المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17639 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
زكاة الفطرة
2024-11-05
زكاة الغنم
2024-11-05
زكاة الغلات
2024-11-05
تربية أنواع ماشية اللحم
2024-11-05
زكاة الذهب والفضة
2024-11-05
ماشية اللحم في الولايات المتحدة الأمريكية
2024-11-05

جبانة (هليوبوليس)
2024-08-11
Stress
2024-04-29
كيف تخرج معظم الحشرات الكاملة من العذارى؟
5-2-2021
عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن مَعْمر
20-8-2016
حكم الجهر والإخفات بالقراءة
2-12-2015
مذبذبات ملف - متسعة
9-10-2021


مناظرة بين ابليس والملائكة  
  
9489   10:56 صباحاً   التاريخ: 24-09-2014
المؤلف : محمد حسين الطباطبائي
الكتاب أو المصدر : تفسير الميزان
الجزء والصفحة : ج8 , ص38-50
القسم : القرآن الكريم وعلومه / العقائد في القرآن / شبهات وردود /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-09-2014 8193
التاريخ: 24-09-2014 8713
التاريخ: 24-09-2014 7565
التاريخ: 13-12-2015 8476

 قال في روح المعاني،: و قد ذكر الشهرستاني عن شارح الأناجيل الأربعة صورة مناظرة جرت بين الملائكة و بين إبليس بعد هذه الحادثة، و قد ذكرت في التوراة، و هي أن اللعين قال للملائكة: إني أسلم أن لي إلها هو خالقي و موجدي لكن لي على حكمه أسئلة: الأول: ما الحكمة في الخلق لا سيما و قد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار؟. الثاني: ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع و لا ضرر، و كل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟ الثالث: هب أنه كلفني بمعرفته و طاعته فلما ذا كلفني بالسجود لآدم؟ الرابع: لما عصيته في ترك السجود فلم لعنني و أوجب عقابي مع أنه لا فائدة له و لا لغيره فيه و لي فيه أعظم الضرر؟. الخامس: أنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده و مكنني من إغوائهم و إضلالهم؟. السادس: لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني و معلوم أنه لو كان العالم خاليا من الشر لكان ذلك خيرا؟. قال شارح الأناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادق العظمة و الكبرياء: يا إبليس أنت ما عرفتني، و لو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل، انتهى.

ثم قال الآلوسي : قال الإمام - الرازي - إنه لو اجتمع الأولون و الآخرون من الخلائق و حكموا بتحسين العقل و تقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا، و كان الكل لازما.

ثم قال الآلوسي : و يعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حمدان خرج يوما على جماعته فقال: قد عملت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا إلا أن كان أبا فراس و كان أبو فراس جالسا، فقيل له: ما هو؟ فقال قولي.

لك جسمي تعله.              فدمي لن تطله.

فابتدر أبو فراس قائلا:

قال إن كنت مالكا.            فلي الأمر كله.

انتهى.

أقول: ما مر من البيان في أول الكلام السابق يصلح لدفع هذه الشبهات الستة عن آخرها و يكفي مئونتها من غير أن يحتاج إلى اجتماع الأولين و الآخرين ثم لا ينفعهم اجتماعهم على ما ادعاه الإمام فليست بذاك الذي يحسب، و لتوضيح الأمر نقول:
أما الشبهة الأولى: فالمراد بالحكمة - و هي جهة الخير و الصلاح الذي يدعو الفاعل إلى الفعل في الخلق أما الحكمة في مطلق الخلق و هو ما سوى الله سبحانه من العالم، و أما الحكمة في خلق الإنسان خاصة.

فإن كان سؤالا عن الحكمة في مطلق الخلق و الإيجاد فمن المبرهن عليه أنه فاعل تام لمجموع ما سواه غير مفتقر في ذلك إلى متمم يتمم فاعليته و يصلح له ألوهيته فهو مبدأ لما سواه منبع لكل خير و رحمة بذاته، و اقتضاء المبدإ لما هو مبدأ له ضروري، و السؤال عن الضروري لغو كما أن ملكة الجود تقتضي بذاتها أن ينتشر أثرها و تظهر بركاتها لا لاستدعاء أمر آخر وراء نفسها يوجب لها ظهور الأثر و إلا لم تكن ملكة، فظهور أثرها ضروري لها و هو أن يتنعم بها كل مستحق على حسب استعداده و استحقاقه، و اختلاف المستحقين في النيل بحسب اختلاف استحقاقهم أمر عائد إليهم لا إلى الملكة التي هي مبدأ الخير.

و أما حديث الحكمة في الخلق و الإيجاد بمعنى الغاية و جهة الخير المقصودة للفاعل في فعله فإنما يحكم العقل بوجوب الغاية الزائدة على الفاعل في الفاعل الناقص الذي يستكمل بفعله و يكتسب به تماما و كمالا، و أما الفاعل الذي عنده كل خير و كمال فغايته نفس ذاته من غير حاجة إلى غاية زائدة كما عرفت في مثال ملكة الجود، نعم يترتب على فعله فوائد و منافع كثيرة لا تحصى و نعم إلهية لا تنقطع و هي غير مقصودة إلا ثانيا و بالعرض، هذا في أصل الإيجاد.

