ثابت بلانك

قدم بلانك فكرة جديدة ، لم يتخيلها أحد من قبل، الفكرة الحاصة بالبنية الذرية للطاقة. ألبرت أينشتين

‏ولدت نظرية الكم ، بتوابعها الغريبة في عام1900‏، قبل 35عاما من إثارة أينشتين وزملائه لتساؤلهم حول التعالق. وينسب ميلاد نظرية الكم إلي أعمال شخص في يد هو ماكس بلانك max planck .

          ‏وقد ولد ماكس بلانك في كييل kiel ‏ بألمانيا عام 1858‏، وينحدر من سلسلة طويلة من القساوسة ورجال القانون والعلماء، وكان جده. لأمه، وجده لأبيه أستاذين في علم للاهوت بجامعة جوتنجن، وكان أبوه ويلهلم بلانك أستاذا في القانون في كييل، وزرع في ابنه إحساسا عميقا بالمعرفة والتعلم. وكان بلانك هو طفله السادس في الترتيب. أما أمه فقد انحدرت من سلسلة طويلة من القساوسة. وكانت الأسرة ثرية وتقضي عطلاتها السنوية علي شواطئ بحر البلطيق وتسافر إلي إيطاليا والنمسا . وتبنت الأسرة الآراء الليبرالية، بخلاف كثير من الألمان في ذلك الحين، في معارضة لسياسات بسمارك Bismarck. وكان ماكس بلانك يري أنه حتي أكثر ليبرالية من عائلته.

‏وأثناء دراسته، كان طالبا مجدا وان لم يكن ممتازا- فلم يحتل أبدا المركز الأول علي فصله علي الرغم من أن درجاته عموما كانت مرضية. وتجلت موهبته في دراسة اللغات، والتاريخ، والموسيقي، والرياضيات، لكن لم يبد اهتماما قط بالفيزياء أو حتي تفوق فيها . كان طالبا ذا ضمير يقظ يعمل بجد، لكن لم تظهر عليه عبقرية ملموسة. واتسم ببطء التفكير المنظم، وليس بسرعة الإجابة، واذا بدأ في مزاولة عمل ما يجد أن من العسير عليه أن يترك الموضوع وينتقل إلي موضوع اخر. وكان مثقفا أميل إلي الكدح أكثر منه ذا موهبة طبيعية في الدراسة بالمرحلة الثانوية. وكان كثيرا ما يقول أنه لسوء الحظ لم ينل موهبة التفاعل السريع مع الحوافز الثقافية. وكان يتعجب دائما من قدرة الآخرين علي مزاولة أكثر من عمل ثقافي. كان خبولا متحفظا ، غير أنه حظي دائما بحب، مدرسيه وزملائه الطلاب. وكان يري في نفسه أنه شخص علي خلق، ملتزم في أداء الواجبات، بالغ الأمانة، ويقظ الضمير. وشجعه أحد الأساتذة في المرحلة الثانوية علي دراسة التفاعل الهرموني الذي كان يعتقد بوجوده بين الرياضيات وقوانين الطبيعة. وهو الأمر الذي حفز ماكس علي دراسة الفيزياء، واستمر علي ذلك حتي التحاقه بجامعة ميونيخ.

‏وفي عام ١٨٧٨، اختار بلانك علم الديناميكا الحرارية كموضوع لأطروحته العلمية، التي أتمها في عام ١٨٧٩‏، وتناولت دراسته مبدأين للديناميكا الحرارية الكلاسيكية: حفظ الطاقة، وزيادة الإنتروبي بمرور الزمن، الأمر الذي يميز جميع العمليات الفيزيائية القابلة للمشاهدة. واستخلص بلانك عدة نتائج محددة من مبادئ الديناميكا الحرارية وأضاف مقدمة منطقية مهمة: يتم الحصول علي توازن مستقر عند نقطة الحد الأقصى للإنتروبي. وأكد أن الديناميكا الحرارية يمكن أن تسفر عن نتائج طيبة دون أي اعتماد علي الفرضيات الذرية، وبالتالي يمكن دراسة أي نظام اعتمادا علي خصائصه الماكروسكوبية دون أن يعتري القلق أي عالم بما يحدث أو لا يحدث للمكونات الدقيقة للنظام: الذرات، والجزيئات، والإلكترونات... وما إلي ذلك .

