المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8120 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05
مـعاييـر تحـسيـن الإنـتاجـيـة
2024-11-05
نـسـب الإنـتاجـيـة والغـرض مـنها
2024-11-05
المـقيـاس الكـلـي للإنتاجـيـة
2024-11-05
الإدارة بـمؤشـرات الإنـتاجـيـة (مـبادئ الإنـتـاجـيـة)
2024-11-05
زكاة الفطرة
2024-11-05

الهزاز التوافقي ثنائي الأبعاد
14-2-2022
مميزات الخطاب الإعلامي
23-3-2022
ضغط التفجر burst pressure
2-3-2018
Relative Error
13-2-2021
ازالة المادة القابضة من ثمار الكاكي
2023-11-28
القوانين البسيطة تصنع أشياء معقدة، أو الأشياء الصغيرة تعني الكثير
2023-04-06


مفهوم الشرط  
  
1778   01:12 مساءاً   التاريخ: 31-8-2016
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : أنوَار الاُصُول
الجزء والصفحة : ج 2 ص 14.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / المباحث اللفظية /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-8-2016 4030
التاريخ: 29-6-2020 1286
التاريخ: 5-8-2016 1579
التاريخ: 25-6-2020 1731

هل للجملة الشرطيّة مفهوم، أو لا؟

اختلف الأصحاب في دلالتها على المفهوم وعدمها، والتحقيق في حلّ المسألة ملاحظة ما ينشأ منه المفهوم، أي ملاحظة الخصوصيّات الموجودة في المنطوق التي يمكن أن يفهم منها المفهوم.

فنقول: من الخصوصيّات المذكورة في كلماتهم في هذه الجهة خصوصيّة أدوات الشرط، فقد يدّعى أنّ أداة الشرط وضعت للدلالة على علّية الشرط للجزاء عليه منحصرة، وهي تقتضي انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، وهذا هو المفهوم.

ولكن الحقّ والإنصاف أنّ أداة الشرط وضعت لمطلق العلقة والملازمة بين الشرط والجزاء في الوجود سواء كانت من قبيل الملازمة الموجودة بين العلّة والمعلول، أو الملازمة الموجودة بين معلولي علّة واحدة، وسواء كانت العلّية منحصرة أو غير منحصرة.

توضيح ذلك: أنّه تارةً لا يكون بين الشرط والجزاء ملازمة، بل المقارنة بينهما اتّفاقية، كما ورد في قول الفرزدق في حقّ الإمام زين العابدين (عليه السلام): يا هشام «إن كنت لا تعرفه فإنّي أعرفه» ونحو قولك: «إن لم تكن جائعاً فإنّي جائع»، واُخرى توجد بينهما ملازمة لكنّها ليست من باب الملازمة بين العلّة والمعلول بل من باب الملازمة بين معلولي علّة واحدة، نحو «إن جاء النهار ذهب الليل» ونحو «إن طال الليل قصر النهار» حيث إن كلّ واحد من الشرط والجزاء في كلا المثالين يكون معلولا لعلّة واحدة كما لا يخفى، أو يكون من باب الملازمة بين العلّة والمعلول لكن العلّة فيها هو الجزاء، والمعلول هو الشرط، نحو «إذا جاء النهار طلعت الشمس. وثالثة: يكون الترتّب من باب ترتّب المعلول على العلّة، لكن العلّية ليست منحصرة في الشرط، نحو «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» فإنّ علّة عاصميّة الماء ليست منحصرة في الكرّيّة، ولا يخفى أنّ أمثلة هذا القسم كثيرة غاية الكثرة، ورابعة: يكون الترتّب من باب ترتّب المعلول على العلّة، والعلّية منحصرة في الشرط، نحو «إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجودة»، وفي باب الاُمور الشرعيّة كأن يقال: «إذا آمن الإنسان دخل الجنّة».

إذا عرفت هذا فنقول: لو ثبت كون القضيّة الشرطيّة حقيقة في القسم الرابع وتكون مجازاً في الثلاثة الاُول تثبت دلالتها على المفهوم، ولكن أنّى لنا بإثبات ذلك؟

نعم، يمكن أن نقول بالمجاز في القسم الأوّل بل يمكن القول بوجود حذف فيه يقتضي كون المقارنة من باب العلّية لا الاتّفاق، كأن يقال بحذف «فلا يضرّ» أو «فلا إشكال» في قول الفرزدق، فقوله: «إن كنت لا تعرفه فإنّي أعرفه» يعني «إن كنت لا تعرفه فلا يضرّه لأنّي أعرفه»، وبالجملة لا يبعد دعوى المجاز في هذا القسم، أمّا القسم الثاني والثالث فإنّ الوجدان العرفي (أي عرف أهل اللسان) حاكم على عدم المجاز فيهما.

الخصوصيّة الثانية: هي إنصراف القضيّة الشرطيّة إلى العلّية المنحصرة، فقد يقال إنّها وإن وضعت أوّلا وبالذات لمطلق العلقة، لكن عند الإطلاق تنصرف إلى العلقة الناشئة من العلّية المنحصرة لأنّها أكمل فرد لمطلق العلقة.

ولكن يرد عليها أيضاً أنّ ما يوجب الانصراف إنّما هو كثرة الاستعمال التي توجب اُنساً ذهنياً بالنسبة إلى المنصرف إليه، وهي تارةً تنشأ من كثرة الافراد، واُخرى من غيرها، وأمّا مجرّد أكمليّة الفرد فلا توجب ذلك بل لعلّ الأمر بالعكس، أي أنّ الأكمليّة قد توجب الانصراف عن الفرد الأكمل لقلّته وندرته.

بقي هنا شيء:

وهو ما أفاده في المحاضرات من «أنّ دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم ترتكز على ركائز، منها أن يرجع القيد في القضيّة إلى مفاد الهيئة دون المادّة، والسبب في ذلك ما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أنّ القضايا الشرطيّة ظاهرة عرفاً في تعليق مفاد الجملة (وهي الجزاء) على مفاد الجملة الاُخرى (وهي الشرط)، وإلاّ لو بنينا على رجوع القيد إلى المادّة كما اختاره الشيخ الأنصاري(قدس سره) فحال القضيّة الشرطيّة عندئذ حال القضيّة الوصفيّة في الدلالة على المفهوم وعدمها لما سيأتي من أنّ المراد بالوصف ليس خصوص الوصف المصطلح في مقابل

سائر المتعلّقات بل المراد منه مطلق القيد»(1).

أقول: إنّ ما أفاده الشيخ الأعظم (رحمه الله) ليس هو كون القضيّة الشرطيّة ظاهرة في رجوع القيد إلى المادّة، بل مراده أنّ القيد راجع إلى المادّة لبّاً وإن كانت القضيّة ظاهرة في رجوعه إلى الهيئة لفظاً.

وبعبارة اُخرى: إنّ مقصوده أنّ القيد وإن كان للهيئة في مقام الاستظهار والإثبات، ولكنّه لابدّ من رجوعه إلى المادّة في مقام الثبوت من باب أنّ الهيئة من المعاني الحرفيّة التي ليست قابلة للتقييد لجزئيتها، وعلى هذا فلا فرق بين مختار الشيخ (قدس سره)وغيره في القضيّة الشرطيّة من حيث الظهور العرفي الذي هو الملاك والملحوظ في باب المفاهيم.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ مراد شيخنا الأعظم (قدس سره) أنّ الظهور البدوي وإن كان هو رجوع القيد إلى الهيئة ولكن بالنظر إلى القرينة العقليّة وهي عدم قابلية الهيئة للتقييد لابدّ أن يرجع إلى المادّة بحسب الدلالة اللفظيّة.

الخصوصيّة الثالثة: والطريق الثالث لفهم العلّية المنحصرة هو التمسّك بإطلاق الشرط، ويمكن تفسيرها ببيانات ثلاثة:

البيان الأوّل: أنّ إطلاق الشرط يقتضي انحصار العلّة فيه نظير اقتضاء إطلاق الأمر كون الوجوب فيه نفسيّاً تعيينيّاً.

ولكن يرد عليه:

أوّلا: أنّ قياس المقام بهيئة الأمر قياس مع الفارق فإنّ الإطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم بيان ما يكون قيداً مع كون المتكلّم في مقام البيان، وهو صادق في المقيس عليه لا في المقيس، لأنّ كون الوجوب غيريّاً مثلا قيد للوجوب كما يستفاد من قوله تعالى: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] حيث إن المستفاد منه أنّ وجوب الوضوء مقيّد بقصد القيام إلى الصّلاة، والنفسيّة تساوق حسب الفرض عدم كون الوجوب غيريّاً، فإذا كان المولى الشارع في مقام البيان ولم يذكر قيد الغيريّة للوجوب بل صدر منه الحكم مطلقاً كان المستفاد منه الوجوب النفسي، وأمّا في ما نحن فيه فلا يفيد الإطلاق إلاّ كون الشيء تمام الموضوع للحكم كما في قوله (عليه السلام): «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» فإنّ مقتضى إطلاق الشرط أنّ الكرّيّة مؤثّرة في العاصميّة من دون أن يكون شيء آخر دخيلا فيه، وإلاّ لكان عليه البيان، فالقيد هو دخل شيء آخر في موضوع الكرّيّة، وعدم بيانه مع كونه في مقام البيان يفيد أنّ الكرّيّة تمام الموضوع للعاصميّة، وأمّا كون شيء آخر موضوعاً للحكم أيضاً فلا يوجب تقييداً في هذا الموضوع بوجه لكي نستفيد من عدم بيانه انحصار الحكم في هذا الموضوع.

وبعبارة اُخرى: كون الكرّ علّة منحصرة في العاصميّة وعدمه لا دخل له ولا تأثير له في العلقة الموجودة بين الكرّيّة والعاصميّة، فإنّ الكرّيّة تمام الموضوع للعاصميّة سواء كانت العاصميّة منحصرة فيها أم لا، فلا يكون عدم الانحصار قيداً لعاصميّتها، ولا يقتضي الإطلاق انحصار العلّة.

