أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-11-2016
820
التاريخ: 22-11-2016
1264
التاريخ: 7-12-2018
2043
التاريخ: 22-11-2016
817
|
كانت اسبانيا (1) في الوقت الذى امتد فيه سلطان العرب إلى الشواطئ القريبة منها، وإلى الجزر المجاورة لها، خاضعة لنير القوط وكانت قبل ذلك بنحو ثلاثة قرون كإفريقية، ولاية رومانية تخضع لسلطان رومة.
فلما اضمحل سلطان رومة، وغزتها القبائل البربرية الجرمانية في أوائل القرن الخامس الميلادي، اقتسمت هذه القبائل أملاك رومة الغربية، واستولت على إيطاليا وفرنسا واسبانيا وكانت اسبانيا من نصيب القوط.
والقوط هم إحدى هذه القبائل أو الشعوب البربرية. التي هبطت من شمال أوربا، وقوضت صروح الإمبراطورية الرومانية.
وتقول الأساطير القديمة إنهم نزحوا من اسكندناوة، وهى رواية يؤيدها كثير من القرائن والشواهد.
ويذكر المؤرخ تاسيتوس أنهم كانوا منذ ظهور النصرانية إلى أواخر القرن الثاني، يسكنون شواطئ البلطيق الجنوبية، وأن قبائل عديدة من الوندال كانت تسكن على ضفاف نهر "أوذر".
وهنالك من المشابهات بين القوط والوندال، في الدين والعادات والأخلاق والتقاليد، ما يدل على أنهما يرجعان في الأصل إلى شعب أو جنس عظيم واحد.
وفى عهد الإمبراطور اسكندر سيفروس (222 - 235 م) ظهرت طلائع القوط في ولاية "داسيا" (2) الرومانية، وأغارت على بعض مدنها، وكان هذا نزوحهم الثاني حيث استقروا عندئذ في إقليم " اليوكرين ".
وفى عهد الإمبراطور ديسيوس عبروا نهر الدانوب وخربوا ولاية ميزيا (3) الرومانية، ثم تقدموا إلى قلب البلقان، فسار ديسيوس لقتالهم ولكنه هزم ومزق جيشه (250 م) وسار القوط إلى اليونان فعاثوا فيها وخربوها.
ولم ينقطع عيثهم حتى نشط الإمبراطور قسطنطين الكبير لقتالهم ورد عدوانهم، فحاربهم في عدة مواقع وهزمهم هزيمة شديدة، وردهم إلى أقاصى داسيا (سنة 322 م) وفرض عليهم شروطا فادحة. ثم حاربهم الإمبراطور فالينس قيصر قسطنطينية وهزمهم فى سنة 369 م.
وفى سنة 375 م زحف الهون من المشرق على القوط ومزقوهم، ففروا إلى ضفاف الدانوب.
واستغاثوا بالإمبراطور وطلبوا الدخول في طاعته، فأجابهم إلى ذلك، واستقروا حيناً في ولاية تراقية، ولكنهم ثاروا مراراً من جراء قسوة الحكام الرومانيين وعسفهم (4).
وفى عهد الإمبراطور هونوريوس، قام القوط بثورة أعظم وأبعد أثرا بقيادة زعيمهم " ألاريك "، وخربوا تراقية واليونان، ثم عبروا إلى إيطاليا وافتتحوا رومة ونهبوها (سنة 410 م)، ولكن زعيمهم ألاريك توفى في نفس هذا العام فارتدوا إلى الشمال.
ثم عقدوا الصلح مع الإمبراطور، واندمجوا في الجيش الإمبراطوري، وقاموا بقمع الثورات المحلية في غاليا أو غاليس (5) (جنوبي فرنسا) وشمالي اسبانيا، ثم استقروا في أواسط فرنسا وجنوبها، فيما بين نهرى اللوار والجارون، واتخذوا تولوز (تولوشة) عاصمة لهم.
وأقطع الإمبراطور ملكهم " فاليا " حكم هذا القطر، وقامت بذلك مملكة قوطية تابعة للدولة الرومانية. وعاون القوط الدولة على محاربة الوندال والآلان والسوابيين (6)، وعاونها بالأخص ملكهم تيودوريك الأول ولد ألاريك، على هزيمة آتيلا التتر ى وبرابرته الهون في موقعة شالون (سنة 451 م).
