أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-12-2015
4924
التاريخ: 17-12-2015
5359
التاريخ: 2023-06-01
1071
التاريخ: 1-10-2014
5009
|
تستعمل كلمة (خير) أحياناً بمعنى (حَسنْ) وفي الكثير من الأحيان بمعنى (أحسن)، وقد وردت في عشرة مواضع من القرآن الكريم بهذا المعنى الأخير، مضافةً إلى صفات اخرى، وسنطالع ذلك في الآيات القادمة.
«الخير» : مساوٍ للوجود، والوجود مساوٍ للخيْر، ولكون وجود اللَّه وجوداً مطلقاً لا محدوداً فهو أحسن (خير) الوجود، أجل هو «خير الحاكمين» وخير الرازقين وخير النّاصرين ....
وجميع هذه الصفات من صفات الفعل الإلهي، وقد جمعناها هنا في مكانٍ واحد لنختتم بحثنا بخير.
ولنتأمل خاشعين في الآيات التالية :
1- {وَأَنتَ خَيرُ الرَّاحِمِينَ}. (المؤمنون/ 109)
لأنّ رحمتك العامّة والخاصّة شملت الجميع، خصوصاً عبادك المؤمنين.
2- {وَهُوَ خَيرُ الحَاكِمِينَ}. (الأعراف/ 87)
3- {وَهُوَ خَيرُ الفَاصِلِينَ}. (الأنعام/ 57)
4- {وَأَنتَ خَيرُ الفَاتِحِينَ}. (الأعراف/ 89)
5- {وَاللَّهُ خَيرُ الرَّازِقِينَ}. (الجمعة/ 11)
6- {بَلِ اللَّهُ مَولَاكُم وَهُوَ خَيرُ النَّاصِرِينَ}. (آل عمران/ 150)
7- {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيرُ الغَافِرِينَ}. (الأعراف/ 155)
8- {وَقُل رَّبِّ أَنزِلنِى مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيرُ المُنزِلِينَ}. (المؤمنون/ 29)
9- {وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ}. (الأنفال/ 30)
10- {رَبِّ لَاتَذَرنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيرُ الوَارِثِينَ} (1). (الأنبياء/ 89)
جمع الآيات وتفسيرها
إنَّ كلمة (خير) وفق المشهور بين أرباب اللغة والنحويين هي من (أفعل التفضيل)، وقد كانت بالأصل (أَخْيَرْ)- على وزن أفضل- فحُذفت همزتها وانتقلت الفتحة إلى الخاء فصارت (خَيرْ).
وطبقاً لما قاله الراغب في مفرداته فإنَّ كلمة (خَيرْ) تعني الشيء المفضّل لدى الجميع، كالعقل، والعدل، والفضيلة، والأشياء المفيدة، وضدّه (شرّ)، ثم قسّم (خير) إلى نوعين :
الخير المطلق الذي يميل إليه الجميع، كالجنّة، والخير النسبي المفيد بالنسبة لبعض الأفراد كالمال الذي قد يصير منشأً لسعادة البعض، وتعاسة البعض الآخر!
ولكن ذُكِرَ في مقاييس اللغة بأنّ معناه الأصلي هو : (الرغبة إلى شيء معيّن)، ثم أُطلق على «الأشياء المحبّبة»، وفي مقابله (شَر)، وقد فسّره بعض أرباب اللغة أيضاً بمعنى الكَرَم والإنعام، في حين اقتنع البعض الآخر بأنّ الخير هو النقطة المقابلة (المعاكسة) للشّر.
وأحياناً استُعمِلَتْ هذه الكلمة بمعنى خاص (مثلًا بمعنى المال، أو هو نهر في الجنّة ينبع من عين الكوثر، أو المنازل الخاصّة في الجنّة)، وكلمة (خَيار) أو (اختيار) المشتقّة من هذه الكلمة تعني انتخاب الشيء الأفضل.
وعندما تُطلق هذه الكلمة على الذات الإلهيّة المقدّسة فَلها حالتان : فأحياناً تكون مطلقة ومجرّدة عن أيّ قيدٍ أو شرطٍ، مثل قوله تعالى : {وَاللَّهُ خَيرٌ وَأَبقى}. (طه/ 73)
هذا ما قاله سَحَرَة فرعون بعد أن آمنوا بموسى عليه السلام.