و إن كان السؤال عن الحكمة في خلق الإنسان كما يشعر به قوله بعد: لا سيما و قد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار فالحكمة بمعنى غاية الفاعل و الفائدة العائدة إليه غير موجودة لما عرفت أنه تعالى غني بذاته لا يفتقر إلى شيء مما سواه حتى يتم أو يكمل به، و أما الحكمة بمعنى الغاية الكمالية التي ينتمي إليها الفعل و تحرز فائدته فهو أن يخلق من المادة الأرضية الخسيسة تركيب خاص ينتهي بسلوكه في مسلك الكمال إلى جوهر علوي شريف كريم يفوق بكمال وجوده كل موجود سواه، و يتقرب إلى ربه تقربا كماليا لا يناله شيء غيره فهذه غاية النوعية الإنسانية.

غير أن من المعلوم أن مركبا أرضيا مؤلفا من الأضداد واقعا في عالم التزاحم و التنافي محفوفا بعلل و أسباب موافقة و مخالفة لا ينجو منها بكله، و لا يخلص من إفسادها بآثارها المنافية جميع أفراده فلا محالة لا يفوز بالسعادة المطلوبة منه إلا بعض أفراده، و لا ينجح في سلوكه نحو الكمال إلا شطر من مصاديقه لا جميعها.

و ليست هذه الخصيصة أعني فوز البعض بالكمال و السعادة و حرمان البعض مما يختص به الإنسان بل جميع الأنواع المتعلقة الوجود بالمادة الموجودة في هذه النشأة كأنواع الحيوان و النبات و جميع التركيبات المعدنية و غيرها كذلك فشيء من هذه الأنواع الموجودة - و هي ألوف و ألوف - لا يخلو عن غاية نوعية هي كمال وجوده، و هي مع ذلك لا تنال الكمال إلا بنوعيته، و أما الأفراد و الأشخاص فكثير منها تبطل دون البلوغ إلى الكمال، و تفسد في طريق الاستكمال بعمل العلل و الأسباب المخالفة لأنها محفوفة بها و لا بد لها من العمل فيها جريا على مقتضى عليتها و سببيتها.

و لو فرض شيء من هذه الأنواع غير متأثر من شيء من العوامل المخالفة كالنبات مثلا غير متأثر من حرارة و برودة و نور و ظلمة و رطوبة و يبوسة و السمومات و المواد الأرضية المنافية لتركيبه كان في هذا الفرض إبطال تركيبه الخاص أولا، و إبطال العلل و الأسباب ثانيا، و فيه إبطال نظام الكون فافهم ذلك.

و لا ضير في بطلان مساعي بعض الأفراد أو التركيبات إذا أدى ذلك إلى فوز بعض آخر بالكمال و الغاية الشريفة المقصودة التي هي كمال النوع و غايته فإن الخلقة المادية لا تسع أزيد من ذلك، و صرف الكثير من المادة الخسيسة التي لا قيمة لها في تحصيل القليل من الجوهر الشريف العالي استرباح حقيقي بلا تبذير أو جزاف.

فالعلة الموجبة لوجود النوع الإنساني لا تريد بفعلها إلا الإنسان الكامل السائر إلى أوج السعادة في دنياه و آخرته إلا أن الإنسان لا يوجد إلا بتركيب مادي، و هذا التركيب لا يوجد إلا إذا وقع تحت هذا النظام المادي المنبسط على هذه الأجزاء الموجودة في العالم المرتبطة بعضها ببعض المتفاعلة فيما بينها جميعا بتأثيراتها و تأثراتها المختلفة، و لازم ذلك سقوط بعض أفراد الإنسان دون الوصول إلى كمال الإنسانية فعلة وجود الإنسان تريد السعادة الإنسانية أولا و بالذات، و أما سقوط بعض الأفراد فإنما هو مقصود ثانيا و بالعرض ليس بالقصد الأولي.

فخلقه تعالى الإنسان حكمته بلوغ الإنسان إلى غايته الكمالية، و أما علمه بأن كثيرين من أفراده يكونون كفارا مصيرهم إلى النار لا يوجب أن يختل مراده من خلقه النوع الإنساني، و لا أنه يوجب أن يكون خلقه الإنسان الذي سيكون كافرا علة تامة لكفره أو لصيرورته إلى النار، كيف؟ و علة كفره التامة بعد وجوده علل و عوامل خارجية كثيرة جدا، و آخرها اختياره الذي لا يدع الفعل ينتسب إلا إليه فالعلة التي أوجدت وجوده لم توجد إلا جزء من أجزائه علة كفره، و أما تعلق القضاء الإلهي بكفره فإنما تعلق به عن طريق الاختيار لا بأن يبطل اختياره و إرادته و يضطر إلى قبول الكفر كسقوط الحجر المرمي إلى فوق نحو الأرض بعامل الثقل اضطرارا.

