتنوعة علامة قدرته تعالى على كلّ شيء ، لأنّ كل ما يقع في دائرة مخلوق لله في هذا العالم ، فإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يمكن أن يكون عاجزاً عن إعادة حياة البشر؟ وهذا بحدِّ ذاته دليل قاطع مفحم على مسألة إمكان المعاد .
وأساساً فإنّ أفضل دليل على إمكان أي شيء وقوعه ، فكيف ندع إلى أنفسنا سبيلاً للشك في قدرة الله المطلقة على مسألة المعاد ونحن نرى نشأة الموجودات الحية وتولدها من موجودات ميتة ، وعلى هذا النطاق الواسع؟
هذا أحد أدلة المعاد العديدة التي يؤكد عليها القرآن ويستند إليها في آيات مختلفة ، ومن جملتها الآية (81) من سورة يس (2) .
وتجسّد الآية التالية مشهداً من العذاب الأليم المحيط بالمجرمين ومنكري المعاد ، فتقول : {ويوم يعرض الذين كفروا على النّار} .
أجل ، فمرّة تُعرض النّار على الكافرين ، وأخرى يعرضون الكافرين على النّار ، ولكل من العرضين هدف أشير إليه قبل عدّة آيات .
وعندما يعرضون الكافرين على النّار ، ويرون ألسنة لهبها العظيمة المحرقة المرعبة يقال لهم : (أليس هذا بالحق) ؟ وهل تستطيعون اليوم أن تنكروا البعث ومحكمة الله العادلة ، وثوابه وعقابه ، وتقولون : ما هذا إلاّ أساطير الأولين ؟
غير أنّ أُولئك الذين لا حيلة لهم : {قالوا بلى وربّنا} فهنا يقول الله سبحانه ، أو ملائكة العذاب : {قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} .
وبهذا فإنّهم يرون كلّ الحقائق بأُم أعينهم في ذلك اليوم ويعترفون بذلك الإعتراف الذي لن ينفعهم ، وسوف لن تكون نتيجته إلاّ الهم والحسرة ، وتأنيب الضمير والعذاب الروحي .
ويأمر الله سبحانه نبيّه في آخر آية من هذه الآيات ، وهي آخر آية في سورة الأحقاف ، على أساس ملاحظة ما مرّ في الآيات السابقة حول المعاد وعقاب الكافرين ، أن : {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} فلست الوحيد الذي واجه مخالفة هؤلاء القوم وعداوتهم ، فقد واجه أولو العزم هذه المشاكل وثبتوا أمامها واستقاموا ، فنبيّ الله العظيم نوح (عليه السلام) دعا قومه (950) سنة ، ولم يؤمن به إلاّ فئة قليلة ، وكان قومه يؤذونه دائماً ، ويسخرون منه .
وألقوا إبراهيم (عليه السلام) في النّار ، وهددوا موسى (عليه السلام) بالقتل ، وكان قلبه قد امتلأ قيحاً من عصيانهم ، وكانوا يريدون قتل المسيح (عليه السلام) بعد أن آذوه كثيراً ، فأنجاه الله منهم .
وخلاصة القول : إنّ الأمر كان وما يزال كذلك ما كانت الدنيا ، ولا يمكن التغلب على هذه المشاكل إلاّ بقوّة الصبر والإستقامة والثبات .
من هم أولو العزم من الرسل ؟
هناك بحث واختلاف كبير جدّاً بين المفسّرين في : مَن هم أولو العزم؟ وقبل أن نحقق في هذا ، ينبغي أن نحقق في معنى (العزم) ، لأنّ (أولو العزم) بمعنى ذوي العزم .
«العزم» بمعنى الإرادة الصلبة القوية ، ويقول الراغب في مفرداته : إنّ العزم هوعقد القلب على إمضاء الأمر .
وقد استعملت كلمة العزم في مورد الصبر في آيات القرآن المجيد أحياناً ، كقوله تعالى : {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى : 43] .
وجاءت أحياناً بمعنى الوفاء بالعهد ، كقوله تعالى : {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا } [طه : 115] .
لكن بملاحظة أنّ أصحاب الشرائع والأديان الجديدة من الأنبياء قد ابتلوا بمشاكل أكثر ، وواجهوا مصاعب أشد ، وكانوا بحاجة إلى عزم وإرادة أقوى وأشد لمواجهتها ، فقد أطلق على هذه الفئة من الأنبياء (أولو العزم) والآية مورد البحث إشارة إلى هذا المعنى ظاهراً . وهي تشير ضمناً إلى أن نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)من هذه الفئة ، لأنّها تقول : (فاصبر كما صبر أولو العزم) .
وإذا كان البعض قد فسّر العزم والعزيمة بمعنى الحكم والشريعة فمن هذه الجهة ، وإلاّ فإنّ كلمة العزم لم تأتِ في اللغة بمعنى الشريعة .
وعلى أية حال ، فطبقاً لهذا المعنى تكون (من) في (من الرسل) تبعيضية ، وإشارة الى فئة خاصّة من الأنبياء كانوا أصحاب شريعة ، وهم الذين أشارت إليهم الآية 7 من سورة الأحزاب : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب : 7] .