ثم عبر خلفه وأخوه تيودوريك الثاني إلى اسبانيا، لانتزاعها من الوندال والسوابيين المتغلبين عليها، مشترطاً على الدولة أن يحتفظ بما يفتتحه من اسبانيا لنفسه ولعقبه. وحارب الوندال والسوابيين وهزمهم (سنة 456 م)، وافتتح اسبانيا ما عدا ركنها الشمالي الغربي (جليقية)، الذى استعصم به الوندال حيناً.
ولم تأت نهاية القرن الخامس حتى ملك القوط شبه الجزيرة كلها، وامتد ملكهم من اللوار إلى شاطىء اسبانيا الجنوبي.
ولكن الفرنج غزوهم من الشمال، وأجلوهم عن فرنسا في أعوام قلائل، فاستقروا فى اسبانيا، واتخذوا طليطلة دار ملكهم، ووضعوا لمملكتهم الجديدة نظماً وقوانين خاصة، تتأثر بروح الحضارة والأنظمة الرومانية، وكانوا أيضاً قد اعتنقوا النصرانية منذ أواخر القرن الرابع، كما اعتنقها الوندال وغيرهم من الشعوب البربرية، التي تقاسمت تراث رومة وأملاكها.
ولبث القوط زهاء قرنين سادة لإسبانيا حتى الفتح الإسلامى (7).
ولنعرض بعد ذلك إلى حالة اسبانيا وقت الفتح:
كانت المملكة القوطية تجوز دور انحلالها قبل ذلك بأمد طويل، وكان المجتمع الإسباني يعاني صنوف الشقاء والبؤس، وقد مزقته عصور طويلة من الظلم والإرهاق والإيثار.
ولم يكن القوط في الحقيقة أمة بمعنى الكلمة، فإنهم لم يمتزجوا بسكان الجزيرة، ذلك الامتزاج
الذى يجعل الغالب والمغلوب، والحاكم والمحكوم، أمة واحدة.
بل كان القوط يستأثرون بمزايا الغلبة والسيادة، وينعمون بإحراز الإقطاعات والضياع الواسعة، ومنهم وحدهم الحكام والسادة والأشراف. أما سواد الشعب الأعظم، فقوامه طبقة متوسطة رقيقة الحال، وزراع شبه أرقاء يلحقون بالضياع، وأرقاء للسيد عليهم حق الحياة والموت.
والى جانب السادة والأشراف، يتمتع رجال الدين بأعظم قسط من السلطان والنفوذ، ذلك أن القوط كانوا أتقياء مؤمنين رغم خشونتهم، وكان للأحبار عليهم أيما تأثير، وقد استطاعوا أن يوجهوا القوانين والنظم، وأن يصوغوا الحياة العقلية والاجتماعية، وفقا لمثل الكنيسة وغاياتها.
ثم استغلوا هذا النفوذ في إحراز الضياع وتكديس الثروات، واقتناء الزراع والأرقاء.
وهكذا كانت ثروات البلاد كلها تجمع في أيدى فئة قليلة ممتازة من الأشراف ورجال الدين، اختصت بترف العيش ومتاع الحياة، وكل نعم الحرية والكرامة والاعتبار. أما الشعب فقد كان في حالة يرثى لها من الحرمان والبؤس، يعاني أمر ضروب الظلم والعسف والإرهاق، ويُخص وحده دون الطبقات الممتازة، بأعباء المغارم والضرائب الفادحة، ومشاق العمل، والسخرة في ضياع الأشراف والأحبار، وتسلبه فروض العبودية والرق، كل شعور بالعزة والكرامة.
ولم يكن الشعب كما قدمنا سوى كتلة مهيضة من طبقة فقيرة وسطى، ومن جمهرة من الزراع شبه الأرقاء والأرقاء، ومع ذلك فقد كان يقع عليه إلى جانب هذه الفروض والمغارم الفادحة، عبء الحرب والدفاع عن الوطن.
