أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-05-2015
5893
التاريخ: 18-5-2016
5544
التاريخ: 10-05-2015
6038
التاريخ: 13-11-2014
6393
|
قال تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال : 53].
الحقيقة الإيمانية التي يلتزم بها أتباع المدرسة الإلهية عبر العصور ، هي أن هذا الكون بجميع مظاهره وتجلياته ، بسماواته السبع ، وأراضينه السبع ، وما فيهن وما بينهن ، وما اشتملت عليه من جمال وكمال وتناسق ، هو من صنع إله خالق حكيم ، قادر ، وصانع عالم خبير ، أنشأه إنشاء ، وبرأه برءاً لا عن مثال يحتذى ، وابتدع الحياة فيه بأنواعها الانسانية ، والحيوانية ، والنباتية . قال تعالى :
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[ سورة فصلت ، الآيات : 9 -12].
وقال تعالى :
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك : 3، 4].
وكما يعتقد أتباع المدرسة الإلهية ، بأن الله هو العلة الأولى لوجود هذا الكون ، يعتقدون في نفس الوقت أيضاً ، بأنه العلة الأولى لديمومته واستمراره ، وأنه المدبر له ، والمهيمن عليه ، في كل صغيرة وما بينهما .
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف : 84] .
وقال تعالى :
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس : 3].
أي أنه سبحانه يقضي ويقدر في هذا الكون حسبما تقتضيه الحكمة والكمال .
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة : 5].
وقد أخبر الله ملائكته ، بأنه سوف يجعل كائنا متميزاً يستخلفه في هذه الأرض :
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة : 30].
ومعنى استخلاف الله للإنسان على هذه الأرض ، أنه الرائد والقائد لمسيرة الحياة عليها ، بتحمله الأمانة الإلهية الكبرى ، بعد أن تأتى غيره في هذا الكون عن حملها :
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا } [الأحزاب : 72].
ومن وجوه هذه الأمانة بعد دين الله ، بناء الحضارة الانسانية وفق المنهج الالهي والنظام الرباني ، وإقامة مداميك المجتمع العابد في الأرض ، المجتمع الآمن السعيد ، حيث يجد كل انسان في ظله الاستقرار والطمأنينة ، والحياة الحرة الكريمة ، لا ظلم ولا طغيان ولا استعباد ، يعيش أفراده ضمن تكتل بشري أخوة ، تربط بينهم على اختلاف أعراضهم ، وألوانهم ، وألسنتهم وحدة المبدأ ، والمنتهى ، يتعارفون ويتآلفون ، ويتكاتفون ويتعاونون على البر والتقوى في وجه الإثم والعدوان ، أكرمهم عند الله أتقاهم له ، في رعاية أمانته العظمى .
قال تعالى :
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات : 13].
{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود : 61].
ومعنى استعمركم فيها : جعلكم تعمرونها .
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام : 165] .
والله سبحانه ، بعد أن خلق هذا الانسان في أحسن تقويم : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين : 4] ، واستخلفه في هذه الأرض ، وزده بكل الإمكانات التي يحتاج اليها في تحقيق الهدف من هذا الاستخلاف ، وهو ما أشرنا اليه : بناء الحضارة الانسانية وفق منهج الله ونظامه ، وقيام المجتمع العابد بالمفهوم الذي سبق وبيانه .
فسخر له كل ما على هذه الأرض من نعم وبركات ، وما تستبطنه من كنوز وخيرات .
ولم يكتف بهذا ، بل أمره أن يحلق بفكره ، وينطلق بعقله خارج حدود الأرض من آفاق السماوات ، متأملاً فيها ، ومتدبراً أحوالها ، مفهماً إياه أنها داخلة في ما سخره له لينتفع بها ويستفيد منها ، سابراً أغوارها ، ومكتشفاً أسرارها .
قال تعالى :
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران : 191] .
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان : 20].
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم : 32، 34].
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل : 14].
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [الحج : 65] .
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } [الجاثية : 13] .
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف : 10] .
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } [الرحمن : 33].
والسلطان : القوة والقدرة .
والى جنب هذه النعم الظاهرة والباطنة التي اسبغها الله تعالى على الانسان ، وكل تلك الامكانات المادية والمعنوية التي جعلها له وبتصرفه تحقيقا لمفهوم استخلافه له في الأرض ، ميزه على كثير من موجودات هذه الأرض والمخلوقات فيها بميزتين عظيمتين .
الأولى : أنه سبحانه وهبه العقل ، الذي إن استثمره في مسيرته في هذه الحياة ، لوجهه الوجهة التي فيها صلاحه وسعادته ، وإن استخف به وأهمله ، ورد المهالك ، والمزالق ، وضل الطريق الى هدفه المرسوم له ، بسبب تحكم غرائزيته في مواقفه وتصرفاته وخياراته ، وبذلك يهبط الى مستوى غيره من العجماوات والأنعام ، بل يكون أضل ، قال تعالى مندداً بمن يفعل مثل ذلك :
{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف : 179].
