أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-10-15
927
التاريخ: 2024-09-09
234
التاريخ: 2024-09-16
149
التاريخ: 2023-10-14
1008
|
ويتوسل علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) إلىٰ الله في هذه الرحلة بثلاث وسائل. وقد أمرنا الله تعالىٰ أن نبتغي إليه الوسائل. قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) ([1]) ، وقال : ( أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) ([2]). والوسائل التي يتوسّل بها الامام إلىٰ الله في هذه الرحلة هي : « الحاجة » ، و « السؤال » ، و « الحب ». ولله درّه من معلّم في الدعاء ، يعرف ماذا يطلب من الله تعالىٰ ، وكيف يطلب ، وأين مواضع رحمة الله.
الوسيلة الاولىٰ : « الحاجة » :
فالحاجة نفسها من منازل رحمة الله ، فإن الله تعالىٰ كريم ينزل رحمته علىٰ خلقه حتىٰ الحيوان والنبات لحاجتهم من دون سؤال وطلب. دون أن يكون معنىٰ هذا الكلام نفي السؤال والطلب ، فإنّ السؤال والطلب بابان آخران من أبواب رحمة الله إلىٰ جنب « الحاجة ».
فإذا عطش الناس سقاهم ربُّهم ، وإذا جاعوا أطعمهم ، وإذا عروا كساهم ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) ([3]) ، حتىٰ ولو لم يعرفوا الله تعالىٰ ، ولم يعرفوا كيف يدعونه ، وماذا يطلبون منه ، « يا من يعطي من سأله ، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة » ([4]).
وفي مناجاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) تجد التفاتاً رائعاً لهذه النكتة الربّانية في استنزال رحمة الله تعالىٰ :
« مولاي يا مولاي أنت المولىٰ وأنا العبد ، وهل يرحم العبد إلّا المولىٰ. مولاي يا مولاي أنت المالك وأنا المملوك ، وهل يرحم المملوك إلّا المالك. مولاي يا مولاي أنت العزيز وأنا الذليل ، وهل يرحم الذليل إلّا العزيز. مولاي يا مولاي أنت الخالق وانا المخلوق ، وهل يرحم المخلوق إلّا الخالق. مولاي يا مولاي انت العظيم وأنا الحقير ، وهل يرحم الحقير إلّا العظيم. مولاي يا مولاي أنت القوي وأنا الضعيف ، وهل يرحم الضعيف إلّا القوي. مولاي يا مولاي أنت الغني وأنا الفقير ، وهل يرحم الفقير إلّا الغني. مولاي يا مولاي أنت المعطي وأنا السائل ، وهل يرحم السائل إلّا المعطي. مولاي يا مولاي أنت الحيّ وأنا الميّت ، وهل يرحم الميّت إلّا الحيّ. مولاي يا مولاي أنت الباقي وأنا الفاني ، وهل يرحم الفاني إلّا الباقي. مولاي يا مولاي أنت الدائم وأنا الزائل ، وهل يرحم الزائل إلّا الدائم. مولاي يا مولاي أنت الرازق وأنا المرزوق ، وهل يرحم المرزوق إلّا الرازق. مولاي يا مولاي أنت الجواد وانا البخيل ، وهل يرحم البخيل إلّا الجواد. مولاي يا مولاي أنت المعافي وأنا المبتلىٰ ، وهل يرحم المتبلىٰ إلّا المعافي. مولاي يا مولاي أنت الكبير وأنا الصغير ، وهل يرحم الصغير إلّا الكبير. مولاي يا مولاي أنت الهادي وأنا الضالّ ، وهل يرحم الضالّ إلّا الهادي. مولاي يا مولاي أنت الغفور وأنا المذنب ، وهل يرحم المذنب إلّا الغفور. مولاي يا مولاي أنت الغالب وأنا المغلوب ، وهل يرحم المغلوب إلّا الغالب. مولاي يا مولاي أنت الرب وأنا المربوب ، وهل يرحم المربوب إلّا الرب. مولاي يا مولاي أنت المتكبّر وأنا الخاشع ، وهل يرحم الخاشع إلّا المتكبّر. مولاي يا مولاي ارحمني برحمتك ، وارضَ عني بجودك وكرمك وفضلك. يا ذا الجود والإحسان ، والطول والامتنان » ([5]).