‏ولا تزال قوانين الديناميكا الحرارية تحظي بأهمية بالغة في الفيزياء؟ نظرا لأنها تعالج الطاقة في الأنظمة بأكملها . ويمكن مثلا استخدام هذه القوانين في تعيين قدرة ‏ألة الاحتراق الداخلي، كما أن لها تطبيقات واسعة في الهندسة وغيرها من المجالات. فالطاقة والإنتروبي مفهومان أساسيان في الفيزياء، ولذلك قد يظن المرء أن أعمال بلانك لاقت استقبالا حسنا في ذلك الحين. لكن هذا لم يحدث: فالأساتذة في جامعتي ميونخ وبرلين- حيث كان بلانك يتلقى تعليمه لمدة عام- لم يتأثروا ببحثه. لم يعتقدوا أن هذا بحث يستحق الأهمية بما يكفي لينال صاحبه التقدير أو الاعتراف. وتهرب أحد الأساتذة من لقاء بلانك، حتي إنه لم يتمكن من تقديم نسخة له من رسالة الدكتوراه عند إعدادها للمناقشة. وفي النهاية حصل بلانك علي درجة الدكتوراه وكان من مسن حظه تعيينه في وظيفة أستاذ مشارك في جامعة كيبل وتسلم منصبه عام 1885م، حيث كان لا يزال لدي أبيه عدد من الأصدقاء يمكنهم مساعدته. وعلي الفور سعي لإثبات جدارة عمله وكذلك الديناميكا الحرارية ككل. وشارك في مسابقة نظمتها جامعة جوتنجن لتحديد طبيعة الطاقة، وفاز البحث المقدم من بلانك بالمركز الثاني-إذ لم يفز أحد بالمركز الأول. حينئذ أيقن أنه يستطيع الفوز بالمركز الأول إذا لم يتضمن بحثه أي انتقاد لأحد أساتذة جوتنجن. ومع ذلك تركت المكافأة التي فاز بها انطباعا طيبا لدي أساتذة الفيزياء بجامعة برلين، فمنحوه عام ١٨٨٩ ‏وظيفة أستاذ مشارك بكليتهم.

‏وبمرور الوقت ، بدأ العاملون في الفيزياء النظرية ينظرون بتقدير إلي قوانين الديناميكا الحرارية مع ما فيها من معالجات لمفاهيم الطاقة والإنتروبي، وأضحت أعمال بلانك أكثر انتشارا . وفي الواقع كان زملائه في برلين يستعيرون رسالته العلمية مرات كثيرة حتي إنه خلال فترة قصيرة أخذت أوراقها تتمزق. وفي عام ١٨٩٢ ‏ترقي بلانك إلي منصب أستاذ كامل في برلين، وبحلول عام ١٨٩٤ ‏صار عضوا عاملا بأكاديمية العلوم في برلين.

‏ومع نهاية القرن التاسع عشر، حازت الفيزياء مكانتها كمنهج علمي متكامل، ومن خلالها باتت كل تفسيرات الظواهر والنتائج المعملية تقدم علي نحو مقبول. كانت هناك الميكانيكا وهي النظرية التي بدأت علي يد جاليليو بتجربته ذائعة الصيت الخاصة بإسقاط الأجسام من قمة برج بيزا المائل، واستكملها العبقري إسحق نيوتن بحلول القرن الثامن عشر، تقريبا قبل قرنين من ظهور بلانك. وقد حاولت الميكانيكا ونظرية ‏الجاذبية الأرضية، اللتان سارتا معاً يداً بيد، تفسير حركة الأجسام التي نراها في حياتنا اليومية وصولا إلي الأجسام الكبيرة مثل الكواكب والقمر. وتشرح النظرية كيفية تحرك الأجسام، وأن القوة هي حاصل ضرب الكتلة في العجلة، وفكرة أن الأجسام المتحركة تكتسب قصورا ذاتيا ، وأن للأرض قوة جذب تؤثر في جميع الأجسام. وقد علمنا نيوتن أن مدار القمر حول الأرض هو في واقع الأمر(سقوط) ثابت للقمر علي الأرض، تفرضه قوي التجاذب بين الكتلتين اللتين تؤثران إحداهما في الأخرى.