ففي هذه الحالة تعني الأفضليّة من جميع الجهات، وفي الواقع، ليس هناك خير مطلق في عالم الوجود سوى اللَّه سبحانه وتعالى، فهو الأفضل والأحسن والأشرف وجوداً من جميع النواحي، وأحياناً اخرى تُطلق هذه الكلمة على الذات الإلهيّة المقدّسة بعد أن تُضاف إلى شيء كالأسماء المقدّسة المذكورة في الآيات العشر.
وفي جميع هذه الموارد ذُكِرَ اللَّه في القياس مع الآخرين، وطبعاً أنّ هذا القياس من قسم من الجهات فقط وإلّا فالذات الإلهيّة المقدّسة لا تُقاس أبداً مع سائر الموجودات.
فوصفت الآية الأولى اللَّه سبحانه ب {خَيرُ الرَّاحِمِينَ}، لأنّ رحمته لا متناهية وتشمل المحب والمبغض، الصالح والطالح، فرحمته العامّة شملت الجميع، ورحمته الخاصّة خصّ بها عباده المؤمنين، وهو على أيّة حال لا يريد منهم أي جزاءٍ أو ردٍ للجميل.
وقد وُصِفَ الباري في الآية الثانية بصفة {خَيرُ الحَاكِمِينَ}، لأنّ ما يحكم به الآخرون مقرون بأنواع الأخطاء والانحرافات الناتجة عن الميول الشخصيّة والطائفيّة، أو الأهواء المادية، لكنّ حُكمه جلّ وعلا منزّهٌ عن أي خطأ وأي إفراطٍ وتفريط، وأي ميلٍ إلى الباطل، لأنّ علمه غير محدود وهو غنيٌّ عن العالمين.
وقد ذُكِرَ في الآية الثالثة باسم {خَيرُ الفَاصِلِينَ}، لأنّ الناس لو أرادوا أن يميّزوا الحق من الباطل فإمّا أن يقعوا في الكثير من الإشتباهات ولا يميّزوا بينهما بصورة صحيحة، وإمّا أنْ يلتبس عليهم التمييز بين الحق والباطل بسبب جهلهم، أو يخلطوا بينهما بسبب تحكيم أهوائهم النفسانيّة.
أمّا الذي يعلم السرّ وما تخفي الصدور، وأحاط بكل شيءٍ علماً فلا معنى عنده سبحانه لكل هذه الأمور، فهو خير الفاصلين.
علاوةً على هذا فقد يشخّص الإنسان الحق من الباطل بصورة جيّدة لكنّه عاجزٌ عن إعمال علمه ومعرفته، ولكن اللَّه تعالى هو القادر الأزلي الوحيد الذي يستطيع إعمال علمه في كُلّ حال.
والآية الرابعة تحدّثت عن «خَيرُ الْفَاتِحِينَ»، وكلمة (فاتح) مشتقّة من مادّة (فتح)، فإن كانت بمعنى الحكم والقضاء فإنَّ مفهومها يعني «اللَّه خير الحاكمين»، وقد ذكرنا سبب ذلك فيما مضى، وإن كانت (فتح) بمعنى فتح كل شيءٍ مغلق، لكان سبحانه وتعالى أيضاً «خير الفاتحين»، لأنّه لا يصعُب شيء مقابل قدرته، وإن كان المقصود منها فتح أبواب الرحمة فهو ذو رحمةٍ وسعت كل شيء في الوجود، في حين لو كانت هنالك رحمة في الموجودات الاخرى فهي محدودة وجزئيّة.
وبالحقيقة أنّ لكلمة (فتح) معاني كثيرة جدّاً تعود جميعها إلى أصل الفتح المطلق، فأحياناً فتح أبواب العلم والرحمة، وأحياناً حلّ عقدة النزاع بين شخصين، أو فتح (حل) عقدة الحرب، ويظهر أنّ تعبير «خَيْرُ الْفَاتِحِينَ» ذو معنىً واسعٍ جدّاً يشتمل على جميع هذه المعاني والمفاهيم.