والامام أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الفقرات من المناجاة الرائعة يتوسّل إلىٰ الله تعالىٰ بحاجته وفقره ، ويضع حاجة العبد وفقره في موضع استنزال رحمة الله.
فإن المخلوق يستنزل رحمة الخالق ، والحقير يستنزل رحمة العظيم ، والضعيف يستنزل رحمة القوي ، والفقير يستنزل رحمة الغني ، والمرزوق يستنزل رحمة الرازق ، والمبتلىٰ يستنزل رحمة المعافي ، والضالّ يستنزل رحمة الهادي ، والمذنب يستنزل رحمة الغفور ، والمتحيّر يستنزل رحمة الدليل ، والمغلوب يستنزل رحمة الغالب.
وهذه من السنن الكونيّة لله تعالىٰ ، ولن تتبدل سنن الله ، فمهما كانت حاجته وفقره كانت رحمة الله وفضله عندهما. وكما ينزل الماء إلىٰ الموضع المنخفض ، تنزل رحمة الله تعالىٰ علىٰ مواضع الحاجة ، وذلك أنه تعالىٰ كريم جواد ، والكريم يرعىٰ مواضع الحاجة ويخصّها برحمته.
يقول الامام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء الاسحار الذي علّمه لأبي حمزة الثمالي : « أعطني لفقري ، وارحمني لضعفي » ، فيجعل من فقره وضعفه وسيلةً يتوسّل بهما إلىٰ رحمة الله.
وطبيعي أن هذا الكلام لا يمكن أن يؤخذ علىٰ إطلاقه ، وعلىٰ طريقة العامل الواحد ، فإن هناك عوامل اُخرىٰ تستنزل رحمة الله تعالىٰ ، وهناك موانع وحجب تحجب رحمة الله ، وهناك عامل الابتلاء في سنن الله تعالىٰ.
وعندما نقول : إن الحاجة والفقر يستنزلان رحمة الله تعالىٰ ينبغي ان نأخذ هذا الكلام ضمن هذا النظام الإلهي الشامل. وهذا باب واسع من المعرفة لا نريد ان ندخله الآن ، وعسىٰ أن يوفقني الله تعالىٰ لشرح هذه الحقيقة بما تستحق من التوضيح.
ونجد في القرآن الكريم نماذج من عرض « الحاجة » و « الفقر » لاستنزال رحمة الله تعالىٰ ، واستنزال الاجابة من عند الله. وللحاجة إجابة ، كما للدعاء والسؤال إجابة ، فإن عرض الحاجة نحوٌ من الدعاء. وهذه النماذج يذكرها القرآن علىٰ لسان عباد الله الصالحين :
1 ـ من هذه النماذج حاجه العبد الصالح الممتحن والمبتلىٰ أيوب (عليه السلام) ، عندما نادىٰ الله تعالىٰ وهو في غمرة الابتلاء والمحنة : ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ õ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ ) ([6]).
ولا دعاء في هذه الفقرة التي يحكيها القرآن الكريم عن لسان هذا العبد الصالح المبتلىٰ ، ولكنّ الله تعالىٰ يقول : ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ) وكأنَّ عرض الحاجة والفقر نحوٌ من الدعاء.
2 ـ والعبد الصالح ذو النون يعرض فقره وحاجته وظلمه لنفسه علىٰ الله تعالىٰ ، وهو في ظلمات بطن الحوت في البحر : ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ õ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ) ([7]).
والاستجابة كذلك ليست للطلب وإنّما للحاجة والفقر ، فلم يزد العبد الصالح ذو النون (عليه السلام) علىٰ هذه الكلمة ( سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) فاستجاب الله تعالیٰ له ، ونجّاه من الغم ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ).
