أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-01-17
822
التاريخ: 2024-01-21
871
التاريخ: 2023-08-06
972
التاريخ: 7-11-2016
8915
|
كانت كثرة العرب في الجاهلية وثنية تؤمن بقوى إلهيه كثيرة تنبث في الكواكب ومظاهر الطبيعة، وفي أسماء قبائلهم ما يدل على أنهم كانوا قريبي عهد بالطوطمية "Totemism"؛ إذ تلتف جماعة حول الطوطم تتخذه حاميها والمدافع عنها من مثل كلب وثور وثعلبة. وقد آمنوا بقوى خفية كثيرة في بعض النباتات والجمادات والطير والحيوان، وليس بصحيح ما يزعمه رينان من أنهم كانوا موحدين(1)؛ فقد كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى كما جاء في القرآن الكريم، وكانوا يتعبدون لأصنام وأوثان كثيرة اتخذوها رمزًا لآلهتهم، ويفيض كتاب الأصنام لابن الكلبي في بيان هذا الجانب. ويظهر أن عبادة النجوم والكواكب دخلت عندهم من قديم وقد جاءتهم من الصابئة وبقايا الكلدانيين. كما جاءتهم من لدن عرب الجنوب الذين كانوا يرجعون بآلهتم إلى ثالوث مقدس، هو القمر أو وَدّ، والشمس أو اللات والزهرة أو العُزَّى. ونراهم يقدسون النار، ويظهر ذلك في إيقادهم لها عند أحلافهم واستمطارهم السماء وتقديم القرابين إليها(2) ويقال إن المجوسية كانت متفشية في تميم وعمان والبحرين وبعض القبائل العربية(3)، والمجوس كما نعرف ثنوية يؤمنون بإلهين يديران العالم هما النور والظلمة أو الخير والشر.
وكانت عبادة الأصنام منتشرة بينهم انتشارًا واسعًا، وقد صوروها أو نحتوها رمزًا لآلهتهم، وقد يرون في بعض الأحجار والأشجار والآبار ما يرمز إليها، ففي أخبارهم أن العزى كانت لغطفان، وهي شجرة بوادي نخلة شرقي مكة، وقد قطعها خالد بن الوليد، وهو يقول:
يا عُزّ كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك(4)
ويشير القرآن الكريم إلى بعض آلهتهم ورموزها من أصنامهم وأوثانهم، فيقول جل وعز: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] ويقول سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]. وكانت عبادة اللات أو الشمس شائعة بين العرب الجنوبيين وفي الحجاز، وكان معبدها في الطائف، ويقال: إنه كان صخرة مربعة بيضاء بنت عليه ثقيف بيتًا وكانت قريش وجميع العرب يعظمونه(5). ويتردد في أسمائهم وهب اللات وعبد شمس، وعبد العزى ومثلها مثل اللات في تعظيم قريش والعرب لها وتقديسها. وكانت مناة صخرة منصوبة على ساحل البحر بين المدينة ومكة، وربما كان في اسمها ما يدل على أنها ترمز إلى إله الموت، فهي إلهة القضاء والقدر، وكانت معظمة عند هُذَيْل وخزاعة والعرب جميعًا وخاصة الأوس والخزرج إذ " كانوا يحجون إلى مكة، ويقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رءوسهم، فإذا نفروا أتوا مناة وحلقوا رءوسهم عندها، لا يرون لحجهم تمامًا إلا بذلك(6)". ووَدّ كما قدمنا من الآلهة الجنوبية. وهو يؤلف مع اللات والعزى ثالوث الأب والأم والابن، وكان صنمه بدومة الجندل، وظل منصوبًا هناك إلى أن جاء الله بالإسلام(7). وكان سُواع صنم هذيل وكنانة، وهو حجر كانوا يعبدونه هم وعشائر كثيرة من مضر(8). وربما كان في اسمه ما يدل على أنه إله الشر والهلاك، ويغوث هو صنم مذحج وعشائر من مراد وهوازن(9). وكان يعوق صنم همدان وخولان وما والاهما من قبائل(10). وفي اسمه واسم يغوث ما يشير إلى أرواح حافظة، فمعنى يغوث يعين، ومعنى يعوق يحفظ ويمنع. وكان نسر معبود حمير(11)، وانتشرت عبادته في الشمال، ويشير اسمه في وضوح إلى الطائر المعروف باسمه، وفي الطبري: "كان ود على صورة رجل وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد ويعوق على صورة فرس ونسر على صورة نسر من الطير(12)".
ووراء هذه الأصنام التي ذكرها القرآن الكريم أصنام كثيرة كانت تتعبد لها قريش والقبائل العربية في الجاهلية، ويقال إنه كان في الكعبة عند فتح الرسول صلى الله عليه[وآله] وسلم لمكة ثلاثمائة وستون صنمًا(13)، وكان أعظمها عند القرشيين هُبَل: "وكان من عقيق أحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، وجعلتها له قريش من ذهب: وكان في جوف الكعبة قدامه سبعة قداح، مكتوب في أحدها: "صريح" والآخر: "مُلْصَقٌ"؛ فإذا شكوا في مولود أهدوا إليه هدية ثم ضربوا بالقداح "السهام" فإن خرج "صريح" ألحقوه بأبيه، وإن خرج "ملصق" دفعوه. وقدح على الميت، وقداح على الزواج. وإذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرًا أو عملًا أتوه فاستقسموا بالقداح عنده، فما خرج عملوا به وانتهوا إليه.. وعند ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله(14)". وباسمه كان ينادي أبو سفيان في معركة أحد ويصيح: اعلُ هبل.
ومن أصنام قريش المشهورة إساف ونائلة، ويقال إنهما كانا شخصين أتيا أعمالًا سيئة فمسخا حجرين، وعبدهما الناس، وكان أحدهما ملاصقًا للكعبة، وثانيهما في موضع زمزم، ويقال إن إسافًا كان بإزاء الحجر الأسود وكانت نائلة بإزاء الركن اليماني(15). ومن أصنامهم مناف وبه سمي عبد مناف.
ومن الأصنام المشهورة رضا وتيم وشمس لتميم وذو الخُلَصَة وهو صنم خَثْعم وبجيلة وأزد السراة، ويقال إنه كان مروة بيضاء منقوشة عليها كهيئة التاج، وكان موضعه بتبالة وله بيت يحجون إليه(16). وذو الشَّرَى وكان له معبد ضخم في سلع "بطرا"(17) ويظهر أن عبادته قديمة، وهو يقابل الإله ديونيسيوس عند اليونان إله الخصب والخمر.
وكانوا يتخذون عند هياكل هذه الأصنام والأوثان أنصابًا من حجارة يصبون عليها دماء الذبائح التي يتقربون بها إلى آلهتهم، وكانوا يقدسون هذه الأنصاب ويعدونها مقرًّا لبعض الأرواح. وفي القرآن الكريم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]. والأزلام هي القداح كما مر بنا.
وفرق بين الصنم والوثن، فالصنم يكون غالبًا تمثالًا، أما الوثن فيكون غالبًا حجرًا، وقد يسمى الصنم بالوثن، يقول ابن الكلبي: "واستهترت العرب في عبادة الأصنام؛ فمنهم من اتخذ بيتًا ومنهم من اتخذ صنمًا ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت نصب حجرًا أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن ثم طاف به كطوافه بالبيت. فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلًا أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها، فاتخذه ربًّا وجعل ثلاثة أثافي لقدره. وإذا ارتحل تركه؛ فإذا نزل منزلًا آخر فعل مثل ذلك وكانوا ينحرون ويذبحون عند كلها ويتقربون إليها(18)".
وهذه البيوت التي اتخذوها لأصنامهم كان منها كعبات كبيرة يحجون إليها ككعبة ذي الخُلَصَة وهي الكعبة اليمانية وكعبة الطائف وهي بيت صنمهم اللات، وأشهر كعباتهم كعبة مكة حارسة الوثنية في الجاهلية، وهي التي وصلتنا عنها تفاصيل كثيرة توضح ما كانوا يتخذون في حَجِّهم إليها من شعائر، وكانوا يطوفون بها أسبوعًا ويسعون بين الصفا والمروة، ويظن أنه كان على كل منهما صنم، ويقال إنه كان على الصفا إساف وعلى المروة نائلة، وكانوا يقفون بعرفة ويفيضون منها إلى المزدلفة ثم منى. وكان إفاضتهم في عرفة عند غروب الشمس، أما في المزدلفة فعند شروقها، وكان يتولى الإجازة في الأولى بعض التميميين. وفي الكعبة الحجر الأسود وكانوا يتبركون به ويتمسحون بأركان الكعبة جميعها. ويقال إن طوافهم بأصنامهم كان سبعة أشواط وكانوا يختلفون في طوافهم؛ فمنه من يطوف عريانًا وهم الحلة(19)، ومنهم من يطوف في ثيابه وهم الحمس(20) من قريش وكنانة وخزاعة.
ويصور لنا الأزرقي طواف العريان بقوله: "يبدأ بإساف فيستلمه "يعتنقه" ثم يستلم الركن الأسود، ثم يأخذ عن يمينه ويطوف ويجعل الكعبة عن يمينه؛ فإذا ختم طوافه سبعًا استلم الركن "حيث الحجر أو الحطيم" ثم استلم نائلة، فيختم بها طوافه، ثم يخرج فيجد ثيابه كما تركها لم تمس فيأخذها، فيلبسها، ولا يعود إلى الطواف بعد ذلك عُريانا(21)" وقد أبطل الإسلام العري في الطواف، كما أبطل كثيرًا من تقاليد الحمس(22).
وكان من تقاليدهم رمي الجمرات في منى وتقديم العتائر أو الضحايا وذبحها عند الأنصاب وكذلك تقديم الهدايا من الزروع والغلات، وفي القرآن الكريم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الأنعام: 136]. وتدل الآية الكريمة على أنهم كانوا يجعلون لله نصيبًا، ثم يعودون فيجعلونه لآلهتهم الصغرى أو لأصنامهم. وذكر القرآن الكريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وأولاها الناقة أو الشاة يحرمون لبنها والانتفاع بها، والثانية ما يسيَّب "يترك" نذرًا للآلهة فلا يمنع من ماء ولا كلأ، والثالثة ناقة أو شاة تحمل سبعة أبطن؛ فإذا كان السابع ذكرًا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى استحيوه، وإن ولدت توأمًا. ذكرًا وأنثى قالوا: وصلت أخاها وحرموا ذبحه على أنفسهم. أما الحام فالبعير ينتج عشرة أبطن من صلبه، ويقولون: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
ويظهر أنه كانت عندهم طقوس كثيرة في نذورهم وقرابينهم، وقد هدمها الإسلام هدمًا، وأيضًا كانت هناك شعائر وطقوس كثيرة في الحج نفسه لعل أهمها التلبية، يقول ابن حبيب: "وكانوا يلبون إلا أن بعضهم كان يشرك في تلبيته، وكان نسك قريش لإساف، تقول: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. وكان لكل قبيلة بعد تلبية؛ فكانت تلبية من نسك للعزى: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك ما أحببنا إليك. وكانت تلبية من نسك للات: لبيك اللهم لبيك، لبيك، كفى ببيتنا بنية، ليس بمهجور ولا بلية، لكنه من تربة زكية، أربابه من صالحي البرية...وكانت تلبية من نسك لوَدّ:
لبيك اللهم لبيك، لبيك معذرة إليك، وكانت تلبية من نسك لذي الخلصة: لبيك اللهم لبيك، لبيك بما هو أحب إليك..(23)".
وجعلوا للحج أربعة أشهر معلومات، سموها الأشهر الحرم، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وكان الحج إلى مكة في ثالثها، وفي اسمه ما يدل على أن الحج المعظم للكعبة القرشية كان فيه. وكانت هذه الأشهر حرامًا عندهم فلا يستباح دم، ولا تنشب حروب؛ إلا ما كان من حرب الفجار، وعُدَّت انتهاكًا عظيمًا لحرمات البيت. وكأنما كانت هذه الأشهر هدنة لهم، ومُعينًا لبعدائهم عن الأماكن المقدسة في الوصول إليها؛ دون أن تُمَسَّ نذورهم، وكانوا فيها يتجرون ويمترون ويقيمون أسواقهم كسوق عكاظ.
وكانت هناك جماعات تقوم على سدانة بيوتهم المقدسة، ويسمونها الحجابة، وكانت في مكة لبني عبد الدار، وبجانب هؤلاء السدنة كهان كانوا يدعون معرفة الغيب وأنه سُخِّر لهم طائف من الجن يسترق لهم السمع فيعرفون ما كُتب للناس في ألواح الغد. وممن عُرف بذلك سَطيح الذئبي وشق بن مصعب الأنماري وعوف بن ربيعة الأسدي وسلمة الخزاعي وسواد بن قارب الدوسي وعُزَّى سلمة(24). ونجد بجانب الكهنة كاهنات مثل الشعثاء والكاهنة السعدية والزرقاء بنت زهير وكاهنة ذي الخلصة(25). وفي أخبار الإسلام الأولى ما يدل على أنه كان يلحق ببيوت الأصنام بغايا، وكانوا سببًا في ثورة بحضرموت قضى عليها أمية بن أبي المهاجر لعهد أبي بكر الصديق(26).
ولعل في كل ما قدمنا ما يدل على أنهم كانوا يؤمنون إيمانًا واسعًا بالأرواح، وأنها تحل في كل ما حولهم من مظاهر الطبيعة، وكان منها أرواح خيرة، هي الملائكة وأرواح شريرة هي الشياطين. وفي القرآن الكريم: { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]. فكانوا يزعمون أنها بنات الله، وكانوا يعدونها -كأصنامهم- من شفعائهم عند الله وشركائه، وحكى القرآن اعتقادهم في ذلك؛ إذ يقول جل وعز: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [الزمر: 3]. وفي القرآن سورة للجن وكانوا يخافونها ويتعبدونها ويجعلون بينها وبين الله نسبًا، يقول جل وعز: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100] وفي أساطيرهم أو قل في معتقداتهم أن الجن هي التي تصد الثيران عن الماء حتى تمسك البقر عن الشرب فتهلك.
يقول الجاحظ: وكانوا إذا أوردوا البقر فلم تشرب إما لكدر الماء أو لقلة العطش ضربوا الثور ليقتحم الماء؛ لأن البقر تتبعه(27)، فكانوا إذا امتنعت ظنوا ذلك من عمل الجن وإيحائهم. ولهم فيها كثير من الأساطير، عرض لها الجاحظ في الجزء السادس من حيوانه، فتحدث عن مواطنها في رأيهم وأنها تركب النعام والظباء والحشرات وأنها تتصور في صور كثيرة، وتتوالد مع الناس، وقد تستهويهم وتقتلهم أو تخبلهم، ويُسْمَعُ ليلًا عزيفهم وهتافهم، ومنهم من يألف الكهان ويخدمهم وهو الَّرئيّ، ومنهم من صورته على نصف صورة الإنسان ويسمى شِقًّا، ولكل شاعر شيطانه الذي ينفث فيه الشعر. ومنهم السعلاة والغول، وهي من سباعهم، ويزعم تأبط شرًّا في شعر يضاف إليه أنه لقيها في ليلة مظلمة وهو يسعى في فلاة، فنازلها وما زال بها حتى قتلها وهو لا يعرفها، يقول(28) -إن صح أنه قائله-:
فلم أنفك متكئًا عليها لأنظر مصبحًا ماذا أتاني
إذا عينان في رأسٍ قبيحٍ كرأس الهِرِّ مشقوق اللسانِ
وساقا مخدج وشواة كلب وثوب من عباء أو شنان(29)
وهؤلاء الوثنيون كانوا ينكرون الرسل وأن هناك إلهًا واحدًا قال جل وعز: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 4 - 7]. وكانوا لا يؤمنون ببعث ولا نشور يقول جلَّ ذكره: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [الأنعام: 29] وقال: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } [الجاثية: 24] وقال: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 78، 79]. ولا نصل إلى أواخر العصر الجاهلي حتى نجد استعدادًا لفكرة الإله الواحد، وخاصة عند طائفة كانت تدعى باسم الحُنَفاء، وكانت تشك في الدين الوثني القائم وتلتمس دينًا جديدًا يهديها في الحياة. يقول ابن إسحاق: "اجتمعت قريش يومًا في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويديرون "يطوفون" به، وكان ذلك عيدًا لهم في كل سنة يومًا فخلص منهم أربعة نفر نجيًّا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض قالوا: أجل، وهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل؛ فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما قومكم على شيء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجرٌ نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، يا قوم التمسوا لأنفسكم دينًا؛ فإنكم والله ما أنتم على شيء. فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم، فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية، وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر، وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، وقال أعبد رب إبراهيم"(30) ومعروف أنه أسلم وكان من الصحابة الأولين المقدمين.
وأكبر الظن أن كلمة حنيف معناها المائل عن دين آبائه كما يدل على ذلك اشتقاقها، ولم يكن هؤلاء الحنفاء في مكة وحدها، فقد كانوا منتشرين في القبائل؛ إذ تعد كتب الأدب والتاريخ منهم قس بن ساعدة الإيادي وأبا ذر الغفاري وصِرْمة ابن أبي أنس أحد بني النجار في المدينة وعامر بن الظرب العدواني وخالد بن سنان العبسي وأمية بن أبي الصلت الثقفي وعمير بن جندب الجهني. ويمكن أن ندخل فيهم كثيرين ممن حرموا على أنفسهم في الجاهلية الخمر والسكر والأزلام(31) مثل عبد المطلب بن هاشم وقيس بن عاصم التميمي وحنظلة الراهب بن أبي عامر غسيل الملائكة. ولا نرتاب في أن صنيع هؤلاء؛ إنما كان شكًّا في حياتهم الدينية، وكل ذلك يؤكد أن الوثنية الجاهلية كانت على وشك الانحلال، فما انبلجت أضواء الإسلام، حتى اعتنقه العرب ودخلوا فيه أفواجًا.
_________
(1) راجع جواد علي 5/ 20 وما بعدها و5/ 53 وما بعدها حيث يذكر رأي رينان وآراء غيره من المستشرقين.
(2) انظر الحيوان 4/ 461 وما بعدها.
(3) جواد علي 6/ 284 وما بعدها.
(4) الأصنام لابن الكلبي ص 17 وما بعدها ومادة العزي في معجم البلدان.
(5) الأصنام ص 16 والمحبر لابن حبيب ص 315 ومعجم البلدان في اللات.
(6) الأصنام ص 14 وأخبار مكة للأزرقي "طبعة المطبعة الماجدية" 1/ 73. ومعجم البلدان في مناة والمحبر ص 316.
(7) الأصنام ص 55 وما بعدها والمحبر ص316 ومعجم البلدان في "ود".
(8) الأصنام ص 57 ومجمع البيان في تفسير القرآن للطبري 10/ 364 ومادة رهاط حيث أقاموه في معجم ما استعجم للبكري ومعجم البلدان لياقوت.
(9) الأصنام ص 10، 57 والمحبر ص 317 والطبري 10/ 364 ومعجم البلدان في يغوث.
(10) الأصنام ص 10، 57 والطبري 10/ 364 ويعوق في معجم البلدان.
(11) الأصنام ص 57 والطبري 10/ 364 ومادة نسر في معجم البلدان واللسان وتاج العروس.
(12) الطبري 10/ 364.
(13) انظر الجزء الثاني من ابن الأثير في ذكر فتح مكة.
(14) الأصنام ص 28 والطبري 10/ 364
(15) الأصنام ص 29 والمحبر ص 318 والطبري 10/ 364.
(16) الأصنام 34، 47 والأزرقي 1/ 256 والمحبر ص 317.
(17) الأصنام ص 37 وتاج العروس. واللسان في مادة الشرى.
(18) الأصنام ص33.
(19) المحبر ص180 وما بعدها.
(20) المحبر ص179 والأزرقي 1/ 114.
(21) الأزرق: 1/ 114.
(22)الأزرقي: 1/ 116 وما بعدها.
(23) المحبر ص 311.
(24) السيرة النبوية " طبع الحلبي" 1/ 15 والكامل لابن الأثير "طبع ليدن" 1/ 301 وأغاني "طبعة دار الكتب" 9/ 84 وطبعة الساسي 15/ 70 والسيرة الحلبية "طبع بولاق" 1/ 5.
(25) انظر مجمع الأمثال للميداني 1/ 91، 1/ 223، 2/ 54.
(26) المحبر ص 184.
(27) انظر الحيوان: 1/ 18 وما بعدها.
(28) الأغاني: 18/ 212.
(29) مخدج: ناقص الخلق، الشواة: الأطراف، الشنان: جلد القربة البالي.
(30) السيرة النبوية: 1/ 237.
(31) المحبر ص 237.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|