وكما أن الجيوش الرومانية كانت وقت ظهور الإسلام، قد فقدت وحدتها وروحها القومي وقوتها المعنوية، لتكوينها من الرعايا الأجانب والمرتزقة، فكذلك كان الجيش الإسباني منذ العهد الروماني، قوامه الزراع شبه الأرقاء واليهود.
فلما حل القوط في اسبانيا وذاقوا نعم السلم، بعد مشاق التجوال والغزو، وتبوأوا مراكز الغلبة والسيادة، اعتمدوا في الدفاع عن ملكهم الجديد على هذا الجيش، الذى تموج صفوفه بجماعات مضطهدة ناقمة على سادتها.
" ولاريب أن شبه الأرقاء كانوا في الجيش أكثر بكثير من الأحرار، وهذا ما يعنى أن الدفاع عن الدولة كان يعهد به إلى أولئك الذين يؤثرون ممالأة العدو على الذود عن ظالميهم، (8).
أما القوط أنفسهم فقد فقدوا منذ بعيد خلالهم الحربية القوية، وركنوا إلى حياة النعماء والدعة، وفتت في عزائمهم وشجاعتهم نعومة الجو وترف العيش، ولم يعودوا بعد أولئك الغزاة الأشداء الذين أخضعوا رومة، وتوغلوا فيما بين الدانوب والمحيط، " بل كان خلفاء ألاريك يحتجبون بصخور البرنيه غارقين في سبات السلم، لا يعنون بتحصين مدينة، ولا يعبأ شبابهم بتجريد سيف " (9).
وكان يهود الجزيرة كتلة كبيرة عاملة، ولكنهم كانوا موضع البغض والتعصب والتحامل، يعانون أشنع ألوان الجور والاضطهاد.
وكانت الكنيسة منذ اشتد ساعدها ونفوذها تحاول تنصير اليهود، وتتوسل إلى تحقيق غايتها بالعنف والمطاردة.
ففى عصر الملك سيزبوت (10) فرض التنصر على اليهود أو النفي أو المصادرة، فاعتنق النصرانية كثير منهم كرها ورياء (سنة 616 م).
ثم توالت عليهم مع ذلك صنوف الاضطهاد والمحن، فركنوا إلى التآمر وتدبير الثورة، وتفاهموا مع إخوانهم يهود المغرب على المؤازرة والتعاون، ولكن المؤامرة اكتشفت قبل نضجها (694 م).
وكان ذلك في عهد الملك إجيكا، فقرر أن يشتد في معاقبتهم، واجتمع مؤتمر الأحبار طليطلة للنظر في ذلك، وأجاب الملك إلى ما طلبه، وقرر معاقبة اليهود باعتبارهم خوارج على الدولة يأتمرون بسلامتها، ولأنهم ارتدوا عن النصرانية التي اعتنقوها من قبل؛ وقرر أن ينزع أملاكهم في سائر الولايات الإسبانية، وأن تحول إلى جانب العرش، وأن يشردوا ويقضى عليهم بالرق الأبدي للنصارى، وأن يهبهم الملك عبيداً لمن شاء، وألا يسمح لهم باسترداد حرياتهم ما بقوا على اليهودية، وأن يحرر أرقاؤهم من النصارى ويمنحون بعضة أملاكهم، وأن ينزع أبناؤهم منذ السابعة ويربون على دين النصرانية، وألا يتزوج عبد يهودي إلا بجارية نصرانية، ولا تتزوج يهودية إلا بنصراني (11).
وهكذا عصفت يد البطش والمطاردة باليهود أيما عصف، فكانوا قبيل الفتح الإسلامى ضحية ظلم لا يطاق، وكانوا كباقي طوائف الشعب المهيضة يتوقون إلى الخلاصة من هذا النير الجائر، ويرون في أولئك الفاتحين الذين يتركون لهم حرية الضمائر والشعائر مقابل جزية ضئيلة ملائكة منقذين (12).
هكذا كانت حال اسبانيا حينما افتتح العرب إفريقية واقتربوا من شواطئ الأندلس. وكان على عرش اسبانيا يومئذ الملك وتيزا (13) خلف الملك إجيكا وولده.