و أما الشبهة الثانية فقوله: "ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع و لا ضرر؟" مغالطة من باب إسراء حكم الفاعل الناقص الفقير إلى الفاعل التام الغني في ذاته فحكم العقل بوجوب رجوع فائدة من الفعل إلى الفاعل إنما هو في الفاعل الناقص المستكمل بفعله المنتفع به دون الفاعل المفروض غنيا في ذاته.

فلا حكم من العقل أن كل فاعل حتى ما هو غني في ذاته لا جهة نقص فيه يجب أن يكون له في فعله فائدة عائدة إليه، و لا أن الموجود الذي هو غني في ذاته لا جهة نقص فيه حتى يستكمل بشيء فهو يمتنع صدور فعل عنه.

و التكليف و إن كان في نفسه أمرا وضعيا اعتباريا لا يجري في متنه الأحكام الحقيقية إلا أنه في المكلفين واسطة ترتبط بها الكمالات اللاحقة الحقيقية بسابقتها فهي وصلة بين حقيقتين: توضيح ذلك ملخصا: أنا لسنا نشك عن المشاهدة المتكررة و البرهان أن ما بين أيدينا من الأنواع الموجودة التي نسميها بما فيها من النظام الجاري عالما ماديا واقعة تحت الحركة التي ترسم لكل منها بقاء بحسب حاله، و وجودا ممتدا يبتدي من حالة النقص و ينتهي إلى حالة الكمال، و بين أجزاء هذا الامتداد الوجودي المسمى بالبقاء ارتباطا وجوديا حقيقيا يؤدي به كل سابق إلى لاحقه، و يتوجه به النوع من منزل من هاتيك المنازل إلى ما يليه بل هو قصد من أول حين يشرع في الحركة آخر مرحلة من شأن حركته أن ينتهي إليه.

فالحبة من القمح من أول ما تنشق للنمو قاصدة نحو شجرة الحنطة الكاملة نشوءا و عليها سنابلها، و النطفة من الحيوان متوجهة إلى فرد كامل من نوعه واجد لجميع كمالاته النوعية و هكذا، و ليس النوع الإنساني بمستثنى من هذه الكلية البتة فهو أيضا من أول ما يأخذ فرد منه في التكون عازم نحو غايته متوجه إلى مرتبة إنسان كامل واجد لحقيقة سعادته سواء بلغ في مسير حياته إلى ذلك المبلغ أم حالت دونه الموانع.

و الإنسان لما اضطر بحسب سنخ وجوده إلى أن يعيش عيشة اجتماعية، و العيشة الاجتماعية إنما تتحقق تحت قوانين و سنن جارية بين أفراد المجتمع و هي عقائد و أحكام وضعية اعتبارية - التكاليف الدينية أو غير الدينية - تتكون بالعمل بها في الإنسان عقائد و أخلاق و ملكات هي الملاك في سعادة الإنسان في دنياه و كذا في آخرته و هي لوازم الأعمال المسماة بالثواب و العقاب.

فالتكليف يستبطن سيرا تدريجيا للإنسان بحسب حالاته و ملكاته النفسانية نحو كماله و سعادته يستكمل بطي هذا الطريق و العمل بما فيه طورا بعد طور حتى ينتهي إلى ما هو خير له و أبقى، و يخيب مسعاه إن لم يعمل به كالفرد من سائر الأنواع الذي يسير نحو كماله فينتهي إليه إن ساعدته موافقة الأسباب، و يفسد في مسيره نحو الكمال إن خذلته و منعته.

فقول القائل "و ما الفائدة في التكليف؟" كقوله: ما الفائدة في تغذي النبات؟ أو ما الفائدة في تناسل الحيوان من غير نفع عائد؟.

و أما قوله: "و كل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف" مغالطة أخرى لما عرفت أن التكليف في الإنسان أو أي موجود سواه يجري في حقه التكليف واقع في طريق السعادة متوسط بين كماله و نقصه في وجوده الذي إنما يتم و يكمل له بالتدريج، فإن كان المراد بتحصيل ما يعود من التكليف إلى المكلفين من غير واسطة التكليف تعيين طريق آخر لهم بدلا من طريق التكليف و وضع ذاك الطريق موضع هذا الطريق و حال الطريقين في طريقيتهما واحد عاد السؤال في الثاني كالأول: لم عين هذا الطريق و هو قادر على تحصيل ما يعود منه إليهم بغيره؟ و الجواب أن العلل و الأسباب التي تجمعت على الإنسان مثلا على ما نجدها تقتضي أن يكون مستكملا بالعمل بتكاليف مصلحة لباطنه مطهرة لسره من طريق العادة.

و إن كان المراد بتحصيله من غير واسطة التكليف تحصيله لهم من غير واسطة أصلا و إفاضة جميع مراحل الكمال و مراتب السعادة لهم في أول وجودهم من غير تدريج بسلوك طريق فلازمه بطلان الحركات الوجودية و انتفاء المادة و القوة و جميع شئون الإمكان و الموجود المخلوق الذي هذا شأنه مجرد في بدء وجوده تام كامل سعيد في أصل نشأته، و ليس هو الإنسان المخلوق من الأرض الناقص أولا المستكمل تدريجا ففي الفرض خلف.