3 ـ ونلتقي في القرآن بكلمة كليم الله موسىٰ بن عمران وأخيه هارون ، عندما دعاهما الله تعالىٰ ليحملا رسالته إلىٰ فرعون ( اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ õ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ õ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ ) ([8]) ، فلم يطلبا من الله تعالىٰ أن يحميهما من فرعون وجلاوزته ، ويوفّر لهما الأمن الذي يحتاجانه. وإنّما ذكرا لله ضعفهما وخوفهما من بطش فرعون ، وقوّة فرعون وبطشه ( إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ ) ، فاستجاب الله لحاجتهما إلىٰ الحماية والدعم والتأييد ( قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ ) ([9]).
4 ـ والنموذج الرابع كلمة العبد الصالح نوح (عليه السلام) ، عندما عرض علىٰ الله حاجته إلىٰ إنقاذ ابنه من الطوفان ( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) ([10]) ، وهو طلب في غاية الادب من هذا العبد الصالح ، فلم يطلب من الله تعالىٰ إنقاذ ابنه ، وإنّما عرض حاجته إلىٰ انقاذ ابنه من الغرق فقط.
ومهما يكن من أمر فإنّ « الحاجة » و « الفقر » من مواطن نزول رحمة الله تعالىٰ. وحتىٰ الحيوانات والنباتات تستنزل رحمة الله تعالىٰ بحاجتها وفقرها.
فإذا عطشت سقاها الله تعالىٰ ورواها ، وإذا جاعت أشبعها الله تعالىٰ وأطعمها. وهذا باب واسع من المعرفة ؛ وقد سبق أن بيّنتُ طرفاً من ذلك في كتاب « شرح الصدر » من « رحاب القرآن » وعسىٰ أن يقيّض الله تعالىٰ من يشرح ذلك.
وفي تاريخ الانبياء نلتقي بثلاثة مشاهد لاستجابة الله تعالىٰ في وقت واحد : أحدهما استجابة للحاجة والفقر « غير الواعي » ، والآخر استجابة للدعاء والسؤال « الفقر الواعي » ، والثالث استجابة للسعي والحركة والعمل ، وهو الموطن الثالث من مواطن الاستجابة. وذلك في قصة اسماعيل (عليه السلام) واُمه هاجر عندما ذهب ابراهيم (عليه السلام) بهما ، واسماعيل يومئذ طفل يرضع ، إلىٰ وادٍ غير ذي زرع استجابة لأوامر الله تعالىٰ ، وقال : ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ) ([11]).
فلما نفد ما ترك لهما إبراهيم (عليه السلام) من الماء غلب العطش علىٰ الطفل الرضيع « اسماعيل » فأخذ يصرخ ويضرب بيديه ورجليه ، وكانت اُمّه « هاجر » تسعىٰ بحثاً عن الماء بين « الصفا » و « المروة » وتصعد هذا الجبل حيناً تطلُّ منه علىٰ الصحراء باحثةً عن الماء ، وتصعد الآخر حيناً ، وهذا هو (السعي) الموطن الآخر لنزول رحمة الله.
وهي في ذلك كله تدعو الله تعالىٰ أن يسقيهما الماء في هذه الصحراء القاحلة ، وهذا هو الدعاء والسؤال « الفقر الواعي ». فاستجاب الله تعالىٰ لحاجة الطفل وفقره ، ولسعي الام وحركتها ، ودعائها وسؤالها ، فتفجّرت الارض من تحت أقدام الطفل الرضيع « اسماعيل » في موضع زمزم الحالي ، فانحدرت الام من الجبل إلىٰ طفلها تسقيه وتجمع الماء وتحوطه لئلا يذهب الماء هدراً ، وتقول : « زم ... زم » وهذا المشهد الذي يحييه الحجاج ويعيدونه كل عام في أعمال الحج ، مشهد من أروع مشاهد « علاقة العبد بالله تعالىٰ ».
ولهذه العلاقة ثلاثة منطلقات :
1 ـ الحاجة والفقر.
2 ـ السعي والحركة.
3 ـ الدعاء والسؤال.
وهي الوسيلة الاولىٰ التي يقدّمها الامام زين العابدين (عليه السلام) بين يدي حاجاته إلیٰ الله.