‏واشتملت الفيزياء أيضا علي النظرية الكهربية، والمغناطيسية الكهربية التي طورها أمبير ambere، وفارادايfaraday‏ وماكسويل maxwell. وتضمنت هذه النظرية فكرة المجال، حيث إن أي مجال مغناطيسي أو كهربي لا يمكن رؤيته أو سماعه أو الإحساس مه، لكنه يتضح من خلال تأثيره في الأجسام. وطور ماكسويل معادلات تصف بدقة المجال الكهرومغناطيسي واستنتج أن موجات الضوء عبارة عن موجات للمجال الكهرومغناطيسي.. وفي عام ١٨٣١، أنشأ فراداي أول دينامو، يقوم بتوليد الكهرباء علي أساس مبدأ الحث الكهرومغناطيسي، وعن طريق دوران قرص نحاسي بين قطبي مغناطيس كهربي، أمكنه توليد الكهرباء.

‏وفي عام ١٨٨٧‏، أثناء سنوات تكوين بلانك، أجري هينريتش رودولف هيرتز ( 1857 ‏- ١٨٩٤ ‏) Heinrich Rudolf Hertz تجاربه التي أسفرت عن اكتشاف موجات الراديو. وبالمصادفة، لاحظ أن قطعة من الزنك مضاءة بأشعة فوق بنفسجية أصبحت مشحونة كهربيا . وهكذا بدون أن يعرف، اكتشف التأثير الكهروضوئي، الذي يربط بين الضوء والمادة. وفي الوقت نفسه تقريبا ، افترض لودفيج بولتزمان ( ١٨٤٤ ‏- 1906)  Ludwig Boltzmann‏ أن الغازات تتألف من جزيئات وعالج سلوكها باستخدام طرق إحصائية. وفي عام ١٨٩٧ ‏، حدث واحد من أكثر الاكتشافات العلمية أهمية. وهو اكتشاف وجود الإلكترون علي يد طومسون J.j.thomson.

‏وفي ثنايا كل هذه الأجزاء المختلفة من الفيزياء الكلاسيكية كانت الطاقة تعد فكرة حاسمة لها جميعا . ففي الميكانيكا: نصف حاصل ضرب الكتلة في مربع السرعة ‏يساوي طاقة الحركة (جدير بالذكر أن كلمة حركة بالإنجليزية مستمدة من الكلمة اليونانية‏)؛ كما كان هناك نوع أخر للطاقة يسمي طاقة الوضع. فأي صخرة علي جرف مرتفع تمتلك طاقة وضع يمكن تحويلها في الحال إلي طاقة حركة بمجرد دفع الصخرة قليلا لتسقط من حافة الجرف. والحرارة أيضا طاقة كما تعلمنا من الفيزياء في المدارس الثانوية. والإنتروبي عبارة عن نوعية ذات صلة بالعشوائية، ونظرا لأن العشوائية تزداد دائما، فإن لدينا قانون تزايد الإنتروبي، كما يعلم تماما أي شخص يحاول إعادة وضع دمي الأطفال في مكانها المعتاد.

‏لذلك كانت كل الأسباب مهيأة كي يتقبل العاملون في الفيزياء إسهامات بلانك المتواضعة في نظريتي الطاقة والإنتروبيا، وهذا ما حدث بالفعل في ألمانيا مع أفول القرن التاسع عشر، إذ تم الاعتراف بأعمال بلانك في الديناميكا الحرارية، وأصبح أستاذا بجامعة برلين. وفي غضون تلك الفترة، شرع يعمل في مسألة مثيرة للاهتمام. كانت الأبحاث تجري فيما يعرف باسم إشعاع الجسم المعتم black- body radiation أفضي الاستنتاج المنطقي بالتضافر مع الفيزياء الكلاسيكية إلي نتيجة مؤداها؛ أن شعاع الصادر من جسم ساخن يكون في أقصي توهجه عند الطرف الأزرق أو بنفسجي من الطيف، لذلك يمكن لجذوة مشتعلة في مدفأة تتوهج باحمرار، أن تؤدي لي انبعاث أشعة فوق بنفسجية، وكذلك أشعة سينية x-rays، وأشعة جاما gamma غير أن هذه الظاهرة المعروفة باسم كارثة الأشعة فوق البنفسجية ultra-violet catastrophe تحدث فعليا في الطبيعة، ولم يستطع أي شخص تفسير هذه الحقيقة الشاذة، منذ تنبأت النظرية بتركيب مستويا- الطاقة ن علاقتها بالإشعاع. وفي ١٤ ‏ديسمبر1900، تقدم ماكس بلانك ببحث في اجتماع للجمعية الألمانية للفيزياء. وكانت النتائج التي توصل إليها بلانك محيرة للغاية حتي إنه نفسه وجد صعوبة في تصديقها. إلا أن هذه النتائج كانت هي التفسير المنطقي الوحيد لحقيقة عدم حدوث كارثة الأشعة فوق بنفسجية. وأوضحت أطروحة بلانك أن مستويات الطاقة هي مستويات كمية، فالطاقة لا تتنامي أوتضمحل علي نحو مستمر، لكنها تكون دائما مضاعفات كم - كوانتم أسسي، أي كمية محددة أعطاها ‏ بلانك الرمزhv ‏ حيث v هو التردد المميز للنظام ‏موضع الدراسة، بينما ؟ ‏ثابت أساسي وهو المعروف حاليا باسم ثابت بلانك (يساوي6.6262 ×10^-34 J.s ) .