وثانياً: قد مرّ أنّ المستفاد من الجملة الشرطيّة إنّما هو مطلق التلازم بين الشرط والجزاء أعمّ من أن يكون من باب التلازم بين العلّة والمعلول أو من باب التلازم بين معلولي علّة واحدة، فلا يكون مفاده منحصراً في العلّية حتّى يتكلّم في انحصارها أو عدم انحصارها.

البيان الثاني: أنّ عدم كون العلّة منحصرة يقتضي قيداً في الكلام، لأنّ معناه حينئذ أنّ هذا الشرط (وهو الكرّيّة مثلا) مؤثّر في الجزاء (وهو العاصميّة مثلا) إذا لم تتحقّق قبلها علّة اُخرى مثل كون الماء جارياً، وأمّا إذا كانت العلّة منحصرة فمعناه أنّ هذا الشرط يؤثّر في الجزاء مطلقاً سواء حصل قبله وصف الجريان أم لا، فلا حاجة حينئذ إلى تقييد شيء، فإذا كان المتكلّم في مقام البيان ولم يأت بالقيد المزبور (أي عدم تحقّق علّة اُخرى فيما قبل) كان المستفاد من إطلاق كلامه انحصار العلّة في الشرط.

ويرد عليه أيضاً:

أوّلا: ما مرّ آنفاً من أنّ غاية ما يستفاد من القضيّة الشرطيّة إنّما هو مطلق التلازم بين الشرط والجزاء لا خصوص التلازم الموجود بين العلّة والمعلول.

وثانياً: سلّمنا كون المستفاد من الجملة الشرطيّة هو العلّة والتلازم الموجود بين العلّة والمعلول، لكنّها تكون على حدّ العلّية الاقتضائيّة لا الفعليّة، أي يستفاد من قوله (عليه السلام) «الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء» إمكان أن تكون الكرّيّة علّة لعدم التنجّس والعاصميّة، لا أنّها علّة لها فعلا حتّى ينافي حصول علّة اُخرى من قبل.

البيان الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) وهو: «إنّ القضيّة الشرطيّة وإن كانت بحسب الوضع لا تدلّ على تقييد الجزاء بوجود الشرط لصحّة استعمالها بلا عناية في موارد القضيّة المسوقة لبيان الحكم عند تحقّق موضوعه، إلاّ أنّ ظاهرها في ما إذا كان التعليق على ما لا يتوقّف عليه متعلّق الحكم في الجزاء عقلا هو ذلك، فإذا كان المتكلّم في مقام البيان فكما أنّ إطلاقه الشرط وعدم تقييده بشيء بمثل العطف بالواو مثلا يدلّ على عدم كون الشرط مركّباً من المذكور في القضيّة وغيره كذلك إطلاقه وعدم تقييده بشيء بمثل العطف بأو يدلّ على انحصار الشرط بما هو مذكور في القضيّة وهذا نظير استفادة الوجوب التعييني من إطلاق الصيغة، فكما أنّ إطلاقها يقتضي عدم سقوط الواجب بإتيان ما يحتمل كونه عدلا له فيثبت به كون الوجوب تعيينياً كذلك مقتضى الإطلاق في المقام هو انحصار قيد الحكم بما هو مذكور في القضيّة فيثبت به أنّه لا بدل له في ترتّب الحكم عليه»(2).

ولكن يرد عليه: أنّه فرق بين ما إذا كان القيد جزء لموضوع الحكم المذكور في القضيّة وما إذا كان عدلا له، ففي الأوّل تكون المسألة كما أفاد، فلا بدّ من ذكره إذا كان دخيلا في موضوع الحكم فيقتضي عدم ذكره عدم دخله فيه، بخلافه في الثاني، لأنّ المتكلّم حينئذ إنّما يريد بيان وجود العلقة والملازمة بين الشرط والجزاء فحسب كما مرّ، ومعه لا ملزم لذكر ما يكون عدلا للشرط كما لا يخفى، وأمّا القياس بالوجوب التعييني فهو قياس مع الفارق، لأنّ الوجوب التعييني نوع خاصّ من الوجوب يغاير الوجوب التخييري، والوجوب التخييري لابدّ فيه من ذكر قيد وخصوصيّة في الكلام، أعني وجوبه إذا لم يأت بغيره، كما في مثل قولنا «اعتق رقبة مؤمنة إذا لم تصم شهرين متتابعين أو لم تطعم ستّين مسكيناً» فإذا لم يذكره في الكلام كان مقتضى الإطلاق أنّ الوجوب تعييني، وهذا بخلاف المقام، حيث إن ترتّب المعلول على علّته المنحصرة ليس مغايراً لترتّبه على غير المنحصرة سنخاً، بل إنّهما من سنخ واحد من دون أن يحتاج الثاني إلى ذكر قيد.

المختار في المسألة: التفصيل بين الحالات المختلفة للشرط، فنقول مقدّمة: لا شكّ في دلالة القضيّة الشرطيّة على الأقلّ على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط في الجملة بالتبادر والوجدان، وإلاّ لو كان الحكم ثابتاً على أي تقدير لاستلزم كون تعليقه على الشرط لغواً كما لا يخفى.

إذا عرفت هذا فاعلم: إنّه لا شكّ في دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم والعلّية المنحصرة فيما إذا كان الشرط من ضدّين لا ثالث لهما، نحو «المخبر إن كان فاسقاً فتبيّن» حيث إنّه لا يتصوّر بالنسبة إلى المخبر حالة اُخرى غير الفسق والعدل فلا ثالث لهما فيه، فإنّ مقتضى دلالة القضيّة الشرطيّة على الانتفاء عند الانتفاء في الجملة دلالتها على المفهوم في هذه الصورة كما لا يخفى، ونظير المثال المزبور قولك: «الإنسان إن كان مسافرا فعليه القصر» أو «إن كان مستطيعاً فعليه الحجّ» حيث لا ثالث للمسافر والحاضر، ولا للمستطيع وغير المستطيع.

وأمّا إذا كان للشرط حالات عديدة كما في قوله (عليه السلام) «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» حيث يتصوّر للماء إذا لم يكن كرّاً أن يكون مطراً أو جارياً أو ماء بئر أو غيره، فهو بنفسه على صورتين فتارةً يوجد فيها قدر متيقّن كالماء القليل في المثال، فلا شكّ أيضاً في دلالة القضيّة الشرطيّة حينئذ على المفهوم بالنسبة إليه، وإلاّ يلزم اللغويّة ورفع اليد عن دلالتها على الانتفاء عند الانتفاء في الجملة، واُخرى لا يوجد فيها قدر متيقّن كأن يقول الشارع «إذا دخل شهر رمضان فصوموا» حيث نعلم أنّ لرمضان دخلا في حكم الصّيام، وهو ينتفي عند انتفائه إجمالا، وإلاّ كان الصّيام واجباً في تمام أيّام السنة ولم يكن تعليقه بدخول شهر رمضان صحيحاً (كما لا يصحّ تعليق وجوب الصّلاة مثلا بدخوله، فيقال: «إذا دخل شهر رمضان فصلّوا» لوجوب الصّلاة في جميع أيّام السنة)، ففي هذه الصورة لا مفهوم صريحاً مشخّصاً للقضيّة لعدم تصوّر قدر متيقّن فيها بل لها مفهوم مبهم إجمالي لا يستفاد منه حكم متعيّن مخالف للمنطوق، فنعلم إجمالا في المثال المزبور عدم وجوب الصّيام في بعض شهور السنة.

فظهر أنّ الحقّ في المسألة هو التفصيل بين الصورتين الأوّليين والصورة الثالثة وثبوت المفهوم في الأوليين وعدمه في الثالثة.

ويمكن تقرير هذا ببيان آخر مرّ تفصيله في البحث عن الواجب المشروط والبحث عن حقيقة مفهوم «إنْ» الشرطيّة (وباللغة الفارسيّة مفهوم «اگر») فقد قلنا هناك أنّ حقيقة هذه الكلمة «تعليق حكم على فرض»، أي إذا رأينا عدم تحقّق حكم على نحو الإطلاق بل أنّه يتحقّق بعد تحقّق شيء آخر حكيناه على نهج القضيّة الشرطيّة، وحينئذ نقول: إذا لم يكن للقضية الشرطيّة مفهوم لم يصحّ أن تكون ماهيّة «إنْ» الشرطيّة «حكم على فرض» فإذا كان هذا هو ماهيتها يتصوّر فيها الحالات الثلاثة التي مرّت في البيان السابق، ويكون الكلام هو الكلام والتفصيل هو التفصيل.

هذا كلّه هو المختار في المسألة.

أدلّة المنكرين:

وهي وجوه:

منها: ما نسب إلى السيّد المرتضى (رحمه الله) وحاصله أنّه لا يمتنع أن يتخلّف شرط ويقوم مقامه شرط آخر فلا ينتفي الحكم بانتفائه.

واستشهد لذلك بقوله تعالى {...وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] حيث إنّه يقوم مقام شهادة الرجلين شهادة رجل واحد وامرأتين أو شهادة أربع نسوة.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني(رحمه الله) بأنّ السيّد المرتضى (رحمه الله) إن كان بصدد إمكان نيابة بعض الشروط عن بعض ثبوتاً وعدم انتفاء الحكم بانتفاء الشرط لقيام شرط آخر مكانه فالخصم لا ينكر ذلك وإنّما يدّعي عدم وقوعه إثباتاً، بمعنى دلالة الجملة الشرطيّة في مقام الإثبات على خلافه، وإن كان بصدد بيان أنّ هذا الاحتمال الثبوتي يؤثّر في ظهور الجملة فهو ممنوع جدّاً، لأنّ هذا لا يوجب الظهور ما لم يكن الاحتمال في مقام الإثبات راجحاً.

أقول: ويمكن أن نورد على السيّد (رحمه الله) أيضاً بوجهين آخرين:

الوجه الأول: خروج ما استشهد به في المقام عن محلّ النزاع حيث إن محل البحث هنا مدلول الجملة الشرطيّة لا ما يصدق عليه الشرط الفقهي، اللهمّ أن يقال بإمكان إرجاع قوله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}إلى قضيّة شرطيّة لغويّة فافهم.