الوسيلة الثانية : « الدعاء » وهو من مفاتيح رحمة الله تعالىٰ.
يقول تعالىٰ ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ([12]) ، ويقول ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ )([13]).
الوسيلة الثالثة : « الحب » ، وإن العبد يستنزل من رحمة الله تعالىٰ بـ « الحب » ما لا يستنزله بأمر آخر.
والآن تأمّلوا في هذه الوسائل الثلاثة التي يتوسّل بها زين العابدين (عليه السلام) إلىٰ الله تعالىٰ :
« رضاك بغيتي ، ورؤيتك حاجتي ، وعندك دواء علّتي ، وشفاء غلّتي ، وبرد لوعتي ، وكشف كربتي ». وهذه هي وسيلة « الحاجة والفقر ».
« جوارك طلبي ، وقربك غاية سؤلي ... فكن أنيسي في وحشتي ، ومقيل عثرتي ، وغافر زلّتي ، وقابل توبتي ، ومجيب دعوتي ، ووليّ عصمتي ، ومغني فاقتي ». وهذه وسيلة « الدعاء ».
« فأنت لا غيرك مرادي ، ولك لا لسواك سهري وسهادي ، ولقاؤك قرّة عيني ، ووصلك منىٰ نفسي ، وإليك شوقي ، وفي محبتك ولهي ، وإلىٰ هواك صبابتي ». وهذه وسيلة « الحب ».
والآن نتأمل في هذه الفقرة من كلام الامام ، وهي رائعة من روائع الدعاء ، وإنّ للدعاء روائع كما للفن والادب ، يقول (عليه السلام) : « فقد انقطعت إليك همّتي ، وانصرفت نحوك رغبتي ، فأنت لا غيرك مرادي ، ولك لا لسواك سهري وسهادي ، ولقاؤك قرّة عيني ».
وفي « الانقطاع » ما ليس في « التعلّق » والامام لا يقول : فقد تعلّقت بك هممي ، لأن التعلّق بالله لا ينفي التعلّق بغيره ، وإن كان العبد صادقاً في تعلّقه بالله ، وإنّما يقول : « فقد انقطعت إليك همّتي » ، فإن الانقطاع يتضمّن معنىً إيجابياً وسلبياً معاً ، فإنه انقطاع « من الخلق إلىٰ الله » ، والانقطاع « من الخلق » هو المعنىٰ السلبي الذي يقصده الامام في هذه الفقرة ، و « إلىٰ الله » هو المعنىٰ الايجابي الذي يقصده.
فإن الاخلاص في الحب « فصل » و « وصل » ؛ فصل مما عدا الله ، ووصل بالله وبمن يحبّ الله ويأمر بحبّه ، وهما وجهان لقضية واحدة.
فإن « الحبّ » إذا صفا وخلص تضمّن وجهين : « ولاءً » و « براءةً » و « وصلاً » و « فصلاً » و « انقطاعاً » من الخلق « إلىٰ الله ».
ونفس المعنىٰ تتضمّنه الفقرة الثانية : « وانصرفت إليك رغبتي ».
فإنّ الانصراف إلىٰ الله « إعراض » و « إقبال » معاً ، « إعراض » عمّا عدا الله « وإقبال » علىٰ الله وما يأمر به ويحبّه.
ثم يأتي التأكيد الثالث لهذه الحقيقة ، وهو أبلغها جميعاً ، ويحمل من معاني الحب والانصراف إلىٰ الله ، والانقطاع عمّا عداه ما يعجز عن أدائه ووصفه التعبير : « فأنت لا غيرك مرادي ولك لا لسواك سهري وسهادي ».
و « السَهَر » و « السُّهاد » خلاف النوم ، إلّا أن « السَهَر » هو قيام الليل في حالة « الاُنس » ، و « السهاد » نحوٌ من الأرق ينتاب الانسان عندما يشغله شيء يهمه ، ويسلب عنه النوم ، وهو هنا الحنين والشوق إلىٰ الله.