وكان يحكم مملكة مزقها الخلاف وشعباً أضناه العسف. وتحمل بعض الروايات الإسبانية القديمة على وتيزا، وتصفه بأنه كان ملكاً خليعاً فاجراً، مغرقا في شهواته، وأنه كان على رأس بلاط منحل وضيع الخلال.
ويقول البعض الآخر إنه كان بالعكس ملكاً فاضلا حسن السيرة، وافر الحكمة والعدالة، وإنه عل على رد المظالم وإقامة العدل (14).
والمرجح المتداول، أنه أحسن السيرة فى بداية عهده، ورد إلى اليهود سابق حقوقهم وامتيازاتهم، ولكنه حاول أن يحد من سلطة الأشراف والأحبار، وأن يجمع السلطة في يد العرش، فسخط عليه الأشراف ورجال الدين، ودبروا في سقاطة ثورة بعد ثورة، ولكنه أخمدها جميعاً، وهدم جميع المعاقل والحصون الداخلية لكى يحطم سلطان خصومه ويجردهم من وسائل الدفاع والمقاومة، فلم يزدهم البطش والهزيمة إلا ضمأً إلى الخروج والثورة.
وكان في مقدمة خصومه الذين يخشى بأسهم دوق تيودوفريد الذى نفاه أبوه الملك إجيكا إلى قرطبة، فزاد على ذلك أن سمل عينيه مبالغة في النكاية به، وحاول أن يفعل ذلك مع بلاجيوس ولد فافيلا دوق كانتابريا، ولكنه استطاع الفرار من نقمته (15).
وكان الشعب من جهة أخرى يرزح أبداً تحت نير الجور والإرهاق، فكان عرش القوط يرتجف فوق بركان مضطرم من السخط. وتقول الرواية النصرانية إن الزعماء الناقمين انتهزوا فرصة اقتراب أسطول إسلامي من جنوب اسبانيا ورفعوا لواء الثورة، وإن وتيزا استطاع أن يرد هذا الأسطول وإن تيودمير قائد الأسطول القوطى هزم المسلمين في معركة بحرية كبيرة وذلك في سنة 708 م (16).
وكان العرب كما قدمنا قد طوقوا أسوار سبتة معقل القوط في الضفة المقابلة من البحر، وأمد وتيزا حاكمها الكونت يوليان بأشجع جنده، فانتهز خصومه فرصة ضعفه في الداخل ليدبروا الثورة مرة أخرى.
وقاد الثورة عندئذ زعيم جرئ هو رُدريك ابن دوق تيودوفريد الذى سمل وتيزا عيني أبيه، فكان يحفزه باعث الانتقام أيضا، وكان يتزعم حزباً قوياً، والتف حوله رجال الدين والأشراف والأسر الرومانية، فجمع جيشاً كبيراً ونادى بنفسه ملكاً.
ووقعت بين الفريقين حرب أهلية شديدة. وهنا تختلف الرواية فيقال إن وتيزا قتل في هذا النضال وخلص الملك لمنافسه، وفي رواية أخرى أن ردريك ظفر به وسمل عينيه انتقاماً لأبيه، ويقال أيضاً إنه ارتد إلى إحدى الولايات الشمالية وامتنع بها حتى وفاته.
ويختلف المؤرخون كذلك في تاريخ ولاية ردريك الملك، فيقول البعض، ومنهم ردريك الطليطلى، إنه تولى سنة 711 م، وحكم مع وتيزا قسما من اسبانيا، وإنه لما توفى وتيزا في سنة 713 م، استأثر بالحكم مدى عام آخر حتى فتح اسبانيا، ويقول إيزودور الباجى، إن ردريك ظفر بالعرش فى أواخر سنة 711 م وإنه لم يحكم قبل الفتح سوى عام واحد (17)؛ وفي الروايتين تحريف ظاهر، ولا بد أن ردريك ولى الملك قبل سنة 711، إذ كان فتح العرب لإسبانيا في صيف هذا العام نفسه.