الوجه الثاني: بناءً على ما اخترناه من التفصيل لا يرد علينا هذا الإشكال حيث إن أكثر ما يمكن أن يدّعيه ويثبته إنّما هو عدم دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم تفصيلا في بعض الموارد، وهو مقبول عندنا بل قد عرفت دلالته عليه إجمالا فراجع.

ومنها: أنّه لو دلّ الشرط على المفهوم لدلّ بإحدى الدلالات الثلاث، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

والجواب عنه منع بطلان التالي عندنا لأنّ الشرط يدلّ على المفهوم بالدلالة الالتزاميّة التي هي من الدلالات الثلاث.

ومنها: قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا ...} [النور: 33] حيث إنّه لو دلّ الشرط على المفهوم لدلّ قوله تعالى هذا على جواز الإكراه على البغاء إن لم يردن التحصّن وهو باطل بالضرورة.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني (رحمه الله) بما حاصله: أنّ عدم دلالة الشرط على المفهوم أحياناً بسبب خارجي وقرينة خارجيّة كالإجماع ونحوه ممّا لا يكاد ينكر، وإنّما القائل بالمفهوم يدّعي دلالة الشرط عليه بالظهور اللفظي وهو لا ينافي قيام قرينة خارجيّة على خلافه. هذا أوّلا:

ويمكن الجواب ثانياً: بأنّ الشرط في الآية ليس شرطاً للحكم من دون دخل له في تحقّق موضوعه، بحيث إذا انتفى الشرط كان الموضوع باقياً على حاله كما في قولك «إن جاءك زيد فأكرمه» بل هو شرط للحكم مع دخله في تحقّق الموضوع بحيث إذا انتفى الشرط فلا حكم ولا موضوع للحكم أصلا كما في قولك «إن رزقت ولداً فاختنه» فإنّ الفتيات إذا لم يردن التحصّن فلا إكراه هناك كي يبحث عن حرمته وعدمها.

ويمكن أن يكون التعبير بجملة « إن أردن تحصّناً » على نهج القضيّة الشرطيّة مع عدم انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط لنكتة أخلاقيّة تربويّة بالنسبة إلى أرباب الفتيات وهي أنّ بيان إرادة التحصّن والعفّة من جانب الفتيات مع عدم ترقّبه منهنّ لكونهنّ معدودات عند الناس من طبقة سافلة اجتماعيّة من حيث الثقافة والوعي يوجب تحضّ أربابهنّ وتحريك غيرتهم الإنسانيّة ( لو كانت لهم غيرة ) على العفّة وعدم الإكراه على البغاء.

إلى هنا تمّ الكلام عن أدلّة القائلين بمفهوم الشرط وأدلّة المنكرين له.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل : هل المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم بانتفاء شرطه أو انتفاء شخص الحكم؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه‌ الله إلى أنّ المراد من المفهوم في الجملة الشرطيّة هو انتفاء سنخ الحكم لا انتفاء شخصه وإلاّ ففي اللقب أيضاً ينتفي شخص الحكم بانتفائه ، فإنّ شخص الوجوب المنشأ بقولك « أكرم زيداً » منفي عن إكرام عمرو قطعاً مع أنّ المشهور هو أنّ القائلين بالمفهوم في الجملة الشرطيّة لا يقولون به في اللقب ، بل المراد من المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم ونوعه بانتفاء الشرط ففي مثل « إن جاءك زيد فأكرمه » كما أن شخص الحكم المنشأ على تقدير المجيء ، ينتفي بانتفاء المجيء ، فكذلك طبيعة الوجوب ونوعه ينتفي بانتفاء المجيء بمعنى أنّه لا وجوب لإكرامه عند عدم المجيء لا بهذا الإنشاء ولا بإنشاء آخر يماثله بحيث لو ثبت له وجوب بإنشاء آخر ولو معلّقاً على شرط آخر بأن قال مثلاً « وإن أحسن إليك فأكرمه » كان ذلك منافياً لمفهوم « إن جاءك زيد فأكرمه ».

ثمّ قال ما حاصله : ومن هنا انقدح أنّ دلالة القضيّة على الانتفاء عند الانتفاء في موارد الوصايا والأوقاف ونحوهما ليس من باب المفهوم بل من باب انتفاء شخص الحكم الذي يعترف به كلّ أحد ، ومن باب أنّ المفهوم عبارة عن نفي سنخ الحكم فيما أمكن ثبوته ولا يكاد يمكن ثبوت سنخ الحكم في هذه الموارد كي يمكن نفيه بالمفهوم ، فإنّ الدار مثلاً بعد أن وقّفها الواقف على أشخاص معينين بألقابهم أو بوصف شيء أو بشرط شيء كالفقر ونحوه ممّا لا يقبل أن تصير وقفاً ولو بإنشاء آخر على غيرهم أو عليهم عند انتفاء الوصف أو زوال الشرط عنهم كي ينفي بالمفهوم ، وهذا بخلاف الأمر في مثال « إذا جاءك زيد فأكرمه » فإنّه إذا أنشأ الوجوب لإكرام زيد على تقيّد مجيئه جاز ثبوت وجوب آخر ولو بإنشاء آخر لإكرامه عند عدم مجيئه ولو معلّقاً على شرط آخر بأن يقول مثلاً « وإن أحسن إليك فأكرمه » وهذا واضح.

إن قلت : إنّ الشرط المذكور إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه وهو شخص الحكم ، فأقصى ما تفيده الشرطيّة هو انتفاء ذلك الشخص ، وأين ذلك من دلالته على انتفاء نوع الوجوب كما هو المدّعى؟

قلنا : أجاب عنه شيخنا الأعظم قدس‌سره بأنّ الكلام المشتمل على المفهوم إن كان خبريّاً كقولك

 

« يجب على زيد كذا إن كان كذا » فالوجوب فيه كلّي فيكون الحكم المعلّق على الشرط كليّاً ولا يكون شخصياً كي يتوجّه الإشكال ، وإن كان إنشائيّاً كما في قولك « إن جاءك زيد فأكرمه » فالحكم المعلّق على الشرط وإن كان شخصياً ولكن نفي سنخ الحكم بانتفاء الشرط على القول بالمفهوم إنّما يكون من فوائد العلّية المنحصرة المستفادة من الجملة الشرطيّة فإنّ انتفاء شخص الحكم غير مستند إلى ارتفاع العلّية المنحصرة فإنّه يرتفع ولو في اللقب والوصف كما لا يخفى.

أقول : إن كان هذا هو كلام شيخنا الأعظم رحمه ‌الله كما جاء في التقريرات.

فيرد عليه : أنّ العلّة المنحصرة علّة للجزاء فإن كان الجزاء شخص الحكم يكون الشرط علّة منحصرة لذلك الشخص ، وإن كان الجزاء سنخ الحكم يكون الشرط أيضاً علّة منحصرة لسنخ الحكم ، فلا يستفاد من العلّية المنحصرة كون الجزاء سنخ الحكم.

نعم نقل في تهذيب الاصول كلام الشيخ قدس ‌سره بعبارة اخرى لا بأس بها بل يدفع بها الإشكال، وهي : « أنّ ظاهر القضيّة وإن كان ترتّب بعث المولى على الشرط إلاّ أنّه ما لم تكن مناسبة بين الشرط ومادّة الجزاء كان طلب إيجاد الجزاء عند وجود الشرط لغواً وجزافاً ، فالبعث المترتّب يكشف عن كونهما بمنزلة المقتضي ( بالكسر ) والمقتضى ( بالفتح ) فيتوصّل في بيان ذلك الأمر بالأمر بإيجاده عند ثبوته ويجعل بعثه عنواناً مشيراً إلى ذلك ، فحينئذٍ فالمترتّبان هما ذات الشرط ومطلق الجزاء الذي تعلّق به الحكم بلا خصوصيّة للحكم المنشأ.

وبعبارة أوضح : أنّ ظاهر القضايا بدءاً وإن كان تعليق الوجوب على الشرط لكن حكم العقل والعقلاء في مثل تلك القضايا أنّ لطبيعة مادّة الجزاء مناسبة للشرط تكون سبباً لتعلّق الهيئة بها.

وبعبارة اخرى : أنّ الهيئة وإن كانت دالّة على البعث الجزئي لكن التناسب بين الحكم والموضوع يوجب إلغاء الخصوصيّة عرفاً ويجعل الشرط علّة منحصرة لنفس الوجوب وطبيعته ، فبانتفائه ينتفي طبيعي الوجوب وسنخه » (3).

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه الله عن هذا الإشكال بما حاصله : أنّ الحكم المعلّق على الشرط هو طبيعة الوجوب لا شخص الوجوب ، وذلك لما عرفت في صدر الكتاب من أنّ الاسم والحرف كما أنّهما موضوعان لمعنى واحد وإنّ كلاً من لحاظ الآليّة والاستقلاليّة خارج عن أصل المعنى والمستعمل فيه ، فكذلك الخبر والإنشاء أيضاً فالخصوصّية الناشئة من قبل الإنشاء خارجة عن أصل المعنى والمستعمل فيه ، فالمعنى الذي استعمل فيه صيغة الأمر في قولك « إن جاءك زيد فأكرمه » هي طبيعة الوجوب وهي المعلّقة على الشرط لا شخص الحكم كي ينتفي الشخص بانتفاء الشرط.

