أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-06-2015
2292
التاريخ: 26-04-2015
2348
التاريخ: 2023-12-16
1241
التاريخ: 11-10-2014
1559
|
من الاعتراضات التي أوردت على القرآن الكريم الاعتراض باشتماله على المتشابهات وهو أنكم تدعون أن تكاليف الخلق إلى يوم القيامة فيه ، وأنه قول فصل يميز بين الحق والباطل ، ثم إنا نراه يتمسك به كل صاحب مذهب من المذاهب المختلفة بين المسلمين لإثبات مذهبه ، وليس ذلك إلا لوقوع التشابه في آياته ، أ فليس أنه لو جعله جليا نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى الغرض المطلوب ، وأقطع لمادة الخلاف والزيغ؟.
وأجيب عنه بوجوه من الجواب بعضها ظاهر السخافة كالجواب بأن وجود المتشابهات يوجب صعوبة تحصيل الحق ومشقة البحث وذلك موجب لمزيد الأجر والثواب! وكالجواب بأنه لو لم يشتمل إلا على صريح القول في مذهب لنفر ذلك سائر أرباب المذاهب فلم ينظروا فيه ، لكنه لوجود التشابه فيه أطمعهم في النظر فيه وكان في ذلك رجاء أن يظفروا بالحق فيؤمنوا به! وكالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب الاستعانة بدلالة العقل ، وفي ذلك خروج عن ظلمة التقليد ودخول في ضوء النظر والاجتهاد! وكالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب البحث عن طرق التأويلات المختلفة ، وفي ذلك فائدة التضلع بالفنون المختلفة كعلم اللغة والصرف والنحو وأصول الفقه!.
فهذه أجوبة سخيفة ظاهرة السخافة بأدنى نظر والذي يستحق الإيراد والبحث من الأجوبة وجوه ثلاثة : الأول : أن اشتمال القرآن الكريم على المتشابهات لتمحيص القلوب في التصديق به ، فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه عند أحد لما كان في الإيمان شيء من معنى الخضوع لأمر الله تعالى والتسليم لرسله.
وفيه : أن الخضوع هو نوع انفعال وتأثر من الضعيف في مقابل القوي ، والإنسان إنما يخضع لما يدرك عظمته أو لما لا يدركه لعظمته وبهورة الإدراك كقدرة الله غير المتناهية وعظمته غير المتناهية وسائر صفاته التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة بها ، وأما الأمور التي لا ينالها العقل لكنه يغتر ويغادر باعتقاد أنه يدركها فما معنى خضوعه لها؟ كالآيات المتشابهة التي يتشابه أمرها على العقل فيحسب أنه يعقلها وهو لا يعقل.
الثاني : أن اشتماله على المتشابه إنما هو لبعث العقل على البحث والتنقير ، لئلا يموت بإهماله بإلقاء الواضحات التي لا يعمل فيها عامل الفكر ، فإن العقل أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها بتربية الإنسان.
وفيه : أن الله تعالى أمر الناس بإعمال العقل والفكر في الآيات الآفاقية والأنفسية إجمالا في موارد من كلامه ، وتفصيلا في موارد أخرى كخلق السماوات والأرض والجبال والشجر والدواب والإنسان واختلاف ألسنته وألوانه ، وندب إلى التعقل والتفكر والسير في الأرض والنظر في أحوال الماضين ، وحرض على العقل والفكر ، ومدح العلم بأبلغ المدح وفي ذلك غنى عن البحث في أمور ليس إلا مزالق للأقدام ومصارع للأفهام.
الثالث : أن الأنبياء بعثوا إلى الناس وفيهم العامة والخاصة ، والذكي والبليد والعالم والجاهل ، وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء ، فالحري في أمثال هذه المعاني أن تلقى بحيث يفهمه الخاصة ولو بطريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة فيها بالتسليم وتفويض الأمر إلى الله تعالى.
وفيه : أن الكتاب كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين المتشابهات بالرجوع إليها ، ولازم ذلك أن لا تتضمن المتشابهات أزيد مما يكشف عنها المحكمات ، وعند ذلك يبقى السؤال وهو أنه ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب ولا حاجة إليها مع وجود المحكمات؟ على حاله ، ومنشأ الاشتباه أن المجيب أخذ المعاني نوعين متباينين : معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة والخاصة وهي مداليل المحكمات ، ومعان سنخها بحيث لا يتلقاها إلا الخاصة من المعارف العالية والحكم الدقيقة ، فصار بذلك المتشابهات لا ترجع معانيها إلى المحكمات ، وقد مر أن ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر بعضه بعضا وغير ذلك.