و أما الشبهة الثالثة فقوله "هب أنه كلفني بمعرفته و طاعته فلما ذا كلفني بالسجود لآدم؟" فجوابه ظاهر فإن هذا التكليف يتم بالائتمار به صفة العبودية لله سبحانه، و يظهر بالتمرد عنه صفة الاستكبار ففيه على أي حال تكميل من الله و استكمال من إبليس إما في جانب السعادة و إما في جانب الشقاوة، و قد اختار الثاني.

على أن في تكليفه و تكليف الملائكة بالسجدة تعيينا للخط الذي خط لآدم فإن الصراط المستقيم الذي قدر لآدم و ذريته أن يسلكوه لا يتم أمره إلا بمسدد معين يدعو الإنسان إلى هداه و هو الملائكة، و عدو مضل يدعوه إلى الانحراف عنه و الغواية فيه و هو إبليس و جنوده كما عرفت فيما تقدم من الكلام.

و أما الشبهة الرابعة: فقوله "لما ذا لعنني و أوجب عقابي بعد المعصية و لا فائدة له فيه؟ إلخ".

جوابه أن اللعن و العقاب أعني ما يشتملان عليه من الحقيقة من لوازم الاستكبار على الله الذي هو الأصل المولد لكل معصية، و ليس الفعل الإلهي مما يجر إليه نفعا أو فائدة حتى يمتنع فيما لا نفع فيه يعود إليه كما تقدمت الإشارة إليه.

و ليس قوله هذا إلا كقول من يقول فيمن استقى سما و شربه فهلك به: لم لم يجعله الله شفاء و ليس له في إماتته به نفع و له فيه أعظم الضرر؟ هلا جعله رزقا طيبا للمسموم يرفع عطشه و ينمو به بدنه؟ فهذا كله من الجهل بمواقع العلل و الأسباب التي أثبتها الله في عالم الصنع و الإيجاد فكل حادث من حوادث الكون يرتبط إلى علل و عوامل خاصة من غير تخلف و اختلاف قانونا كليا.

فالمعصية إنما تستتبع العقاب على النفس المتقذرة بها إلا أن تتطهر بشفاعة أو توبة أو حسنة تستدعي المغفرة، و إبطال العقاب من غير وجود شيء من أسبابه هدم لقانون العلية العام، و في انهدامه انهدام كل شيء.

و أما الشبهة الخامسة: أعني قوله "إنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده و مكنني من إغوائهم و إضلالهم؟" فقد ظهر جوابه مما تقدم فإن الهدى و الحق العملي و الطاعة و أمثالها إنما تتحقق مع تحقق الضلال و الباطل و المعصية و أمثالها، و الدعوة إلى الحق إنما تتم إذا كان هناك دعوة إلى باطل، و الصراط المستقيم إنما يكون صراطا لو كان هناك سبل غير مستقيمة تسلك بسالكها إلى غاية غير غايته.

فمن الضروري أن يكون هناك داع إلى الباطل يهدي إلى عذاب السعير ما دامت النشأة الإنسانية قائمة على ساقها، و الإنسانية محفوظة ببقائها النوعي بتعاقب أفرادها فوجود إبليس من خدم النوع الإنساني، و لم يمكنه الله منهم و لا سلطه عليهم إلا بمقدار الدعوة كما صرح به القرآن الكريم و حكاه عنه نفسه فيما يخاطب به الناس يوم القيامة.

و أما الشبهة السادسة: فأما قوله "لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني؟" فقد ظهر جوابه مما تقدم آنفا.

و أما قوله: "و معلوم أن العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا" فقد عرفت أن معنى كون العالم خاليا من الشر مأمونا من الفساد كونه مجردا غير مادي، و لا معنى محصل لعالم مادي يوجد فيه الفعل من غير قوة و الخير من غير شر و النفع من غير ضر و الثبات من غير تغير و الطاعة من غير معصية و الثواب من غير عقاب.

و أما ما ذكره من جوابه تعالى عن شبهات إبليس بقوله: "يا إبليس أنت ما عرفتني و لو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله الذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل" فجواب يوافق ما في التنزيل الكريم، قال تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

و ظاهر المنقول من قوله تعالى أنه جواب إجمالي عن شبهاته لعنه الله لا جواب تفصيلي عن كل واحد واحد، و محصله: أن هذه الشبهات جميعا سؤال و اعتراض عليه تعالى: و لا يتوجه إليه اعتراض لأنه الله لا إله إلا هو لا يسأل عما يفعل.

