أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-9-2016
279
التاريخ: 19-9-2016
294
التاريخ: 19-9-2016
368
التاريخ: 19-9-2016
506
|
- تعريفها ومعناها لغة وشرعا .
- أدلة حجية البينة .
- شرائطها والقيود المعتبرة فيها .
- الموارد المستثناة من هذه القاعدة .
- اعتبار كون البينة في الأمور المحسوسة .
- كون حجية البينة عاما لكل أحد وبالنسبة الى جميع الاثار .
- نسبة البينة مع غيرها .
- تعارض البينتين .
حجية البينة والمراد منها هنا شهادة عدلين، أو ما يقوم مقامها من شهادة المرأة، في جميع الموضوعات، مما يترتب عليه حكم من احكام الشرع، فلا يدور الكلام مدار لفظ «البينة» فلا يهمنا البحث في ان تسمية شهادة العدلين باسم البينة هل هي حقيقة شرعية ثابتة من لدن زمن النبي صلّى اللّه عليه وآله أو بعد ذلك في زمن المعصومين عليهم السّلام أو في لسان الفقهاء؟
والحاصل ان المقصود هنا إثبات قاعدة كلية تقوم على حجية شهادة عدلين في جميع أبواب الفقه، سواء في باب القضاء أو غيره من الأبواب والموضوعات.
وعدها من القواعد الفقهية - لا من المسائل الأصولية ولا المسائل الفقهية - انما هو من هذه الجهة، فإنه لا يبحث هنا عن ما يقع في طريق الاستنباط حتى يكون مسألة أصولية، بل يبحث عن ما يقع في طريق إثبات الموضوعات.
كما انه ليست من المسائل الخاصة في الفقه، لأنه يجري في جميع الأبواب من الطهارة إلى الديات، وعلى كل حال نتكلم في هذه القاعدة في مقامات:
1- المقام الأول: في تعريف البينة ومعناها لغة وشرعا.
2- المقام الثاني: في أدلة حجيتها بعنوان عام من الكتاب والسنة والإجماع وبناء العقلاء.
3- المقام الثالث : شرائطها والقيود المعتبرة فيها.
4- المقام الرابع: الموارد المستثناة من هذه القاعدة التي يلزم فيها أربع شهود وما يقوم شهادة المرأة مقام شهادة الرجل.
5- المقام الخامس: في اعتبار كون البينة في الأمور المحسوسة.
6- المقام السادس: في كون حجية البينة عاما لكل أحد وبالنسبة الى جميع الاثار.
7- المقام السابع: في نسبة البينة مع غيرها.
8- المقام الثامن: في تعارض البينتين.
المقام الأول في تعريفها ومعناها لغة وشرعا :
«البينة» مأخوذة من «بان، يبين، بيانا وتبيانا» وهي كما قال «الراغب» في «المفردات» الدلالة الواضحة، عقلية كانت أو محسوسة، وسمي الشاهدان بينة لقوله صلّى اللّه عليه وآله «البينة على المدعى واليمين على من أنكر» «1».
وقد استعمل في هذا المعنى (الدلالة الواضحة) في عشرات من الايات في القرآن الحكيم.
وقد استعمل بصورة المفرد في تسعة عشر موضعا من كتاب اللّه منها قوله تعالى {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف73 , 85] .
وقوله تعالى {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
وبصورة الجمع «البينات» في اثنين وخمسين موضعا، منها قوله تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] وقوله تعالى {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99].
والمراد منها في جميع هذه الايات على كثرتها هو معناها اللغوي أي الأمر البين الواضح، سواء كان من المعجزات الباهرات، أو من الآيات القرآنية، والكلمات الإلهية، التي نزلت على الأنبياء والرسل.
واستعمل أيضا سائر مشتقاتها من «المبينة» و«المبينات» و«المبين» و«المستبين» وغيرها في آيات كثيرة في هذا المعنى.
ومن الجدير بالذكر انه لم يستعمل في شيء من آيات الكتاب على كثرتها هذه الكلمة في معناها المصطلح في الفقه، بل استعمل- كما سيأتي- شهادة العدلين أو الرجلين أو شبه ذلك.
ومن هنا وقع الكلام بينهم في ان لها حقيقة شرعية في شهادة العدلين من لدن زمن النبي صلّى اللّه عليه وآله أو لم تثبت له ذلك، وانما ثبت كونها حقيقة في هذا المعنى في زمن الصادقين عليهما السّلام ومن بعدهم من الأئمة عليهم السّلام، أو لم يثبت شيء من ذلك؟
الظاهر من كلمات القوم ان البينة كانت حقيقة في هذا المعنى من لدن عصره صلّى اللّه عليه وآله ولذا استدلوا بالحديث المشهور منه صلّى اللّه عليه وآله «إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان» على حجية قول العدلين.
قال بعض المحققين: «تبادر هذا المعنى منها في لسان الشرع يرجع الى انصراف المفهوم الكلي الى بعض مصاديقه، ولذلك لم يحتمل احد من الفقهاء من قوله صلّى اللّه عليه وآله «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» «2» أو قوله صلّى اللّه عليه وآله «إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان» «3» ان يكون مراده صلّى اللّه عليه وآله غير هذا المعنى.
ولكن يمكن الخدشة فيه بان فهم الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) وتبادر هذا المعنى في أذهانهم، يمكن ان يكون مستندا الى ما حدث في الأزمنة المتأخرة، فلا يكون دليلا على كونها حقيقة في هذا المعنى في عصر النبي صلّى اللّه عليه وآله ومن بعده.
وقال في «تحقيق الدلائل» بأن اختصاص عنوان البينة في الشريعة عند الإطلاق على ما فوق الواحد، من الواضحات بأدنى رجوع الى كلماتهم والاخبار، فبسببه بعد اشتهار قوله صلّى اللّه عليه وآله «البينة على المدعى.» جعلت شهادة خزيمة ثابت شهادتين وسمى به حتى اشتهر بذي الشهادتين وبه اتفقت الأخبار الحاكية لقضاياهم على شهادة اثنين (انتهى موضع الحاجة) «4».
فإن كان مراده من ذلك كونه حقيقة في هذا المعنى من لدن زمانه صلّى اللّه عليه وآله فما ذكره لا يثبت شيئا من ذلك، وجعل شهادة خزيمة شهادتين من قبيل بيان المصداق ولا يدل على انحصار المفهوم فيه.
وقال النراقي في العوائد ان معناها المصطلح في الاخبار هو الشاهد المتعدد، ويدل عليه توصيفها في رواية منصور عن الصادق عليه السّلام بالجمع حيث قال «و اقام البينة العدول» «5».
ولذا قال في التنقيح: «و الذي يمكن ان يقال ان لفظ البينة لم تثبت لها حقيقة شرعية ولا متشرعة، وانما استعملت في الكتاب والاخبار بمعناها اللغوي، وهو ما به البيان وما به يثبت الشيء، ومنه قوله تعالى { بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ } [آل عمران: 184] وقوله تعالى {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1] وقوله تعالى {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [هود: 28] وغيرها من الموارد، ومن الظاهر انها ليست في تلك الموارد الا بمعنى الحجة وما به البيان ، وكذا في ما ورد عن النبي صلّى اللّه عليه وآله من قوله «إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان» اي بالايمان والحجج، وما به يبين الشيء، ولم يثبت في شيء من هذه الموارد ان البينة بمعنى شهادة عدلين وغرضه صلّى اللّه عليه وآله من قوله «إنما أقضي» على ما نطقت به جملة من الاخبار بيان ان النبي صلّى اللّه عليه وآله وسائر الأئمة عليهم السّلام سوى خاتم الأوصياء المهدي (عجل الله فرجه) لا يعتمدون في المخاصمات والمرافعات على علمهم الوجداني المستند إلى النبوة والإمامة» «6».