والذي ينبغي أن يقال : أن وجود المتشابه في القرآن ضروري ناش عن وجود التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضا بالمعنى الذي أوضحناه للتأويل فيما مر.
ويتضح ذلك بعض الاتضاح بإجادة التدبر في جهات البيان القرآني والتعليم الإلهي والأمور التي بنيت عليها معارفه والغرض الأقصى من ذلك وهي أمور : منها : أن الله سبحانه ذكر أن لكتابه تأويلا هو الذي تدور مداره المعارف القرآنية والأحكام والقوانين وسائر ما يتضمنه التعليم الإلهي ، وأن هذا التأويل الذي تستقبله وتتوجه إليه جميع هذه البيانات أمر يقصر عن نيله الأفهام وتسقط دون الارتقاء إليه العقول إلا نفوس طهرهم الله وأزال عنهم الرجس ، فإن لهم خاصة أن يمسوه.
وهذا غاية ما يريده تعالى من الإنسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي إلى علم كتابه الذي هو تبيان كل شيء ، ومفتاحه التطهير الإلهي ، وقد قال تعالى : {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة : 6] ، فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير الإلهي.
وهذا الكمال الإنساني كسائر الكمالات المندوب إليها لا يظفر بكمالها إلا أفراد خاصة ، وإن كانت الدعوة متعلقة بالجميع متوجهة إلى الكل ، فتربية الناس بالتربية الدينية إنما تثمر كمال التطهير في أفراد خاصة وبعض التطهير في آخرين ، ويختلف ذلك باختلاف درجات الناس ، كما أن الإسلام يدعو إلى حق التقوى في العمل.
قال تعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران : 102] ، ولكن لا يحصل كماله إلا في أفراد وفيمن دونهم دون ذلك على طريق الأمثل فالأمثل ، كل ذلك لاختلاف الناس في طبائعهم وأفهامهم ، وهكذا جميع الكمالات الاجتماعية من حيث التربية والدعوة ، يدعو داعي الاجتماع إلى الدرجة القصوى من كل كمال كالعلم والصنعة والثروة والراحة وغيرها لكن لا ينالها إلا البعض ، ومن دونه ما دونها على اختلاف مراتب الاستعدادات.
وبالحقيقة أمثال هذه الغايات ينالها المجتمع من غير تخلف دون كل فرد منه.
ومنها : أن القرآن قطع بأن الطريق الوحيد إلى إيصال الإنسان إلى هذه الغاية الشريفة تعريف نفس الإنسان لنفسه بتربيته في ناحيتي العلم والعمل : أما في ناحية العلم فبتعليمه الحقائق المربوطة به من المبدأ والمعاد وما بينهما من حقائق العالم حتى يعرف نفسه بما ترتبطه به من الواقعيات معرفة حقيقية وأما في ناحية العمل فبتحميل قوانين اجتماعية عليه بحيث تصلح شأن حيوته الاجتماعية ، ولا تشغله عن التخلص إلى عالم العلم والعرفان ، ثم بتحميل تكاليف عبادية يوجب العمل بها والمزاولة عليها توجه نفسه ، وخلوص قلبه إلى المبدأ والمعاد ، وإشرافه على عالم المعنى والطهارة ، والتجنب عن قذارة الماديات وثقلها.
وأنت إذا أحسنت التدبر في قوله تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر : 10] ، وضممته إلى ما سمعت إجماله في قوله تعالى : (و لكن يريد ليطهركم) الآية ، وإلى قوله تعالى : {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة : 105] ، وقوله تعالى : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة : 11] ، وما يشابهه من الآيات اتضح لك الغرض الإلهي في تشريع الدين وهداية الإنسان إليه ، والسبيل الذي سلكه لذلك فافهم.
ويتفرع على هذا البيان نتيجة مهمة : هي أن القوانين الاجتماعية في الإسلام مقدمة للتكاليف العبادية مقصودة لأجلها ، والتكاليف العبادية مقدمة للمعرفة بالله وبآياته ، فأدنى الإخلال أو التحريف أو التغيير في الأحكام الاجتماعية من الإسلام يوجب فساد العبودية وفساد العبودية يؤدي إلى اختلال أمر المعرفة.