وقد وصفت الآية الخامسة الباري تعالى بصفة «خَيْرُ الرَّازِقِينَ»، فالأرزاق التي يعطيها البعض لغيرهم (إنّ أمكن أن نسميّها بهذا الأسم) مشوبة بنقائص عديدة : محدودة، سريعة الزوال، لا يُؤمَّل مُستقبلها، وأحياناً تعقبها المنّة والأذى الجسماني أو الروحاني، وأحياناً مصحوبة بالتحقير أو توقُّع ردّ الجميل.
في حين أنّ الأرزاق الإلهيّة لا تعرف الحدود، ولا يُخشى عليها من الزوال، ولا فيها أدنى شيء من المنّة والأذى وانتظار ردّ الجميل، بل هي تشمل حال الإنسان أو غيره منذ لحظة انعقاده كنطفة تكوينة في رحم امّه، وحتّى آخر لحظات حياته، وتشمل حال المستحقين والمؤهلين لها في يوم القيامة أيضاً، وبمستوىً أعلى وأسمى.
نقل أحد المفسّرين حكاية عن أحد خلفاء بغداد مع (بهلول) تعكس المباحث الواردة بصورة لطيفة.
يقول : قال خليفة بغداد لبهلول : تعال أُعطِكَ رزقك كل يوم لأُريحك من التفكير في طلب الرزق، فأجابه بهلول قائلًا : لولا بعض النقاط السلبيّة في عملك لقَبِلْت! أولًا : إنّك لا تعرف ما احتاجه، ثانياً : إنّك لا تعرف وقت حاجتي، ثالثاً : ولا تعلم مقدارها، رابعاً : قد تغضب عليَّ ذات يومٍ فتسترجعها منّي، لكنَّ اللَّه الذي يرزقني منزّهٌ عن جميع هذه النقائص والعيوب ويرزقني حتى في اليوم الذي أعصيه فيه! (2).
وكم يكون رائعاً لو أضاف بهلول هذه الجملة أيضاً : من يضمن بقاءك في السلطة إلى الغد حتى تقدر على رزقي أو رزق الآخرين؟
نختتم هذا الكلام بحديثٍ مبارك منقول عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام، حيث قال في بداية خطبة الأشباح :
«الحمد للَّه الذي لا يَفِرُهُ المنع والجمود ولا يُكديه الإعطاء والجود، إذْ كلّ معطٍ منتقصٌ سواه، وكلّ مانعٍ مذمومٌ ما خلاه، وهو المنّان بفوائد النّعم، وعوائد المزيد والقِسَمْ، عيالُهُ الخلائق، ضمِنَ أرزاقهم وقدّر أقواتهم ونهج سبيل الراغبين إليه والطالبين ما لديه، وليس بما سُئِلَ بأجود منه بما لم يُسألْ» (3).
وفي الآية السادسة وُصِقت ذاته المقدّسة بصفة «خير الناصرين»، لأنّ الناصر الحقيقي هو من يقدر على النصرة ضدّ كلّ عدوّ، وفي أي مكان وزمان، وفي أي ظرف، هو الناصرُ الذي لا يُغلَبُ أبداً، ولا تستطيع أيّةُ قدرة من الوقوف ضدَّه، إضافةً إلى ذلك فهو يحيط علماً بجميع مؤامرات الأعداء، ونقاط ضعف من يحتمي بهم، وبغض النظر عن جميع هذا، فهو سبحانه لا ينتظر ردّاً للجميل الذي يصنعه (النصرة).
ونحن نعلم أنّ هذه الصفات لم تجتمع إلّافي الذات الإلهيّة المقدّسة، في حين نلاحظ أنّ الناصرين الآخرين فاقدون لهذه الصفات.
علاوةً على جميع ذلك فإن استطاع أحدٌ ما أن ينصُرَ آخر فنصرتُه محدودة بدار الدنيا فقط، أمّا اللَّه سبحانه وتعالى فهو الناصر الوحيد الذي يقدر على النصرة الدنيوية والاخروية.