إذن هما يمثّلان حالتين من حالات الحب : « الاُنس » و « الشوق ». اُنسٌ بذكر الله وبحضور الله عند العبد حيث يحس بحضور الله في دعائه ، وذكره ، ومناجاته ، وصلاته ، وشوقٌ إلىٰ لقاء الله.
والمحب يشعر بهذا أو ذاك معاً عندما يقف بين يدي الله تعالىٰ ، وهذا وذاك ينفيان عنه النوم ويؤرّقانه ، حين يستسلم الناس للنوم ، ويفقدون وعيهم وشعورهم بالنوم.
والنوم حاجة ، من دون شك ، يأخذ الناس جميعاً حظّهم منه ، الصالحون والطالحون ، وحتىٰ الانبياء والصديقون ينامون.
ولكن فرق هائل بين من يأخذ حاجته من النوم ، كما يأخذ حاجته من الأکل والشرب ، وبين من يستسلم للنوم ويتحكّم النوم فيه.
أمّا أولياء الله فلا يستسلمون للنوم ، وإنّما النوم عندهم حاجة يأخذون منه حظّهم. ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينام إلّا هنيّة حتىٰ يقوم بين يدي الله ، وكان يأمر أن يوضع وضوؤه عند رأسه ليقوم بين يدي الله ، كلّما أخذ نصيباً من هذه الحاجة الطبيعية.
ولقد كان يفرش له الفراش الوثير والمريح فيأمر برفعه لئلّا يستدرجه ذلك للاستسلام للنوم.
وكان ينام علىٰ الحصير الخشن حتىٰ أثّر الحصير في جنبه لكيلا يستغرق في النوم.
وقد أودع الله تعالىٰ في هدأة الليل من كنوز مناجاته وذكره وقربه ما ليس في النّهار ، ولليل رجال كما للنهار رجال ، يقومون إذا نام الناس ، وينشطون إذا خمل الناس ، ويعرجون إلىٰ الله إذا استسلم الناس للنوم وسقطوا علىٰ فراشهم.
ولليل دولة كما للنهار دولة ، وفي الليل كنوز كما في النهار كنوز. والناس يعرفون دولة النهار ورجاله وكنوزه ، وقليل من الناس من يعرف قيمة دولة الليل وكنوزه ورجاله. فإذا أخذ الانسان من دولتي الليل والنهار معاً كان سوياً راشداً متوازناً.
ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من رجال الليل والنهار معاً ، يأخذ من هذا وذاك بصورة متوازنة ، يأخذ من الليل الحب والاخلاص والذكر ، ويأخذ من النّهار القوة والسلطان والمال ، لتمكين الدعوة وترسيخها وكانت ناشئة الليل تعينه ، وتمكّنه من حمل عبء الرسالة الثقيل. يقول تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ õ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا õ نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا õ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا õ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا õ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا õ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ) ([14]).
ويعجبني أن أنقل هنا هذا النص من الحديث القدسي في الليل ورجاله.
روي أنه تعالىٰ أوحىٰ إلىٰ بعض الصدّيقين : « إن لي عباداً من عبادي يحبّوني فاُحبّهم ، ويشتاقون إليّ وأشتاق اليهم ، ويذكروني وأذكرهم ، وينظرون إليّ وأنظر اليهم ، وإن حذوتَ طريقهم أحببتُك ، وإن عدلت عنهم مقتّك. قال : يا رب ، وما علامتهم ؟ قال : يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه ، ويحنّون إلىٰ غروب الشمس ، كما يحنّ الطير إلىٰ وكره عند الغروب ، فإذا جنّهم الليل ، واختلط الظلام ، وفرشت الفرش ، ونصبت الأسرّة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إليّ أقدامهم وافترشوا إليّ وجوههم ، وناجوني بكلامي ، وعلقوا إليّ بأنغامي. فمن صارخٍ وباكٍ ، ومتأوّهٍ شاكٍ ، ومن قائمٍ وقاعدٍ وراكعٍ وساجدٍ. بعيني ما يتحمّلون من أجلي ، وبسمعي ما يشكون من حبّي ، أول ما أعطيهم ثلاث :
1 ـ اقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون عنّي ، كما اُخبر عنهم.