وهذه النتيجة - على أنها واضحة التفرع على البيان - تؤيدها التجربة أيضا : فإنك إذا تأملت جريان الأمر في طروق الفساد في شئون الدين الإسلامي بين هذه الأمة وأمعنت النظر فيه : من أين شرع وفي أين ختم وجدت أن الفتنة ابتدأت من الاجتماعيات ثم توسطت في العباديات ثم انتهت إلى رفض المعارف.
وقد ذكرناك فيما مر : أن الفتنة شرعت باتباع المتشابهات وابتغاء تأويلها ، ولم يزل الأمر على ذلك حتى اليوم.
ومنها : أن الهداية الدينية إنما بنيت على نفي التقليد عن الناس وركوز العلم بينهم ما استطيع ، فإن ذلك هو الموافق لغايتها التي هي المعرفة ، وكيف لا؟ ولا يوجد بين كتب الوحي كتاب ، ولا بين الأديان دين يعظمان من أمر العلم ويحرضان عليه بمثل ما جاء به القرآن والإسلام.
وهذا المعنى هو الموجب لأن يبين الكتاب للإنسان حقائق المعارف أولا ، وارتباط ما شرعه له من الأحكام العملية بتلك الحقائق ثانيا ، وبعبارة أخرى أن يفهمه أنه موجود مخلوق لله تعالى خلقه بيده ووسط في خلقه وبقائه ملائكته وسائر خلقه من سماء وأرض ونبات وحيوان ومكان وزمان وما عداها ، وأنه سائر إلى معاده وميعاده سيرا اضطراريا ، وكادح إلى ربه كدحا فملاقيه ثم يجزى جزاء ما عمله ، أيما إلى جنة ، أيما إلى نار فهذه طائفة من المعارف.
ثم يفهمه أن الأعمال التي تؤديه إلى سعادة الجنة ما هي ، وما تؤديه إلى شقوة النار ما هي؟ أي يبين له الأحكام العبادية والقوانين الاجتماعية ، وهذه طائفة أخرى.
ثم يبين له : أن هذه الأحكام والقوانين مؤدية إلى السعادة أي يفهمه : أن هذه الطائفة الثانية مرتبطة بالطائفة الأولى ، وأن تشريعها وجعلها للإنسان إنما هو لمراعاة سعادته لاشتمالها على خير الإنسان في الدنيا والآخرة ، وهذه طائفة ثالثة.
وظاهر عندك أن الطائفة الثانية بمنزلة المقدمة ، والطائفة الأولى بمنزلة النتيجة ، والطائفة الثالثة بمنزلة الرابط الذي يربط الثانية بالأولى ، ودلالة الآيات على كل واحدة من هذه الطوائف المذكورة واضحة ولا حاجة إلى إيرادها.
ومنها : أنه لما كانت عامة الناس لا يتجاوز فهمهم المحسوس ولا يرقى عقلهم إلى ما فوق عالم المادة والطبيعة ، وكان من ارتقى فهمه منهم بالإرتياضات العلمية إلى الورود في إدراك المعاني وكليات القواعد والقوانين يختلف أمره باختلاف الوسائل التي يسرت له الورود في عالم المعاني والكليات كان ذلك موجبا لاختلاف الناس في فهم المعاني الخارجة عن الحس والمحسوس اختلافا شديدا ذا عرض عريض على مراتب مختلفة ، وهذا أمر لا ينكره أحد.
ولا يمكن إلقاء معنى من المعاني إلى إنسان إلا من طريق معلوماته الذهنية التي تهيأت عنده في خلال حيوته وعيشته ، فإن كان مأنوسا بالحس فمن طريق المحسوسات على قدر ما رقى إليه من مدارج الحس كما يمثل لذة النكاح للصبي بحلاوة الحلواء ، وإن كان نائلا للمعاني الكلية فبما نال ، وعلى قدر ما نال وهذا ينال المعاني من البيان الحسي والعقلي معا بخلاف المأنوس بالحس.
ثم إن الهداية الدينية لا تختص بطائفة دون طائفة من الناس بل تعم جميع الطوائف وتشمل عامة الطبقات وهو ظاهر.
وهذا المعنى أعني اختلاف الأفهام وعموم أمر الهداية مع ما عرفت من وجود التأويل للقرآن هو الموجب أن يساق البيانات مساق الأمثال ، وهو أن يتخذ ما يعرفه الإنسان ويعهده ذهنه من المعاني فيبين به ما لا يعرفه لمناسبة ما بينهما نظير توزين المتاع بالمثاقيل ولا مسانخة بينهما في شكل أو صورة أو حجم أو نوع إلا ما بينهما من المناسبة وزنا.