أقول: ولكن مع ذلك كله فهناك قرائن مختلفة واردة في اخبار الباب يمكن ان يستفاد من مجموعها ان البينة كانت حقيقة في هذا المعنى في عصر الأئمة عليهم السّلام وانتقلت من معناها اللغوي العام الشامل لكل دليل، الى خصوص شهادة العدلين، وإليك نماذج منها:
1- ما ورد في ذيل رواية سعدة بن صدقة الاتية، من قوله «و الأشياء كلها على هذا حتى تستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة» «7» فإن جعل الاستبانة في مقابل قيام البينة دليل على ان البينة ليست مطلق الاستبانة والدليل الظاهر الواضح، بل خصوص شهادة العدلين.
2- ويدل عليه أيضا، في رواية منصور قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: «رجل في يده شاة فجاء رجل فادعاها فأقام البينة العدول انها ولدت عنده. وجاء الذي في يده بالبينة مثلهم عدول أنها ولدت عنده.».
فان توصيف البينة بالعدول مرتين في الرواية دليل على ان المراد منها الشهود العدول عند إطلاقها، ولذا أطلق عنوان البينة على هذا المعنى من غير تغيير بالعدول في نفس هذه الرواية مرارا، حيث قال الصادق عليه السّلام في جوابه: «حقها للمدعي ولا اقبل من الذي في يده بينة، لان اللّه عز وجل إنما أمر ان تطلب البينة من المدعي فان كانت له بينة والا فيمن الذي هو في يده، هكذا أمر اللّه عز وجل» «8».
3- ما ورد في رواية محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان (أرواحنا فداه) وفيها قوله في السؤال «أقام به البينة العادلة. وله بذلك كله بينة عادلة» «9».
فإن توصيف البينة بالعادلة قرينة على ان المراد منها خصوص الشهود لا غير.
4- ما ورد في رواية أبي بصير عن ابي عبد اللّه عليه السّلام «قال سئلت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يأتي القوم فيدعى دارا في أيديهم ويقيم البينة، ويقيم الذي في يده الدار البينة أنه ورثها عن أبيه، ولا يدري كيف كان أمرها؟ قال: أكثرهم بينة يستحلف وتدفع إليه» «10».
فإن تقييد البينة بالأكثرية دليل على ان المراد منها خصوص الشهود فتدبر.
5- ما ورد في رواية «عبد اللّه بن سنان» قال سمعت «أبا عبد اللّه» عليه السّلام يقول أن رجلين اختصما في دابة الى علي عليه السّلام فزعم كل واحد منهما انها نتجت عنده على مزودة، واقام كل واحد منهما البينة سواء في العدد.» «11».
فان توصيف البينة بقوله سواء في العدد دليل على ان المراد منها الشهود.
6- وما ورد في تفسير الامام الحسن بن علي العسكري عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «إذا تخاصم اليه رجلان قال للمدعي أ لك حجة؟ فان أقام بينة يرضاها ويعرفها أنفذ الحكم على المدعى عليه، وان لم يكن له بينة حلف المدعى عليه باللّه ما لهذا قبله ذلك الذي ادعاه، ولا شيء منه، وإذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شر قال للشهود أين قبائلكما فيصفان.» الحديث «12».
فان توصيف البينة بكونها معروفة عنده صلّى اللّه عليه وآله ويرضاها، دليل على ان المراد منها الشهود، ولذا ذكر في مقابله بعد تلك العبارة قوله «و إذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شر» فبدل البينة بالشهود فهذا دليل على ان المراد بهما واحد، فاذا عرف الشهود ورضيها حكم به وان لم يعرفهم بعث الى قبائلهما واستخبر حالهما.
ويتحصل من جميع ذلك ان كونها حقيقة في هذا المعنى في زمن الأئمة عليهم السّلام بحيث يفهم منها عند إطلاقها لا ينبغي إنكاره، واما كونها كذلك في زمن النبي صلّى اللّه عليه وآله فهو قابل للتأمل، وان كان بعض ما مر مشعرا بكونه كذلك حتى في عصره صلّى اللّه عليه وآله واللّه العالم.
المقام الثاني في أدلة حجية البينة ك
ويدل عليها أمور:
الأول «كتاب اللّه العزيز» :
وفيه آيات كثيرة تدل على حجية قول العدلين من غير التصريح بعنوان البينة.
منها ما ورد في سورة المائدة في أحكام الوصية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] ودلالتها على حجية قول العدلين واضحة، وان لم يكن موردها خصوص الشهادة بل يحتمل كونهما مع ذلك وصيين عن الميت، فاذا قبلت قولهما في الشهادة والوصاية فقبوله في الشهادة المجردة عن الوصاية بطريق اولى.
واما قوله تعالى «أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» فالمراد منه على الظاهر شاهدان آخران ثقتان من غير المسلمين إذا لم يوجد من المسلمين، ولا شك انه مختص بحال الضرورة، والا فالأيمان شرط بلا اشكال.
واحتمل بعضهم ان يكون المراد من قوله «مِنْكُمْ» من أقاربكم و«غَيْرِكُمْ» اي من الأجانب «13».
و قد يقال ان قوله «أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» منسوخ ولكن المشهور بين الأصحاب بقائه وعدم نسخه، وتخصيصه بشهادة أهل الذمة مع تعذر شهادة المسلمين في الوصية.
واما القيود الأخر الواردة في هذه الآية من قوله {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 106] سواء كانت واجبة أو مستحبة فهي مختصة بموردها، وما يلحق بها، ولا ينافي ما نحن بصدده.
ومنها قوله تعالى في حكم كفارة قتل الصيد في حال الإحرام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } [المائدة: 95].
دل على وجوب كون الكفارة مماثلا للحيوان الذي اصطاده، وحيث ان المماثلة قد تخفى وتكون موردا للشك وجب ان تكون بحكم ذوي عدل، اي خبرتين عدلين.
وهل المراد المماثلة في الكبر والصغر والنوع، أو المماثلة في القيمة؟ الظاهر هو الأول واليه ذهب أصحابنا في ما يوحد له مماثل.
وتقييده بقوله «مِنْكُمْ» بعد ذكر العدالة اما من باب التأكيد لأن العدالة لا ينفك عن الايمان والإسلام، واما من جهة ان العدالة هنا بمعنى الوثاقة الى قد تجتمع مع الايمان وعدمه، فذكر هذا القيد لاشتراط الايمان.
نعم يرد عليه ان الآية ناظرة إلى حجية قول أهل الخبرة، مع ان كلامنا في حجية قول الشاهدين في المحسوسات، ولكن يمكن الجواب عنه بأن حجية قول العدلين في الحدسيات دليل على حجيته في الحسيات بطريق أولى (فتأمل).
ومنها قوله تعالى في أحكام الطلاق {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] أي إذا بلغت النساء عدتهن، والمراد ببلوغ العدة، كما قيل، مقاربتها أو مشارفة تمامها بحيث يبقى للزوج مجال للرجوع، فاما ان يرجع إليها ويحسن معاشرتها فيكون من قبيل الإمساك بالمعروف، أو يتركها حتى يخرج عدتها فيكون من المفارقة بالمعروف.
وهل الاشهاد بالنسبة إلى الرجوع كما قالت الشافعية، أو راجع الى الطلاق كما ذهب إليه أصحابنا، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السّلام لكون الكلام في الطلاق، لا يتفاوت فيما نحن بصدده، فإنه دليل على حجية قول العدلين اما في الطلاق أو الرجوع وهو المطلوب.