2 ـ والثانية : لو كانت السموات والأرض في موازينهم لاستقللتها لهم.
3 ـ والثالثة : اُقبل بوجهي عليهم ، أَفترىٰ من أقبلت بوجهي عليه يعلم أحد ما أريد أن اُعطيه ؟ » ([15]).
وروي عن الامام الباقر (عليه السلام) : « كان مما أوحىٰ الله تعالىٰ إلىٰ موسىٰ بن عمران : « كذب من زعم أنّه يحبّني ، فإذا جنّه الليل نام عنّي ، يا بن عمران ، لو رأيت الذين يقومون لي في الدجىٰ ، وقد مثلت نفسي بين أعينهم ، يخاطبوني وقد جللت عن المشاهدة ، ويكلّموني وقد عززت عن الحضور. يا بن عمران ، هب لي من عينيك الدموع ، ومن قلبك الخشوع ، ثم ادعني في ظلمة الليالي تجدني قريباً مجيباً » ([16]).
وفي خطبة المتقين من « نهج البلاغة » يصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لهمّام حال أولياء الله في مناجاتهم إذا جنّهم اللّيل ، وذِكرهم ووقوفهم بين يدي ربّهم ، فيقول (عليه السلام) : « أمّا الليل فصافّون أقدامهم ، تالين لاجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلاً ، يحزِّنون به أنفسهم ، ويستثيرون دواء دائهم ، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً ، وتطلّعت نفوسهم ، إليها شوقاً ، وظنّوا أنها نصب أعينهم ، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أن زفير جهنم وشهيقَها في اُصول آذانهم ، فهم حانون علىٰ أوساطهم ، مفترشون لجباههم وأكفّهم ، وركبهم وأطراف أقدامهم ، يطلبون إلىٰ الله تعالىٰ في فكاك رقابهم.
وأمّا النهار فحلماء ، علماء ، أبرار ، أتقياء ، قد براهم الخوف بري القداح ... » ([17]).
صورة اُخرىٰ من صور الشوق إلىٰ الله في مناجاة الامام زين العابدين (عليه السلام). يقول زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) : « إلهي فاجعلنا من الذين ترسّخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم ، وأخذت لوعة محبّتك بمجامع قلوبهم ، فهم إلىٰ أوكار الافكار يأوون ، وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون ، ومن حياض المحبّة بكأس الملاطفة يكرعون ، وشرائع المصافاة يردون ، قد كُشف الغطاء عن أبصارهم ، وانجلت ظلمة الريب عن عقائدهم وضمائرهم ، وانتفت مخالجة الشكّ عن قلوبهم وسرائرهم ، وانشرحت بتحقيق المعرفة صدورهم ، وعذب في معين المعاملة شربهم ، وطاب في مجلس الاُنس سرّهم ، وأمن في موطن المخافة سربهم ، واطمأنت بالرجوع إلىٰ ربّ الأرباب أنفسهم ، وتيقّنت بالفوز والفلاح أرواحهم ، وقرّت بالنظر إلىٰ محبوبهم أعينهم ، واستقر بإدراك السؤل ونيل المأمول قرارهم ، وربحت في بيع الدنيا بالآخرة تجارتهم.
إلهي ما ألذ خواطر الإلهام بك علىٰ القلوب ، وما أحلىٰ المسير إليك بالاوهام في مسالك الغيوب ، وما أطيب طعم حبّك ، وما أعذب شرب قربك. فأعذنا من طردك وإبعادك ، واجعلنا من أخصّ عارفيك واصلح عبادك ، واصدق طائعيك وأخلص عُبّادك » ([18]).