و ظاهر قوله تعالى أن قوله " لَا يُسْأَلُ " متفرع على قوله: "فإني" إلخ، فمفاد الكلام أن الله تعالى لما كان بآنيته الثابتة بذاته الغنية لذاته هو الإله المبدئ المعيد الذي يبتدئ منه كل شيء و ينتهي إليه كل شيء فلا يتعلق في فعل يفعله بسبب فاعلي آخر دونه، و لا يحكم عليه سبب غائي آخر يبعثه نحو الفعل بل هو الفاعل فوق كل فاعل، و الغاية وراء كل غاية فكل فاعل يفعل بقوة فيه و إن القوة لله جميعا، و كل غاية إنما تقصد و تطلب لكمال ما فيه و خير ما عنده و بيده الخير كله.

و يتفرع عليه أنه تعالى لا يسأل في فعله عن السبب فإن سبب الفعل إما فاعل و إما غاية و هو فاعل كل فاعل و غاية كل غاية، و أما غيره تعالى فلما كان ما عنده من قوة الفعل موهوبا له من عند الله، و ما يكتسبه من جهة الخير و المصلحة بإفاضة منه تعالى بتسبيب الأسباب و تنظيم العوامل و الشرائط فإنه مسئول عن فعله لم فعله؟ و أكثر ما يسأل عنه إنما هو الغاية و جهة الخير و المصلحة، و خاصة في الأفعال التي يجري فيه الحسن و القبح و المدح و الذم من الأفعال الاجتماعية في ظرف الاجتماع فإنها المتكئة على مصالحه، فهذا بيان تام يتوافق فيه البرهان و الوحي.

و أما المتكلمون فإنهم بما لهم من الاختلاف العميق في مسألة: أن أفعال الله هل تعلل بالأغراض؟ و ما يرتبط بها من المسائل اختلفوا في تفسير أن الله لا يسأل عن فعله فالأشاعرة لتجويزهم الإرادة الجزافية و استناد الشرور و القبائح إليه تعالى ذكروا أن له أن يفعل ما يشاء من غير لزوم أن يشتمل فعله على غرض فتنطبق عليه مصلحة محسنة و ليس للعقل أن يحكم عليه كما يحكم على غيره بوجوب اشتمال فعله على غرض و هو ترتب مصلحة محسنة على الفعل.

و المعتزلة يحيلون الفعل غير المشتمل على غرض و غاية لاستلزامه اللغو و الجزاف المنفي عنه تعالى فيفسرون عدم كونه تعالى مسئولا في فعله بأنه حكيم و الحكيم هو الذي يعطي كل ذي حق حقه فلا يفعل قبيحا و لا لغوا و لا جزافا، و الذي يسأل عن فعله هو من يمكن في حقه إتيان القبيح و اللغو و الجزاف فهو تعالى غير مسئول عما يفعل و هم يسألون.

و البحث طويل الذيل و قد تعارك فيه ألوف الباحثين من الطائفتين و من وافقهم من غيرهم قرونا متمادية، و لا يسعنا تفصيل القول فيه على ما بنا من ضيق المجال غير أنا نشير إلى حقيقة أخرى يسفر به الحجاب عن وجه الحق في المقام.

لا ريب أن لنا علوما و تصديقات نركن إليها، و لا ريب أنها على قسمين: القسم الأول: العلوم و التصديقات التي لا مساس لها طبعا بأعمالنا و إنما هي علوم تصديقية تكشف عن الواقع و تطابق الخارج سواء كنا موجودين عاملين أعمالنا الحيوية الفردية أو الاجتماعية أم لا كقولنا: الأربعة زوج، و الواحد نصف الاثنين، و العالم موجود، و إن هناك أرضا و شمسا و قمرا إلى غير ذلك، و هي إما بديهية لا يدخلها شك.

و إما نظرية تنتهي إلى البديهيات و تتبين بها.

و القسم الثاني: العلوم العملية و التصديقات الوضعية الاعتبارية التي نضعها للعمل في ظرف حياتنا، و الاستناد إليها في مستوى الاجتماع الإنساني فنستند إليها في إرادتنا و نعلل بها أفعالنا الاختيارية، و ليست مما يطابق الخارج بالذات كالقسم الأول و إن كنا نوقعها على الخارج إيقاعا بحسب الوضع و الاعتبار لكن ذلك إنما هو بحسب الوضع لا بحسب الحقيقة و الواقعية كالأحكام الدائرة في مجتمعاتنا من القوانين و السنن و الشئون الاعتبارية كالولاية و الرئاسة و السلطنة و الملك و غيرها فإن الرئاسة التي نعتبرها لزيد مثلا في قولنا "زيد رئيس" وصف اعتباري، و ليس في الخارج بحذائه شيء غير زيد الإنسان و ليس كوصف الطول أو السواد الذي نعتبرهما لزيد في قولنا "زيد طويل القامة، أسود البشرة" و إنما اعتبرنا معنى الرئاسة حيث كونا مجتمعا من عدة أفراد لغرض من الأغراض الحيوية و سلمنا إدارة أمر هذا المجتمع إلى زيد ليضع كلا موضعه الذي يليق به ثم يستعمله فيما يريد فوجدنا نسبة زيد إلى المجتمع نسبة الرأس إلى الجسد فوصفناه بأنه رأس لينحفظ بذلك المقام الذي نصبناه فيه و ينتفع بآثاره و فوائده.