وقال المحقّق البروجردي رحمه ‌الله في هذا المقام ما إليك نصّه في تقريراته : « القول بكون المراد في باب المفاهيم انتفاء السنخ وإن اشتهر بين المتأخّرين وأرسلوه إرسال المسلّمات ، ولكن لا نجد له معنىً محصّلاً ، لوضوح أنّ المعلّق في قولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » مثلاً هو الوجوب المحمول على إكرام زيد ، والتعليق إنّما يدلّ على انتفاء نفس المعلّق عند انتفاء المعلّق عليه كما عرفت ، وما تفرضه سنخاً إن كان متّحداً مع هذا المعلّق موضوعاً ومحمولاً فهو شخصه لا سنخه ، إذ لا تكرّر في وجوب إكرام زيد بما هو هو ، وإن كان مختلفاً معه موضوعاً أو محمولاً كوجوب إكرام عمرو مثلاً أو استحباب إكرام زيد فلا معنى للنزاع في أنّ قوله « إن جاءك زيد » يدلّ على انتفائه أو لا يدلّ » (4) ( انتهى كلامه ).

ويظهر من الشهيد قدس‌ سره في تمهيد القواعد اختصاص النزاع بغير موارد الوصايا والأوقاف ونحوها ، لأنّه لا إشكال في دلالة القضيّة الشرطيّة في مثل الوقف والوصايا والنذر والأيمان على المفهوم ، فيستفاد من كلامه أنّ دلالة القضيّة على الانتفاء عند الانتفاء في هذه الموارد يكون من باب المفهوم.

أقول : أوّلاً : إنّ دلالة القضيّة الشرطيّة في موارد الوقف والوصايا ونحوها على المفهوم إنّما هي من باب نصب قرينة فيها عليه وهي كون الواقف أو الموصي مثلاً في مقام الإحتراز ، فالقيود الواردة في كلامه حينئذٍ قيود إحترازيّة التي لا إشكال في انتفاء الحكم عند انتفائها ولو كانت من قبيل اللقب ، فالحقّ مع الشهيد قدس ‌سره من أنّ الانتفاء عند الانتفاء في الموارد المذكورة إنّما هو من باب المفهوم ، أي انتفاء سنخ الحكم لا من باب انتفاء شخص الحكم ، وهذا لا يستلزم دلالة اللقب أو الوصف أو الشرط على المفهوم مطلقاً حتّى عند عدم نصب قرينة عليه كما لا يخفى.

ثانياً : الحقّ في المسألة مع سيّدنا الاستاذ المحقّق البروجردي رحمه‌ الله من أنّه ليس للنزاع هذا معنى محصّلاً كما مرّ بيانه ، ونزيدك وضوحاً : أنّه وقع الخلط في ما نحن فيه بين الوجوب السببي والوجوب المسبّبي ، أي بين الإنشاء والمنشأ ، وما يتصوّر فيه التشخّص والسنخيّة إنّما هو الإنشاء والسبب لا المنشأ والمسبّب ، وبعبارة اخرى : وقع الخلط هنا بين الإنشاء والمنشأ ، فإنّ الإنشاء قد وقع في زمان خاصّ وبألفاظ مخصوصة ، فيتصوّر فيه الشخص ، وأمّا تشخّص المنشأ وهو الوجوب إنّما يكون بتشخّص موضوعاته مثل الحجّ والصّلاة والصّيام لا غير ، فلا يتصوّر هنا معنى لنوع الحكم بل الذي بأيدينا دائماً هو شخص الحكم المتعلّق بموضوعات خاصّة.

وإن قيل : « وجوب إكرام زيد على تقدير مجيئه يغاير وجوب إكرامه على تقدير عدم المجيء بحسب التشخّص مع اتّحادهما موضوعاً ومحمولاً ولا نعني بالسنخ إلاّ ذلك ، والمعلّق على الشرط ليس هو الإنشاء ولا المنشأ بقيد تعليقه على الشرط حتّى يقال بانتفائه بانتفاء الشرط عقلاً ولا يكون معه مجال للبحث عن المفهوم ، بل المعلّق على الشرط هو ذات المنشأ وهو وجوب إكرام زيد ، وهذا المعنى كما يمكن أن يتحقّق على تقدير تحقّق الشرط يمكن أن يتحقّق على تقدير عدمه بأن يوجد بإنشاء آخر ، ففائدة المفهوم نفي تحقّقه على تقدير عدم الشرط بإنشاء آخر» (5).

قلنا : هذا أيضاً خلط بين الجهات التعليليّة والتقييديّة ، فوجوب الحجّ معلول للاستطاعة لا مقيّد بها.

الأمر الثاني : إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء

كما في قوله : « إذا خفى الأذان فقصّر » و « إذا خفيت الجدران فقصّر » فعلى القول بمفهوم الجملة الشرطيّة لابدّ من التصرّف فيهما بأحد وجوه ستّة :

الوجه الأوّل : التصرّف في منطوق كلّ منهما وعطف أحد الشرطين على الآخر بالواو ، فنقول: إذا خفي الأذان والجدران معاً فقصّر ، فلا يكون القصر واجباً بخفاء أحدهما.

الوجه الثاني: التصرّف في المنطوقين بتقييد إطلاق كلّ منهما بالآخر فيكون العطف بأو وتكون علّة الحكم كلّ من الشرطين مستقلا، ونتيجته كفاية أحد الشرطين في وجوب القصر.

الوجه الثالث: أن يخصّص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر فتكون النتيجة في المثال: إذا لم يخف الأذان فلا تقصّر إلاّ إذا خفيت الجدران، وهكذا في الطرف الآخر، أي إذا لم تخف الجدران فلا تقصّر إلاّ إذا خفي الأذان، وهي نفس النتيجة في الوجه الثاني، أي كفاية أحد الشرطين في ترتّب الحكم كما لا يخفى.

الوجه الرابع: أن يكون الشرط هو القدر الجامع بين الشرطين نظراً إلى القاعدة المعروفة، وهي قاعدة «الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد» والقدر الجامع بين الشرطين في المثال هو مقدار مسافة يكشف عنها كلّ واحد من خفاء الأذان وخفاء الجدران، ويكون كلّ منهما علامة لها، والنتيجة في هذا الوجه أيضاً نفس النتيجة في الوجه الثاني.

الوجه الخامس: رفع اليد عن المفهوم فيهما رأساً، فلا دلالة لهما على عدم علّية ما سوى الشرطين أصلا، وهذا بخلافهما على الوجوه السابقة فيدلاّن فيها على نفي علّية أمر ثالث لكون المفهوم في كلّ من الشرطين في تلك الوجوه محفوظاً بالنسبة إلى ما سوى منطوق الآخر، وإن لم يبق محفوظاً بالنسبة إلى منطوق الآخر، والنتيجة في هذا الوجه أيضاً علّية كلّ واحد من الشرطين للجزاء مستقلا.

الوجه السادس: رفع اليد عن المفهوم في أحدهما رأساً والنتيجة كفاية أحدهما أيضاً كما لا يخفى.

إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في فساد ثلاثة من هذه الوجوه الستّة:

أحدها: هو الوجه السادس لأنّه يستلزم الترجيح بلا مرجّح، إلاّ أن يكون أحدهما في مفهومه أظهر من الآخر فيقدّم الأظهر على الظاهر كما صرّح به المحقّق الخراساني(رحمه الله) حيث قال: «وأمّا رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشرطين وبقاء الآخر على مفهومه فلا وجه لأن يصار إليه إلاّ بدليل آخر إلاّ أن يكون ما أبقى على المفهوم أظهر».

هذا ـ مضافاً إلى أنّ الإشكال لا يرتفع برفع اليد عن مفهوم أحدهما لأنّ التعارض والتنافي يبقى بين منطوقه ومفهوم الآخر، إلاّ أن يقال بسقوط كلّ من المفهوم والمنطوق وهو كما ترى.

ثانيها: هو الوجه الخامس، ودليل فساده أنّه لا وجه لسقوط الدليلين (أي المفهومين في ما نحن فيه) وطرحهما مع إمكان الجمع بينهما عرفاً بتقييد كلّ واحد منهما بمنطوق الآخر.

ثالثها: هو الوجه الرابع الذي يبتني على قاعدة الواحد، ووجه فساده أنّ هذه القاعدة مختصّة بالواحد الشخصي البسيط من جميع الجهات كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة، ولا يجري في الواحد النوعي كالحرارة مثلا التي تعمّ الحرارة الصادرة من الشمس والصادرة من الكهرباء ومن النار، هذا أوّلا.

وثانياً: أنّها تختصّ بالأمور الحقيقيّة، وأمّا الأحكام الشرعيّة فهي من الاُمور الاعتباريّة التي يعتبرها الشارع.

وثالثاً: أنّها تجري في باب العلّة والمعلول ولا معنى للعلّية في ما نحن فيه بل في جميع الاُمور الاعتباريّة فليس خفاء الجدران مثلا علّة لوجوب القصر بل إنّه يعدّ موضوعاً لوجوب القصر، وأمّا علّة الوجوب فإنّما هي إرادة الشارع وإلزامه.

وأمّا الثلاثة الاُخر فلا يبعد أن يكون الأوجه من بينها هو الوجه الثالث، أي تخصيص كلّ واحد من المفهومين بمنطوق الآخر لابتنائه على قاعدة الإطلاق والتقييد والجمع العرفي.

نعم أورد عليه المحقّق النائيني (رحمه الله) بأنّ المفهوم تابع للمنطوق ولا يمكن تقييده إلاّ بتقييد منطوقه(6).

ولكنّه مدفوع: بأنّ الثابت في ما نحن فيه إنّما هو لزوم التبعيّة في الدلالة لما مرّ من أنّ المفهوم مدلول التزامي للمنطوق وهو لا يستلزم لزومها بالنسبة إلى إرادة المولى، لأنّه يمكن أن يكون كلّ واحد من المنطوق والمفهوم متعلّقاً لإرادة المولى مستقلا، بل يمكن أن تتعلّق إرادته على خصوص المفهوم، كما إذا سئل العبد مولاه عن إكرام زيد، فأجابه بقوله: «نعم إن جاءك» فإنّه لا إشكال في أنّ مقصوده إنّما هو عدم إكرام زيد في صورة عدم المجيء فحسب لا أكثر.