وعلى أي حال فإن المعركة استمرت مدى حين بين ردريك وولدي وتيزا، وهما إيفا وسيزبوت يعاونهما عمهما أوباس (18) أسقف طليطلة وإشبيلية ورأس الكنيسة، والتفت حولهما رجال الدين وكل أنصار الحكم القديم.
وكان ردريك قوى الجانب وافر الشجاعة والعزم، فاستطاع أن يخمد الثورة في كل ناحية، واستتب له الأمر حينا، ومع ذلك فقد بقي عرش القوط مضطربا يهتز في يد القدر، وكان الخطر يجثم فى ناحية أخرى.
ذلك أن خصوم ردريك اتجهوا بأبصارهم إلى خارج الجزيرة. وكان الكونت يوليان حاكم سبتة والمضيق، محط أنظارهم ومساعيهم.
وقد اختلف في أمر الكونت يوليان اختلافا بينا، فالروايات العربية القديمة كلها تشيد بذكره، وبالدور العظيم الذى أداه في الفتح، وينكر وجوده بعض أكابر المؤرخين الإسبان مثل ما سدى وغيره، لأن ذكره لم يرد لأول مرة إلا في روايات القرن الثاني عشر.
على أنه مما يعزز إجماع الرواية العربية، إشارة إيزودور الباجى، صاحب أقدم رواية إسبانية عن الفتح، إلى شريف نصراني كان يصحب موسى في كل غزواته.
كذلك تختلف الرواية في صفة الكونت، فيقال إنه لم يكن تابعا لملك القوط، وإن سبتة كانت في ذلك الحين ما تزال تابعة لقيصر الدولة الشرقية، ولكن حاكمها الكونت رأى لبعدها وعزلتها أن يستظل بحماية اسبانيا (19).
على أنه يبدو من أقوال الرواية العربية، وهى في نظرنا أقوى وأرجح، أن الكونت يوليان كان قوطيا اسبانيا، وأنه كان يرتبط ببلاط طليطلة بصلات وثيقة.
وتؤيد الرواية العربية بعض التواريخ النصرانية المتأخرة، فيقول لنا ردريك الطليطلى، ولوقا التطيلي، إن الكونت يوليان كان حاكماً لسبتة، وهى يومئذ من أملاك العرش القوطى، وإنه كان رجلا شجاعاً، ولكنه كان مغامراً منتقماً، وإنه كان من أقارب الملك قامبا (20).
ويقول لنا ألفونسو العاشر في تاريخه العام إن الكونت يوليان كان من أكابر الأشراف الذين يرجع أصلهم إلى القوط، وإنه كان قريبا للملك وتيزا (21).
ولما نشب الخلاف الداخلي حول العرش، انضم الكونت إلى أنصار الحكم القديم وأنصار الملك وتيزا.
وكان غنيا شديد البأس، كثير الأتباع والجند، يعتصم بالبحر، بعيداً عن سلطة العرش، ويقبض على مفتاح اسبانيا بحكمه لسبتة والمضيق.
وكان من خصوم الحكم الجديد يخشى عواقبه على مركزه وسلطانه.
فاتصل به إبنا وتيزا وباقى الزعماء الخوارج، واستقر الرأي على الاستنجاد بالعرب جيران الكونت، وهذا هو التعليل التاريخي للتحالف الذى عقد بين يوليان وموسى ابن نصير وانتهى بفتح العرب لإسبانيا.
ولكن الرواية - والرواية الإسلامية بنوع خاص - تقدم إلينا تعليلا آخر، فتقول لنا إن يوليان كان يعمل بدافع الانتقام الشخصي أيضا.
فقد كانت له إبنة رائعة الحسن تدعى فلورندا أوكابا، أرسلها إلى بلاط طليطلة جريا على رسوم ذلك العصر، لتتلقى ما يليق بها من التربية بين كرائم العقائل والفرسان، فاستهوى جمالها الفتان قلب ردريك فاغتصبها وانتهك عفافها.
وعلم الكونت بذلك فاستقدم ابنته إليه وأقسم بالانتقام، ونزع ردريك ذلك العرش الذى اغتصبه.
فلما نشبت الحرب الأهلية بين ردريك وخصومه، والتجأ هؤلاء الخصوم إليه، رأى الفرصة سانحة للعمل، ولم ير خيرا من الاستنصار بالعرب ومعاونتهم على فتح اسبانيا.