فالاعتقاد بأن زيدا رأس و رئيس إنما هو في الوهم لا يتعداه إلى الخارج غير أنا نعتبره معنى خارجيا لمصلحة الاجتماع، و على هذا القياس كل معنى دائر في المجتمع الإنساني معتبر في الحياة البشرية متعلق بالأعمال الإنسانية فإنها جميعا مما وضعه الإنسان و قلبها في قالب الاعتبار مراعاة لمصلحة الحياة لا يتعدى وهمه.

فهذان قسمان من العلوم، و الفرق بين القسمين: أن القسم الأول مأخوذ من نفس الخارج يطابقه حقيقة، و هو معنى كونه صدقا و يطابقه الخارج و هو معنى كونه حقا فالذي في الذهن هو بعينه الذي في الخارج و بالعكس: و أما القسم الثاني فإن موطنه هو الذهن من غير أن ينطبق على خارجه إلا أنا لمصلحة من المصالح الحيوية نعتبره و نتوهمه خارجيا منطبقا عليه دعوى و إن لم ينطبق حقيقته.

فكون زيد رئيسا لغرض الاجتماع ككونه أسدا بالتشبيه و الاستعارة لغرض التخيل الشعري، و توصيفنا في مجتمعنا زيدا بأنه رأس في الخارج كتوصيف الشاعر زيدا بأنه أسد خارجي، و على هذا القياس جميع المعاني الاعتبارية من تصور أو تصديق و هذه المعاني الاعتبارية و إن كانت من عمل الذهن من غير أن تكون مأخوذة من الخارج فتعتمد عليه بالانطباق إلا أنها معتمدة على الخارج من جهة أخرى و ذلك أن نقص الإنسان مثلا و حاجته إلى كماله الوجودي و نيله غاية النوع الإنساني هو الذي اضطره إلى اعتباره هذه المعاني تصورا و تصديقا فإبقاء الوجود و المقاصد الحقيقية المادية أو الروحية التي يقصدها الإنسان و يبتغيها في حياته هي التي توجب له أن يعتبر هذه المعاني ثم يبني عليها أعماله فيحرز بها لنفسه ما يريده من السعادة.

و لذلك تختلف هذه الأحكام بحسب اختلاف المقاصد الاجتماعية فهناك أعمال و أمور كثيرة تستحسنها المجتمعات القطبية مثلا و هي بعينها مستقبحة في المجتمعات الاستوائية، و كذلك الاختلافات الموجودة بين الشرقيين و الغربيين و بين الحاضرين و البادين، و ربما يحسن عند العامة من أهل مجتمع واحد ما يقبح عند الخاصة، و كذلك اختلاف النظر بين الغني و الفقير، و بين المولى و العبد، و بين الرئيس و المرؤوس، و بين الكبير و الصغير، و بين الرجل و المرأة.

نعم هناك أمور اعتبارية و أحكام وضعية لا تختلف فيها المجتمعات و هي المعاني التي تعتمد على مقاصد حقيقية عامة لا تختلف فيها المجتمعات كوجوب الاجتماع نفسه، و حسن العدل، و قبح الظلم، فقد تحصل أن للقسم الثاني من علومنا أيضا اعتمادا على الخارج و إن كان غير منطبق عليه مستقيما انطباق القسم الأول.

إذا عرفت ذلك علمت أن علومنا و أحكامنا كائنة ما كانت معتمدة على فعله تعالى فإن الخارج الذي نماسه فننتزع و نأخذ منه أو نبني عليه علومنا هو عالم الصنع و الإيجاد و هو فعله.

و على هذا فيعود معنى قولنا مثلا: "الواحد نصف الاثنين بالضرورة" إلى أن الله سبحانه يفعل دائما الواحد و الاثنين على هذه النسبة الضرورية، و على هذا القياس، و معنى قولنا: "زيد رئيس يجب احترامه" أن الله سبحانه أوجد الإنسان إيجادا بعثه إلى هذه الدعوى و المزعمة ثم إلى العمل على طبقه، و على هذا القياس كل ذلك على ما يليق بساحة قدسه عز شأنه.

و إذا علمت هذا دريت أن جميع ما بأيدينا من الأحكام العقلية سواء في ذلك العقل النظري الحاكم بالضرورة و الإمكان، و العقل العملي الحاكم بالحسن و القبح المعتمد على المصالح و المفاسد مأخوذة من مقام فعله تعالى معتمدة عليه.

فمن عظيم الجرم أن نحكم العقل عليه تعالى فنقيد إطلاق ذاته غير المتناهية فنحده بأحكامه المأخوذة من مقام التحديد و التقييد، أو أن نقنن له فنحكم عليه بوجوب فعل كذا و حرمة فعل كذا و أنه يحسن منه كذا و يقبح منه كذا على ما يراه قوم فإن في تحكيم العقل النظري عليه تعالى حكما بمحدوديته و الحد مساوق للمعلولية فإن الحد غير المحدود و الشيء لا يحد نفسه بالضرورة، و في تحكيم العقل العملي عليه جعله ناقصا مستقبلا تحكم عليه القوانين و السنن الاعتبارية التي هي في الحقيقة دعاو وهمية كما عرفت في الإنسان فافهم ذلك.