ثمّ لو تنزّلنا عن الوجه الثالث ودار الأمر بين الوجه الأوّل والوجه الثاني، أي دار الأمر بين رفع اليد عن ظهور القضيّة الشرطيّة في كون الشرط تمام العلّة وظهورها في كونه منحصراً (والمفروض ظهورها في كلا الأمرين) فلعلّ الأولى حينئذ هو الوجه الثاني أي رفع اليد عن ظهور القضيّة في الانحصار وتقديم ظهورها في تمام العلّة على ظهورها في الانحصار، وذلك لأنّ رفع اليد عن كلّ واحد من الظهورين يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة كما لا يخفى، ولكن تأخير البيان عن وقت الحاجة بالنسبة إلى خصوصيّة الانحصار أقلّ محذوراً منه بالنسبة إلى خصوصيّة تمام العلّة، فإذا قال المولى: إنّ خفاء الجدران علّة مستقلّة لوجوب القصر، وسكت عن كون خفاء الأذان علّة له مع أنّه أيضاً علّة مستقلّة للوجوب في واقع الأمر، كان المحذور أقلّ ممّا إذا لم يكن خفاء الجدران علّة مستقلا بل كان للعلّة جزء آخر ولم يبيّنه وهو في مقام البيان، وهذا ممّا يساعد عليه العرف والعقلاء، فإنّه إذا كان مثلا لداء خاصّ دواءان، وكان كلّ منهما مؤثّراً في رفع الداء مستقلا ولكن لم يبيّن الطبيب للمريض إلاّ أحدهما، كان إشكاله أقلّ ممّا إذا كان للدواء جزء آخر ولم يبيّنه.

وإن شئت قلت: أنّ للقضيّة ظهورين: ظهور في الانحصار وظهور في كون العلّة تامّة، ولا إشكال في أنّ ظهورها في الأوّل أقوى من ظهورها في الثاني فيقدّم عليه.

هذا كلّه بناءً على مبنى القول من أنّ منشأ المفهوم إنّما هو ظهور الجملة الشرطيّة في العلّية المنحصرة، وأمّا بناءً على المختار من أنّ المنشأ هو ظهور القضيّة في مجرّد الانتفاء عند الانتفاء في الجملة والمفهوم التامّ يستفاد من قرينة خارجيّة، فلا إشكال في عدم لزوم رفع اليد عن الظهور في المقام لما مرّ من أنّ المفهوم إنّما يتمّ فيما إذا قامت قرينة من الخارج نظير كون الشرطين مثلا من قبيل الضدّين لا ثالث لهما أو وجود قدر متيقّن في البين، وإلاّ لا يثبت المفهوم مع بقاء مدلول الانتفاء عند الانتفاء في الجملة على حاله، وحينئذ نقول: حيث إن القرينة قائمة في ما نحن فيه على العكس لأنّ كلّ واحد من المنطوقين دليل على أنّ مفهوم الآخر لا يتجاوز عن حدّ الانتفاء عند الانتفاء في الجملة فلا مفهوم للقضيتين حتّى يبحث عن كيفية الجمع بينهما، ولا إشكال في أنّ النتيجة حينئذ هي الوجه الثاني، أي كون كلّ واحد من خفاء الجدران وخفاء الأذان علّة مستقلّة لوجوب القصر.

تنبيهان:

التنبيه الأوّل: اختار المحقّق النائيني (رحمه الله) في ما نحن فيه ترجيح العطف بالواو في الغاية وأنّ مجموع الشرطين علّة للجزاء، ببيان «أنّ دلالة كلّ من الشرطيتين على ترتّب الجزاء على الشرط المذكور فيها باستقلاله من غير انضمام شيء آخر إليه إنّما هي بالإطلاق المقابل للعطف بالواو، كما أنّ انحصار الشرط بما هو مذكور فيها مستفاد من الإطلاق المقابل للعطف بـ «أو»، وبما أنّه لابدّ من رفع اليد عن أحد الإطلاقين، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر يسقط كلاهما عن الحجّية، لكن ثبوت الجزاء كوجوب القصر في المثال يعلم بتحقّقه عند تحقّق مجموع الشرطين على كلّ تقدير، وأمّا في فرض إنفراد كلّ من الشرطين بالوجود فثبوت الجزاء فيه يكون مشكوكاً فيه، ولا أصل لفظي في المقام على الفرض لسقوط الإطلاقين بالتعارض فتصل النوبة إلى الأصل العملي فتكون النتيجة موافقة لتقييد الإطلاق المقابل بالعطف بالواو»(7).

ويرد عليه:

أوّلا: إنّ وصول النوبة وانتهاء الأمر إلى الأصل العملي في المثال لا يقتضي التقييد بالعطف بالواو وعلّية مجموع الشرطين إلاّ في ذهابه إلى السفر، وأمّا في الرجوع فإنّ مقتضى استصحاب بقاء وجوب القصر إنّما هو التقييد بـ «أو»، وعلّية أحد الشرطين في النتيجة، وحينئذ فلا تكون النتيجة علّية مجموع الشرطين في جميع الموارد.

ثانياً: تعارض الإطلاقين وسقوطهما عن الحجّية متوقّف على عدم كون أحدهما أظهر من الآخر مع أنّ الإطلاق المقابل للعطف بالواو أي ظهور القضيّة في جهة الاستقلال أقوى من الإطلاق المقابل للعطف بـ «أو» أي ظهور القضيّة في جهة الانحصار كما مرّ.

ثالثاً: ما أفاده في المحاضرات في مقام الجواب عن هذا البيان، وهو «أنّ مورد الكلام ليس من صغريات الرجوع إلى الأصل العملي، بل هو من صغريات الرجوع إلى الأصل اللفظي وهو إطلاق دليل «المسافر يقصّر» حيث إن القدر الثابت من تقييد هذا الإطلاق هو ما إذا لم يخف الأذان والجدران معاً حيث إن الواجب عليه في هذا الفرض هو التمام وعدم جواز الإفطار، وأمّا إذا خفي أحدهما دون الآخر فلا نعلم بتقييده، ومعه لا مناصّ من الرجوع إليه لإثبات وجوب القصر وجواز الإفطار، لفرض عدم الدليل على التقييد في هذه الصورة بعد سقوط الإطلاقين من ناحية المعارضة، فتكون النتيجة هي نتيجة العطف بـ «أو» على عكس ما أفاده شيخنا الاُستاذ(رحمه الله)»(8).

أقول: إنّ ما أفاده من تقييد الإطلاق المزبور بما إذا لم يخف الأذان والجدران معاً مبنيّ على كون حدّ الترخّص حدّاً تعبّديّاً من جانب الشارع مع أنّه قد ثبت في محلّه أنّه أمر عرفي، وحيث إن العرف لا يحكم بصدق عنوان المسافر في هذه الصورة فلا يجب عليه القصر بل صدق عنوان المسافر في صورة خفاء أحد الأمرين أيضاً ليس محرزاً، وحينئذ لا يحرز تحقّق موضوع دليل «المسافر يقصّر» فتصل النوبة إلى الأصل العملي لا اللفظي، والمسألة بعدُ محتاجة إلى مزيد تأمّل (اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ هذا مناقشة في المثال).

التنبيه الثاني: أنّ الموجود في الجوامع الروائيّة بالنسبة إلى خفاء الجدران إنّما هو «إذا توارى المسافر من الجدران والبيوت يقصّر» وأمّا التعبير الشائع في كلمات الفقهاء بأنّه «إذا خفى الجدران فقصّر» فلم يرد في نصوص الباب، وحينئذ يكون موضوع قصر الصّلاة هو خفاء المسافر عن الجدران لا خفاء الجدران عن المسافر، ولعلّه المناسب أيضاً للاعتبار العرفي لأنّه يحكم بالسفر ويقال: «بأنّ فلاناً سافر» بعد أن بَعُد عن الأنظار وخفي عنها، فالذي يخفى إنّما هو شخص المسافر ومن يشاهده عند الجدران لا الجدران نفسها، ولا ملازمة بين خفاء شخص المسافر وخفاء الجدران كما توهّم، لأنّ خفاء المسافر يتحقّق غالباً قبل خفاء الجدران كما لا يخفى، (ويمكن الإيراد عليه بأنّ هذا أيضاً مناقشة في مثال خاصّ).

الأمر الثالث: في تداخل الأسباب والمسبّبات:

وقد عنون في الكلمات بتعبير آخر أيضاً وهو: «إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء فهل يجب تكرار الجزاء أو لا؟ فإذا قال الشارع المقدّس: «إن مَسَسْتَ الميّت فاغتسل» و «إن أجنبت فاغتسل» فهل يجب الإتيان بالغسل مرّتين أو يكفي غسل واحد؟

ثمّ إنّ النزاع هذا ليس مبتنياً على القول بمفهوم الشرط كما هو الظاهر من كلمات المحقّق

الخراساني(رحمه الله) بل يجري بناءً على عدمه أيضاً، لأنّ البحث إنّما هو في تداخل منطوقي الشرطين أو منطوقي الجزائين سواءً كان لهما مفهوم أو لا، فلا ربط للبحث بباب المفاهيم كما لا يخفى.

بل لا اختصاص له بالقضايا الشرطيّة لأنّه جار في جميع القضايا الشرعيّة بأي نحو صدرت، بنحو القضيّة الحمليّة أو الشرطيّة، فهو يجري في المثال المزبور ولو كانت القضيّتان بهذا النحو: «الجنب يغتسل» و «الحائض يغتسل»، نعم يمكن أن يرجع كلّ ما تركّب من حكم وموضوع إلى القضيّة الشرطيّة، كما يمكن العكس أيضاً.

وكيف كان، فقد وقع النزاع في مقامين: مقام التكليف ومقام الامتثال، فإن كان المقام مقام التكليف والإيجاب كان النزاع في تداخل الأسباب وعدمه وأنّه هل يؤثّر كلّ واحد من الشروط في البعث نحو الجزاء مستقلا، أو ليس لكلّ منها تأثير مستقلّ بل تؤثّر مجموع الشروط في البعث؟ وإن كان المقام مقام الامتثال بعد قبول دلالة كلّ شرط على وجوب مستقلّ وتأثير كلّ واحد من الشروط مستقلا في البعث نحو الجزاء لو لم يكن معه غيره كان البحث في تداخل المسبّبات وأنّه هل يكفي الإتيان بمصداق واحد ويكتفي بإتيان المتعلّق مرّة واحدة وتكون النتيجة إندكاك الوجوب الثاني في الأوّل، وتأكّد الوجوب الأوّل بالثاني أو لا؟

ومن الواضح أنّ النزاع هذا يتصوّر فيما إذا كان الجزاء قابلا للتكرار ولا يتصوّر في مثل القتل ونحوه ممّا لا يكون قابلا له.

أمّا المقام الأوّل: وهو تداخل الأسباب:

ففيه ثلاثة أقوال:

أوّلها: عدم التداخل إلاّ ما خرج بالدليل وهذا هو المشهور.

ثانيها: التداخل.

ثالثها: التفصيل بين ما إذا اختلف جنس الشرط وما إذا اتّحد، ففي الأوّل مقتضى القاعدة عدم التداخل، وفي الثاني التداخل.

واستدلّ للقول الأوّل بوجوه:
الوجه الأوّل: أنّه لا إشكال في ظهور القضيّة الشرطيّة في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، ومقتضى ذلك تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط وهو يستلزم اجتماع حكمين متماثلين أو أكثر

في مورد واحد وهو محال كاجتماع الضدّين، وحينئذ لابدّ من التصرّف في الظهور بأحد الطرق الثلاثة: إمّا بالالتزام بعدم دلالة الجملة الشرطيّة في حال تعدّد الشرط على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، بل تدلّ على الثبوت عند الثبوت فحسب،

وإن شئت قلت: نرفع اليد من تأثير الشرط الثاني في حدوث الجزاء، وهذا في الحقيقة تصرف في أداة الشرط.

أو بالالتزام بتأثير الشرط الأوّل في الوجوب وتأثير الشرط الثاني في تأكّد الوجوب فقط، وهو تصرّف في هيئة الجزاء في الجملة الثانية.

أو بالالتزام بكون متعلّق الحكم في الجزاء حقائق متعدّدة تنطبق على فعل واحد، فماهيّة غسل الجنابة غير ماهيّة غسل مسّ الميّت كتفاوت ماهيّة صلاة الفريضة بالنسبة إلى ماهيّة صلاة النافلة، وهذا تصرّف في مادّة الجزاء.

ولا يخفى إنّ هذه الوجوه الثلاثة جميعها تصرّفات في الظهور الوضعي، وهيهنا وجه رابع يتصرّف فيه في إطلاق المادّة والفعل (أي الظهور الإطلاقي) وتقييدها بمرّة اُخرى كي لا يتعلّق الحكم الثاني بعين ما تعلّق به الأوّل فيلزم اجتماع المثلين بل تعلّق الحكم الأوّل بمصداق وتعلّق الحكم الثاني بمصداق آخر.

ولا يخفى أنّ مقتضى الوجه الأوّل والثاني هو تداخل الأسباب، ومقتضى الوجهين الأخيرين تداخل المسبّبات، فوقع البحث في أنّه ما هو الأولى من هذه الوجوه؟

فالقائلون بعدم التداخل ذهبوا إلى أنّ الأولى هو الوجه الأخير، واستدلّوا له بأنّ التصرّف في إطلاق المادّة أهون من الثلاثة الاُول كلّها، من باب أنّ جميعها تصرّفات في الظهور ومخالفة لظاهر الكلام بخلاف التصرّف في إطلاق المادّة فإنّه ليس مخالفة لظهور الإطلاق حيث إنّ الإطلاق إنّما ينعقد بمقدّمات الحكمة التي منها عدم البيان، ولا إشكال في أنّ ظهور الجملة الشرطيّة في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط يكون بياناً لكون المراد من المادّة في الجزاء الثاني فرداً آخر غير الفرد الذي وجب بالشرط الأوّل.

ولكن يرد عليه:

أوّلا: أنّ هذا تامّ بناءً على ظهور القضيّة الشرطيّة في السببية الفعلية لا الاقتضائيّة حيث إن السببية الاقتضائيّة معناها أنّ الشرط مثلا مقتض للجزاء ويؤثّر فيه لولا المانع، وأمّا إذا

تحقّق مانع عن تأثيره كأن يكون المحلّ مشغولا بسبب آخر مثله فلا يؤثّر فيه.

وبعبارة اُخرى: المستحيل إنّما هو توارد العلّتين التامّتين على معلول واحد لا توارد المقتضيين، أي العلّتين الناقصتين عليه، ومن المعلوم أنّه لا تدلّ القضيّة الشرطيّة في ما نحن فيه على أكثر من السببية بمعنى المقتضي.

ثانياً: أنّ لازم التقييد بمرّة اُخرى أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الآخر مع أنّه كما ترى حيث انّه لا يدّعي أحد كون أحد الدليلين حاكماً على الدليل الآخر وناظراً إليه.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّه ليس المدّعي التقييد بمرّة اُخرى عند مراد المتكلّم وإنّ هذا القيد كان ملحوظاً للمتكلّم ولم يظهره، بل المدّعى كونه مدلولا التزامياً لتكرار الجزاء عرفاً فهو من قبيل دلالة التنبيه والإشارة.

ثالثاً: أنّه مبنيّ على كون اجتماع الوجوبين من قبيل اجتماع المثلين مع أنّه قد مرّ كراراً إنّ اجتماع المثلين المستحيل يتصوّر في الاُمور التكوينيّة لا الاعتباريّة، نعم إنّه قبيح على الشارع الحكيم في الاعتباريات من باب اللغويّة.

فظهر أنّ العمدة في الجواب عن هذا الدليل إنّما هو الوجه الأوّل حيث إنّا رفعنا اليد عن الوجه الثاني بقولنا «اللهمّ إلاّ أن يقال ...» والوجه الثالث أيضاً تبدّل إلى الإشكال في كيفية الاستدلال فينحصر الجواب في الوجه الأوّل.

الوجه الثاني: أنّ متعلّق الجزاء نفس الماهيّة المهملة فهي بالنسبة إلى الوحدة والتعدّد بلا اقتضاء، بخلاف أداة الشرط فإنّها ظاهرة في السببية المطلقة، والتعدّد فيها يقتضي التعدّد في الجزاء، أي تعدّد السبب يوجب تعدّد المسبّب من باب أنّه لا تعارض بين الاقتضاء واللااقتضاء.

والجواب عنه أنّه في الواقع عبارة اُخرى عن الوجه الأوّل، وإجمال لذلك التفصيل، حيث إنّه أيضاً ناش من قبول ظهور القضيّة الشرطيّة في الحدوث عند الحدوث والسببية الفعلية، فيرد عليه نفس ما أوردناه على ذلك الوجه.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الهمداني(رحمه الله) في مصباحه كالوجه الرابع (على ما نقله عنه في

تهذيب الاُصول)(9)، وحاصله: إنّ مقتضى القواعد اللفظية سببية كلّ شرط للجزاء مستقلا، ومقتضاه تعدّد اشتغال الذمّة بفعل الجزاء، ولا يعقل تعدّد الاشتغال إلاّ مع تعدّد المشتغل به فإنّ السبب الأوّل سبب تامّ في اشتغال ذمّة المكلّف بإيجاد الجزاء، والسبب الثاني إن أثّر ثانياً وجب أن يكون أثره اشتغالا آخر، لأنّ تأثير المتأخّر في المتقدّم غير معقول، وتعدّد الاشتغال مع وحدة الفعل المشتغل به ذاتاً ووجوداً غير معقول، وإن لم يؤثّر يجب أن يستند إمّا إلى فقد المقتضي أو وجود المانع، والكلّ منتف لأنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة سببية الشرط مطلقاً، والمحلّ قابل للتأثير، والمكلّف قادر على الامتثال فأي مانع من التنجّز؟ (انتهى، وسيأتي الجواب عنه).

الوجه الرابع: أنّه ليس حال الأسباب الشرعيّة إلاّ كالأسباب العقليّة، فكما أنّه يجب تحقّق الطبيعة في ضمن فردين على تقدير تكرّر علّة وجودها وقابليتها للتكرار، فكذا يتعدّد اشتغال الذمّة بتعدّد أسبابه.

أقول: إنّ هذين الوجهين أيضاً يرجعان عند التأمّل إلى قبول ظهور القضيّة الشرطيّة في الحدوث عند الحدوث فعلا لا اقتضاءً، فالجواب هو الجواب، ولا حاجة إلى تكراره.

إلى هنا ثبت عدم تمام وجه من الوجوه الأربعة التي استدلّ بها على عدم التداخل.

وهيهنا وجهان آخران:

أحدهما: ما أفاده المحقّق النائيني (رحمه الله) واستحسنه في المحاضرات(10) بقوله: «ولشيخنا الاُستاذ(قدس سره) في المقام كلام وهو في غاية الصحّة والجودة»، وهو يتمّ ببيان أمرين حاصلهما: أنّ القضيّة الشرطيّة ظاهرة في الانحلال وتعدّد الطلب لأنّها ترجع إلى القضيّة الحقيقة، ولا إشكال في أنّ الحكم في القضيّة الحقيقة ينحلّ بانحلال موضوعه إلى أحكام متعدّدة، هذا أوّلا.

وثانياً: أنّ مقتضى تعدّد القضيّة الشرطيّة في نفسها تعدّد الطلب أيضاً لأنّ تعلّق الطلب بشيء لا يقتضي إلاّ إيجاد ذلك الشيء خارجاً ونقض عدمه المطلق، وإذا فرض تعلّق طلبين بماهيّة واحدة كان مقتضى كلّ منهما إيجاد تلك الماهيّة فيكون المطلوب في الحقيقة هو إيجادها ونقض عدمها مرّتين كما هو الحال في تعلّق إرادتين تكوينيتين بماهيّة واحدة، فإذا فرض ظهور

القضيّة الشرطيّة في الانحلال وتعدّد الطلب، أو فرض تعدّد القضيّة الشرطيّة في نفسها كان ظهور القضيّة في تعدّد الحكم لكونه لفظيّاً مقدّماً على ظهور الجزاء في وحدة الطلب لو سلّمنا ظهوره فيها ويكون مقتضى القاعدة عدم التداخل(11).

أقول: يرد عليه أنّ روح كلامه هذا يرجع في الحقيقة إلى ما مرّ كراراً من أنّ لموضوع الحكم نوع علّية للحكم، فيقع النزاع في أنّ هذه العلّية هل هي فعليّة أو اقتضائيّة، وقد اخترنا أنّها ظاهرة في الاقتضاء، ولا أقلّ من عدم ظهورها في الفعليّة أو الشكّ فيها فتصل النوبة إلى الأصل العملي، ولا يخفى أنّه بالنسبة إلى تداخل الأسباب (الذي هو مورد النزاع في المقام) هو البراءة عن الزائد على الواحد، ونتيجتها التداخل كما لا يخفى.

ثانيهما: ما نسب إلى العلاّمة(رحمه الله) في المختلف، وحاصله إنّه إذا تعاقب السببان أو إقترنا فإمّا أن يقتضيا مسبّبين مستقلّين أو مسبّباً واحداً، أو لا يقتضيان شيئاً أو يقتضي أحدهما دون الآخر، والثلاثة الأخيرة باطلة فيتعيّن الأوّل، ومقتضاه عدم التداخل.

ويرد عليه: أنّ روح هذا الوجه أيضاً يعود إلى ما سبق من كون السبب سبباً فعليّاً فالجواب هو الجواب.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ الصور رباعيّة فيما إذا تحقّق الشرطان في زمانين مختلفين، وإمّا إذا تحقّقا في آن واحد ففيه احتمال خامس غير ما ذكر، وهو أن يكون المؤثّر والسبب الحقيقي هو القدر الجامع بين السببين، وهو صرف الوجود من الشرط الذي قد يتحقّق ضمن مصداق واحد، وقد يتحقّق ضمن المصاديق المتعدّدة التي تحقّقت في الخارج في آن واحد، ولا يخفى أنّ لازمه أيضاً التداخل.

هذا كلّه في الوجوه التي استدلّ بها على عدم التداخل.

وقد ظهر ممّا ذكرنا إلى هنا ما يثبت به المختار (أي القول بالتداخل) وهو أنّه لا شكّ في ظهور القضيّة الشرطيّة في الحدوث عند الحدوث، فإن قلنا بكونه في حدّ الاقتضاء، أي القضيّة الشرطيّة ظاهرة في اقتضاء الشرط حدوث الجزاء إذا لم يكن هناك مانع، ولم يكن المحلّ مشغولا بالمثل فهو المطلوب والمختار، وتكون النتيجة التداخل، وإن قلنا بأنّها ظاهرة في الفعليّة، أي في علّية الشرط لحدوث الجزاء فعلا فنقول: إنّه يعارض ظهور الجزاء في الوحدة فيتساقطان، وتصل النوبة إلى الاُصول العمليّة، والأصل الجاري في المقام إنّما هو البراءة عن الزائد على الواحد كما لا يخفى.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ ظهور الشرط في الحدوث عند الحدوث أقوى من ظهور الجزاء في الوحدة فيقدّم عليه، والنتيجة حينئذ بناءً على كون العلّية فعليّة عدم التداخل، ولكن الإنصاف أنّها ظاهرة في الاقتضاء.

تنبيهات:

التنبيه الأوّل: في المحكي عن فخر المحقّقين (رحمه الله)، فقد حكي عنه إنّه جعل المسألة مبتنية على أنّ الأسباب الشرعيّة هل هي معرفات وكواشف عمّا هو المؤثّر واقعاً أو هي بنفسها مؤثّرات وعلل، فعلى الأوّل يكون مقتضى القاعدة التداخل، وعلى الثاني عدم التداخل.

ويرد عليه:

أوّلا: أنّا لا نوافقه على المبنى فإنّ علل الشرائع ليست مؤثّرات ولا معرفات بل إنّها مقتضيات كما مرّ.

ثانياً: ولا نوافقه على البناء أيضاً، فإنّ تعدّد الشرط لا يوجب تعدّد الجزاء ولو كانت العلل مؤثّرات.

وتوضيح الإيرادين: أنّه يتصوّر في الأحكام سواء كانت شرعيّة أو غيرها ثلاثة عناصر:

أحدها: سبب الحكم وعلّته، وهو إرادة الجاعل، لأنّ حقيقة الكم هي الاعتبار، والاعتبار بيد المعتبر، ويتحقّق بإرادته.

ثانيها: الداعي إلى الحكم، وهو المصلحة أو المفسدة التي تترتّب على متعلّق الحكم.

ثالثها: موضوع الحكم.

لا إشكال في أنّ علل الشرائع وما يجعل بعنوان الشرط في القضيّة إنّما يكون في الواقع وعند الدقّة بمنزلة قيود الموضوع لا من العلّة ولا من الداعي، فالجنابة مثلا في قولك «إذا أجنبت فاغتسل» بمنزلة قيد لموضوع وجوب الغسل، وهكذا الاستطاعة في قولك «إن استطعت فحجّ» فإنّها بمنزلة قيد لموضوع وجوب الحجّ كما لا يخفى.

وعلى هذا فليست القضايا الشرطيّة الواردة في لسان الأدلّة مؤثّرات ولا معرفات، والظاهر أنّ فخر المحقّقين(رحمه الله) قاس العلل الشرعيّة بالعلل التكوينيّة، وهو قياس مع الفارق حيث إنّ علّة الحكم الاعتباري هو إرادة المعتبر لا غير.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما أفاده المحقّق الخراساني (رحمه الله) من أنّ حال الأسباب الشرعيّة حال أسباب الأحكام العرفيّة في أنّها معرفات تارةً مؤثّرات اُخرى فتدبّر.

نعم هيهنا نوع آخر من التعليل في لسان الشارع لا يؤتى به على نهج القضيّة الشرطيّة، بل إنّما يؤتى به بلام العلّة، نحو «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» فإنّ العلّة في هذا القسم مع رجوعه إلى قيود الموضوع أيضاً يمكن أن تكون إشارة إلى المصالح والمفاسد المترتّبة على متعلّق الحكم، ولكنّه أيضاً لا ربط له بقضيّة المؤثّرات أو المعرفات لما عرفت من أنّ المؤثّر هو إرادة المولى.

هذا كلّه بالنسبة إلى ما أوردناه على المبنى، وأمّا ما أوردناه على البناء فتوضيحه إنّا سلّمنا ظهور الأسباب والشرائط في كونها مؤثّرات وفي الحدوث عند الحدوث، ولكنّه ـ كما مرّ ـ يعارض ظهور الجزاء في الوحدة، فيجب ملاحظة أقوى الظهورين في صورة أقوائية أحدهما ثمّ الرجوع إلى الاُصول العمليّة على فرض تساويهما وتساقطهما بعد التعارض فتأمّل.

التنبيه الثاني: ما أفاده في تهذيب الاُصول فإنّه بعد نقل ما مرّ من كلام العلاّمة(رحمه الله) في المختلف وذكر ما أفاده الشيخ الأعظم(رحمه الله) في ذيل كلام العلاّمة(رحمه الله) من أنّ الاستدلال المذكور ينحلّ في مقدّمات ثلاث (إحداها دعوى تأثير السبب الثاني بمعنى كون كلّ واحد من الشرطين مؤثّراً في الجزاء، ثانيتها أنّ أثر كلّ شرط غير أثر الآخر، وثالثتها أنّ ظاهر التأثير هو تعدّد الوجود لا تأكّد المطلوب) وذكر ما ذكر في توجيه المقدّمة الاُولى ـ قال ما إليك نصّ كلامه: «الإنصاف أنّ أصحاب القول بعدم التداخل وإن كان مقالتهم حقّة إلاّ أنّ ذلك لا يصحّ إثباته بالقواعد الصناعيّة، ولا بدّ من التمسّك بأمر آخر، وقد نبّه بذلك المحقّق الخراساني(رحمه الله) في هامش كفايته، وهو أنّ العرف لا يشكّ بعد الاطّلاع على تعدّد القضيّة الشرطيّة في إنّ ظهور كلّ قضيّة هو وجوب فرد غير ما وجب في الاُخرى كما إذا اتّصلت القضايا، وكانت في كلام واحد، ولعلّ منشأ فهم العرف وعلّة استئناسه هو ملاحظة العلل الخارجيّة، إذ العلل الخارجيّة بمرأى ومسمع منه حيث يرى أنّ كلّ علّة إنّما تؤثّر في غير ما أثّر فيه الآخر، وهذه المشاهدات الخارجيّة ربّما تورث له إرتكازاً وفطرة، فإذا خوطب بخطابين ظاهرهما كون الموضوع فيه من قبيل العلل والأسباب فلا محالة ينتقل منه إلى أنّ كلّ واحد يقتضي مسبّباً غير ما يقتضيه الآخر ... هذا كلّه راجع إلى المقدّمة الاُولى أعني فرض استقلال كلّ شرط في التأثير، ولكنّها وحدها لا تفيد شيئاً بل لابدّ من إثبات المقدّمة الثانية، وهي أنّ أثر الثاني غير أثر الأوّل، ولقائل أن يمنع هذه المقدّمة لأنّ غاية ما تلزم من الاُولى من استقلالهما في التأثير هي إنّ الوجوب الآتي من قبل النوم غير الآتي من قبل الآخر، وذلك لا يوجب إلاّ تعدّد الوجوب لا تعدّد الواجب، بل يمكن أن يستكشف من وحدة المتعلّق كون ثانيهما تأكيداً للأوّل ولا يوجب التأكيد استعمال اللفظ في غير معناه لأنّ معناه وضع الأمر للوجوب هو وضعها لإيجاد بعث ناش من الإرادة الحتمية، والأوامر التأكيديّة مستعملة كذلك ... نعم حمل الأمر على التأكيد يوجب ارتفاع التأسيس، وهو خلاف ظاهر الأمر، لكنّه ظهور لا يعارض إطلاق المادّة والشرطيّة، فإذا دار الأمر بين رفع اليد عن أحد الإطلاقين ورفع اليد عن التأسيس لا ريب في أولويّة الثاني ...»(12).

أقول: العمدة في كلامه الفقرة الا خيرة منه حيث ينبغي أن نلاحظها ونبحث فيها ـ وهي «إنّ ظهور إطلاق المادّة مقدّم على ظهور الهيئة في التأسيس» وهي محالا يمكن المساعدة عليه، لأنّ الظهور اللفظي يمنع من انعقاد الإطلاق فإنّ من مقدّماته عدم البيان، والظهور اللفظي يعدّ بياناً، وحينئذ يقدّم الظهور في التأسيس على إطلاق المادّة، وعليه تثبت المقدّمة الثانية أيضاً فيثبت المطلوب، وهو عدم التداخل.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ كلامه أيضاً مبني على ظهور القضيّة الشرطيّة في التأثير الفعلي وقد مرّ كراراً المناقشة فيه، كما مرّ أيضاً إنّه لو فرضنا ظهورها في التأثير الفعلي فهو يعارض مع ظهور الجزاء في الوحدة فيتساقطان، والنتيجة حينئذ إجمال القضيتين معاً فتصل النوبة حينئذ إلى الأصل العملي، وهو في المقام يقتضي نتيجة التداخل كما مرّ فتأمّل.

التنبيه الثالث: قد يفصّل في المسألة بين ما إذا كان الشرطان مختلفين بحسب الجنس وما إذا كانا من جنس واحد، ويقال بالتداخل في الثاني دون الأوّل.

ولكن الجواب عنه واضح فالنكتة الأصلية في التداخل وعدمه هي أنّ الجملة الشرطيّة ظاهرة في الحدوث عند الحدوث أو في الثبوت عند الثبوت، ولا إشكال في أنّه لا فرق في هذه الجهة بين ما إذا اختلف الشرطان في الجنس أو إتّحدا.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني(رحمه الله) بأنّ الأجناس المختلفة لابدّ من رجوعها إلى واحد، فيما جعلت شروطاً وأسباباً لواحد، لما مرّت إليه الإشارة من أنّ الأشياء المختلفة بما هي مختلفة لا تكون أسباباً لواحد (من باب قاعدة الواحد).

المقام الثاني: في تداخل المسبّبات:

والمراد من تداخل المسبّبات أنّه لو فرضنا دلالة كلّ واحد من القضيتين الشرطيتين على وجوب مستقلّ ولم نوافق على تداخل الأسباب فهل يكتفي بامتثال واحد عن كلا التكليفين أو لا؟

كما أنّ معنى تداخل الأسباب هو أنّ الشرط الثاني هل يؤثّر في الوجوب مستقلا كالشرط الأوّل أو لا؟ فالفرق بين المقامين واضح، وقد وقع الخلط بينهما في كلمات المحقّق الخراساني (رحمه الله).

وكيف كان ذهب المحقّق النائيني(رحمه الله) إلى أنّ القاعدة في المقام الثاني (تداخل المسبّبات) تقتضي عدم التداخل ما لم يدلّ دليل على التداخل ثمّ قال: «نعم يستثنى من ذلك مورد واحد وهو ما إذا كانت النسبة بين الواجبين عموماً من وجه كما في قضيّة «أكرم عالماً» و «أكرم هاشميّاً» فإنّ إكرام العالم الهاشمي الذي هو مورد الاجتماع لهما يكون مسقطاً لكلا الخطابين لانطباق متعلّق كلّ منهما عليه ولا يعتبر عقلا في تحقّق الامتثال إلاّ الإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر في الخارج»(13).

أقول: نحن نوافقه فيما أفاده لو كان مرجعه إلى إطلاق الخطابين حيث إنّه إذا كان كلّ واحد من الخطابين مطلقاً بالنسبة إلى الآخر فكان مردّ قوله «أكرم عالماً» مثلا إلى قوله «أكرم عالماً سواء كان هاشمياً أو غير هاشمي» وكذلك كان مرجع قوله «أكرم هاشمياً» إلى قوله «أكرم هاشمياً سواء كان عالماً أو غير عالم» فلا إشكال في كفاية إتيان متعلّق العنوانين مرّة واحدة عن امتثال كلا الخطابين، ولا يبعد أن يكون ذلك هو مراد المحقّق النائيني (رحمه الله) أيضاً.

والتحقيق في المسألة أن يقال: إنّ النسبة بين متعلّقي دليلين تتصوّر على أربعة وجوه: فتارةً تكون النسبة هي التباين، وحينئذ لا موقع للتداخل كما لا يخفى.

واُخرى تكون النسبة بين العنوانين هي التساوي، فلا معنى أيضاً للبحث عن تداخلهما لأنّهما متداخلان دائماً، ولا يمكن الانفكاك بينهما، بل لا يمكن أن يكلّف المولى بماهيّة مرتين إلاّ أن يرجع خطابه في كلّ مرّة إلى فرد خاصّ من الماهيّة فيتعلّق كلّ واحد من الخطابين بأحدهما، وحينئذ ترجع النسبة لا محالة إلى التباين أيضاً كما في القسم الأوّل لأنّ كلّ واحد منهما بتشخّصاته الفرديّة مباين للآخر.

وثالثة: نسبة العموم من وجه.

ورابعة: العموم المطلق.

ومحلّ البحث في المقام إنّما هو هذان الوجهان الأخيران، ولا إشكال في أنّ العناوين فيهما تارةً تكون من العناوين القصديّة كعنوان الصّلاة والصّوم ونحوهما من العناوين الموجودة في أبواب العبادات، واُخرى من العناوين غير القصديّة، فتصير الصور حينئذ أربعة.

والصحيح أنّ مقتضى القاعدة هو التداخل مطلقاً في جميع الصور الأربعة لو كنّا نحن والأدلّة الشرعيّة وإطلاقها ما لم تنصب قرينة على التداخل أو عدمه، فإنّ مقتضى إطلاق الخطابين ـ كما مرّ ـ هو كفاية الإتيان بمجمع العنوان في العامين من وجه، وكفاية الإتيان بالخاصّ في العموم والخصوص المطلق.

ولا يتوهّم أنّ الإتيان بخصوص ذلك يخالف تعدّد التكليف، لأنّ المفروض أنّ مجمع العنوانين واجد لكلتا المصلحتين، نظير ما إذا أمر الطبيب المريض بأكل مطلق الفاكهة مثلا لرفع دائه، وأمره أيضاً بأكل فاكهة خاصّة لرفع داء آخر، فلا إشكال في جواز الاكتفاء بأكل تلك الفاكهة الخاصّة وحصول كلتا المصلحتين بها.

نعم ربّما تقوم القرينة على عدم التداخل مثل تناسب الحكم والموضوع، فإنّه يقتضي عدم تداخل المسبّبات في كثير من الموارد كما في باب الكفّارات، فإنّ تناسب الحكم (وهو وجوب الكفّارة) والموضوع (وهو المفطر) فيها يقتضي تعدّد الكفّارة حيث إنّ المقصود من إيجاب الكفّارة إنّما هو تأديب المفطر العامد العاصي، وهو قد لا يحصل بإتيان العمل مرّة واحدة كما لا يخفى، كما أنّه كذلك في أبواب الحدود والديّات وأبواب الضمانات والنذور، ومن هذا القبيل ما ذكره في تهذيب الاُصول من المثال، وهو تضاعف مقدار النزح من البئر إذا وقعت الهرّة فيها بعد وقوع الفأرة مثلا، فإنّ لوقوع كلّ منهما أثراً خاصّاً في قذارة الماء واقتضاءً مستقلا يوجب تعدّد وجوب نزح المقدار أو استحبابه.

كما أنّه ربّما تقوم القرينة على العكس، أي على التداخل، كما في باب الوضوء والغسل إذا تعدّد الحدث الأصغر في الوضوء والأكبر في الغسل.

نعم، المهمّ في البابين (بابي الوضوء والغسل) تعيين مفاد الدليل وإنّه في الخطاب الثاني هل هو عدم قابلية المحلّ للتعدّد، وعدم كون ماهيّة المسبّب فيه مختلفة عن ماهيّة المسبّب في الخطاب الأوّل كما هو الظاهر في باب الوضوء فتكون النتيجة حينئذ تداخل الأسباب وكفاية نيّة أحد الأسباب، أو يكون مفاده قابلية المحلّ للتعدّد وأنّ ماهيّة المتعلّق في أحدهما غير الماهيّة في الآخر كما ربّما يستظهر في باب الغسل، حيث يستظهر أنّ الأغسال ماهيات مختلفة وأنّ لكلّ سبب ماهيّة خاصّة؟ فتكون النتيجة حينئذ عدم تداخل المسبّبات ولزوم قصد جميع الماهيات إذا اجتمعت وتحقّقت في زمان واحد (لأنّها عناوين قصديّة) ولا يخفى أنّ تمام الكلام في المسألة في الفقه.

إلى هنا تمّ الكلام عن مفهوم الشرط.

_______________

1. راجع المحاضرات: ج5، ص59 ـ 60.

2. أجود التقريرات: ج 1، ص 418.

3. تهذيب الاصول ، ج 1 ، ص 344 ـ 345 ، طبع مهر.

4. راجع نهاية الاصول : ص 272 ـ 273.

5. هامش نهاية الاصول : ص 273.

6. راجع أجود التقريرات: ج1، ص424.

7. أجود التقريرات: ج1، ص424 ـ 425.

8. المحاضرات: ج5، ص104 ـ 105.

9. تهذيب الاُصول: ج1، ص441 ـ 442، طبعة جماعة المدرّسين.

10. المحاضرات: ج5، ص118.

11. راجع أجود التقريرات: ج1، ص429 ـ 430.

12. تهذيب الاُصول: ج1، ص443 ـ 445، طبع جماعة المدرسين.

13. أجود التقريرات: ج1 ص432 ـ 433.

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.