أمّا الآية السابعة فقد وُصِفَ فيها الباري بصفة {خَيْرُ الغَافِرِينَ}، يقول الفخر الرازي حول هذا الموضوع : «إنّ سبب وصفه تعالى بهذه الصفة هو لكون الآخرين إِنْ غفروا ذنباً إمّا لكسب مدح وثناء الناس، أو للحصول على الثواب الإلهي الجزيل، أو لدفع قساوة القلب، وخلاصة الكلام إنّ عفو وغفران الناس لبعضهم إمّا لكسب منفعةٍ، أو لدفع ضررٍ ما، في حين أنّ الغفران الإلهي ليس كذلك أبداً، بل هو نابعٌ من فضله وكرمه لا غير» (4). وعلاوةً على هذا فإنّ حقوق الناس على بعضهم حقيرة جدّاً بالقياس مع الحقوق الإلهيّة، وعفوهم في هذه الحقوق الحقيرة قليلٌ جدّاً أيضاً، والوحيد الذي يتجاوز عن عظيم الحقوق والخطايا، ورحمته ومغفرته غير مشروطةٍ بشيء هو اللَّه سبحانه وتعالى، لذا هو {خَيرُ الغَافِرِينَ}.
أضف إلى ذلك أنّه تعالى لا يغفر ذنوب عباده فقط، بل ويستر عليهم أيضاً ليحفظ كرامتهم في الدنيا والآخرة، ولا يُفتضحون أمامَ الخلائق، بل وأحياناً يُبدّل سيئاتهم حسنات شريطة أن لا يخرقوا جميع الحجب، وأن يكون لديهم استعداد قليل لتقبّل كل هذا اللطف والإحسان.
إنَّ معرفة سبب نزول الآية المذكورة، التي تحكي عن بني إسرائيل وارتكابهم أحد أكبر الذنوب وهو طلبهم رؤية اللَّه بالعين الظاهرية كشرط مُسْبَق لإيمانهم به، يُبيّن عمق مفهوم هذه الصفة الإلهيّة أي (خير الغافرين).
ووُصِفَ الباري في الآية الثامنة بصفة : {خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}.
فبعد أن أشارت الآية إلى قصّة نوح والطوفان العظيم الذي أصاب قومه، ذكرت دعاء نوح عليه السلام بعد أن هدأ الطوفان ورست سفينته : «ربِّ انزلني مُنزلًا مباركاً وأنت خير المنزلين».
ويُمكن أن تكون كلمة «منزل» اسم مكان أي (مَنزِلًا) أو مصدر ميمي بمعنى (النزول والهبوط).
وعلى أيّة حال : فمن الواضح أنّ النزول من السفينة في تلك الظروف العصيبة، وبالنظر
لعدم وجود بيت ولا مظلَّة ولا قوت ولا غذاء لايُمكن أن يتحقق سوى في ظل لطف اللَّه «خَيرُ الْمُنْزِلِينَ»، ويُنجيهم من المخاطر التي كانت تهدّدهم بعد رسوِّ السفينة.
وكذلك تتسبب قدرة اللَّه اللامحدودة وعلمه بحاجات ضيوفه في أن يكون «خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ».
وتحدثت الآية التاسعة عن المكر الإلهي الفريد إزاء مؤامرات المنحرفين والظالمين ووصفته جلّ وعلا بصفة «خَيْرُ الْمَاكِرِينَ».
فكلمة (ماكر) مشتقةٌ من مادّة «مكر»، وكما قال الراغب : إنّها تعني بالأصل صرف الغير عن الوصول إلى المقصود عن طريق المكر والحيلة، وهو على قسمين : ممدوح، وهو ما كان الهدف منه الوصول إلى مقصودٍ حَسن، ومذموم : وهو ما كان هدفه قبيحاً.
ومن هنا يتّضح أنَّ ما يختلج في أذهاننا حول اقتران كلمة (مكر) دائماً بنوع من الشرّ والفساد ليس صحيحاً، كما هو الحال في كلمة (حيلة) التي لها مفاهيم مشتركة عديدة بالرغم من تداعي المفهوم السلبي منها إلى أذهان عامّة النّاس.