ومنها قوله تعالى في حكم الدين {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } [البقرة: 282] , {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [البقرة: 282] دلت الآية على الوجوب أو استحباب كتابة الديون وإشهاد رجلين مسلمين بقرينة قوله تعالى : «مِنْ رِجٰالِكُمْ» «فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأَتٰانِ».
وقوله «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ» إشارة إلى العدالة أو الوثاقة.
وقوله بعد ذلك «وَأَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ» ظاهر في إشهاد عدلين، الذي سبق ذكره، فالاية دالة على حجية قول العدلين في الديون وكذا في أبواب البيوع.
وكون هذا الحكم بعنوان الوجوب أو الاستحباب لا يهمنا بعد ما عرفت وقال في كنز العرفان: «الأمر هنا عند مالك للوجوب والأصح انه اما للندب أو الإرشاد إلى المصلحة» «14».
ولو لم يكن المقام مقام الإرشاد أمكن القول بوجوبه لظهور الأمر في الوجوب.
و تحصل مما ذكرنا حجية شهادة العدلين في الطلاق، والوصية، والدين، والبيع، واحكام الكفارات، وهل يمكن استفادة العموم من هذه الموارد الخاصة، أو لا بد من الاقتصار على مواردها، وعدم التعدي منها الى غيرها؟
الإنصاف أنه بحسب الفهم العرفي يصطاد منها العموم بلا اشكال، لا سيما مع مناسبة الحكم والموضوع، وقوله تعالى في أحكام الدين {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] الذي هو من قبيل التعليل وهو دليل على العموم ولا أقل من الاشعار.
وبالجملة لو لم يكن في المقام دليل آخر على العموم كفانا ما ورد في الكتاب العزيز، ولكن ستعرف ان هناك أدلة كثيرة أخرى أيضا.
وقد يستدل هنا بالآيات الواردة في حكم وجوب الشهادة مثل قوله تعالى {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] وقوله تعالى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } [الطلاق: 2] وغير ذلك.
و لكن الإنصاف أنها بأنفسها غير دالة على المقصود الا ان ينضم إلى الإجماع أو غيرها، بل يأتي فيها ما ذكر في الأصول في أبواب حجية خبر الواحد، من ان وجوب الإظهار على العالم، والإنذار على الفقيه، وأشباههما لا تدل على حجية قولهم تعبدا، نعم غاية ما يمكن ان يقال في المقام انها لو لم تكن حجة لكانت لغوا ولكن يكفي في دفع اللغوية حصول العلم منها كثيرا كما يحصل بقول العالم والفقيه.
الثاني : السنة :
اما الروايات العامة فهي كثيرة واردة في باب القضاء منها :
1- ما رواه يونس عمن رواه، قال: استخراج الحقوق بأربعة وجوه، بشهادة رجلين عدلين، فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فان لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدعي، فان لم يكن شاهد فاليمين على المدعى عليه «15».
و لكنها مرسلة مضافا الى الإضمار وعدم التصريح باسم الإمام المروي عنه فيه.
2- ما رواه صفوان الجمال في حديث قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لقد حضر الغدير اثنا عشر ألف رجل يشهدون لعلي بن أبي طالب عليه السّلام فما قدر على أخذ حقه، وان أحدكم يكون له المال ويكون له شاهدان فيأخذ حقه «16».
3- ما رواه محمد بن سنان عن الرضا عليه السّلام في ما كتب إليه في جواز مسائله:
«و العلة في شهادة أربعة في الزنا واثنتين في سائر الحقوق، لشدة حد المحصن ، لان فيه القتل» «17».
الى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى.
4- منها ما دل على «ان البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه» بنحو عام، كالخبر المعروف المروي عن النبي صلّى اللّه عليه وآله قال «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه» «18» وهو مروي أيضا عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله «البينة على من ادعى واليمين على من ادعي عليه» «19».
5- ما رواه سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال في كتاب علي عليه السّلام ان نبيا من الأنبياء شكى الى ربه فقال يا رب! كيف اقضي فيما لم أر ولم اشهد؟ قال فأوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به وقال هذا لمن لم تقم له بينة «20».
والروايات في هذا المعنى كثيرة جدا (رواها في الوسائل في الباب الأول والثاني والثالث من أبواب كيفية الحكم من كتاب القضاء).
ولكن كل ذلك مبينة على ان المراد بالبينة شاهدي عدل، وقد مر كلامنا في هذا المعنى فراجع.
ثمَّ ان هذه الروايات وان كانت عامة في أبواب القضاء متضافرة، أو متواترة ولكن لا تشمل الموضوعات المختلفة في أبواب الفقه إذا لم تكن محلا للدعوى، اللهم الا ان يتمسك بالأولوية، ويقال: إذا كان الشاهدان حجة في أبواب الحكم والقضاء، وما فيه النزاع والدعوى، ففي ما ليس كذلك يكون حجة بطريق أولى وليس ببعيد.
واما الروايات العامة التي تشمل الأبواب كلها سواء أبواب القضاء وغيرها فلم نجد منها غير رواية «مسعدة بن صدقة» المروية عن «أبي عبد اللّه عليه السّلام» قال سمعته يقول: «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو السرقة، والمملوك لك لعله حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» «21».
وأورد عليها تارة بضعف السند للإشكال المعروف في وثاقه «مسعدة» فإن النجاشي والعلامة في الخلاصة والشيخ في الفهرست والكشي وغيرهم ذكروه من غير توثيق، مضافا الى انه عامي بتري ولكن أجيب عنه بان عمل الأصحاب يوجب انجبارها.
هذا ولكن وجود روايات كثيرة وآيات متعددة على حجية شهادة العدلين يمنع عن العلم أو الظن بكون استناد الأصحاب في إثبات حجيتها إلى رواية مسعدة.
وأورد عليها من حيث الدلالة أيضا أو لا بان المراد من البينة معناها اللغوي، وهو الدليل الواضح الظاهر، ولا أقل من الشك فالرواية مجملة.
ولكن قد عرفت انها وان كانت بهذا المعنى في اللغة، والاستعمالات القرآنية ولكن نقلت الى المعنى الشرعي، لا سيما في زمن الصادقين عليهما السّلام.
وهنا قرينة واضحة في نفس الرواية على هذا المعنى أيضا فإنه جعلت البينة في مقابل الاستبانة العلمية، فقال «حتى تستبين أو تقوم به البينة» وهذا يدل على ان المراد بالبينة غير ما هو معناها اللغوي، والا لم يحتج اليه بعد ذكر الاستبانة.
وثانيا ان البينة في الرواية جعلت غاية للحليّة، فغاية ما يستفاد منها ان الحلية المستندة إلى أصالة الحل تنتهي بقيام البينة، واما ان البينة حجة في نفسها فلا دليل عليه.
والانصاف سقوط هذا الاشكال جدا، فان ظاهرها- لا سيما بقرينة عطف البينة على الاستبانة- انه إذا قام البينة، أو الدليل العلمي على الحرمة، يؤخذ بها، لأنها حجة، فإذا لا يبقى مجال بلا اشكال على الرواية من حيث الدلالة.
وهاهنا اشكال آخر لا من هذه الناحية، بل من جهة ان الحلية في الأمثلة المذكورة في الرواية ليست مستندة الى أصالة الحل، بل في مسألة الثوب، والعبد مستندة الى حجية اليد، وفي مسألة الرضاع مستندة الى استصحاب عدمه، فشيء من الأمثلة غير منطبق على قاعدة الحل.
