أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-1-2018
2346
التاريخ: 17-4-2019
3008
التاريخ: 21-5-2020
5216
التاريخ: 1-6-2020
5736
|
ابن كثير والتاريخ
... «يُعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي»
الإمام علي (عليه السلام)
ابن كثير... المحدث المؤرخ
لعل كتاب البداية والنهاية يعتبر من أهم المراجع التاريخية المعتمدة في الفكر الإسلامي، وذلك لما اكتسب صاحبه من شهرة ومكانة كعالم من علماء المسلمين، بحيث سعى في كتابة تدوين التاريخ الإسلامي بطريقة يحفظ من خلالها كرامة هذا التاريخ وعزته ; وخصوصاً المرحلة المباركة! والتي تشكّل الشعلة الأولى للأمّة الإسلامية.
وقد لبس هذا المؤرخ رداء المسلم المشبّع بالمؤثرات السلفية ; فصبغ تلك المرحلة ورجالاتها بقداسة خارقة يتوقف فيها العقل عن ممارسة فعله الحقيقي في الدراسة، وذلك للتراكمات المعرفية المؤطّرة للعقل الفاعل، وجْعلهِ محدود الفعالية.
فبنظر ابن كثير أن تلك المرحلة هي خير القرون، ورجالاتها خير الرجالات، لأن في الحديث النبوي الشريف قد ورد أن خير القرون قرني هذا والذي يليه ثم الذي يليه، ومن هنا ندخل في النقطة الحساسة، وهي هذه القداسة المفتعلة والتي حاول البعض أن يصبغ التاريخ بها. وابن كثير في تاريخه أحد ضحايا هذه الأحاديث حيث لم يكن ذلك المؤرخ الذي يعمل على توثيق الأحداث التاريخية بضرب بعضها ببعض، بل تعامل مع الحدث التاريخي من خلال وضعيته العلمية والتي يطغى فيها المحدث على المؤرخ، إذ اهتم في تأريخه على الرواية تماشياً مع صبغته كإمام محدث يكره الاجتهاد وابداء الراي ; ولم يجرأ على الدخول في معاني الرواية واستعمال اسلوب نقدي لفرزها. كما أنه لم يتعامل مع الأحداث التاريخية كمؤرخ محترف على حد تعبير عبد الله العروي في تعريفه للمؤرخ المحترف، إذ أنه هذا الأخير لا ينفك يقيس أي حكم يعرِّف; أي يستعمل «مفاهيم جامعة»، و «يؤلف مباحثات» أي يفترض «قيمة محورية»، «او وحدة انتسابيه» قلنا إنه ينقد رواية موروثة ليخطط اثناء عملية النقد والتفكيك لرواية بديلة حتى ولو لم يفصح أبداً عنها (1).
إن عملية نقد الروايات والأخبار الواردة لم تكن واردة في ذهن ابن كثير بقدر ما كان همه الكبير هو جمع عدد كبير من الروايات والأحداث ومحاولة إخراجها بشكل يساير طابعه الايديلوجي الطاغي عليه، حيث أن النظر عنده في الرواية، او الحدث التاريخي لا يخرج عن إطارين ; الأول: تمجيد مرحلة الصحابة والتابعين، والانتصار لهذا التاريخ الملغوم ; ثانياً قبول كل ما روي في رفع شأن هذه المرحلة حتى ولو المشهود عليه بالكذب، من قبيل روايات سيف بن عمر التميمي حيث لم يكتف ابن كثير بأخذ الرواية عنه بل ترحم عليه أيضاً (2).
وهنا كذلك تدخل اعتبارات كثيرة، فنجد أنه يرفض روايات الوضاعين التي قد تمس ببعض شخصيات هذا التاريخ، وقد يكون سبب رفضه لهذه الروايات هو التوجه المذهبي للراوي; فمثلا يرفض رواية الوضاعين ـعلى حد تعبيرهـ من قبيل حماد بن عمرو أبي اسماعيل الناصبي وسلام بن مسلم لا لشيء إلاّ لأن مروياتهم تخص بالتقديس علي ابن ابي طالب (عليه السلام) (3).
ومن هذا المنطلق فإن ابن كثير تعامل بشكل انتقائي مع الأحداث، بحيث لم يراعي الموضوعية وتواتر الحدث، بقدر ما راعى طبيعة رواة الحدث مما يجعل تاريخه هذا انتقائياً يراد منه الانتصار لجهة معينة دون اُخرى، إذ أن الكتابة التاريخية عنده لم تكن من أجل تدوين تاريخ كما يريده البشر مطابقاً للواقع بل كانت كتابته بالطريقة التي أرادها هو لهذا البشر.
وقد عبر ابن كثير بنفسه عن هذا المنهج الانتقائي بقوله:
«وكان فراغي من الانتقاء من تأريخه في يوم الأربعاء العشرين من جمادي الآخرة سنة 751» (4) وهذا اعتراف ضمني منه بعملية الانتقاء التي قام بها.
ويقول في آخر هذا الفصل:
وقد ذكر الواقدي وغيره في الوفاة أخباراً كثيرة فيها نكارات وغرابة شديدة أضربنا عن أكثرها صفحاً لضعف أسانيدها ونكارة متونها ولا سيما ما يورده كثير من القصاص المتأخرين وغيرهم فكثير منه موضوع لا محالة وفي الأحاديث الصحيحة والحسنة المروية في الكتب المشهورة غنية عن الأكاذيب وما لا يعرف سنده والله أعلم (5).
وأثناء دراسة البداية والنهاية ستصل حتماً إلى أنّ هذه الانتقائية تغلب عليها السذاجة والعاطفة المذهبية، وكل رواية وتظهر تلك الفترة بشيء من المزايا وعلى علّة مضمونها يصدقها ويسلم بصحتها بحيث يرى أن السعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم (6)، فيغيب بذلك عنده النظر الذي يجعل في المادة التاريخية تناسقاً بحيث لا يغلب عليها الارتجال.
وكذلك لا أظن أن التكرار المتزايد للأحداث هو من قبيل العبث، كما أنه لا يغيب عن أحد أقطاب العلم وهو يؤلف، ولكن هي حركة يراد منها تثبيت فكرة معينة.
كما أن هذا التكرار ليس عاما لكل الأحداث بقدر ما هو خاص بأحداث معينة وقعت بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك خلال الفتنة الكبرى.
وأما الأحداث التي أحدثت تغييراً كبيراً في حركة التاريخ الإسلامي، وبالضبط المواقف المرتبطة بالأشخاص فإنه يقوم بتضعيفها أو تقييدها بوجهة نظر سلفية انطلاقاً من النظرة المقدسة التي يحملها عن ذلك التاريخ الملغوم، فنجده مثلا يقول:
«ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور، والتواطئ على معاندة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومضادتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام وكفر بإجماع الأئمة الاعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام»(7).
هذا القول يرتبط بحديث الغدير وبيعة الامام علي (عليه السلام)، فابن كثير لم يكلف نفسه أن يتتبع الحدث التاريخي مصداقيته التاريخية، علماً أنه مؤمن بصحة الحديث، لكنه لا يريد إيصاله إلى الهدف الذي رسمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن هذا في نظره يمس مكانة أولئك الاشخاص المحيطين به (صلى الله عليه وآله وسلم).
وكما قلنا سابقاً أن هؤلاء الأشخاص ما هم إلاّ بشر خاضعين لموضوع الرسالة ولثنائية الجنة والنار، وكان المنافقون ومن تلهيهم أموالهم عن الجهاد في سبيل الله لهم نشاطهم السلبي في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف وهو غائب عنهم.
وهذه المثالية السلفية والمتطرفة لم تقف عند هذا الحد بل جعل من نفسه المدافع عن الإسلام من أهل البدع والضلالات والذين هم بالضبط الطائفة المعارضة للأنظمة السياسية القائمة آنذاك.
وبحيث لا يغفل عن بالنا وعلى غير ما ذهب إليه جموع من الناس في أن ابن كثير وإن لم يضطلع بدور سياسي، لكن كانت له مشاركة في صنع القرارات، إذ يذكر في تاريخه أنه اجتمع مع نائب السلطان في بلاد الشام (8)، وذكر له أشياء كثيرة مما ينبغي اعتماده في حق أهل قبرص من الإرهاب ووعيد العقاب، ويذكر مرة أنه اجتمع بالخليفة ووصفه بأنه متواضع جيد الفهم حلو العبارة رحم الله سلفه (9).
ولا يخفى على أي مطلع أن الطائفة التي عرفت بالمعارضة طوال التاريخ هم الشيعة. فكما كان نصيب الشيعة من السلطان السيف كان نصيبهم سلاطة القلم من ابن كثير. بحيث أنه كان في أي موضع من المواضع يرى فيها قوة أدلة الشيعة يخرج كماً من اللعنات والتلفيقات فيلقيها على الشيعة والتشيع.
علما أن الدقة والتمحيص لازمتين لإخراج الحقيقة من بين ركام من الأحداث حتى تكون المفاهيم والحقائق المطروحة معقولة، وعلى حد قول «رانكه»:
يبدأ العلم بنقد التقليد الموروث (10) وإدخاله في تحقيق معرفي مع ذاته حتى تنفرز الأحداث الصحيحة والخاطئة والمكذوبة معتمدين على دلائل الامور، إذ هي أشد تثبيتاً من شهادات الرجال، وهذا يرتبط بأعلمية المؤرخ الفاعل على الحوادث التاريخية والذي يجب أن يرتكز عمله على المقايسة، المماثلة والمفارقة، الفصل والربط المقاربة والمباعدة(11).
كل هذه المناهج تؤدي حتماً إلى استخلاص النتيجة الصحيحة، لكن إلى أي حد كان ابن كثير موضوعياً في تعاطيه مع الأحداث والوقائع؟ هذا ما يبينه لنا اسلوبه في عرض الحقائق.
يذكر ابن كثير رزية الخميس، وهي من الأحداث التاريخية الشائكة في الإسلام لأن فيها أولاً أتهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالهجر، وثانياً منع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من كتابة وصية مهمه تعصم الأمة عن الوقوع في الضلال من بعده. فيعلق على هذا الحديث بقوله: وهذا الحديث مما قد توهم به بعض الأغبياء من الشيعة وغيرهم كل مدع أنه كان يريد أن في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم وهذا هو التمسك بالمتشابه وترك المحكم وأهل المحكم يأخذون بالمحكم ويردون ما تشابه إليه، وهذه طريقة الراسخين في العلم كما وصفهم الله عز وجل في كتابه وهذا الموضع مما زل فيه أقدام كثير من أهل الضلالات وأما أهل السنة فليس لهم مذهب إلا اتباع الحق يدورون معه كيفما دار(12).
هكذا يمحص ابن كثير الرواية والحدث التاريخي بطريقة لا علاقة لها بالمؤرخ وليته وقف عند ذكر الحدث فحسب بل أنه حاول نفي الرغبة الخفية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لتثبيت فكرته.
ويسترسل ابن كثير في ذكر أحاديث يدعو فيها الرسول أبا بكر وابنه عبد الرحمن ويكذب وصيّة تنص على أبي بكر، وهذا مسلك الراسخين على حد قوله.
إن عملية النقد التاريخي لا تكون بهذه السذاجة لأن الأحداث هي بمثابة جزئيات مختزلة من التيار الزماني، قابلة أن تكون أسباباً في حاجة إلى نتائج او نتائج في حاجة لأسباب، وصاحب الأمر في هذه القضية هو المؤرخ الذي يسمي الأشياء، فيقول هذه سابقة وهذه لاحقة بالنظر إلى قضية مطروحة مجموعة من الشواهد يقابل مجموع من الأحداث المذكورة المحفوظة(13). إذن هل سطر ابن كثير النتائج؟ وهل حدد أسباب النتائج؟
الجواب: كلا، لأنّ عملية التأريخ عنده لم تكن إلاّ حالة من محاولات الانتصار المذهبية العقيمة التي لا تفيد العلم في شيء بقدر ماهي محاولات لتكريس التخلف.
وهذا لم يكن بمحض الصدفة ولكن هو نتاج المنهج العلمي والمذهبي الذي تبناه ابن كثير، فما هو الاّ أحد المخلصين لأستاذه ابن تيمية، فقد درس على أيدي مئات الشيوخ، إلاّ أن الذين أثروا فيه وتتبع خطاهم قلة وكان على رأسهم الشيخ تقي الدين ابن تيمية، إذ كانت له به خصوصه ومناضلة عنه واتباع له في آرائه(14). ولعلاقته الوطيدة بابن تيمية فقد كان هذا الأخير هو دافنه في مثواه الأخير ـ ودفنه في مأواه الأخير بتربة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية بمقر الصوفية خارج باب النصر من دمشق حسب وصيته(15).
من هنا تظهر العلاقة الوطيدة بين زعيم التيار السلفي ألا وهو ابن تيمية وتلميذه النجيب ابن كثير الذي كرس كل جهده لتكريس النظرة السلفية ـ التيمية ـ للتاريخ، والذي جعل هذه المدونة التاريخية عبارةً عن سجل دفاع، ورد خصومات، وتهجم على الفرق الأخرى وخاصة الشيعة. ونظراً للترابط الوثيق بين ابن كثير وابن تيمية افردنا لهذا الأخير بحثاً خاصاً وموجزاً يعرض رؤيته التاريخية.
____________
(1) عبد الله العروي مفهوم التاريخ: 2 / 343.
(2) ابن كثير ـ البداية والنهاية: 5 / 319.
(3) ابن كثير ـ البداية والنهاية: 5 / 222، 223.
(4) المصدر السابق: 14 / 194.
(5) البداية والنهاية: 5 / 214.
(6) المصدر السابق: 1 / 4.
(7) المصدر السابق: 5 / 221.
(8) احمد ابو ملحم عن مقدمة البداية والنهاية.
(9) ابن كثير ـ البداية والنهاية: 14 / 257.
(10) عبد الله العروي مفهوم التاريخ: 1 / 86.
(11) المصدر السابق ص86.
(12) ابن كثير: 5 / 200.
(13) انظر: عبد الله العروي، مفهوم التاريخ: 1 / 82.
(14) احمد أبو ملحم: ترجمة ابن كثير البداية والنهاية 1.
(15) المصدر السابق.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|