لما كان الاله مقدسا، فقدسيته ترى عادة على الامكنة والاشياء التي حوله. وتعتبر تلك الأماكن حرما. والغالب ان يكون الحرم عاما لكل القبائل؛ واحيانا، يكون مقصورا على القبيلة او الأسرة التي ترعى الحرم.

وللحرم عادة حدود طبيعية واضحة تحددها، كالوديان والتلول أو الجبال. وهي في الغالب تشمل البلاد التي يسكنها عابدو الالهة، او ما يسري عليه تأثير الإله كمدى امتداد المناطق الزراعية (1). ويروي محمد بن حبيب : (ان الشرى ما كان حول الحرم وهي اشراء الحرم)(2).

وللحرم مصالح عامة، ففيها مجلس عام وخزينة عامة ومحل اجتماع عام. والواقع ان بعض الفقهاء في الإسلام حرموا كراء بيوت مكة. فكأنهم كانوا يعدون كل مكة ملكية عامة. ولكن نظريتهم لم تطبق؛ فقد ظلت فيها ملكية خاصة. والواقع انه منذ العصر الجاهلي كانت فيها ملكيات خاصة، بل حتى دار الندوة كانت ملكية خاصة (3).

وفي الحرم، يعطى الاشخاص، او الأشياء الموجودة فيه، نوعا من الحماية القانونية، وهي حماية محدودة في المكان؛ ولكنها دائمة. وهي، في الغالب، مطلقة وغير مقيدة. وتكون هذه الحماية مصطبغة بصبغة دينية، اذ ان الفرد يكون تحت حماية الإله. فمن دخل الحرم كان آمنا(4)، ومن أحدث حدثا في بلد غيره، ثم لجأ إليه، فهو آمن اذا دخله.

وتسري هذه الحماية على النبات والشجر، فلا يجوز قطع شجرة؛ وكذلك على الحيوان، فلا يجوز الصيد فيه.

وتمتد هذه الحماية الى حرية الكلام. ولعل اوضح مثل على ذلك حالة الدعوة الإسلامية، اذ سفه الرسول (صلى الله عليه وآله) آلهتهم وعابها. ولكن لم تجر محاكمة رسمية له ولم يصدر قرار بمنعه او بمعاقبته. غير ان هذه الحماية تقتصر على الامتناع عن القتل والاعتداء البدني. فكان من سنتهم ان الرجل يحدث الحدث بقتل الرجل او يلطمه او يضربه، فيربط لحا من لحا الحرم قلادة في رقبته، ويقول انا صرورة، فيقال دعوا الصرورة نجهله، وان رمى بحضرة في رجله، فلا يعرض له احد. فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لا صرورة في الإسلام، وان من احدث حدثا اخذ بحدثه (5).

ذكرت ان الحرم نشأ حول المياه عادة. ويبدو انه كان حول كل بئر، حيثما كان، حرم صغير. وقد اقر الإسلام حريم البئر بخمسين ذراعا(6). ولا ريب في ان هذه سنة قديمة أقرها الإسلام، وكان الدافع لحدوثها على الارجح منع حدوث اشتباكات ومنازعات حول الابار.

وبما ان اغلب المناطق المقدسة تكون حول الابار، فقد نشأت حولها حياة مستقرة مدنية، لها نظم تختلف عن نظم أهل الوبر.

لقد ورد في الأخبار ذكر لعدد من الحرم كحرم الفلس (7) وجلسد في حضرموت (8) والعزى في وج (9). ولكن اشهر حرم هو حرم مكة الذي تتوفر لدينا عنه تفصيلات أوفى، والذي استمد منه ما ذكرناه من معلومات عن الحرم.

جعل الرسول (صلى الله عليه وآله) للمدينة حرما (حرام جوفها). كما اقر حرم مكة، وحرم وج. ولكن آثارها زالت، ما عدا حرم مكة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع، عن الحرم، سميث : ص115 فما بعد. اما عن حرم مكة، نراجع الازرقي : ج2 ص96 فما بعد.

(2) البكري : ص786.

(3) انظر ص108.

(4) انظر تفسير الطبري : ج4 ص10

(5) الازرقي : ج1 ص125؛ انظر أيضاً لسان العرب : ج6 ص123.

(6) أبو يوسف : كتاب الخراج ص100-102، وهو يذكر حديثا عن الرسول (ص) بان حريم البئر اربعون ذراعا، وحريم الناضح ستون ذراعا، وحريم العين خمسمائة ذراع. انظر أيضاً ابن حنبل : المسند ج2 ص464.

(7) ياقوت : معجم البلدان ج3 ص912.

(8) ياقوت : معجم البلدان ج2 ص100.

(9) الأصنام : ص19.