والآيات القرآنية المذكورة سابقا كقوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف : 3 ، 4] ، وما يشابهه من الآيات وإن بينت هذا الأمر بطريق الإشارة والكناية ، لكن القرآن لم يكتف بذلك دون أن بينه بما ضربه مثلا في أمر الحق والباطل فقال تعالى : {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد : 17] ، فبين أن حكم المثل جار في أفعاله تعالى كما هو جار في أقواله ، ففعله تعالى كقوله الحق إنما قصد منهما الحق الذي يحويانه ويصاحب كلا منهما أمور غير مقصودة ولا نافعة يعلوهما ويربوهما لكنها ستزول وتبطل ، ويبقى الحق الذي ينفع الناس ، وإنما يزول ويزهق بحق آخر هو مثله ، وهذا كالآية المتشابهة تتضمن من المعنى حقا مقصودا ، ويصاحبه ويعلو عليه بالاستباق إلى الذهن معنى آخر باطل غير مقصود ، لكنه سيزول بحق آخر يظهر الحق الأول على الباطل الذي كان يعلوه ، ليحق الحق بكلماته ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ، والكلام في انطباق هذا المثل على أفعاله الخارجية المتقررة في عالم الكون كالكلام في أقواله عز من قائل.
وبالجملة : المتحصل من الآية الشريفة : أن المعارف الحقة الإلهية كالماء الذي أنزله الله تعالى من السماء هي في نفسها ماء فحسب ، من غير تقييد بكمية ولا كيفية ، ثم إنها كالسيل السائل في الأودية تتقدر بأقدار مختلفة من حيث السعة والضيق ، وهذه الأقدار أمور ثابتة كل في محله كالحال في أصول المعارف والأحكام التشريعية ، ومصالح الأحكام التي ذكرنا فيما مر أنها روابط تربط الأحكام بالمعارف الحقة.
وهذا حكمها في نفسها مع قطع النظر عن البيان اللفظي.
وهي في مسيرها ربما صحبت ما هو كالزبد يظهر ظهورا ثم يسرع في الزوال وذلك كالأحكام المنسوخة التي تنسخه النواسخ من الآيات ، فإن المنسوخ مقتضى ظاهر طباعه أن يدوم لكن الحكم الناسخ يبطل دوامه ويضع مكانه حكما آخر.
هذا بالنظر إلى نفس هذه المعارف مع قطع النظر عن ورودها في وادي البيان اللفظي.
وأما المعارف الحقة من حيث كونها واردة في ظرف اللفظ والدلالة فإنها بورودها أودية الدلالات اللفظية تتقدر بأقدارها ، تتشكل بأشكال المرادات الكلامية بعد إطلاقها ، وهذه أقوال ثابتة من حيث مراد المتكلم بكلامه إلا أنها مع ذلك أمثال يمثل بها أصل المعنى المطلق غير المتقدر ، ثم إنها بمرورها في الأذهان المختلفة تحمل معاني غير مقصودة كالزبد في السيل ، لأن الأذهان من جهة ما تخزنه من المرتكزات والمألوفات تتصرف في المعاني الملقاة إليها ، وجل هذا التصرف إنما هو في المعاني غير المألوفة كالمعارف الأصلية ، ومصالح الأحكام وملاكاتها كما مر ، وأما الأحكام والقوانين فلا تصرف فيها مع قطع النظر عن ملاكاتها فإنها مألوفة ، ومن هنا يظهر أن المتشابهات إنما هي الآيات من حيث اشتمالها على الملاكات والمعارف ، دون متن الأحكام والقوانين الدينية.
ومنها : أنه تحصل من البيان السابق أن البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقة الإلهية لأن البيان نزل في هذه الآيات إلى سطح الأفهام العامة التي لا تدرك إلا الحسيات ولا تنال المعاني الكلية إلا في قالب الجسمانيات ، ولما استلزم ذلك في إلقاء المعاني الكلية المجردة عن عوارض الأجسام والجسمانيات أحد محذورين : فإن الأفهام في تلقيها المعارف المرادة منها إن جمدت في مرتبة الحس والمحسوس انقلبت الأمثال بالنسبة إليها حقائق ممثلة ، وفيه بطلان الحقائق وفوت المرادات والمقاصد وإن لم تجمد وانتقلت إلى المعاني المجردة بتجريد الأمثال عن الخصوصيات غير الدخيلة لم يؤمن من الزيادة والنقيصة.