‏وينص قانون رايلي - جينز Rayleigh-jeans ‏في الفيزياء الكلاسيكية علي أن توهج إشعاع الجسم المعتم لا يكون محدودا للأشعة فوق البنفسجية عند الطرف الأقصى لألوان الطيف، وبالتالي تنتج كارثة الأشعة فوق البنفسجية بيد أن الطبيعة لا تسلك هذا السبيل.

‏وطبعا لفيزياء القرن التاسع عشر (أعمال ماكسويل وهيرتز)، فإن أي شحنة متذبذبة ينجم عنها إشعاع، وتردد هذه الشحنة المتذبذبة (التردد هو معكوس الطول الموجي) ويرمز له بالرمز v، بينما تتخذ الطاقة الرمزE‏. وافترض بلانك صيغة لمستويات الطاقة علي متذبذب ماكسويل - هيرتز يعتمد علي ثابت بلانك. وهذه الصيغة علي النحو التالي:

E = 0, hv, 2hv, 3hv, 4hv, ……

أو بشكل عام = n h v ، حيثn  عدد صحيح غير سالب.

‏ونجحت صيغة بلانك كأنها السحر، فقد نجحت في تفسير الطاقة والإشعاع داخل تجويف جسم معتم بترافق تام مع منحنيات الطاقة التي حصل عليها الفيزيائيون من خلال التجارب. وكان السبب وراء ذلك أن الطاقة تم النظر إليها أنذآك بأنها تنتقل خلال حزمات (جمع حزمة - المترجم) منفصلة، بعضها كبير وبعضها صغير، اعتمادا علي تردد الذبذبة. والآن عندما تكون الطاقة المعينة لأي جسم متذبذب (المشتقة بوسائل أخري) أصغر من حجم حزمة الطاقة التي تتيحها صيغة بلانك، تنخفض شدة الإشعاع، بدلا من الصعود إلي المستويات العليا من كارثة الأشعة فوق البنفسجية.

‏وهكذا وضع بلانك الكوانتم موضع التنفيذ. ومنذ تلك اللحظة فصاعدا ، لم تعد الفيزياء إلي ما كانت عليه. وعلي مدي العقود التالية، تم التوصل إلي كثير من التأكيدات بأن الكوانتم (الكم) مفهومة حقا بهذه الطريقة، وأن الطبيعة تعمل حتي بهذه الكيفية، علي الأقل في عالم الجسيمات الدقيقة للذرات، والجزيئات، والإلكترونات، والنيوترونات، والفوتونات، وما أشبه.

‏وظل بلانك نفسه حائرا إلي حد ما أمام اكتشافه الخاص ومن المحتمل ألا يكون قد فهم اكتشافه تماما علي المستوي الفلسفي. ونجحت الحيلة، وتوافقت المعادلات مع المعطيات، إلا أن السؤال: لماذا الكوانتم؟ لم يتوقف طرحه عليه وحده فقط بل لا تزال أجيال الفيزيائيين والفلاسفة في المستقبل يطرحونه حتي الآن.

‏كان بلانك مواطنا ألمانيا متحمسا لوطنه يؤمن بالعلوم الألمانية، وكان عاملا فعالا في استقدام ألبرت أينشتين إلي برلين عام ١٩١٤ ‏، وفي دعم انتخاب أينشتين عضوا بأكاديمية العلوم البروسية. وعندما تولي هتلر السلطة حاول إقناعه بتغيير قراره الخاص بالتخلص من وظائف الاكاديميين اليهود، غير أن بلانك لم يترك وظيفته قط كنوع من الاحتجاج مثلما فعل بعض الاكاديميين غير اليهود . واستمر باقيا في ألمانيا وخلال حياته واصل إيمانه بدعم العلم في وطنه.