و من عظيم الجرم أيضا أن نعزل العقل عن تشخيص أفعاله تعالى في مرحلتي التكوين و التشريع أعني أحكام العقل النظرية و العملية.

أما في مرحلة النظر فكأن نستخرج القوانين الكلية النظرية من مشاهدة أفعاله، و نسلك بها إلى إثبات وجوده حتى إذا فرغنا من ذلك رجعنا فأبطلنا أحكام العقل الضرورية معتلا بأن العقل أهون من أن يحيط بساحته أو ينال كنه ذاته و درجات صفاته، و أنه فاعل لا بذاته بل بإرادة فعلية، و الفعل و الترك بالنسبة إليه على السوية و أنه لا غرض له في فعله و لا غاية، و أن الخير و الشر يستندان إليه جميعا، و لو أبطلنا الأحكام العقلية في تشخيص خصوصيات أفعاله و سننه في خلقه فقد أبطلناها في الكشف عن أصل وجوده، و أشكل من ذلك أنا نفينا بذلك مطابقة هذه الأحكام و القوانين المأخوذة من الخارج للمأخوذ منه، و المنتزعة للمنتزع منه و هو عين السفسطة التي فيها بطلان العلم و الخروج عن الفطرة الإنسانية إذ لو خالف شيء من أفعاله تعالى أو نعوته هذه الأحكام العقلية كان في ذلك عدم انطباق الحكم العقلي على الخارج المنتزع عنه - و هو فعله - و لو جاز الشك في صحة شيء من هذه الأحكام التي نجدها ضرورية كان الجميع مما يجوز فيه ذلك فينتفي العلم، و هو السفسطة.

و أما في مرحلة العمل فليتذكر أن هذه الأحكام العملية و الأمور الاعتبارية دعاو اعتقادية و مخترعات ذهنية وضعها الإنسان ليتوسل بها إلى مقاصده الكمالية و سعادة الحياة فما كان من الأعمال مطابقا لسعادة الحياة وصفها بالحسن ثم أمر بها و ندب إليها، و ما كان منها على خلاف ذلك وصفها بالقبح و المساءة ثم نهى عنها و حذر منها - و حسن الفعل و قبحه موافقته لغرض الحياة و عدمها - و الغايات التي تضطر الإنسان إلى جعل هذه الأوامر و النواهي و تقنين هذه الأحكام و اعتبار الحسن و القبح في الأفعال هي المصالح المقتضية للجعل ففرض حكم تشريعي و لا حسن في العمل به و لا مصلحة تقتضيه كيفما فرض فرض متطارد الأطراف لا محصل له.

و الذي شرعه الله سبحانه من الأحكام و الشرائع متحد سنخا مع ما نشرعه فيما بيننا أنفسنا من الأحكام فوجوبه و حرمته و أمره و نهيه و وعده و وعيده مثلا من سنخ ما عندنا من الوجوب و الحرمة و الأمر و النهي و الوعد و الوعيد لا شك في ذلك، و هي معان اعتبارية و عناوين ادعائية غير أن ساحته تعالى منزهة من أن تقوم به الدعوى التي هي من خطأ الذهن فهذه الدعاوي منه تعالى قائمة بظرف الاجتماع كالترجي و التمني منه تعالى القائمين بمورد المخاطبة لكن الأحكام المشرعة منه تعالى كالأحكام المشرعة منا متعلقة بالإنسان الاجتماعي السالك بها من النقص إلى الكمال، و المتوسل بتطبيق العمل بها إلى سعادة الحياة الإنسانية فثبت أن لفعله تعالى التشريعي مصلحة و غرضا تشريعيا، و لما أمر به أو نهى عنه حسنا و قبحا ثابتين بثبوت المصالح و المفاسد.

فقول القائل: إن أفعاله التشريعية لا تعلل بالأغراض كما لو قال قائل: إن ما مهده من الطريق لا غاية له، و من الضروري أن الطريق إنما يكون طريقا بغايته، و الوسط إنما يكون وسطا بطرفه، و قول القائل: إنما الحسن ما أمر به الله و القبيح ما نهى عنه فلو أمر بما هو قبيح عقلا ضروريا كالظلم كان حسنا، و لو نهى عن حسن بالضرورة العقلية كالعدل كان قبيحا كما لو قال قائل: إن الله لو سلك بالإنسان نحو الهلاك و الفناء كان فيه حياته السعيدة، و لو منعه عن سعادته الخالدة الحقيقية عادت السعادة شقاوة.

فالحق الذي لا محيص عنه في المرحلتين: أن العقل النظري مصيب فيما يشخصه و يقضي به من المعارف الحقيقية المتعلقة به تعالى فإنا إنما نثبت له تعالى ما نجده عندنا من صفة الكمال كالعلم و القدرة و الحياة، و استناد الموجودات إليه و سائر الصفات الفعلية العليا كالرحمة و المغفرة و الرزق و الإنعام و الهداية و غير ذلك على ما يهدي إليه البرهان.