يقول القرطبي في تفسيره : (المكر) معناه (التدبير الخفي في داء عمل معيّن).
ولكن يُسْتنتج من بعض كلام أرباب اللغة أنّهم يعتقدون باقتران كلمة المكر بنوع من المذمّة، لذا فهم يقولون «إنّ هذه الكلمة ذات معنى مجازي عندما تستعمل بخصوص الباري تعالى»، ولكن تعميم مفهوم (المكر) كما يُلاحظ عند الكثير من المفسّرين والمتكلمين، يبدو أصحّ بنظرنا.
وعلى أيّة حال فإنّ السرّ في وصفه تعالى بصفة «خَيرُ المَاكِرِينَ» إمّا لكون قدرته على المكر والحيلة أكبر ممن سواه، أو لأنّ (مكر) من سواه يُحتمل فيه الخير والشرّ، لكن المكر الإلهي ممدوح دائماً.
وقد ذكر الزبيدي في شرح القاموس عدّة معانٍ للمكر، عندما يُنسَبُ إلى اللَّه سبحانه وتعالى، منْ جُملتها : إنزال البلاء على العدو لا على الصديق والعقوبات الاستدراجيّة أي الإنعام مقابل الأعمال السيئة (ليحسب) الشخص المسيء أنّه يُحسن صنعاً، ثمَّ يعاقبه بعدها، والثالث : مجازاة العباد على أعمالهم (5).
وعلى أيّة حال فإنّ المكر الصحيح هو ما يصدر عن العالِم بعواقب الأمور وحقائق الأشياء الماضية والمستقبلية، إضافةً إلى قدرته المطلقة على القيام بتدبيره، ولكون هاتين الصفتين (العلم والقدرة اللامحدودتين) منحصرتين بذات الباري جلّ وعلا فهو «خير الماكرين».
والظريف هو أنّ وصف الباري بصفة «خَيرُ المَاكِرِينَ» قد ورد فقط في موضعين من القرآن الكريم، أحدهما في قصّة الهجرة التي تُعدّ من أهم مراحل حياة الرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه و آله في قوله تعالى : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَو يَقتُلُوكَ أَو يُخرِجُوكَ وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ}. (الأنفال/ 30)
وكما نعلم فإنّ مؤامرة قريش على قتل الرسول صلى الله عليه و آله زادت من عزيمته وقوّت من إرادته على الهجرة، الهجرة التي صارت سبباً في حدوث أكبر التحوّلات في تاريخ الإسلام وانتشار الحكومة الإسلامية في أنحاء العالَمِ، وهنا يتّضح غلبة المكر الإلهي.
والآخر في المؤامرات المشتركة التي حاكها اليهود والنصارى في محاربة الإسلام والرسول الأكرم صلى الله عليه و آله- الآية 54 من سورة آل عمران- والتي كانت من أخطر المؤامرات، لكن اللَّه سبحانه قد أبطلها جميعاً.
وأخيراً فقد وُصِفَ الباري تعالى في الآية العاشرة والأخيرة بصفة : «خَيرُ الْوَارِثِينَ».
وهذه الصفة وردت مرّة واحدة فقط في القرآن الكريم عن قول زكريّا عليه السلام، في حين يُلاحَظ تكرار وصف الباري بصفة «وارث».
والسّر من وراء وصف الباري بهذه الصفة واضح تماماً لأنّه الوحيد الذي يبقى ويدوم ويرث العالمين، وأمّا سواه من الوارثين فسيكونون موروثين يوماً ما.
علاوة على هذا فإنّ ما يرثه الورثة العاديّون محدود وهم بحاجةٍ إليه، إضافةً إلى بخلهم في صرفه غالباً، لذا يُلاحَظُ حصول الكثير من المشاكل والنزاعات بين الأقرباء من أجل أموالٍ ورثوها، أمّا اللَّه تعالى وهو الوارث النهائي للجميع فهو غير محتاج، ولا يوجد حدّ لصفته هذه، ولا طريق للبخل إلى وجوده فهو «خَيرُ الوَارِثِينَ».
