أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-6-2019
2245
التاريخ: 7-5-2021
2053
التاريخ: 28-5-2021
1969
التاريخ: 9-5-2021
3067
|
اسمه ونسبه:
فهو (صلى الله عليه وآله): أبو القاسم محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصَيّ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لُؤيّ غالب بن فهر بن مالك بن النَّضر بن كِنانة بن خزَيمة بن مُدركة بن الياس بن مُضَر بن نِزار بن معدّ بن عدنان، وعدنان من وُلد إسماعيل بن إبراهيم (عليه السلام) وإسماعيل هو الذبيح.
ولد (صلى الله عليه وآله) بمكة عام الفيل، وكانت وقعة الفيل تقدمة قدمها اللّه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله)، وإلا فأهل الفيل نصارى أهل كتاب، دينهم خير من دين أهل مكة، لأنهم عبّاد أوثان، غير انّ أولئك كان يرأسهم ظالم غاشم وهو (أبرهة) فجرّ عليهم الوبال، وهؤلاء كان يرأسهم مؤمن عادل وهو جد النبي (صلى الله عليه وآله) فعمّهم عدله، ونصرهم اللّه نصراً لا صنع للبشر فيه، فأباد جيش الفيل الرهيب وحفظ ببركة نبيّه قريشاً من القتل، وبيته من الهدم، وحرمه من الهتك.
ولد (صلى الله عليه وآله) يوم الجمعة سابع عشر ربيع الأوّل، وبُعِث بالنبوة في السابع والعشرين من شهر رجب، وأنزل عليه القرآن كاملاً في ليلة القدر، ثمّ نزل عليه تدريجاً في مدة ثلاث وعشرين سنة، وتوفي (صلى الله عليه وآله) مسموماً شهيداً في الثامن والعشرين من شهر صفر عام أحد عشر هجرية.
الشجرة الطيّبة:
أما جد النبي (صلى الله عليه وآله) هاشم بن عبد مناف: فكان كبقية أجداده مؤمناً باللّه تعالى وسيد قريش، وإليه يُشار بالبنان في الفضل والكرم، وكان موسراً، وهو أول من سنّ الرحلتين لأهل مكة: (رحلة الشتاء والصيف)(1) ، وأول من أطعم قومه الثريد بمكة، حتى قال الشاعر فيه:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه *** قومٍ بمكة مسنتين عجافِ.
وأما جدّه عبد المطلب: فهو الذي نذر للّه تعالى لئن آتاه اللّه عشرة من الولد يمنعونه، لينحرن أحدهم عند الكعبة، فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم يمنعونه، جمعهم فأخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء، فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟
قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحاً ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني، ففعلوا.
فقال لصاحب القداح: اضرب على بنيَّ هؤلاء بقداحهم هذه، وأخبره بنذره، فأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه، وكان عبد اللّه بن عبد المطلب أحبّ ولده إليه، فكان يرى أن السهم إذا أخطأ فقد أشوى، فلما أخذ صاحب القداح القداحَ ليضرب بها قام عبد المطلب يدعو اللّه تعالى، ثم ضرب صاحب القداح فخرج على عبد اللّه، فأخذ بيده وأخذ الشفرة، فقامت إليه قريش من أنديتها فمنعوه من ذلك.
وقال له المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم ـ وكان عبد اللّه ابنا اُخت القوم ـ : واللّه لا تذبحه حتى تعذر فيه أبداً، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه.
ثم عرضوا عليه أن يضربه في ابله السوائم عشرة عشرة، فوافق عبد المطلب عليه وقام يدعو اللّه تعالى، ثم قربوا عبد اللّه وقربوا عشراً من الإبل، وعبد المطلب يدعو اللّه، فضربوا فخرج القدح على عبد اللّه، فلم يزالوا يزيدون عشراً والقدح يخرج على عبد اللّه، إلى أن بلغوا مائة من الإبل، وقام عبد المطلب يدعو اللّه فخرج القدح على الإبل، ثم أعادوا الثانية فخرج على الإبل، ثم أعادوا الثالثة فخرج على الإبل، فنحرت وتُركت لا يُصدُّ عنها إنسان ولا يمنع، فجرت الدية في العرب مائة من الإبل، وأقرّها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في الإسلام.
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (أنا ابن الذبيحين)(2) يعني: جدّه إسماعيل (عليه السلام)، وأباه عبد اللّه (عليه السلام).
وقد كان عبد المطلب فعل ذلك لإبطال عادة كانت في الجاهلية، وهي قتل الأولاد بسبب النذر أو غيره، كما كان إبراهيم (عليه السلام) فعل ذلك من قبل لهذه الغاية أيضاً.
أما عبد اللّه أبو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فهو: ابن عبد المطلب صاحب النذر المذكور، وكان عبد اللّه أحسن أولاد عبد المطلب وأعفّهم، وكان أبوه يحبه كثيراً.
توفي عبد اللّه والنبي (صلى الله عليه وآله) حمل في بطن اُمه.
وكان جميع ما خلفه عبد اللّه ـ على قول ـ خمسة أجمال، وجارية حبشية اسمها: بركة، وكنيتها: اُم أيمن، وهي حاضنته، وكان عبد اللّه (عليه السلام) مؤمناً موحِّداً.
واُمه (صلى الله عليه وآله): آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب، وكانت مؤمنة باللّه تعالى.
ولد مختوناً مسروراً، فأعجب به عبد المطلب جدّه، وحظى عنده، وقال: ليكونن لهذا شأن.
ارهاصات المولد الشريف:
ولما كانت الليلة التي ولد فيها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ارتجّ إيوان كسرى وانشقّ من وسطه، وسقط منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك مدة ألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادي سماوة.
ولعل في سقوط الأربع عشرة شرفة إشارة إلى أنه يملك منهم ملوك وملكات بعدد الشرفات، ثم ينتهي حكمهم وتنهار الإمبراطورية الفارسية، وكان كذلك حيث تمّ بعدها على أيدي المسلمين فتح إيران، وبذلك سقطت الإمبراطورية الفارسية.
كما ان في إخماد نار فارس إشارة إلى انتهاء دين فارس، وهكذا حال بحيرة ساوة وهي بحيرة في فارس.
وأما فيضان وادي سماوة: فسماوة من بلاد العرب ، وفيه إشارة إلى فيضان دين الإسلام إلى كل العالم.
ولما ولد (صلى الله عليه وآله) قالت اُمه: واللّه لما وضعت حملي على الأرض اتكأ بيديه على الأرض ورفع رأسه إلى السماء وأدار ببصره إلى الآفاق، وهو يتفوّه بالتوحيد، ثم سطع منه نور أضاء كل شيء حتى رأيت منها قصور الشام، وإذا بهاتف يهتف بي قائلاً: ولدتِ خير الناس فسمّيه محمداً.
ثم أرسلت اُمه إلى جدّه عبد المطلب وكان يطوف بالبيت تلك الليلة فجاء إليها فقالت له: ولد لك مولود له أمر عجيب، ثم أخرجته له، فنظر إليه وأخذه ودخل به الكعبة ودعا اللّه تعالى ثم خرج فدفعه إليها وسمّاه محمداً.
أيام الرضاع:
وأرضعته (صلى الله عليه وآله) ثويبة عتيقة أبي لهب، أعتقها حين بشّرته بولادته (صلى الله عليه وآله).
وقيل: انه رؤى أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار، إلا أنه يخفّف عني كل اُسبوع يوماً واحداً وأمص من بين إصبعيَّ هاتين ماء ـ وأشار برأس إصبعه ـ وان ذلك اليوم هو يوم اعتاقي ثويبة عندما بشّرتني بولادة النبي (صلى الله عليه وآله) وبإرضاعها له.
وأرضعت ثويبة أيضاً مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ـ بلبن ابنها مسروح ـ حمزة عمّ رسول اللّه، وأبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ثم أرضعته (صلى الله عليه وآله) حليمة السعدية، والظاهر انهنّ كنّ مؤمنات بدين إبراهيم (عليه السلام) فلم يكنّ مشركات.
فقدان الاُم:
لم يستكمل النبي (صلى الله عليه وآله) سبع سنين إلا وفقد اُمه، وذلك حين انصرافها من زيارة أخواله بني النجار، وكانت خرجت به معها، ومعه حاضنته اُم أيمن، فقدمت به اُم أيمن إلى مكة بعد موتها، فكفله جده عبد المطلب، ورقَّ عليه لمعرفته بأمره وإيمانه به رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يفارقه، وما كان يجلس على فراشه إجلالاً له إلاّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).
وقدم مكة قوم من بني مدلج من القافة، فلما نظروا إليه قالوا لجده: احتفظ به، فلم نجد قَدَماً أشبه بالقدم الذي في المقام من قدمه، فقال عبد المطلب لأبي طالب وهو يوصيه به: اسمع ما يقول هؤلاء واحتفظ به.
فقد الجد:
وتوفى جده عبد المطلب (عليه السلام) في السنة الثامنة من مولده (صلى الله عليه وآله)، وأوصى به إلى أبي طالب (عليه السلام).
وكان عبد المطلب من سادات قريش، مؤمناً باللّه تعالى ـ وكذا كان أبو طالب ـ محافظاً على العهود، يتخلّق بمكارم الأخلاق، يحب المساكين، ويقوم بالحجيج، ويطعم حتى الوحوش والطير في رؤوس الجبال، ويطعم في أزمان القحط، ويقمع الظالمين.
في كفالة أبي طالب:
ثم قام أبو طالب بكفالة النبي (صلى الله عليه وآله) من سنة ثمان من مولده إلى السنة العاشرة من النبوة ثلاثاً وأربعين سنة يحوطه ويقوم بأمره ويذبُّ عنه ويلطف به.
ونقل عن جُلهمة بن عرفطة قال: قدمتُ مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس ضحى تجلّت عنه سحابة قتماء حوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بإصبعه الغلام وما في السماء قُزَعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا وأغدق واغدودق، وانفجر الوادي وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه *** ثِمال اليتامى عصمة للأرامل
و(الثمال) بكسر المثلثة: الملجأ والغياث.
في طريق الشام:
ولما بلغ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) اثنتي عشرة سنة خرج مع عمه أبي طالب (عليه السلام) حتى بلغ (بُصرى) فرآه بحيرا الراهب ـ واسمه جرجيس ـ فعرفه بصفته، فقال وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه اللّه رحمة للعالمين.
فقال: وما علمك بذلك؟
فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة أقبل وعليه غمامة تظلّه، ولم يبق حجر ولا شجر إلاّ وخرّ ساجداً، ولا تسجد إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب أن يردَّه خوفاً عليه من اليهود.
ثم خرج (صلى الله عليه وآله) مرة أخرى، ومعه ميسرة غلام خديجة في تجارة لها، حتى بلغ سوق بُصرى وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، فنزل تحت ظل شجرة، فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبيّ، وكان ميسرة يرى في الهاجرة ملكين يظلاّنه من الشمس، فلما رجعوا إلى مكة ساعة الظهيرة وخديجة في علية لها، رأت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وهو على بعيره وملكان يظلانه.
الزواج المبارك:
تزوّج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وعمره خمس وعشرون عاماً بالسيّدة خديجة ، وكان لها ـ على ما قيل ـ حين تزوّجها من العمر أربعون سنة، فولدت لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بنين وبنات، وكل أولاده (صلى الله عليه وآله) من خديجة، ماعدا إبراهيم، فإنه من (مارية القبطية)، فالذكور من ولده: القاسم ـ وبه كان يُكنّى ـ وهو أكبر ولده (صلى الله عليه وآله).
والقاسم هذا كان يُدعى بالطاهر، وولد له عبد اللّه وكان يدعى بالطيّب.
وأما إبراهيم فولد له بالمدينة وعاش عامين غير شهرين ومات قبل موته (صلى الله عليه وآله).
وأما بناته منها، فأربع:
زينب: تزوّجها أبو العاص بن الربيع، وكانت خديجة خالته، وولدت له علياً واُمامة، أما علي فمات مراهقاً، وأما اُمامة فتزوّجها علي (عليه السلام) بعد فاطمة (عليها السلام) ، وماتت زينب في حياة أبيها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وذلك لسبب إخافة هبّار لها وإسقاطها جنينها.
ورُقَية: وتزوّجها عثمان، فولدت له ابناً مات وله من العمر أربع سنين.
وأم كلثوم: وتزوّجها عثمان بعد موت رقية، وماتت عنده أيضاً كما ماتت رقية قبلها عنده.
وذهب بعض إلى أن بعضهنّ كنّ متبنيات للنبي (صلى الله عليه وآله).
وفاطمة (عليها السلام) : تزوَّجها علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فولدت له الحسن والحسين (عليهما السلام) وزينب واُم كلثوم وابناً مات شهيداً اسمه المحسن، وهي (عليها السلام) وحدها التي بقيت بعد أبيها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لكن لم يطل بقائها بعده حتى لحقت به (صلى الله عليه وآله) سريعاً، وذلك على أثر الضرب المبرح الذي كسر به ضلعها وأسقطت منه جنينها محسناً.
كانت خديجة أول امرأة آمنت برسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وأول امرأة صلّت مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وواسته بنفسها ومالها حتى أنفقت كل مالها في سبيل اللّه، ودخلت الشعب معه، وكانت هي أول امرأة تزوّجها، وأول امرأة ماتت من نسائه، ولم ينكح عليها في حياتها غيرها، وأمره جبرائيل أن يقرأ عليها السلام من ربها، كما أمره أن يعطي فدكاً إلى فاطمة (عليها السلام) بدل ما أنفقته اُمها خديجة (عليها السلام) في سبيل اللّه من أموالها.
مع حلف الفضول:
حضر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) (حلف الفضول) واشترك فيه.
ذكر المؤرخون: انه اجتمع رؤساء مكة في دار عبد اللّه بن جُدْعان، وكان أكرم حلف سمع به في العرب وأشرفه، وكان أول من تكلّم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب.
وكان سببه: أن رجلاً من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل ـ وكان ذا قدر بمكة وشرف ـ فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي، الأحلاف: عبد اللّه، ومخزوماً، وجُمَحاً، وسهماً، وعدياً، فأبوا أن يعينوه على العاص بن وائل، فعلا جبل أبي قبيس ـ وقريش في أنديتهم حول الكعبة ـ فنادى بشعر يصف فيه ظلامته رافعاً صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار ابن جُدعان، فصنع لهم طعاماً وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام قياماً، فتعاهدوا وتعاقدوا باللّه ليكوننّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدّى إليه حقه ما بلّ بحر صوفة ـ كناية عن انه دائماً وأبداً ـ فسمّت قريش ذلك الحلف (الفضول).
وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه مال الزبيدي وسلموه إياه.
وقال الزبير بن عبد المطلب في ذلك:
إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا *** ألاّ يقيـــم ببطن مكة ظالم
أمــــر عليه توافقوا وتعاقدوا *** فالجار والمعترُّ فيهم سالم
ثم ان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) حين أرسله اللّه تعالى قال وهو يشير إلى حلف الفضول: ( لقد شهدتُ في دار عبد اللّه بن جُدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو اُدعى به في الإسلام لأجبت).
تجديد بناء الكعبة:
ولما بنت قريش الكعبة ورفعت سمكها وتأتّي لها ما أرادت في بنائها من الخشب الذي قيل انه ابتاعوه من السفينة التي رمى بها البحر إلى ساحله وكان قد بعث بها ملك الروم من القُلزُم من بلاد مصر إلى الحبشة ليبني بها هناك كنيسة، وانتهوا إلى موضع الحجر تنازعوا أيهم يضعه، فاتفقوا على أن يرتضوا بأول من يطلع عليهم من باب بني شيبة، فكان أول من ظهر لأبصارهم النبي (صلى الله عليه وآله) من ذلك الباب، وكانوا يعرفونه بـ(الصادق الأمين) لوقاره، وهديه، وصدق لهجته، واجتنابه الأدناس، فحكّموه فيما تنازعوا فيه، وانقادوا لقضائه، فبسط (صلى الله عليه وآله) ما كان عليه من رداء، وأخذ (صلى الله عليه وآله) الحجر فوضعه في وسطه، ثم قال لهم: ليأخذ كل واحد منكم بجنبة من جنبات هذا الرداء.
ففعلوا ورفعوه من الأرض وأدنوه من موضعه، فأخذ (صلى الله عليه وآله) الحجر ووضعه مكانه، وقريش كلها حضور، فكان ذلك مما ظهر من فعله وقضاياه وأحكامه، فقال قليل ممن حضر من قريش تعجباً من فعلهم وانقيادهم إلى أصغرهم سناً: واعجباً لقوم أهل شرف ورياسة وشيوخ وكهول عمدوا إلى أصغرهم سناً وأقلهم مالاً فجعلوه رأساً حاكماً! أما انه ليفوتنهم سبقاً، وليقسمن بينهم حظوظاً وجدوداً، وليكونن له بعد هذا اليوم شأناً ونبأ عظيماً.
كما انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان ينقل معهم الحجارة عند تجديد بناء الكعبة.
الجاهلية وعبادة الأصنام:
كان الجاهليون يعبدون الأصنام في الجاهلية، فلما بعث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أبطلها وأتى عليها.
قال أبو رجاء: كنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجراً هو أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثية من تراب، ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه، ثم طفنا به.
وروى الدارمي عن مجاهد قال: حدثني مولاي: أن أهله بعثوا معه بقَدح فيه زبد ولبن إلى آلهتهم، قال: فمنعني مخافتها أن آكل الزبد، قال: فجاء كلب فأكل الزبد وشرب اللبن ثم بال على الصنم وهو أساف ونائلة.
وقال بعض المؤرخين: كان الرجل في الجاهلية إذا سافر حمل معه أربعة أحجار: ثلاثة لقدره، والرابع يعبده.
وروي: أن رجلاً أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول اللّه ، إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان، فكنا نقتل الأولاد، فكانت عندي بنت لي، فدعوتها يوماً فأتبعتني، فمررت حتى أتيتُ بئراً من أهلي غير بعيد، فأخذتُ بيدها فرديت بها في البئر، وكان آخر عهدي بها تقول: يا أبتاه يا أبتاه، فبكى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) حتى وكف دمع عينيه.
فقال رجل: أحزنتَ رسول اللّه؟
فقال له: كفَّ فإنه يسأل عما أهمه. ثم قال: أعد عليّ حديثك، فأعاده، فبكى (صلى الله عليه وآله) حتى وكف الدمع من عينيه على لحيته، ثم قال له: إن اللّه قد وضع عن الجاهلية ما عملوا، فاستأنف عملك.
ولما فتح رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنماً، فجعل يطعن بسبة قوسه في وجوهها وعيونها ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً)(3) جاء (الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)(4) وهي تتساقط على رؤوسها، ورفع عليّاً (عليه السلام) على كتفه فأسقط ما تبقّى من الأصنام التي كانت منصوبة فوق الكعبة.
من خرافات الجاهلية:
وكان من عادة الجاهليين جعل بعض الحيوانات محرمة عليهم مثل:
(البحيرة): وهي التي يمنع درها فلا يحلبها أحد من الناس.
و(السائبة): وهي التي يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها.
و(الوصيلة): وهي الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثنى بعد باُنثى، وكانوا يسيبونها إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر.
و(الحامي): فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا ضربه دعوه وأعفوه من الحمل فلا يحمل عليه، وسموه الحامي.
فلما بعث اللّه رسوله محمداً (صلى الله عليه وآله) أنزل تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103] (5).
وأنزل سبحانه: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام: 139] (6).
وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] (7).
قريش وسكان الحرم:
قال المؤرخون: كانت قريش قد ابتدعت للحُمْس (أي: سكّان الحرم) رأياً رأوه وأرادوه، فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم وولاة البيت وقاطنوا مكة وساكنوها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا، ولا تعرف له مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئاً من الحل مثل ما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم. فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرّون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم (عليه السلام)، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا نحن أهل الحرم، وليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرم ولا نعظم غيره.
ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم، وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك.
ثم ابتدعوا في ذلك اُموراً لم تكن لهم حتى قالوا: لا ينبغي للحمس أن يقطوا الأقط ولا يسلوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتاً من شعر ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الادم ما كانوا حرماً.
ثم رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤا به من الحل إلى الحرم إذا جاؤا حجاجاً أو عماراً، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا شيئاً طافوا بالبيت عراة، فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة ولم يجد ثياب الحمس وطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها إذا فرغ من طوافه ولم ينتفع بها ولم يمسها هو ولا أحد غيره، فكانت العرب تسمي تلك الثياب (اللقى) فحملوا على ذلك العرب فدانت به، أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع المرأة ثيابها كلها إلا درعاً مفرجاً ثم تطوف فيه، وأحياناً عارية.
فكانوا كذلك حتى بعث اللّه محمداً (صلى الله عليه وآله) فأنزل اللّه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] (8) يعني قريشاً والعرب، وأنزل تعالى فيما حرموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف: 31] (9) إلى قوله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32] (10) وذلك على ما ذكره بعض المفسّرين.
التحدث بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله):
كانت الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى، والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قبل مبعثه بما يقارب زمانه.
فأما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى: فعمّا وجدوا في كتبهم صفته وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه.