فقد أشارت الآية إلى هؤلاء الأنبياء الخمسة بعد ذكر جميع الأنبياء بصيغة الجمع ، وهذا دليل على خصوصيتهم .
وتتحدث الآية (13) من سورة الشورى عنهم أيضاً ، فتقول : {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } [الشورى : 13] .
وقد رويت في هذا الباب روايات كثيرة في مصادر الشيعة والسنّة ، تدل على أنّ الأنبياء أولي العزم كانوا خمسة ، كما ورد في حديث عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام : «ومنهم خمسة : أولهم نوح ، ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ، ثمّ عيسى ، ثمّ محمّد» (3) .
وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) : «منهم خمسة أولو العزم من المرسلين : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد» . وعندما يسأل الراوي : لم سموا (أولو العزم)؟ يقول الإمام (عليه السلام) مجيباً : «لأنّهم بعثوا إلى شرقها وغربها ، وجنّها وإنسها» (4) .
وكذلك ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «سادة النبيّين والمرسلين خمسة ، وهم أولو العزم من الرسل ، وعليهم دارت الرحى : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمّد» (5) .
وروي هذا المعنى في تفسير الدر المنثور عن ابن عباس أيضاً ، بأنّ الأنبياء أولي العزم هم هؤلاء الخمسة (6) .
إلاّ أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ (أولو العزم) إشارة إلى الأنبياء الذين أُمروا بمحاربة الأعداء وجهادهم .
واعتبر البعض عددهم (313) نفراً (7) ، ويرى البعض أنّ جميع الأنبياء (أولو عزم) أي أصحاب إرادة (8) صلبة وطبقاً لهذا القول ، فإنّ (من) في (من الرسل) بيانية لا تبعيضية .
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أصح منها جميعاً ، وتؤيده الروايات الإسلامية .
ثمّ يضيف القرآن بعد ذلك : (ولا تستعجل لهم) أي للكفار لأنّ القيامة ستحل سريعاً ، وسيرون بأعينهم ما أطلقوه عليها وادعوه فيها ، ويجزون أشدّ العذاب ، وعندها سيطلعون على أخطائهم ، ويعرفون ما كانوا عليه من الضلالة والغي .
إنّ عمر الدنيا قصير جدّاً بالنسبة إلى عمر الآخرة ، حتى : {كأنّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار} .
إنّ هذا الإحساس بقصر عمر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة ، إمّا بسبب أنّ هذه الحياة ليست إلاّ ساعة أمام تلك الحياة الخالدة حقيقة وواقعاً ، أو لأنّ الدنيا تنقضي عليهم سريعاً حتى كأنّها لم تكن إلاّ ساعة ، أومن جهة أنّهم لا يرون حاصل كلّ عمرهم الذي لم يستغلوه ويستفيدوا منه الإستفادة الصحيحة إلاّ ساعة لا أكثر .
هنا سيغطي سيل الأحزان والحسرة قلوب هؤلاء ، ولات حين ندم ، إذ لا سبيل الى الرجوع .
لهذا نرى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد سئل : كم ما بين الدنيا والآخرة ؟ فقال : «غمضة عين ، ثمّ يقول : قال الله تعالى : {كأنّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار}» (9) . وهذا يوحي بأنّ التعبير بالساعة لا تعني مقدار الساعة المتعارفة ، بل هو إشارة إلى الزمان القليل القصير .
ثمّ تضيف الآية كتحذير لكلّ البشر «بلاغ» (10) لكلّ أُولئك الذين خرجوا عن خط العبودية لله تعالى . . لأولئك الغارقين في بحر الحياة الدنيا السريعة الزوال والفناء ، والعابدين شهواتها . . وأخيراً هو بلاغ لكلّ سكان هذا العالم الفاني .
وتقول في آخر جملة تتضمن استفهاماً عميق المعنى ، وينطوي على التهديد : {فهل يهلك إلاّ القوم الفاسقون}؟
_______________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12 ، ص582-586 .
2 ـ طالع التفصيل حول هذا الموضوع ، وأدلّة المعاد المختلفة في ذيل آخر آيات سورة يس .
3 ـ مجمع البيان ، المجلد 9 ، صفحة 94 ، ذيل الآيات مورد البحث .
4 ـ بحار الأنوار ، المجلد 11 ، صفحة 58 ، حديث 61 ، ويتحدث الحديث 55 ، صفحة 56 ، من المجلد المذكور بصراحة في هذا الباب .
5 ـ الكافي ، المجلد 1 ، باب طبقات الأنبياء والرسل ، حديث 3 .
6 ـ الدر المنثور ، المجلد 6 ، صفحة 45 . وتفسير كشاف ، ذيل الاية مورد البحث .
7 ـ المصدر السابق .
8 ـ المصدر السابق .
9 ـ روضة الواعظين ، طبقاً لنقل نور الثقلين ، المجلد 5 ، صفحة 25 .
10 ـ «بلاغ» خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : هذا القرآن بلاغ ، أو : هذا الوعظ والإنذار بلاغ .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|