والرواية الإسلامية تجمع على قبول هذه القصة والأخذ بها، مع أخذها في الوقت نفسه بالعوامل السياسية التي ذكرناها (22).
ولكن الرواية النصرانية تتردد فى قبولها، وتنكرها معظم الروايات الإسبانية الحديثة، وتعتبرها أسطورة صاغتها الأغاني والقصص القديمة.
وهكذا نجد ماريانا ومادى أعظم مؤرخي إسبانيا فى مقدمة المنكرين لصحتها.
ويذهب البعض الآخر مثل مونتيخار وغيره إلى أبعد من ذلك، فينكر شخصية الكونت يوليان ذاته، ويعتبرها شخصية خيالية، ويعتبر القصة كلها خرافة وأسطورة فقط (23).
ويقول كوندى إن اسم كابا (فلورندا) ووصيفتها أليفا وكل أشخاص هذه الرواية تدل على أن القصة كلها إنما هى خرافة موريسكية (24) اشتقت من الأساطير والأغاني العامية التي كانت ذائعة بين المسلمين والنصارى (25).
وإنكار الرواية الإسبانية لمثل هذه القصة معقول ظاهر الحكمة، فهي تأبى الاعتراف بواقعة تسجل خيانة الوطن على نفر من زعماء اسبانيا الأوائل، وهى خيانة كان من أثرها أن افتتح العرب اسبانيا وحكمها الإسلام قروناً طويلة.
على أننا نجد في القصة ما يبعث إلى إنكارها، فوقوعها ممكن معقول في مثل الظروف التي كانت تجوزها اسبانيا يومئذ، من خلاف في الرأي، وتنازع على السلطة، وانحلال أخلاقي واجتماعي.
ولسنا من جهة أخرى نلمس في الرواية الإسلامية أثر الاختراع.
فليس ثمة ما يدعو إليه.
وليس من المعقول أن تخترع الرواية الإسلامية قصة مفادها أن المسلمين لقوا في فتح اسبانيا معاونة لم يتوقعوها، وأن هذه المعاونة سهلت لهم سبل الفتح، ولعلهم لم يقدموا بدونها على الاضطلاع به، أو لعلهم كانوا يتعرضون للإخفاق والفشل.
هذا إلى أن بعض الروايات الإسبانية القديمة، ومنها ما هو قريب من الفتح، يشترك مع الرواية العربية في سرد قصة فلورندا والأخذ بها.
فمن ذلك ما ورد في رواية إيزيدور الباجى الذى عاش في أوائل القرن الثامن، وما ذكره ردريك الطليطلى في روايته، من أن الكونت يوليان ثار لاعتداء ردريك على ابنته أو زوجه، واعتزم أن ينتقم لنفسه بدعوة العرب إلى فتح اسبانيا، وهى قصة يرددها أيضاً التاريخ العام الذى وضع بأمر الملك ألفونسو العالم فى أواخر القرن الثالث عشر (26).
ففى هذه الروايات الإسبانية النصرانية كلها تأييد لهذه القصة الشهيرة.
كذلك يختلف النقد الأوربي الحديث في أمر هذه القصة، فيرى البعض أنها أسطورة لا يصح الأخذ بها، ويرى البعض الآخر أنها معقولة لا أثر للاختراع فيها (27).
ونحن مع هذا الفريق نرى قصة فلورندا حادثاً طبيعيا معقولا، ونرى في إجماع الرواية الإسلامية على تدوينها دليلا آخر على صحتها.
ومهما كان من أمر يوليان، ومهما كان من بواعث غضبه ونقمته على مليكه، فقد كان تدخله أكبر عامل في تذليل فتح المسلمين لشبه الجزيرة الإسبانية، والقضاء على مملكة القوط.
_______
(1) لا يستعمل العرب اسم " اسبانيا " للإشارة إلى شبه الجزيرة المعروفة بهذا الاسم، وانما يطلق العرب اسم " الأندلس " على شبه الجزيرة كلها (راجع الروض المعطار - مصر - ص 1). وفي بعض الروايات العربية أن التسمية نسبة لملك من الرومان اسمه إشبان بن طيطش غلب الأفارقة على ملك الأندلس، وباسمه سميت إشبانية.
وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان فحرف. وأنه هو الذى بني إشبيلية، وأن " اشبانية " كانت تطلق على إشبيلية التي كان ينزلها اشبان هذا. ثم غلب الاسم، بعده عل الأندلس كله، فالعجم يسمونه إشبانية (نفح الطيب عن الرازى ج 1 ص 67)؛ وذكر ابن حيان أن الإشبانيين ينسبون إلى إشبان وفسر منشأهم بخرافة دينية (نفح الطيب ج 1 ص 69).
ولم تنفرد الرواية الإسلامية بذكر " إشبان Espan " هذا ولكن تذكره أيضا رواية ألفونسو العاشر القشتالية، فتقول لنا انه ابن أخ للملك هرقل، وأنه هو الذى عمر جزيرة قادس واتخذها مقرا له. راجع:
Primera Cronica General de Espana (Ed Pidal) Vol, I. p.
10
(2) كانت ولاية داسيا تقع في شرقي حوض الدانوب وتشغل مكان رومانيا والمجر.
(3) كانت ولاية ميزيا تقع في وسط البلقان وتشغل مكان بلغاريا الحديثة.
(4) Gibbon, Ibid, Chap X, XIV & XXV
(5) هكذا يسميها ابن الأثير. ويسميها البكرى، " بلاد غاليش " وهو اسمها الروماني:
La Gaule
(6) ويبدي ابن خلدون دقة في تسمية هؤلاء البربر، فيسميهم " القندلس والآبيون والشوابيون "
(ج 2 ص 235).
(7) يقدم المؤرخون المسلمون عن تاريخ اسبانيا قبل الفتح الإسلامى روايات غامضة أكثرها خرافي. ولكن بعضها يقترب من التاريخ. فابن الأثير مثلا يشير في روايته عن القوط إلى غزوهم لمقدونية ومحاربة قسطنطين الأكبر لهم. ثم يذكر زعيمهم " ألريق " (ألاريك) وكيف غزا رومة، وكيف استقر القوط أولا في غاليس (أي غاليا) ثم انتقلوا إلى اسبانيا.
غير أنه يذكر ثبت ملوكهم في كثير من التحريف والخلط (ج 4 ص 212 و213).
وقال ابن حيان بعد أن ذكر أصل اسم اسبانيا 5 " وغلب على هؤلاء الإشبانيين من عجم رومة أمة يدعون البشتولقات (الوندال) وملكهم طلويش بن بيطة وذلك من بعث المسيح. ثم دخلت عليهم أمة القوط " (نقله المقرى في نفح الطيب ج 1 ص69).
وأقرب الروايات إلى الصحة هى رواية ابن خلدون، فهو يقول متفقا مع الرواية اللاتينية:
" إن القوط قد امتلكوا القطر الأندلسي لمئتين من السنين قبل الإسلام. بعد حروب كانت لهم مع
اللطنيين، حاصروا فيها رومة ثم عقدوا معهم السلم على أن تنصرف القوط إلى الأندلس " (ج 4 ص 116).
(8) 269 p. I. Dozy: Histoire des Musulmans de l'Espagne (1932) Vol.
(9) L1. Gibbon, Ibid, Chap.
(10) ويسميه ابن الأثير، سيسفوط (ج 4 ص 213).
(11) راجع كتاب " تاريخ لانجدوك " Histoire de Languedoc، تأليف الراهب
Dom Vissette (الطبعة الجديدة ج 1 ص 750 و751) ، وهذا المؤلف موسوعة ضخمة من
ستة عشر مجلدا، ويشتمل على وثائق وتفاصيل هامة عن تاريخ اسبانيا قبل الفتح الإسلامى، وغزوات من العرب الأولى لإسبانيا وفرنسا.
(12) p268 . I: V. Dozy: Hist.
(13) ويسميه العرب " غيطشة ".
(14) يقول بالرواية الأولى سبستيان الشلمنقى وردريك الطليطلى، ويقول بالرواية الثانية إيزيدور الباجى؛ ويوافقه في هذا ابن عذارى المراكشي (البيان المغرب ج 2 ص 4).