غير أن الذي نجده من الصفات الكمالية لا يخلو عن محدودية و هو تعالى أعظم من أن يحيط به حد، و المفاهيم لا تخلو عنه لأن كل مفهوم مسلوب عن غيره منعزل عما سواه، و هذا لا يلائم الإطلاق الذاتي فتوسل العقل إلى رفع هذه النقيصة بشيء من النعوت السلبية تنزيها، و هو أنه تعالى أكبر من أن يوصف بوصف، و أعظم من أن يحيط به تقييد و تحديد فمجموع التشبيه و التنزيه يقربنا إلى حقيقة الأمر، و قد تقدم في ذيله قوله تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] ، من غرر خطب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ما يبين هذه المسألة بأوفى بيان و يبرهن عليها بأسطع برهان فراجعه إن شئت.

هذا كله في العقل النظري.

و أما العقل العملي فقد عرفت أن أحكام هذا العقل جارية في أفعاله تعالى التشريعية غير أنه تعالى إنما شرع ما شرع و اعتبر ما اعتبر لا لحاجة منه إليه بل ليتفضل به على الإنسان مثلا و هو ذو الفضل العظيم فيرتفع به حاجة الإنسان فله سبحانه في تشريعه غرض لكنه قائم بالإنسان الذي قامت به الحاجة لا به تعالى، و لتشريعاته مصالح مقتضية لكن المنتفع بها هو الإنسان دونه كما تقدم.

و إذا كان كذلك كان للعقل أن يبحث في أطراف ما شرعه من الأحكام و يطلب الحصول على الحسن و القبح و المصلحة و المفسدة فيها لكن لا لأن يحكم عليه فيأمره و ينهاه و يوجب و يحرم عليه كما يفعل ذلك بالإنسان إذ لا حاجة له تعالى إلى كمال مرجو حتى يتوجه إليه حكم موصل إليه بخلاف الإنسان بل لأنه تعالى شرع الشرائع و سن السنن ثم عاملنا معاملة العزيز المقتدر الذي نقوم له بالعبودية و ترجع إليه حياتنا و مماتنا و رزقنا و تدبير أمورنا و دساتير أعمالنا و حساب أفعالنا و الجزاء على حسناتنا و سيئاتنا فلا يوجه إلينا حكما إلا بحجة، و لا يقبل منا معذرة إلا بحجة، و لا يجزينا جزاء إلا بحجة كما قال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ، و قال: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } [الأنفال: 42] إلى غير ذلك من احتجاجاته يوم القيامة على الإنس و الجن و لازم ذلك أن يجري في أفعاله تعالى في نظر العقل العملي ما يجري في أفعال غيره بحسب السنن التي سنها.

و على ذلك جرى كلامه سبحانه قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا } [يونس: 44] ، و قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9] ، و قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الدخان: 38] ، و في هذا المعنى الآيات الكثيرة التي نفى فيها عن نفسه الرذائل الاجتماعية.

و في ما تقدم من معنى جريان حكم العقل النظري و العملي في ناحيته تعالى آيات كثيرة ففي القسم الأول كقوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [آل عمران: 60] و لم يقل: الحق مع ربك لأن القضايا الحقة و الأحكام الواقعية مأخوذة من فعله لا متبوعة له في عمله حتى يتأيد بها مثلنا، و قوله: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } [الرعد: 41] ، فله الحكم المطلق من غير أن يمنعه مانع عقلي أو غيره فإن الموانع و المعقبات إنما تتحقق بفعله و هي متأخرة عنه لا حاكمة أو مؤثرة فيه، و قوله: {وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [الرعد: 16] ، و قوله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21]، و قوله: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } [الطلاق: 3] ، فهو القاهر الغالب البالغ الذي لا يقهره شيء و لا يغلب عن شيء و لا يحول بينه و بين أمره حائل يزاحمه، و قوله: { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] ، إلى غير ذلك من الآيات المطلقة التي ليس دونها مقيد.

نعم يجري في أفعاله الحكم العقلي لتشخيص الخصوصيات و كشف المجهولات لا لأن يكون متبوعا بل لأنه تابع لازم مأخوذ من سنته في فعله الذي هو نفس الواقع الخارج، و يدل على ذلك جميع الآيات التي تحيل الناس إلى التعقل و التذكر و التفكر و التدبر و نحوها فلو لا أنها حجة فيما أفادته لم يكن لذلك وجه.

و في القسم الثاني: نحو قوله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] ، يدل على أن في العمل بالأحكام مصلحة الحياة السعيدة، و قوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } [الأعراف: 28] ، و ظاهره أن ما هو فحشاء في نفسه لا يأمر به الله لا أن الله لو أمر بها لم تكن فحشاء، و قوله: {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13] ، و آيات كثيرة أخرى تعلل الأحكام المجعولة بمصالح موجودة فيها كالصلاة و الصوم و الصدقات و الجهاد و غير ذلك لا حاجة إلى نقلها.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .