أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-06-21
1116
التاريخ: 2023-06-24
1293
التاريخ: 18-5-2021
2771
التاريخ: 9-5-2021
3016
|
ما جرى قبل ولادته (صلى الله عليه وآله وسلم) (1)
قبل أن يولد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان السحرة، والكهنة، والشياطين، والمردة من الجان، والمردة من أهل الكتاب، يظهرون العجائب، ويأتون بالغرائب، ويحدثون الناس بما يخفون من السرائر ويكتمون في الضمائر، وينطق السحرة والكهنة على ألسنتهم، بما يسترقون السمع من الملائكة، وما كانت السماء لتحجبهم حينذاك، إلى أن ولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما حملت به السيدة آمنة بنت وهب (رضوان الله عليها) لم يبق ساحر، ولا كاهن، ولا مارد من الجن، ولا مارد من مردة أهل الكتاب إلا وأخبر وعلم بواسطة شياطينهم والجان المسخرين لهم، بقرب ولادة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم). منهم الكاهنان اللذان فاقا أهل زمانهما في الكهانة والسحر، وهما: ربيعة بن مازن الغساني، المعروف ب(سطيح)، والآخر: وشق بن باهلة اليماني، فأما سطيح، فقد خلقه الله تعالى قطعة لحم بلا عظم ولا عصب سوى جمجمة رأسه، وكان يطوى كما يطوى الثوب، وما كان ينام من الليل إلا يسيرا، يقلب طرفه في السماء، وينظر إلى النجوم الزاهرات، والأفلاك الدائرات، وهو ملقى على ظهره شاخص ببصره، لا يتحرك منه غير عينيه ولسانه، وقد لبث دهرا طويلا على هذه الحالة، فبينا هو كذلك، إذ لاحت له برقة في السماء مما يلي مكة ملأت الأقطار، ثم رأى الكواكب قد علت منها النيران، فظهر بها دخان، وتصادم بعضها ببعض واحد بعد واحد، حتى غابت في الثرى، فلم ير لها نورا ولا ضياء، فلما نظر سطيح إلى ذلك دهش وحار وأيقن بالهلاك والدمار، وقال: كواكب تظهر بالنهار وبرق يلمع بالأنوار، يدل على عجائب الأخبار. فكتب سطيح إلى وشق يخبره الحال، ويشرح له المقال، فرد عليه الجواب: قد ظهر عندي بعض الذي ذكرت، وسيظهر النور الذي وصفت، غير إني لا علم لي به. كما كتب إلى زرقاء اليمامة التي ملكت اليمن بسحرها وشرها. ومن آيات ولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه لما ولد منعت السماء صعود مردة الجن إليها لاستراق السمع، كما ذكر عز اسمه في كتابه المجيد: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 6 - 10] (2).
ومن ظواهر أخبار المولود السعيد:
إن الشهب لم تكن قبل ولادته، وإنما حدثت في وقت ولادته (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أن الشياطين والمردة من الجن منعوا طردوا من الصعود إلى السماء، وهبطوا هاربين من الشهب التي لاحقتهم، فمنهم من أغمي عليه، ومنهم من مات. ويروى: أن سطيحا ووشقا ماتا في تلك الليلة. ولما كان الشهر التاسع من حملها، أراد الله تعالى خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما كان عليها أثر للحمل، إذ اختفى عنها منذ شهرها السادس، ولكنها كانت تشعر بأيام حملها الأخير وكانت تحدث نفسها: كيف يكون وضعي، ولم يعلم بي أحد من قومي، فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة طوال، تفوح منهن رائحة المسك والعنبر، وقد تنقبن بأطمارهن، وبأيديهن أكواب من البلور الأبيض. قالت آمنة (سلام الله عليها): وجعلت أقول: من أين دخلن علي هؤلاء النسوة؟ وقد كنت أغلقت الباب خلفي فجعلت انظر إليهن ولم أعرف واحدة منهن. قالت آمنة (سلام الله عليها): فتقدمن مني وقلن لي: اشربي يا آمنة من هذا الشراب، فلما شربت، أضاء نور وجهي وعلاه نور ساطع وضياء لامع، وقلن: أبشري بسيد الأولين والآخرين، محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقلن لها: لا بأس عليك يا جارية، إنا جئنا لنخدمك، فلا يهمك أمرك، نحن أخواتك، أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثم أخت موسى بن عمران، بعثنا الله تعالى إليك لنلي من أمرك ما يلي النساء من النساء. وقعدت الحوريات واحدة إلى يمينها، وواحدة إلى شمالها، وواحدة بين يديها، وواحدة من ورائها، فهومت عين آمنة وغفت غفوة، ما كان من أمرها إلا أنها كانت نائمة عند خروج ولدها من بطنها، فانتبهت وقد وضع المولود الجديد جبينه على الأرض، ساجدا لله رافعا سبابته إلى السماء مشيرا بهما، وهو يقول: لا إله إلا الله. قال عبد المطلب: يا آمنة، احفظي ولدي هذا، فسوف يكون له شأن عظيم. وأقبل الناس من كل فج عميق يهنئون عبد المطلب، وجاءت جملة النساء إلى آمنة، وقلن لها: لم لم ترسلي إلينا فهنأنها بالمولود وقد عبقت بهن جميعا رائحة المسك، فكان يقول الرجل لزوجته: من أين لك هذا؟
فتقول: هذا طيب مولود آمنة. فلما مضى له من الوضع سبعة أيام، أولم عبد المطلب وليمة عظيمة وذبح الأغنام ونحر الإبل، وأكل أهل مكة والقادمون من الناس ثلاثة أيام، وما فضل من ذلك الطعام رمي به في البرية فأكلته الوحوش والسباع والطيور.
قصة ارضاع الرسول:
فلما كان بعد ثلاثة أيام التمس له مرضعة تربيه على عادة أهل مكة، فقدمت حليمة بنت أبي ذؤيب في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء بمكة. قالت حليمة: فخرجت معهن على اتان (3) ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى المضري، ومعنا شارف (4) لنا ما بيض بقطرة من لبن، ومعنا ولد ما نجد في ثديي ما نعلله به، وما نام لشدة جوعه، فلما قدمنا مكة لم تبق منا امرأة إلا عرض عليها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فكرهناه فقلنا: يتيم، وإنما يكرم الظئر (5) الوالد، فكل صواحبي أخذن رضيعا ولم آخذ شيئا، فلما لم أجد غيره رجعت إليه فأخذته فأتيت به الرحل (6) فأمسيت وأقبل ثدياي باللبن حتى أرويته وأرويت ولدي أيضا، وقام زوجي إلى شارفنا تلك يلمسها بيده، فإذا هي حافل، فحلبها وارواني من لبنها، وروى الغلمان، فقال: يا حليمة، لقد أصبنا نسمة مباركة، فبتنا بخير. في بيت عمه أبي طالب كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يأتي زمزم فيشرب منها شربة، فربما عرض عليه عمه أبو طالب الغداء فيقول: لا أريد أنا شبعان. وعن ابن عباس قال: قال أبو طالب لأخيه: يا عباس، أخبرك عن محمد، إني ضممته فلم أفارقه ساعة من ليل أو نهار، فلم أئتمن أحدا حتى نومته في فراشي، فمن ذلك اليوم دعوت الله تعالى وقلت: اللهم رب السماء، ارزقني ولدا ذكرا يكون أخا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففي تلك الليلة واقعت زوجتي فحملت بعلي فرزقنيه. فما كان يقرب من صنم، ولا سجد لوثن، كل ذلك ببركة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد مات جده عبد المطلب وعمر النبي ثمان سنين....
خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عمه إلى الشام:
رافق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عمه أبا طالب لما خرج إلى الشام في تجارة له، وكان له من العمر تسع سنوات، وقيل اثنتي عشرة سنة، فكانت الغمامة تظلله أينما يسير ويتجه. فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام، بالقرب من صومعة يسكنها راهب يقال له بحيراء، وكان ذا علم بالنصرانية، ويقال: إنه من سلالة الحواريين، فلما شاهد الغمامة تظلل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صنع لهم طعاما ثم دعاهم إليه، وكانوا كثيرا ما يمرون به ولا يكلمهم، فلما اجتمعوا عنده قال: هل تخلف أحد منكم عن طعامي؟ (إذ لم يرى الصفة التي رآها عندما أطل من صومعته)، قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا في رحالهم، فقال: ادعوه فليحضر طعامي.
فأقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والغمامة تسير على رأسه تظلله، وجعل بحيراء يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء في جسده قد كان يجدها عنده من صفته، فلما تفرقوا عن طعامهم، قام إليه الراهب واجتمع به مع عمه وقال: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما. قال: بالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه. قال: سلني عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله، ويقظته، ونومه، وأموره، فيخبره (صلى الله عليه وآله وسلم) عما يوافق ذلك ما عنده، ثم جعل ينظر بين عينيه، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضع الصفة التي يعرفها عنده، فقبل موضع الخاتم.
وقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا، وجعل أبو طالب يخاف على ابن أخيه من الراهب لما رأى تفحصه وتحققه، فالتفت الراهب إلى أبي طالب وقال: ما هذا الغلام منك؟ قال أبو طالب: ابني. قال: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال: هو ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: هلك وأمه حبلى به. قال: فما فعلت أمه؟ قال: توفيت قريبا. قال: صدقت، إرجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فوالله لأن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغونه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتبنا، وما رويناه عن آبائنا، واعلم أني قد أديت إليك النصيحة. فلما فرغوا من تجارتهم خرج به سريعا، وكان رجال من اليهود قد رأوه وعرفوا صفته، فأرادوا أن يغتالوه فذهبوا إلى بحيراء فذاكروه في أمره، فنهاهم أشد النهي وقال لهم: أتجدون صفته؟ قالوا: نعم، قال: فما لكم إليه سبيل، فصدقوه وتركوه، ورجع أبو طالب به، فما خرج به سفرا بعد ذلك خوفا عليه، وقال أبو طالب فيه:
إن ابن آمنة النبي محمدا *** عندي بمثل منازل الأولاد
خديجة بنت خويلد:
كانت خديجة بنت خويلد - أم الزهراء (عليها السلام) - من أسرة أصيلة، لها مكانة وشرف في قريش، عرفت بالعلم والمعرفة، والتضحية والفداء، وحماية الكعبة وحينما جاء تبع - ملك اليمن - ليأخذ الحجر الأسود من المسجد الحرام إلى اليمن، هب خويلد لحمايته ومنعه عن ذلك (7). وكانت تسمى بالطاهرة. وقد ورثت أموالا طائلة، وثروة هائلة من زوجها الثاني، لم تترك هذه الأموال راكدة، ولم تراب بها في زمن كان الربا رائجا، وإنما استثمرت هذه الأموال في التجارة، واستخدمت رجالا صالحين لهذا الغرض، واستطاعت أن تكسب عن طريق التجارة ثروة ضخمة حتى قيل: إن لها أكثر من ثمانين ألف جمل متفرقة في كل مكان، وكان لها في كل ناحية تجارة، وفي كل بلد مال، مثل مصر والحبشة وغيرها (8). وكانت خديجة بنت خويلد امرأة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم (9). ولا بد أن نقول: إن إدارة قافلة تجارية كبيرة من هذا القبيل في ذلك العصر في الجزيرة العربية كان أمرا عسيرا، ولا سيما إذا كان المدير امرأة، في زمن كانت المرأة محرومة من جميع حقوقها الاجتماعية، وكثيرا ما كان الرجال القساة يئدون بناتهم دون ذنب. إذن، لا بد لهذه المرأة العظيمة من نبوغ متفوق، وشخصية شامخة قوية وخبرة بشؤون الحياة كافية تؤهلها لإدارة تلك التجارة الواسعة (10). ومن نبوغها وحدة ذكائها ونظرتها البعيدة أدركت عظمة شخصية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمو أخلاقه والشخصيات المرموقة الذين تقدموا لخطبتها، ردتهم بل وهي التي تقدمت وعرضت نفسها ورغبت في الاقتران به، على رغم الفرق الشاسع بين حياتها المادية وحياته البسيطة، وعلى رغم كونها امرأة، ومن صفات المرأة الحرص على ما تملك، لا سيما إذا كانت أرملة وليس لها كفيل ولا حام يحميها.
خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأموال خديجة إلى الشام:
حدث بكر بن عبد الله الأشجعي، عن آبائه قالوا: خرج عبد مناف بن كنانة، ونوفل بن معاوية بن عروة، تجارا إلى الشام، في السنة التي خرج فيها النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأموال خديجة للتجارة إلى الشام، وهو ابن خمس وعشرين سنة، فلقيهما في بصرى أبو الموهيب الراهب فقال لهما: من أنتما؟ قالا: نحن تجار من أهل الحرم من قريش. قال لهما: من أي قريش؟ فأخبراه.
فقال لهما: هل قدم معكما من قريش غيركما؟
قالا: نعم، شاب من بني هاشم اسمه محمد.
فقال أبو الموهيب: إياه والله أردت.
فقالا: والله ما في قريش أخمل ذكرا منه، إنما يسمونه يتيم قريش، وهو أجير لامرأة منا يقال لها خديجة، فما حاجتك إليه؟
فأخذ يحرك رأسه ويقول: هو هو، فقال لهما: تدلاني عليه؟
فقالا: تركناه في سوق بصرى. فبينما هم في كلام إذ طلع عليهم، فقالا: هو هذا.
فخلا به ساعة يناجيه ويكلمه، ثم أخذ يقبل بين عينيه، وأخرج شيئا من كمه لا ندري ما هو، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأبى أن يقبله، فلما فارقه قال لنا: تسمعان منى، هذا والله نبي هذا الزمان، سيخرج إلى قريب يدعو الناس إلى شهادة أن لا الله إلا الله، فإذا رأيتم ذلك فاتبعوه، ثم قال: هل ولد لعمه أبي طالب ولد يقال له علي، فقلنا: لا.
قال: إما أن يكون قد ولد أو يولد في سنته، وهو أول من يؤمن به، نحن نعرفه، إنا لنجد صفته عندنا في الوصية كما نجد صفة محمد بالنبوة، وإنه سيد العرب وربانها وذو قرنيها، يعطي السيف حقه، اسمه في الملأ الأعلى علي، هو أعلى الخلائق يوم القيامة بعد الأنبياء ذكرا، وتسميه الملائكة البطل الأزهر المفلح، لا يتوجه إلى جهة إلا أفلح وظفر، والله لهو أعرف بين أصحابه في السماوات من الشمس الطالعة.
اقتران النور بالعطاء:
بلغ محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ريعان الشباب مفعما بالفضائل، والاستقامة، والخلق القويم، والانقطاع إلى عبادة ربه الواحد الأحد، متبتلا إلى الله سبحانه وتعالى، يحمل بين جنباته روح الإنسانية، والتفاني في إسعاد الآخرين، ويطفح إيمانا وحبا وخلقا جسد مكارم الأخلاق بكمالها وتمامها. ومثل هذا الشخص العظيم لا بد أن يفكر بالاقتران بامرأة تشاطره هذه الصفات، وترتفع إلى مستوى حياته، وتعاضده في بلوغ أهدافه المقدسة، وتتفهمه وتصمد أمام الهزات والصدمات التي تنتظره في المستقبل، وتبذل كل غال ونفيس في سبيل نيل الأهداف السامية. وكانت خديجة (عليها السلام) لا زالت تحتفظ بأنوثتها وجاذبيتها على الرغم من إنجابها وبلوغها الأربعين عاما من عمرها. وقصة زواج خديجة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تعد منعطفا مهما ومن النقاط اللامعة النورانية في حياتها. فلما توفي زوجها عنها ظهرت عليها روح الاستقلال، والاعتماد على النفس، والحرية بشكل واضح، وكانت تمارس التجارة كأفضل الرجال عقلا ورشدا. ورفضت - بإصرار - الزواج من الملوك والأشراف والأثرياء الذين تقدموا إليها - لما عرفت به من الشرف والنسب الرفيع والثروة - وبذلوا لها الكثير من الأموال مهرا، ورضيت راغبة بالزواج من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الفقير اليتيم، لم ترفض أولئك وترضى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب، بل تقدمت بشوق واندفاع لتقترح على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الزواج على أن يكون المهر من أموالها. والتاريخ يروي لنا أن خديجة سمعت من العلماء والأحبار أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي آخر الزمان فتعلق قلبها به، فأرسلت إليه تسأله الخروج إلى الشام في قافلة مع مولاها ميسرة - ليراقب تحركاته وسلوكه عن كثب، ولعل هذا العمل كان اختبارا لما سمعته من العلماء والأحبار - فسافر النبي بعيرها إلى الشام، فرأى ميسرة منه في الطريق العجائب، وحينما عادوا من السفر حكى لها ما شاهده، فبعثت إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالت له: يا ابن العم، قد رغبت فيك لقرابتك مني، وشرفك في قومك ووسطك فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها (11). فلما أراد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتزوج خديجة بنت خويلد أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتى دخل على ورقة بن نوفل عم خديجة، فابتدأ أبو طالب بالكلام قائلا: الحمد لرب هذا البيت الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل، وأنزلنا حرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثم إن ابن أخي هذا - يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) - ممن لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه، ولا عدل له في الخلق، وإن كان مقلا في المال فإن المال رفد جار وظل زائل، وله في خديجة رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر علي في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله، وله ورب هذا البيت حظ عظيم، ودين شائع، ورأي كامل . ثم سكت أبو طالب، فتكلم عمها وتلجلج وقصر عن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر، وكان رجلا عالما، فقالت خديجة مبتدئة: يا عماه إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود فلست أولى بي من نفسي. قد زوجتك يا محمد نفسي والمهر علي في مالي، فأمر عمك فلينحر ناقة فليولم بها (12). ويروى أن خديجة وكلت ابن عمها ورقة في أمرها، فلما عاد ورقة إلى منزل خديجة بالبشرى، وهو فرح مسرور نظرت إليه فقالت: مرحبا وأهلا بك يا ابن عم، لعلك قضيت الحاجة؟ قال: نعم يا خديجة يهنئك، وقد رجعت أحكامك إلي وأنا وكيلك وفي غداة غد أزوجك إن شاء الله تعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فلما سمعت خديجة كلامه فرحت وخلعت عليه خلعة قد اشتراها عبدها ميسرة من الشام بخمسمائة دينار (13). ولما خطب أبو طالب (عليه السلام) الخطبة المعروفة، وعقد النكاح، قام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليذهب مع أبي طالب، فقالت خديجة: إلى بيتك، فبيتي بيتك وأنا جاريتك (14).
وهكذا تزوج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).. وكان لهذا الزواج أهمية كبرى في حياته، لأنه كان فقيرا معدما من جهة المال - وقد يكون لهذا السبب أو لأسباب أخرى تأخر زواجه المبارك إلى سن الخامسة والعشرين - ووحيدا ليس له عائلة من جهة أخرى، وبزواجه المبارك ارتفع الفقر والحرمان، ووجد من يشاركه همومه، ويشاوره في أمره، ويقاسمه مر الحياة وحلوها (15). كما أن خديجة (عليها السلام) فرحت بهذا الزواج فرحا شديدا وغمرتها سعادة ما بعدها سعادة، سعادة تحقيق أمانيها باقترانها بالرجل المأمول حيث نالت أغلى أمانيها وغاية مقصودها.
________
(1) بحار الأنوار: 15 / 221 - 248 الباب الثالث، مع بعض التغيير في العبارة بحيث لا يمس بالمعنى.
(2) الجن الآية 6 - 10.
(3) اتان: أنثى حمار.
(4) شارف: الناقة الحلوب.
(5) الظئر: المرضعة.
(6) الرحل: المنزل والمأوى.
(7) الروض الأنف: 1 / 213.
(8) بحار الأنوار: 16 / 22.
(9) سيرة ابن هشام: 1 / 199.
(10) أنظر: فاطمة الزهراء المرأة النموذجية في الإسلام، إبراهيم أميني، تعريب علي جمال الحسيني.
(11) بحار الأنوار: 16 / 9.
(12) بحار الأنوار: 16 / 14، تذكرة الخواص: 302.
(13) بحار الأنوار: 16 / 65.
(14) سفينة البحار: 16 / 279.
(15) أنظر: فاطمة الزهراء المرأة النموذجية في الإسلام، إبراهيم أميني، تعريب علي جمال الحسيني.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|