ولكن يمكن ان يجاب عنه أو لا بان المراد من الاستناد إلى قاعدة الحل انه مع قطع النظر عن اليد والاستصحاب الحكم هو الإباحة فتأمل، أو ان ذكر الأمثلة من باب التقريب الى الذهن.
وثانيا وجود الاشكال فيها من حيث الأمثلة وعدم العلم بمحتواها ومغزاها من هذه الناحية، لا يمنع عن الأخذ بالكبرى الواردة فيها فتدبر.
هذا وقد ورد روايات خاصة كثيرة في مختلف أبواب الفقه لا يمكن إحصاء جميعها في هذا المختصر، ولكن يمكن اصطياد العموم من مجموعها، واستظهار الإطلاق من ناحيتها، بحيث لا يبقى شك للناظر فيها في حجية البينة مطلقا وإليك نماذج من هذه الروايات نلقيها عليك من أبواب مختلفة من كل باب نموذجا.
منها ما ورد في أبواب النكاح، عن يونس: «قال سئلته عن رجل تزوج امرأة في بلد من البلدان فسألها لك زوج؟ فقالت لا، فتزوجها، ثمَّ ان رجلا أتاه فقال هي امرأتي فأنكرت المرأة ذلك، ما يلزم على الزوج؟ فقال هي امرأته الا ان يقيم البينة» «22».
ومن طرق العامة ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وآله انه قال: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل «23».
وفي رواية أخرى المروي عن طرقنا عن أبي الحسن موسى عليه السّلام قال لأبي يوسف: «ان اللّه أمر في كتابه بالطلاق، وأكد فيه بشاهدين، ولم يرض بهما الا عدلين، وأمر في كتابه بالتزويج، فأهمله بلا شهود، فأثبتّم شاهدين فيما أهمل، وأبطلتم الشاهدين فيما أكد» «24»! وفي غير واحد منها انه انما جعلت البينة في النكاح من أجل المواريث.
وهناك روايات أخر واردة في أبواب 22 و23 وغيرهما من كتاب النكاح في الوسائل مما يدل على هذا المعنى.
ومنها ما ورد في أبواب الطلاق من اشتراط صحة الطلاق بوجود شاهدين عدلين، فان هذا ليس تعبدا محضا، بل الظاهر ان اعتبار الشهود من جهة عدم خفاء طلاق المرأة، وإمكان إثباته في المستقبل، سواء عند القضاة أو غيرهم، فلا يرجع هذا الحكم إلى حجية البينة في أبواب القضاء فقط.
فعن بكير بن أعين وغيره عن أبي جعفر عليه السّلام: «و ان طلقها للعدة بغير شاهدي عدل فليس طلاقه بطلاق» «25».
ومنها ما ورد في أبواب رؤية الهلال من كتاب الصوم، مثل ما عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ان عليا عليه السّلام كان يقول: لا أجيز في الهلال إلا شهادة رجلين عدلين» «26».
وما رواه حماد بن عثمان عنه عليه السّلام أيضا قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا يجوز شهادة النساء في الهلال ولا يجوز إلا شهادة رجلين عدلين» «27».
وما رواه منصور بن حازم عنه عليه السّلام أيضا: انه قال: «صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته، وان شهد عندك شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه» «28».
ومثله روايات كثيرة أخرى أوردها في الوسائل في أبواب الصيام.
وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا مثل ما رواه ابن عمر وابن عباس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قالا: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لا يجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين «29».
ولكن ورد من طرقهم كفاية شهادة الرجل الواحد أيضا.
ومنها ما ورد في أبواب الأطعمة في باب الجبن عن أبي عبد اللّه عليه السّلام حيث شك بعض أصحابه في حليته لما وصل إليهم من وضع إنفحة الميتة، فيها قال عليه السّلام:
«كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان ان فيه ميتة» «30».
وقد ذكرنا في محله ان إنفحة الميتة وان كانت طاهرة وحلالا عند الأصحاب ولكن يمكن نجاسة ظاهرها بالملاقاة مع الرطوبة بالميتة.
ومنها ما ورد في كتاب الحدود في حكم الساحر انه سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن الساحر، فقال: إذا جاء رجلان عدلان فشهدا بذلك فقد حل دمه «31».
ومنها ما ورد في باب الشهادة على الشهادة عن الصادق عليه السّلام «ان شهد رجلان عدلان على شهادة رجل فقد ثبت شهادة رجل واحد» «32».
ومنها ما ورد في أبواب الوقوف والصدقات عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: الا أحدثك بوصية فاطمة عليها السّلام- الى أن قال- فان مضى علي فالى الحسن فان مضى الحسن فالى الحسين، فان مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي، تشهد اللّه على ذلك والمقداد بن الأسود والزبير بن العوام وكتب علي بن أبي طالب عليه السّلام «33».
ومنها ما ورد في أحكام الوصايا عن علي عليه السّلام قال: «من أقر لأخيه فهو شريك في المال ولا يثبت نسبه، فإن أقر اثنان فكذلك، الا ان يكونا عدلين فيثبت نسبه، ويضرب في الميراث معهم» «34».
هذا قليل من كثير مما ورد في هذه الأبواب مما يتجاوز حد التواتر وهي وان كانت واردة في موضوعات خاصة، الا ان الناظر فيها يستدل بها على العموم في أول نظرة، بحيث لا يبقى له شك في ان قبول قول الشاهدين في هذه الأبواب لا ينشأ من خصوصيات فيها، بل هو ناش عن حجية قول العدلين على الإطلاق وفي جميع الأبواب.
الثالث: الإجماع :
لا يخفى على الناظر في أبواب الفقه، من الطهارات الى الديات، ان فقهائنا (رضوان اللّه عليهم) يعتمدون على البينة في كل باب بحيث يعلم الناظر منها حجية البينة عندهم بصورة عامه. نعم قد يحكى عن شرذمة قليلة عدم الاعتماد عليها في بعض الأبواب، مثل ما نسب إلى القاضي ابن براج من إنكار حجية البينة العادلة في إثبات النجاسة، وما حكى عن ظاهر السيد (قدس سره) في الذريعة، والمحقق في المعارج، وبعض آخر من ان الاجتهاد لا تثبت بشهادة عدلين لعدم الدليل عليه.
لكنها شاذة لا يمكن الاعتماد عليها في قبال ما عرفت.
نعم الإجماع وان كان ثابتا الا انه لا يمكن الاستدلال بها كدليل مستقل هنا، لما حقق في محله من انه لا يمكن استكشاف قول المعصوم منه مع وجود أدلة أخرى في المسئلة، مع ان معيار حجيتها هو استكشاف قول المعصوم منه، وما نحن فيه من هذا القبيل، لما عرفت من الأدلة الظاهرة الواضحة المتكاثرة من هذا الباب.
ولا بأس بالإشارة إلى أنموذج من كلمات الأصحاب في الأبواب المختلفة مما يشهد بمعلومية حجية البينة عندهم كدليل عام، وكفاك في ذلك ما أورده شيخ الطائفة (قدس اللّه نفسه الزكية) في مختلف أبواب الفقه فإنه اعتمد عليها، بل ادعى الإجماع على اعتبارها، في أبواب «الصيام» و«الطلاق» و«الحدود» و«النكاح» وغيرها.
قال في «الخلاف» في كتاب الصيام في المسألة (8):
«لا يقبل في رؤية هلال رمضان إلا شهادة شاهدين. دليلنا إجماع الطائفة والاخبار» «35».