وإنما كانوا أضل من الأنعام ، لأن هذه ، وإن لم توهب العقل ، فقد ركب الله فيها غريزة تستهديها في حياتها ، ولا تهملها ، والانسان الذي كرمه الله وميزه بالعقل ليستهديه في الحياة فأهمله ولم ينتفع به .
وقد ورد (1) عن الامام محمد الباقر (عليه السلام) قال : (لما خلق الله العقل استنطقه ، ثم قال له : أقبل ، فأقبل ، ثم قال له : أدبر ، فأدبر ، ثم قال : وعزتي وجلالي ، ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك ، ولا أكملتك إلا فيمن أحب ، أما إني بك آمر ، وبك أنهى ، وإياك أعاقب ، وإياك أثيب) .
الثانية : أنه بعد أن وهبه العقل الذي يزن به الأمور ، وبين له من خلال منهجه وهداه ، وطريق الرشد وأمره باتباعه ، وطريق الغي وحذره من ارتياده ، ترك له حرية الاختيار ، فلم يجبره على أحدهما ، فإن هو اتبع طريق الرشد فقد فاز ، وإلا فقد خسر خسراناً مبيناً . قال تعالى :
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة : 256] .
ولكن الله سبحانه ، بعد أن أحاط الانسان بكل هذا التكريم ، وغمره بكل هذه النعم ، وسلحه بكل تلك الإمكانات على مستوى الكون ، وميزه بالعقل والاختيار ، أوضح له سنة من سننه سبحانه في باب المجازاة لا يمكن تخلفها ، وهي وجود علاقة جدلية بين دوام تلك النعم وتواترها منه تعالى على عباده ، مع وعد بزيادة فيها ونماء ، وبين معرفة العبد واعترافه بأنها من الله ، ووجوب شكره عليها ، وعدم كفرانها ، فإن لم يوجد من العبد اعتراف ولا شكر ، فإن لله سبحانه أن يسلبها عنه ، ليبدلها بنقمة وعذاب .
وليس معنى الشكر هنا ، أو الاعتراف من طرف العبد ، مجرد أن يقول الانسان لقلقة بلسانه : أعترف لك يا رب بنعمك وأشكرك عليها ، وإنما الشكر المطلوب هو عقد العزم على طاعة الله وفق منهجه وأحكامه ، والابتعاد عن حرم معصيته وانتهاك حدوده ، وتجسيد هذا العزم بفعل الطاعات ، وترك المحرمات ، والالتفات الى أن توفيق العبد للطاعة والانقياد للخالق ، هي من أعظم نعم الله عليه ، فعندما يتحقق من طرف العبد كل ذلك ، يكون صادقاً مع ربه لو قال : الحمد لله والشكر لله ، وإلا يكون بقوله منافقا يظهر ما لا يبطن .
ومعنى الشكر الذي ذكرناه ، هو المقصود بما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) . منه ما روي عن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) قال : (شكر النعمة اجتناب المحارم ، وتماما لشكر قول الرجل : الحمد لله رب العالمين) (2) .
وقال (عليه السلام) : (ما أنعم الله على عبد من نعمة فعرفها بقلبه ، وحمد الله ظاهراً بلسانه ، فتم كلامه ، حتى يؤمر له بالمزيد) (3) .
وقال (عليه السلام) : (إن للنعم أوابد كأوابد الطير ، فقيدوها بالشكر) .
وقال (عليه السلام) : وقد سئل عن قول الله عز وجل : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } [الإنسان : 3] ؟ قال : إما آخذ فهو شاكر ، وإما تارك فهو كافر) (4) .
عود على بدء
ونحن ، عندما نتأمل الآية موضوع حديثنا والتي أوردناها بداية ، نجدها نصاً جلياً في كل ما عرضناه .
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال : 53].
فهي تقرر من جهة ، حقيقة أن الله هو المبتدئ بالنعم ، تكرماً منه على الخلق ولطفاً بهم .
والكريم اللطيف ، الغني الملي ، لا يسلب ما تكرم به وتلطف من نعمة وهبها . اللهم إلا إذا صدر عن المتهب له ظلم عظيم للواهب ، كشف من خلاله خبث سريرته ، وفساد طينته ، مما يدل على أنه لم يعد أهلاً للتكريم ، ولا للطف ، لقد سقط في الامتحان ، وارتكس في الفتنة .
وخان عهده مع ربه عندما قرر فشهد له بالربوبية كما قال عز من قائل :
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف : 172] .
وتقرر الآية موضوع البحث من جهة ثانية ، مسؤولية الانسان نفسه عن نتيجة اختياره ، سوء أو حسناً ، خيراً أو شراً ، بعد أن وهبه الله هذه الميزة ، كما سبق وأشرنا ، هداه النجدين : {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد : 10، 11] .
والنجدان : مثنى النجد ، وهو هنا طريق الواضح ، من خير أو شر .
فهو عندما يكفر ، يعاقب بسوء اختياره في الدنيا والآخرة .
وعندما يشكر ، يثاب فيهما يحسن اختياره .
وهذا يعني ، ان الانسان من خلال حركته في هذه الدنيا يقرر مصيره بيده ، ويكون وحده المسؤول عما صار اليه أمره من خير أو شر ، قال تعالى :
{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [النساء : 123] .
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [المدثر : 38] .
{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور : 21].
بمعنى أن كل انسان (مرهون عند الله بكسبه ، كأن الكسب بمنزلة الدين ، ونفس العبد بمنزلة العين المرهونة ، ولا تنفك العين المرهونة ما لم يؤد الراهن الدين بالعمل الصالح) .
وتقرر الآية نفسها من جهة ثالثة ، إن على عاتق هذا الانسان المخلوق لله ، والمكرم منه ، والمفضل على كثير ممن خلق ، تقع مسؤولية خطيرة في قبال ذلك التكريم وهذا التفضيل ، فبيده مفتاح ضمان استمرار تقلبه في نعم ربه ، بل ضمان تصعيدها منه سبحانه إن هو أطاع وشكر ، وحرمانه منها إن هو عصى وكفر ، قال تعالى :
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم : 7] .
وعليه ، فيكون هو الظالم في الحالة الثانية لنفسه .
قال تعالى :
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس : 44] فسنة الله الجارية على هذا المخلوق العاقل في سلوكه وتصرفاته كافة ، هي ما ذكرناه من التكافؤ بينها وبين الجزاء إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر .
وورود الآية الكريمة موضوع البحث بين آيتين ، آية قبلها والأخرى بعدها كلتيهما في آل فرعون والذين من قبلهم من الظالمين تؤكد سنة الله هذه في التلازم بين الفعل والجزاء .
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران : 11] .
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [الأنفال : 54] .
وسنة التلازم بين الجزاء والعمل ، لما كان لتثبيتها في تفكير الانسان تلك الاهمية الكبرى في حاضره ومصيره ، جرى التركيز عليها في كتاب الله سبحانه من خلال عشرات الايات الكريمة ، قال تعالى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة : 59].
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم : 28] .
{وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [البقرة : 211].
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [المائدة : 66] .
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف : 96].
{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق : 8، 9].
وجميع ما ذكرناه في موضوع هذه الآية المباركة حول سنة الله سبحانه بالتلازم بين الجزاء والعمل ، يجري في الآيات الواردة في الزيغ ، وهو الميل عن الحق الى الباطل والضلال ، كقوله تعالى :
{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [الصف : 5].
أي فلما أصروا على الانحراف عن الحق ، واتبعوا الباطل ، صرف الله قلوبهم عن قبول الحق ، لصرفهم اختيارهم له وعنه الى العمى والضلال . قال تعالى :
{وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ : 12].
ونختم الحديث بآية ثانية وردت بنفس مضمون الآية موضوع البحث وهي قوله تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11].
وهذه الآية ، تتمايز عن تلك ، من جهة أن الآية الأولى ناظرة الى التلازم بين انحراف الانسان عن منهج الله سبحانه الى منهج الكفر وحلول النقمة بساحته نتيجة هذا الانحراف . في حين أن هذه الآية تقرر التلازم بين العمل والجزاء ، اضافة الى الناحية المذكورة ، لتشمل الانحراف المعاكس ، عن منهج الطاغوت الى منهج الله .
وعليه ، تفيد الآية الثانية توسعة دائرة التغيير ، لتشمل ذلك الانسان يكون في الأصل منحرفاً عن منهج الله وصراطه ، ثم ينشرح صدره للإيمان فيؤول ويرجع الى طريق الحق والهدى ، فإن الله سبحانه بلطفه وكرمه ، يقبله ويبدل النقمة عليه بنعم لا تحصى انسجاماً مع قاعدة التلازم بين الجزاء والعمل أيضاً ، والذي يدل على ذلك قوله تعالى :
{ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل : 11].
وقوله تعالى : {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 256].
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } [الزمر : 7] .
{ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا } [النساء : 147] .
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة : 152].
____________________
(1) راجع أصول الكافي لثقة الاسلام الكليني ، 1/ كتاب العقل والجهل ، ح1 .
(2) أصول الكافي ، م . س ، 2 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الشكر ، ح10 و9 .
(3) المصدر السابق .
(4) أصول الكافي ، م . ن ، باب الكفر ، ح4 . إذا كان تركه للواجبات أو فعله للمحرمات عن جحود لوجوب الأولى وحرمة الثانية يكون كافراً .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|