ولا يسعنا الوقت أن نقف للتأمّل عند هذه المناجاة التي هي رائعة من روائع أهل البيت (عليهم السلام) في الدعاء والمناجاة. ونخرج عن الصدد والغاية من هذا البحث ، ولكن أودّ أن أقف قليلاً عند هذه الجملة التي يبدأ بها الامام علي بن الحسين (عليه السلام) مناجاته : « إلهي واجعلنا من الذين ترسَّخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم ، وأخذت لوعة محبّتك بمجامع قلوبهم » ، فإن صدور أولياء الله كما يظهر من كلام الامام حدائق ذات بهجة ، وذات ثمار طيبة ، وإن صدور الناس علیٰ أنحاء : فمن الصدور مكاتب ومدارس للعلم ، والعلم خير ونور ، ولكن علیٰ أن يبقیٰ الصدر حديقة للشوق إلىٰ الله ، ومن الصدور متاجر وبنوك وبورصات للمال تزدحم بالارقام وجداول الإحصاء وحسابات الربح والخسارة. والمال والتجارة خيرٌ بشرط أن لا يكون الشغل الشاغل لقلب الانسان وصدره ، ولا يكون همّه الذي لا يفارقه. ومن الصدور أراض سبخة ينبت فيها الشوك والحنظل والسموم والاحقاد والصراع علىٰ المال والسلطان والكيد والمكر بالآخرين. ومن الصدور ملاهٍ وملاعب ، والدنيا لهوٌ ولعبٌ لطائفة واسعة من الناس.
ومن الناس من ينشطر صدره إلىٰ شطرين : شطر للسموم والاحقاد ، والمكر والكيد ، والشطر الآخر للّهو وللّعب. فإذا أقلقه الشطر الأول وسلب راحته واستقراره لجأ إلىٰ الشطر الثاني ، واستعان باللهو لكي ينقذ نفسه من عذاب الشطر الأول.
وأما صدور أولياء الله ، فهي حدائق الشوق ـ كما يقول زين العابدين ـ ذات بهجة وثمار طيّبة ، وقد ترسَّخت فيها أشجار الشوق وامتدت فيها جذورها ، فليس الشوق إلىٰ الله فيها أمراً طارئاً يزول إذا ألحّ عليه الهوىٰ أو أقبلت وتزيّنت له الدنيا ، ولا يخفّ هذا الشوق ولا تذبل أوراقه إذا ضاقت بصاحبه الدنيا ، وتراكمت عليه الابتلاءات ، فإن أشجار الشوق إذا كانت راسخة في هذه الصدور تبقیٰ مورقة وخضراء ومثمرة رغم كل العقبات والمتاعب.
وحالة الشوق حالة خفّة الروح ، وهي حالة معاكسة للتثاقل والركون إلىٰ الدنيا التي تتحدث عنها الآية الكريمة : ( مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ) ([19]) ، إن النفس تثقل ، وتترهّل ، كلما تعلّق الانسان بالدنيا ورضيها ، وركن إليها. فإذا تحرّر من الدنيا ، وانتزع نفسه ([20]) منها خف ، فجذبه حبُّ الله تعالىٰ والشوق إليه.
ولنقف عند هذا الحد من استعراض صور الحبّ والشوق والاُنس من نصوص أدعية أهل البيت (عليهم السلام) وننصرف إلىٰ غير ذلك من مباحث « الحب الإلهي ».
[1] المائدة : 35.
[2] الاسراء : 57.
[3] الشعراء : 80.
[4] من أدعيه شهر رجب.
[5] مفاتيح الجنان، أعمال مسجد الكوفة، مناجاة أمير المؤمنين (عليه السلام).
[6] الانبياء : 83 ـ 84.
[7] الانبياء : 87 ـ 88.
[8] طه : 43 ـ 45.
[9] طه : 46.
[10] هود : 45.
[11] إبراهيم : 37.
[12] غافر : 60.
[13] الفرقان : 77.
[14] المزمل : 1 ـ 7.
[15] لقاء الله : 104.
[16] لقاء الله : 101.
[17] نهج البلاغة : 303.
[18] مفاتيح الجنان : مناجاة العارفين.
[19] التوبة : 38.
[20] ليس معنىٰ التحرر من الدنيا تركها ، فقد كان رسول الله متحرراً من الدنيا ، وهو يعمل لتمكين الدعوة من الدنيا وإخضاع الدنيا لها.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|