وقال في المسألة (61) منه : «لا يثبت هلال شعبان (شوال) ولا شيء من الشهور إلا بشهادة نفسين عدلين، وبه قال الشافعي. دليلنا إجماع الفرقة، وأيضا قبول شاهدين في ذلك مجمع عليه» «36».
وقال في المسألة (5) من كتاب الطلاق: «كل طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان عدلان وان تكاملت سائر الشروط فإنه لا يقع. دليلنا إجماع الفرقة واخبارهم «37».
ومن الواضح ان حضور الشاهدين دليل على قبول شهادتهما في هذا الموضوع فيما يمكن ان يقع الخلاف فيه بعد ذلك.
وقال في كتاب اللعان في المسألة (18): إذا قذف زوجته بان رجلا أصابها في دبرها حراما لزمه الحد بذلك. وله إسقاطه بالبينة «38».
وقال في كتاب القضاء في المسألة (9) في حكم الترجمة: «الترجمة: لا تثبت إلا بشهادة شاهدين لأنها شهادة» وبه قال الشافعي «39».
وقال في كتاب الشهادات في المسألة (4): لا يثبت النكاح والخلع والطلاق والرجعة والقذف والقتل الموجب للقود والوكالة والوصية اليه والوديعة عنده والعتق والنسب والكفالة ونحو ذلك ما لم يكن مالا ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال، إلا بشهادة رجلين. دليلنا ان ما اعتبرناه مجمع على ثبوت هذه الاحكام به «40».
وعموم كلامه وشموله واضح لا يخفى على احد.
وهكذا كلمات غيره من أكابر المتقدمين والمتأخرين في هذا المعنى لا نطيل المقام بذكرها بعد وضوحها.
الرابع: بناء العقلاء :
لا شك ان بنائهم على قبول قول الثقة في إثبات الموضوعات في مقام القضاء وغيره، وان اختلف آرائهم في شرائطه وحدوده وقيوده وعدده، ومن الواضح ان الشارع لم يردع عنه بل أمضاه ولكن مع شرط «العدالة» و«العدد» كما عرفت وسيأتي ان شاء اللّه أيضا في طي المباحث الآتية.
المقام الثالث شرائطها والقيود المعتبرة فيها :
ولا نحتاج في هذا المقام الى مزيد كلام بعد ما عرفت من الايات من الذكر الحكيم، التي ورد فيها اعتبار الرجلين والعدالة، فقد نص على ذلك في سورة المائدة في حكم الوصية، وفي سورة الطلاق في حكم الطلاق، وفي سورة البقرة في أحكام الدين، وفي سورة المائدة في حكم أهل الخبرة بمساواة الكفارة والصيد.
كل ذلك دليل على اعتبار الأمور الثلاثة في البينة: «الذكورية» و«العدد» و«العدالة».
وقد صرح بذلك أيضا في طيات اخبار الباب التي عرفت الإشارة إلى طوائف منها، فقد ورد فيها التصريح بالتعدد والعدالة والذكورية.
فمما ورد التصريح فيه بجميع ذلك مرسلة الصدوق عن الصادق عليه السّلام في باب الشهادة على الشهادة «41».
وما رواه حماد بن عثمان عن الصادق عليه السّلام في أبواب رؤية الهلال «42».
وما رواه الحلبي عنه أيضا عن أمير المؤمنين في هذا الباب «43».
وما رواه زيد بن علي عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في حكم الساحر «44».
الى غير ذلك مما يظهر للمتتبع.
ومما يدل على اعتبار «شاهدين عدلين» ما ورد أيضا عن محمد بن مسلم عن ابي عبد اللّه عليه السّلام في باب الشهادة على الهلال «45».
وما رواه بكير بن أعين وغيره عن أبي جعفر عليه السّلام في باب الشهود على الطلاق «46».
وما رواه في «البحار» عن «فقه الرضا» في باب الطلاق أيضا، وانه لا يجوز إلا بشهادة عدلين «47» الى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى.
ومن الواضح ظهور عنوان شاهدين عدلين في الشرائط الثلاثة «التعدد» و«الذكورة» و«العدالة».
وقد ورد في بعض اخبار الباب اعتبار كونهما رجلين عدلين مرضيين وهو يثبت المقصود مع تأكيد، وهو ما رواه «مسمع بن عبد الملك» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في باب الشهادة على الزندقة «48».
نعم لم يرد في بعض الروايات الا توصيف الشهادة بالعادلة، مثل ما رواه ضمرة ابن أبي ضمرة، عن أبيه، عن جده، عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «ان احكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنة ماضية، من أئمة الهدى» «49».
وفي بعضها ورد عنوان الرجولية والتعدد، من غير ذكر اشتراط العدالة مثل ما رواه محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام في باب الشهادة على السرقة، من ان أمير المؤمنين عليه السّلام قضى في رجل شهد عليه رجلان بأنه سرق، فقطع يده «50».
وما ورد فيه عنوان «البينة» من غير ذكر العدد والعدالة والذكورة، وهي روايات كثيرة مبثوثة في أبواب الفقه .
ومن الواضح ان مقتضى القاعدة الجمع بين جميع هذه الطوائف وإرجاع مطلقاتها الى مقيداتها، باعتبار الشروط الثلاثة، فلا يكفي غير رجلين عدلين الا ما خرج بالدليل وسيأتي الإشارة اليه ان شاء اللّه .
المقام الرابع الموارد المستثناة من هذه القاعدة :
قد عرفت ان الأصل في البينة ان يكون رجلين عدلين فشهادة النساء، واخبارهم لا تقبل إلا في موارد ورد الدليل الخاص فيها وسيأتي الكلام فيها في المقام الاتي، وكذلك لا يعتبر أكثر من الرجلين إلا في موارد خاصة، وقع التصريح بها في الأدلة.
و اما انه هل يمكن الاكتفاء بقول عدل واحد مطلقا في جميع الموضوعات، أو مع اليمين في أبواب الشهادات، فهو بحث آخر سيأتي في محله ان شاء اللّه.
والذي قام الدليل على اعتبار الزائد من الرجلين فيها هو «الزنا» مطلقا، المحصن وغير المحصن، واللواط، والسّحق، فان المعتبر فيها اربع رجال، حتى ان قتل النفوس المؤمنة مع كثرة اهميتها وشدة اهتمام الشارع بها لا يعتبر في إثباتها غير الشاهدين فكأن الشارع المقدس أراد ستر الناس في هذين البابين مهما أمكن والاحتفاظ بأمرهم.
والذي يدل على لزوم الأربع في الزنا هو صريح الكتاب العزيز فقد قال (عز من قائل) في كتابه العزيز {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] دل على ان حكم القذف لا يثبت إلا بأربعة شهداء.
والتعبير بأربعة وكذلك «الشهداء» دليل على كونهم من الذكور.
ويدل عليه أيضا قوله تعالى {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } [النساء: 15].
وقد قام الإجماع بقسميه على هذا المعنى وشهد بها السنة المعتبرة المستفيضة، فقد قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا يجلد رجل ولا امرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهود على الإيلاج والإخراج» «51».
وقال عليه السّلام أيضا: «لا يرجم رجل ولا امرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهود على الإيلاج والإخراج» «52».
الى غير ذلك مما جمعه في الوسائل في الباب «12» من أبواب حد الزنا، وغيرها.
وورد التصريح فيها بأنه إذا كانت الشهود أقل من أربعة يجلدون حد القذف!.
وهكذا الحكم بالنسبة إلى اللواط فإنه أيضا مجمع عليه بين الأصحاب، وان لم يرد فيه رواية صريحة، ولكن استدل الأصحاب هنا بما ورد في صحيحة «مالك بن عطية» عن ابن عبد اللّه عليه السّلام من اعتبار اقرارات اربع وعدم كفاية إقرار واحد بل ولا ثلاثة «53».
فإن المترائى من أحاديث الإقرار في أبواب الزنا ان كل إقرار يقوم مقام شهادة فإذا اعتبر الإقرار أربع مرة فلا بد من اعتبار اربع شهود، لا سيما مع كون الإقرار أولى من الشهادة في هذه الأبواب كما لا يخفى، ولذا يكفي في أبواب الحقوق الإقرار مرة واحدة، مع ان الشهادة فيها لا تكون الا باثنين، فاذا لم يثبت اللواط بأقل من اربع اقرارات لا يثبت بأقل من اربع شهود بطريق اولى.
والحاصل ان الحكم في هذا الباب مما لا يقبل الإنكار ولا كلام فيه عندهم.
وهكذا الكلام في المساحقة، فإن المعروف فيها أيضا عدم اعتبار الأقل من أربعة شهود، بل ادعي الإجماع عليه في كشف اللثام، وذكر في الجواهر ان المسألة مفروغ عنها، وان حكي عن المحقق الأردبيلي في مجمع البرهان من كفاية الإقرار مرتين وشهادة العدلين ولكنه ضعيف.
لما ورد في الروايات انه هو الزناء الأكبر الذي أحدثه بنت إبليس كما أحدث أبوها اللواط «54» بل وفيها ما دل على انه كاللواط في الرجال «55».
وما دل على ان حدها حد الزاني (في غير المحصن مائة جلدة وفي المحصن الرجم) «56». ويظهر من جميعها ان طريق ثبوتها كطريق ثبوت الزنا واللواط، فلا يكتفي فيه بأقل من أربعة وتمام الكلام فيه في محله.
واما عدم قبول شهادة النساء في الموضوعات فهو ظاهر مما عرفت من الأدلة والاخبار الكثيرة التي صرح فيها باعتبار رجلين عدلين، أو شاهدين مرضيين، أو غير ذلك مما يفيد هذا المعنى، فالأصل في أبواب الشهادات عدم قبول شهادتهن في غير ما ورد فيه الدليل.
فما ذكره بعض الاعلام من ان عنوان البينة عام يشمل الرجال والنساء كما ترى لما عرفت من ان إطلاق البينة- لو سلمنا صدقها على شهادتهن- مقيدة بما عرفت مما يدل على اعتبار الذكورية فيها، من الروايات الواردة في الأبواب المختلفة.
نعم قد ورد في أبواب الشهادات كفاية شهادتهن في بعض الموضوعات، كما ورد كفاية شهادتهن منضمات الى الرجال في أبواب الحدود، وتفصيل الكلام فيها موكول الى محلها من كتابي «الشهادة» و«الحدود».
المقام الخامس في اعتبار كون البينة في الأمور المحسوسة :
لا ينبغي الشك في ان المعتبر في حجية البينة ان يكون في المحسوسات، واما غيرها مما لا يحيط به الحس فهو غير داخل في أحكام البينة، وان قلنا بحجية الشهادة فيها أيضا، فإنه داخل في عنوان الرجوع الى أهل الخبرة، وله أحكام أخر سيأتي الإشارة إليها ان شاء اللّه.
و يدل على ما ذكرنا أمور :
1- الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في هذا المعنى .
2- أخذ عنوان الشهادة في هذا الباب دليل عليه، فإنها من الشهود الظاهر في كون المشهود فيه امرا محسوسا.
3- الأخبار العامة والخاصة الواردة في البينة التي أشرنا إليها سابقا كلها أو جلها ظاهرة في ما كان المخبر به امرا حسيا، فلا يستفاد منها عموم يشمل غير المحسوسات.
4- الروايات الخاصة الدالة على لزوم كون الشهادة عن حس دليل واضح على المقصود مثل ما رواه علي بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تشهدن بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك» «57».
وما رواه المحقق (ره) في الشرائع عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وقد سئل عن الشهادة، قال:
«هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع» «58».
ولا أقل من الشك في شموله لما علم من غير طريق الحس، والأصل عدم القبول- والأمر في هذا سهل- لا سيما مع بناء العقلاء أيضا في شهاداتهم على ذلك فلا يكتفون بشهادة من علم بشيء من قرائن حدسية.
انما الكلام في المراد من الحس هنا، فإنه لو كان المقصود كون مورد الشهادة دائما محسوسا بأحد الحواس الخمسة (أو أكثر من الخمسة) فهذا غير صحيح قطعا، فان من يشهد بان زيدا ابن عمرو، أو اخوه، أو عمه، أو خالة، فهل يمكن ان يكون هذا محسوسا له، وهل شاهد تولده منه، أو تولدهما من أم واحد؟ كلا بل رآه في بيته يعامل معه معاملة ابنه، يربيه ويكفله واشتهر بذلك كل الشهرة، فمن هذه الأمور يقطع بأنه ابنه فيشهد به.
و هكذا الكلام في الشهادة على العدالة فإنها ليست من الأمور الحسية، بل مستفادة من قرائن كثيرة حسية.
ومثلهما الشهادة على الاجتهاد والإسلام والايمان وغير ذلك، فان هذه كلها أمور غير محسوسة تعرف من آثارها ولكنها تعد في نظر العرف أمورا حسية.
فالحس المعتبر في هذا الباب له معنى عام، يشمل ما كان محسوسا بنفسه، أو بآثاره التي يكون معها كالمحسوس.
وهكذا الكلام في المسببات التوليدية التي لا ترى إلا أسبابها، وآثارها، فقتل النفس وهو زهاق الروح ليس امرا حسيا، بل المحسوس ضرب العنق بالسيف مثلا أو الإلقاء من شاهق، أو الإغراق في الماء، أو الإحراق بالنار، ثمَّ بعد ذلك لا يرى الحس والحركة في البدن ولا يرى آثار الحيوة فيقال كان زهاق الروح مسببا منه لا محالة.
ومن هذا القبيل الشهادة بالسخاوة والشجاعة وإباء النفس أو البخل والدنائة والجبن وغير ذلك من الصفات النفسية، فإن جميعها تعرف من آثارها.
وبالجملة المحسوس هنا أعم مما يحس بنفسه، أو بأسبابه، أو بآثاره التي تكون معها كالمحسوس بنفسه، نعم لا يمكن التعدي منها الى غيرها.
فعلى هذا إذا علمنا من قرائن مختلفة ان زيدا قاتل عمرو.
من تلجلج لسانه عند الجواب.
ومن تغيّر حاله عند مشاهدة آثار هذه الجناية.
ومن أجوبته المتناقضة عند السؤال عن القتل.
ومن كونه شديد العداوة مع المقتول، وسماع الحوار بينهما في ساعة وقوع القتل، وغير هذه الأمور مما يوجب اليقين بكونه قاتلا، فشيء من ذلك لا يجوز الشهادة معها على القتل، ولا تكون داخلا في عنوان البينة، وان كان القاضي قد يعمل بها لو حصلت عنده بناء على حجية علم القاضي، وجواز الحكم معه مطلقا، أو فيما كان قريبا من الحس، مثل ما روي في قضايا أمير المؤمنين علي عليه السّلام في رجل توفي على عهده وخلف ابنا وعبدا، فادعى كل واحد منهما انه الابن، وان الأخر عبد له! فأتيا أمير المؤمنين عليه السّلام فتحاكما إليه، فأمر أن يثقب في حائط المسجد ثقبين ثمَّ أمر كل واحد منهما ان يدخل رأسه في ثقب، ففعلا، ثمَّ قال يا قنبر جرد السيف وأشار إليه لا تفعل ما آمرك به، ثمَّ قال اضرب عنق العبد فنحّى العبد رأسه! فأخذه أمير المؤمنين عليه السّلام وقال للآخر أنت الابن «59».
وليس في هذا الحديث إشارة إلى اعتراف واحد منهما بعد ذلك وان ورد في قضية أخرى مشابهة لها ولكن الظاهر انهما قضيتان «60».
ومثله ما حكاه المفيد في الإرشاد، وقال روت العامة والخاصة أن امرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل ادعته كل واحدة منهما ولدا لها بغير بيّنة- وفي ذيلها- ان عليا عليه السّلام قال ايتوني بمنشار! فقالت المرأتان فما تصنع به؟ فقال أقده نصفين، لكل واحد منهما نصفه! فسكتت إحديهما، وقالت الأخرى اللّه اللّه يا أبا الحسن! ان كان لا بد من ذلك فقد سمحت به لها، فقال عليه السّلام اللّه أكبر هذا ابنك دونها! (الحديث) «61».
الى غير ذلك مما يظفر بها المتتبع في طيات كتاب القضاء وغيره، فهذا كله مما يجوز للقاضي الحكم به لعلمه الحاصل من هذه المقدمات القريبة من الحس، ولكن لا يجوز للشاهد الاعتماد في شهادته على هذه الأمور وأشباهها.
المقام السادس في كون حجية البينة عاما لكل احد، وبالنسبة الى جميع الاثار
لا ينبغي الشك في ان مقتضى الأدلة السابقة حجية البينة بالنسبة الى جميع الاثار والى كل أحد، كسائر الامارات القائمة على الموضوعات، وانه لا اختصاص لحجيتها بمن قامت عنده البينة، بل الملاك العلم بقيامها وشهادتهما، سواء كانت عنده، أو عند غيره، ولا يحتمل بعد ملاحظة الأدلة المذكورة ان يكون لقيام البينة عند شخص موضوعية، حتى لا تكون حجة لغيره كما هو كذلك في سائر الأمارات.
بل لو لا وسوسة بعض الأصحاب في ذلك، وتعرضهم للمسئلة وجعلها ذات قولين، لم نحتج الى هذا المقدار من البحث أيضا، وأي خصوصية للبينة من بين الامارات؟ وأي اثر لقيامها عندي أو عندك؟ بل المدار على تحققها في الخارج عند اي شخص.
نعم في أبواب القضاء والأحكام الصادرة من القضاة يمكن ان يقال ان لقيام البينة عند القاضي خصوصية، ولكنه أيضا قابل للكلام، وعلى كل حال لا دخل له بحجية البيّنة كامارة من الامارات القائمة على الموضوعات الخارجية، والكلام هنا فيها فقط.
ويؤيد ما ذكرنا بل ويدل عليه ما ورد في جواز الشهادة على الشهادة، وانه حجة مطلقا، أو إذا كان شاهد الأصل لا يمكنه الحضور، ولا ينافي ما دل على انه لا تجوز شهادة على شهادة على شهادة كما لا يخفى، فراجع الباب (44) من أبواب الشهادات من الوسائل.
المقام السابع في نسبة البينة مع غيرها
إذا تعارضت البينة مع الأصول العلمية المخالفة لها فالأمر واضح، واما إذا تعارضت مع غيرها من الامارات كاليد وأصالة الصحة والقرعة، بناء على كونها امارة والإقرار، وغير ذلك، مما يستند إليه في إثبات الموضوعات الخارجية، ففيه تفصيل.
وحاصله انها تقدم على قاعدة اليد وأصالة الصحة بغير كلام، والا لم يصح الحكم به في أبواب القضاء، فان جميع موارد البينة أو جلّها في المسائل المالية تكون في مقابل اليد، أو أصالة الصحة في فعل المسلم، فقوله صلّى اللّه عليه وآله: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» دليل قاطع على ما ذكرنا.
أضف الى ذلك ورودها في خصوص مورد اليد في بعض ما مر من الاخبار، مثل رواية مسعدة بن صدقة، فان الأمثلة المذكورة فيها بعضها من موارد أصالة الصحة وبعضها من مصاديق قاعدة اليد مع انه عليه السّلام حكم بأن الأشياء على هذه حتى تستبين أو تقوم به البينة.
و بالجملة لا ينبغي الشك في تقدمها عليهما، والا لم تبق لأبواب القضاء قائمة.
واما إذا تعارض مع قاعدة «الفراغ»، بان شك مثلا بعد الفراغ عن الصلاة أنه توضأ لها أم لا، ثمَّ قامت بينة على انه كان محدثا حالها بان قام من النوم واقبل على الصلاة، والظاهر انها أيضا مقدمة على قاعدة الفراغ أيضا، سواء قلنا انها من الأصول أو من الامارات، لقوتها عليها، لا سيما مع تقديمها على قاعدتي اليد والصحة اللتان لا تقلّان عن قاعدة الفراغ.
واما إذا تعارضت مع «الإقرار» كما إذا قامت البينة على ان هذا المال لزيد ولكنه أقر نفسه بأنه ليس له، فالظاهر تقديم الإقرار عليه، لأنه أقوى حجة عند العقلاء والظاهر ان حكم الشارع بحجيتهما انما هو من باب إمضاء بناء العقلاء بجميع شئونهما حتى من هذه الجهة إلا ما خرج بالدليل.
والحاصل انه لا يشك أحد انه لو قامت البينة على ملكية شيء لإنسان، ولكنه أقر نفسه بعدمها، ان بناء العرف والعقلاء على تقديم إقراره وتخطئة البينة، ولم يرد في الشرع ما يدل على خلافه.
نعم يظهر من بعض الروايات المعتبرة الواردة في أبواب القتل، انه إذا شهدت الشهود على شخص انه قاتل، ثمَّ أقر آخر انه هو القاتل، وان المشهود عليه برئ من قتله، ان أولياء المقتول مخيرون بين أمور.
الأول: ان يقتل الذي أقر على نفسه، وحينئذ لا سبيل لهم على الأخر كما لا سبيل لورثة الذي أقر على نفسه على المشهود عليه.
الثاني: ان يقتل الذي شهدت الشهود عليه ولا سبيل لهم على الذي أقر، ثمَّ يؤدي الذي أقر على نفسه إلى أولياء الذي شهد عليه نصف الدية.
الثالث: ان يقتلوهما جميعا ولكن يجب على أولياء المقتول ان يدفعوا إلى أولياء المشهود عليه نصف الدية خاصة دون صاحبه.
الرابع: ان يأخذوا الدية منهما نصفين «62».
و هذه الرواية وان عمل بها جمع من الأصحاب الا ان العمل بها مع مخالفتها للقواعد والأصول التي بأيدينا من جهات شتى مشكل جدا، لا سيما في أبواب الدماء فالاحتياط مما لا ينبغي تركه، ولو قلنا به في موردها فلا يمكن التعدي الى غير موردها بل الواجب العمل بالإقرار، إذا كان جامعا لشرائطه وترك البينة لما عرفت من انه أقوى منها.
المقام الثامن في تعارض البينتين
هذه المسألة مذكورة في كتاب القضاء، وقد ذكروا فيها ابحاثا كثيرة هناك، الا ان الذي يهمنا هنا هو الإشارة إليها بعنوان كلي، وإيكال جزئياتها إلى مباحث القضاء وحاصله ان دليل حجية البينة كسائر الأمارات الشرعية لا تشمل المتعارضين، لأن حجية كليهما- والمفروض انهما متعارضتان- محال، لاشتمالها على الجمع بين النقيضين أو الضدين، كما ان شمولها لواحد معين منهما ترجيح بلا مرجح، لا يمكن المصير إليه.
والقول بالأخذ بأحدهما مخيرا أيضا بلا دليل، لان دليل الحجية قامت على حجية كل واحد منهما تعيينا واما حجية واحد منهما على التخيير فلم يدل عليه دليل.
كما ان حجية أحدهما لا بعينه مما لا ينبغي التفوه به، لما ذكرنا في محلة من ان الواحد لا بعينه لا وجود له في الخارج، فما في الخارج معين دائما، وانما يوجد هذا المفهوم في الذهن فقط، اللهم الا ان يرجع الى القول بالتخيير وقد عرفت حاله.
وحينئذ لا يبقى بحال الا للقول بتساقطهما بعد التعارض، والرجوع الى أدلة أخرى.
هذا هو مقتضى القاعدة في هذا الباب ولكن هناك روايات كثيرة، تدل بعضها على وجوب القرعة بين البينات، وايها وقعت القرعة عليها، فعلى صاحبها اليمين، وهو اولى بالحق «63».
و في بعضها ان الحق لمن حلف مع بينته، وانهما ان حلفا جميعا جعل المال بينهما نصفين، وان كان في يد أحدهما وأقاما جميعا البينة كان للحالف الذي هو في يده «64».
وفي بعضها العمل على طبق اليد من دون يمين، وانه لو لم يكن في يده جعل المال بينهما نصفين «65» الى غير ذلك.
وذكر شيخ الطائفة في الخلاف انه إذا تعارضت البينتان على وجه لا ترجيح لأحدهما على الأخر أقرع بينهما فمن خرج اسمه حلف، واعطي الحق، هذا هو المعول عليه عند أصحابنا، وقد روي انه يقسّم بينهما نصفين.
ثمَّ نقل عن الشافعي فيه أربعة أقوال: الأول وهو أصحها انهما تتساقطان وبه قال مالك. الثاني يقرع بينهما كما قلناه، وهل يحلف أم لا؟ قولان.
الثالث يوقف ابدا.
الرابع يقسم بينهما نصفين، وبه قال ابن عباس والثوري وأبو حنيفة وأصحابه.
ثمَّ قال دليلنا إجماع الفرقة على ان القرعة تستعمل في كل أمر مجهول مشتبه وهذا داخل فيه والاخبار في المسألة كثيرة أوردناها في كتب الاخبار. «66».
هذا ولتحقيق الحق من بين هذه الأقوال محل آخر قد عرفته.
____________
(1) المفردات: مادة «بين».
(2) المستدرك كتاب القضاء الباب 3 من أبواب أحكام الدعوى.
(3) الوسائل كتاب القضاء الباب 2 من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.
(4) تحقيق الدلائل ص 259.
(5) العوائد ص 277.
(6) التنقيح ج 1 ص 258.
(7) الوسائل ج 12 أبواب ما يكتسب به الباب 4 الحديث 4.
(8) الوسائل ج 18 كتاب القضاء الباب 12 من أبواب كيفية الحكم الحديث 14.
(9) الوسائل ج 18 كتاب القضاء الباب 16 من أبواب كيفية الحكم الحديث 1.
(10) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 12 الحديث 1.
(11) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 12 الحديث 15.
(12) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 6 الحديث 1.
(13) حكاه في «كنز العرفان» عن بعض من لم يسمه (ج 2 ص 97 كتاب الوصية).
(14) كنز العرفان كتاب الدين ج 2 ص 47.
(15) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 15 الحديث 2.
(16) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 15 الحديث 3.
(17) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 5 الحديث 2.
(18) التاج ج 3 ص 61 كتاب الامارة والقضاء باب البينة على المدعى واليمين على من أنكر.
(19) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 3 الحديث 1.
(20) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 1 الحديث 1.
(21) الوسائل كتاب التجارة أبواب ما يكتسب به الباب 4 الحديث 4.
(22) الوسائل ج 14 كتاب النكاح أبواب عقد النكاح الباب 23 الحديث 3.
(23) سنن البيهقي ج 10 ص 148 والتاج ج 2 ص 293 كتاب النكاح.
(24) الوسائل ج 14 كتاب النكاح أبواب مقدماته الباب 43 الحديث 5.
(25) الوسائل ج 15 كتاب الطلاق أبواب مقدماته الباب 10 الحديث 2 وفي معناها الحديث 3 و4 و7 و8 و12 و13.
(26) الوسائل ج 7 كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب 11 الحديث 1
(27) الوسائل ج 7 كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب 11 الحديث 3
(28) الوسائل ج 7 كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب 3 الحديث 8.
(29) سنن البيهقي ج 4 ص 212 (باب الشهادة على رؤية هلال رمضان).
(30) الوسائل ج 17 كتاب الأطعمة والأشربة أبواب الأطعمة المباحة الباب 16 الحديث 2.
(31) الوسائل ج 18 كتاب الحدود أبواب بقية الحدود الباب 3 الحديث 1.
(32) من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 40 رقم الحديث 132.
(33) الوسائل ج 13 كتاب الوقوف والصدقات احكام الوقوف الباب 10 الحديث 1.
(34) الوسائل ج 13 كتاب الوصايا أبواب أحكام الوصايا الباب 26 الحديث 6.
(35) الخلاف ج 1 ص 341.
(36) الخلاف ج 1 ص 355.
(37) الخلاف ج 2 ص 442.
(38) الخلاف ج 3 ص 36.
(39) الخلاف ج 3 ص 312.
(40) الخلاف ج 3 ص 326.
(41) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات أبواب الشهادات الباب 44 الحديث 5.
(42) الوسائل ج 7 كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب 11 الحديث 3
(43) الوسائل ج 7 كتاب الصوم أبواب أحكام شهر رمضان الباب 11 الحديث 1
(44) الوسائل ج 18 كتاب الحدود أبواب بقية الحدود الباب 2 الحديث 1.
(45) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 14 الحديث 1.
(46) الوسائل ج 15 كتاب الطلاق أبواب مقدماته الباب 10 الحديث 2.
(47) البحار ج 104 ص 141 باب الطلاق واحكامه الحديث 21.
(48) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات أبواب الشهادات الباب 51 الحديث 1.
(49) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 1 الحديث 6.
(50) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات أبواب الشهادات الباب 14 الحديث 1.
(51) الوسائل ج 18 كتاب الحدود أبواب حد الزنا الباب 12 الحديث 11.
(52) الوسائل ج 18 كتاب الحدود أبواب حد الزنا الباب 12 الحديث 2.
(53) الوسائل ج 18 أبواب حد السرقة الباب 19 الحديث 6.
(54) الوسائل ج 18 أبواب النكاح المحرم الباب 24 الحديث 5.
(55) الوسائل ج 18 كتاب الحدود أبواب حد السحق الحديث 2.
(56) الوسائل ج 18 أبواب حد السحق الباب 1 الحديث 1.
(57) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات الباب 20 الحديث 1 و3.
(58) الوسائل ج 18 كتاب الشهادات الباب 20 الحديث 1 و3.
(59) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 21 الحديث 9 و4.
(60) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 21 الحديث 9 و4.
(61) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 21 الحديث 11.
(62) الوسائل ج 19 كتاب القصاص أبواب دعوى القتل الباب 5 الحديث 1.
(63) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 12 الحديث 5 و6.
(64) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 12 الحديث 2.
(65) الوسائل ج 18 كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم الباب 12 الحديث 3.
(66) الخلاف ج 3 كتاب الدعاوي والبينات المسألة 10 ص 356.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|