وراجع:
Dozy: Recherche, V. p 116.
(15) p 756 .Dom Vissette: Ibid, V.
(16) أورد هذه الرواية إيزيدور الباجي Isidorus Pacensis ونقلها ألمؤرخ الألماني يوسف أشباخ في كتابه Geschichte der Omajaden in Spanien (ج1ص26). والظاهر أن المقصود هنا هو الحملة البحرية التي جهزها موسى بن نصير بقيادة ابنه عبد الله سنة 89 هـ (708 م) وهى المعروفة بغزوة الأشراف. ولكن المسلمين لم يهزموا يومئذ في أية معركة بحرية، وقد غزوا جزائر البليار.
(17) .p. Dom Vissette: Ibid, V.
786 وذلك نقلا عن Rodericus Tolétanus Chronicon و Isidorus Pacensis
(18) يسمى ابن القوطية أولاد وتيزا كما يأتي: المند. ورملة. ثم أرطباس. ولعل أرطباس هو أوباس. ولكن صاحب " أخبار مجموعة في فتح الأندلس " أصح وأدق فهو يسميهما شبشرت وأبة باعتبار أنهما اثنان فقط (ص 8).
(19) 60 - 65, Hist: V. P 1.p. Dozy: Recherches: V.
270
(20) Camille Julian: Histole de la Gaule p.
727
(21) p 307. Pr Cronica General (Ed Pidal) Vol
(22) يتناقل المؤرخون المسلمون هذه القصة منذ أقدم العصور، فتراها في رواية ابن عبد الحكم الذى كتب تاريخ فتح الأندلس بعد وقوعه بنحو قرن فقط (أخبار مصر وفتوحها ص 205).
وذكرها ابن حيان مؤرخ الأندلس (نقله نفح الطيب ج 1 ص 109)، وابن القوطية القوطى في " افتتاح الأندلس " (ص 8) - وهو يصف يوليان بأنه كان تاجرا من تجار العجم لا حاكما لسبتة، ويعلل وقوع الفتح بخروج أولاد وتيزا وخيانتهم.
وكذا صاحب أخبار مجموعة (ص 5).
وابن الأثير (ج 4 ص 213).
وابن خلدون (ج 2 ص 236 وج 4 ص 117).
وعبد الواحد المراكشية في " المعجب " (ص 6).
وابن عذارى المراكشي في " البيان المغرب " (ج 2 ص 8).
وصاحب الروض المعطار في " وصف جزيرة الأندلس " المنشور بالقاهرة 1937 (ص 7).
(23) راجع الهامش في: 28 Aschbach: ibid, I.P.
(24) نسبة إلى الموريسكيين Moriscos أو العرب المتنصرين، وهم بقية الأمة الأندلسية المغلوبة بعد سقوط غرناطة (1492 م) وانتهاء دولة الإسلام في الأندلس.
(25) Historia de la Dominacion de los Arabes en Espana
(26) I .p 807, C. Julian, ibid p. . Cronica General; Vol. Pr.
757 -
Gibbon, ibid. LI Note) )
Chap.
(27) قال الفيلسوف جيبون في تعليقه على تلك القصة: " طالما كانت أهواء الملوك يطبعها الجموح والعبث.
ولكن هذه القصة المعروفة، وإن كانت روائية في ذاتها، لم تؤيدها الأدلة الكافية، وتاريخ اسبانيا يقدم من بواعث المصلحة والسياسة ما هو أليق بتفكير السياسي القديم (يريد الكونت يوليان) Gibbon, ibid, L1.
ويسخر فولتير في تاريخه العام من القصة ويقول: " إن الاغتصاب صعب التنفيذ صعب التدليل، فهل يتحالف الأحبار من أجل فتاة ". ولكن المؤرخ المستشرق دوزى يروى القصة ويأخذ بها في شرح حوادث الفتح p. I. Dozy: Histoire V.
271 وكذا يرويها ويأخذ بها المستشرق كاردون في كتابه: Histoire de l'Afrique et de l'Espagne p.
65.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|