وكما قال «الآلوسي» في «روح المعاني» : «إنَّ هذه الصفة تُشير إلى بقاء الذات الإلهيّة المقدّسة، وفناء جميع الأشياء» (6).
وتعتبر طبعاً من صفات الذات إذا كانت تشير فقط إلى مسألة البقاء (أي أبدية وجوده المقدّس)، ومن صفات الفعل إذا كانت تشير إلى مفهوم تملُّك ما يبقى من الآخرين (فتأمل).
اللَّه خير من كل شيء :
كما لاحظنا في الآيات العشر التي ذكرناها، فقد وُصِفَ اللَّه سبحانه وتعالى بصفات : «خير الراحمين والحاكمين والرازقين والناصرين و ...».
فهل يُمكن قياس الباري مع غيره!؟ (نظراً إلى كون كلمة (خير) في مثل هذه الموارد ذات صيغة تفصيليّة).
هناك جوابان عن هذا السؤال :
الأول : إنَّ كلمة (خير) تفقد مفهومها التفصيلي في مثل هذه الموارد، وتعطي معنى الكثرة، وعليه فالصفات أعلاه تُشير إلى رحمة اللَّه الواسعة، وحكومته الواسعة، ورزقه الوفير، ونُصرته اللامحدودة، دون أن يكون هنالك قياس في الموضوع، «ما للترابُ وربّ الأرباب»؟ (7)
الثاني : إنَّ هذه الصفات لها مفهوم تفضيل وقياس، لكنّه قياسٌ صوريٌّ وظاهري كما هو الحال في «أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ»، والحقيقة فقد اعتُبِرَ الذين هم واسطة لإيصال الأرزاق إلى غيرهم «رازقين»، وحُملت الرحمات الجزئيّة الصادرة من البشر على حساب «الرحمة»، وهكذا بخصوص النصرة والحاكميّة والغفران، ومن قبيل هذه التعابير ليست قليلة في القرآن الكريم (انتخب المرحوم العلّامة المجلسي في بحار الأنوار التفسير الثاني) (8).
وبتعبيرٍ آخر : (من الناحية الفلسفية) فإنّ الوجود الحقيقي المستقل القائم بذاته هو الذات الإلهيّة المقدّسة، وما سواه عدم، وجود ظاهري، كسراب الماء، لذا فإنّ الموجودات الممكنة لا هي خالقة ولا ناصرة ولا راحمة ولا رازقة، فجميع هذه الأمور تخص تلك الذات المقدّسة الفريدة، ومن سواه يأكلون من فتات مائدة إحسانه جل وعلا، لذا فقد قيل :
«ليس في الدار غيره ديّار!».
ولكن من حيث التحليل العادي المتعارف فإنّ الممكنات لها وجودها الخاص أيضاً، ورحمتها ونصرتها وقدرتها وحاكميتها الخاصّة، وورود مثل هذه التعابير في القرآن الكريم إنّما هو من باب تكليم الناس بلسانهم : {وَمَا أَرسَلنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَومِهِ}.
(ابراهيم/ 4)
_______________________
(1) يُلاحظ في القرآن الكريم وجود بعض التعابير الاخرى الحاوية على كلمة (خير) وكصفة من الصفات الإلهيّة، مع أنّ المضاف إليه العائد لم يُذكر بصيغة الجمع، وهو في موردٍ واحد فقط : «فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» (يوسف/ 64).
(2) تفسير روح البيان، ج 9، ص 528.
(3) نهج البلاغة، الخطبة 91.
(4) تفسير الكبير، ج 15، ص 20.
(5) تاج العروس في شرح القاموس، مادّة (مكر).
(6) تفسير روح المعاني، ج 17، ص 180.
(7) يقول المرحوم الكفعمي في مصباحه حول تفسير «خير الناصرين» : «معناه كثرةُ تكرار النّصر منه كما قيل خير الراحمين لكثرة رحمته» (المصباح، ص 346).
- ورد نفس هذا المعنى في توحيد الصدوق مع فارقٍ قليل. (توحيد الصدوق، ص 216).
(8) بحار الأنوار، ج 4، ص 207 (يقول : الخير بمعنى التفضيل ولا حاجة إلى ما تكلّفه).
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|