وأما الكهان من العرب: فلما كانوا يتلقّونه من الجن والشياطين حيث كانت تسترق السمع، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض اُموره، ولكن لا تلقى العرب لذلك فيه بالا، حتى بعثه اللّه تعالى ووقعت تلك الاُمور التي كانوا يذكرون فعرفوها.
فلما تقارب زمان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها، فرموا بالنجوم، فعرفت الجن أن ذلك لما حدث من أمر اللّه، وذلك لئلا يلتبس بالوحي، وليكون ذلك أظهر للحجة، وأقطع للشبهة.
روي عن رجل من بني لهب يقال له لهيب قال: حضرت مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فذكرت عنده الكهانة، فقلت: بأبي واُمي، نحن أول من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم، وذلك انا اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك ـ وكان شيخاً كبيراً ـ وكان من أعلم كهاننا فقلنا: يا خطر هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها؟ فإنا قد فزعنا لها وخشينا سوء عاقبتها.
فقال: ائتوني بسَحَر، اُخبركم الخبر، بخير أم ضرر، أو لأمن أو حذر.
قال: فانصرفنا عنه يومنا، فلما كان من غد في وجه السحر أتيناه، فإذا هو قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه، فناديناه: يا خطر، فأومأ إلينا أن أمسكوا، فانقض نجم عظيم من السماء، وصرخ الكاهن رافعاً صوته: أصابه اصابه، خامره عقابه، عاجله عذابه، أحرقه شهابه، زايله جوّابه، ياويله ما حاله، عاوده خباله، تقطعت حباله، وغيرت أحواله، ثم أمسك طويلاً وذكر أشعاراً.
فقلنا له: يا خطر ومن هو؟
فقال: والحياة والعيش، إنه لمن قريش، ما في حلمه طيش، ولا في خلقه هيش، يكون في جيش أي جيش، من آل قحطان وآل أيش.
فقلنا له: بين من أي قريش هو؟
فقال: والبيت ذي الدعائم، والركن والأجائم، إنه لمن نجل هاشم، ومن معشر أكارم، يبعث بالملاحم، وقتل كل ظالم.
ثم قال: هذا هو البيان، أخبرني به رئيس الجان، ثم قال: اللّه أكبر، جاء الحق وظهر، وانقطع عن الجن الخبر، ثم سكت واُغمي عليه فما أفاق إلا بعد ثالثة فقال: لا إله إلا اللّه.
وعن عاصم بن عمرو بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة قال: قال لي: هل تدري عمّ كان اسلام ثعلبة بن شعية، وأسيد بن شعية، وأسد بن عبيد إخوة بني قريظة، كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا سادتهم في الإسلام؟
قال: قلت: لا.
قال: إن رجلاً من اليهود من أهل الشام يقال له الهيبان، قدم علينا قبل الإسلام بسنتين فحلّ بين أظهرنا، لا واللّه ما رأينا رجلاً قط لا يصلّي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا فكنا إذا قحط المطر علينا قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا.
فيقول: لا واللّه حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة.
فنقول له: كم؟
فيقول: صاعاً من تمر ومدين من شعير.
قال: فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي اللّه لنا، فواللّه ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى، وقد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث.
قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر اليهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟
قال: فقلنا: أنت أعلم.
قال: فإني قدمتُ هذه البلدة أتوقّع خروج نبيّ قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره، فكنتُ أرجو أن يُبعَث فأتبعه، قد أظلكم زمانه فلا تُسبقن إليه يا معشر اليهود، فلا يمنعكم ذلك منه.
فلما بُعث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية، وهم: ثعلبة بن شعية، واسيد بن شعية، وأسد بن عبيد، إخوة بني قريظة، وكانوا شباباً أحداثاً: يا بني قريظة واللّه إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان.
قالوا: ليس به.
قالوا: بلى واللّه، إنه لهو بصفته، فنزلوا فأسلموا وأحرزوا دماءهم وأهليهم.
__________
(1) قريش : 2
(2) بحار الأنوار : ج 12 ص 132 ب 6 ح 17، و : ج 36 ص 47 ب 32 ح 7.
(3) الإسراء : 81.
(4) سبأ : 49.
(5) المائدة : 103.
(6) الأنعام : 139.
(7) يونس : 59.
(8) البقرة : 199
(9) الأعراف : 31.
(10) الأعراف : 32.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|