نظير ذلك أنا لو ألقي إلينا المثل السائر : عند الصباح يحمد القوم السرى ، أو تمثل لنا بقول صخر : أهم بأمر الحزم لا أستطيعه.
وقد حيل بين العير والنزوان.
فإنا من جهة سبق عهد الذهن بالقصة أو الأمر الممثل له نجرد المثل عن الخصوصيات المكتنفة بالكلام كالصباح والقوم والسرى ، ونفهم من ذلك أن المراد : أن حسن تأثير عمل وتحسين فعله إنما يظهر إذا فرغ منه وبدا أثره ، وأما هو ما دام الإنسان مشتغلا به محسا تعب فعله فلا يقدر قدره ، ويظهر ذلك تجريد ما تمثل به من الشعر ، وأما إذا لم نعهد الممثل وجمدنا على الشعر أو المثل خفي عنا الممثل وعاد المثل خبرا من الأخبار ، ولو لم نجمد وانتقلنا إجمالا إلى أنه مثل لم يمكنا تشخيص المقدار الذي يجب طرحه بالتجريد وما يجب حفظه للفهم وهو ظاهر.
ولا مخلص عن هذين المحذورين إلا بتفريق المعاني الممثل لها إلى أمثال مختلفة ، وتقليبها في قوالب متنوعة حتى يفسر بعضها بعضا ، ويوضح بعضها أمر بعض ، فيعلم بالتدافع الذي بينها أولا : أن البيانات أمثال ولها في ما وراءها حقائق ممثلة ، وليست مقاصدها ومراداتها مقصورة على اللفظ المأخوذ من مرتبة الحس والمحسوس وثانيا : بعد العلم بأنها أمثال : يعلم بذلك المقدار الذي يجب طرحه من الخصوصيات المكتنفة بالكلام ، وما يجب حفظه منها للحصول على المرام ، وإنما يحصل ذلك بأن هذا يتضمن نفي بعض الخصوصيات الموجودة في ذلك.
وذاك نفي بعض ما في هذا.
وإيضاح المقاصد المبهمة والمطالب الدقيقة بإيراد القصص المتعددة والأمثال والأمثلة الكثيرة المتنوعة أمر دائر في جميع الألسنة واللغات من غير اختصاص بقوم دون قوم ، ولغة دون لغة ، وليس ذلك إلا لأن الإنسان يشعر بقريحة البيان مساس حاجته إلى نفي الخصوصيات الموهمة لخلاف المراد في القصة الواحدة أو المثل الواحد بالخصوصيات النافية الموجودة في قصة أخرى مناسبة أو مثل آخر مناسب.
فقد تبين أن من الواجب أن يشتمل القرآن الكريم على الآيات المتشابهة ، وأن يرفع التشابه الواقع في آية بالأحكام الواقع في آية أخرى ، واندفع بذلك الإشكال باشتمال القرآن على المتشابهات لكونها مخلة لغرض الهداية والبيان.
وقد ظهر من جميع ما تقدم من الأبحاث على طولها أمور : الأول : أن الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين : محكم ومتشابه ، وذلك من جهة اشتمال الآية وحدها على مدلول متشابه وعدم اشتمالها.
الثاني : أن لجميع القرآن محكمه ومتشابهه تأويلا.
وأن التأويل ليس من قبيل المفاهيم اللفظية بل من الأمور الخارجية نسبته إلى المعارف والمقاصد المبينة نسبة الممثل إلى المثال ، وأن جميع المعارف القرآنية أمثال مضروبة للتأويل الذي عند الله.
الثالث : أن التأويل يمكن أن يعلمه المطهرون وهم راسخون في العلم.
الرابع : أن البيانات القرآنية أمثال مضروبة لمعارفها ومقاصدها ، وهذا المعنى غير ما ذكرناه في الأمر الثاني من كون معارفه أمثالا وقد أوضحناه فيما مر.
الخامس : أن من الواجب أن يشتمل القرآن على المتشابهات ، كما أن من الواجب أن يشتمل على المحكمات.
السادس : أن المحكمات أم الكتاب إليها ترجع المتشابهات رجوع بيان.
السابع : أن الإحكام والتشابه وصفان يقبلان الإضافة والاختلاف بالجهات بمعنى أن آية ما يمكن أن تكون محكمة من جهة ، متشابهة من جهة أخرى فتكون محكمة بالإضافة إلى آية ومتشابهة بالإضافة إلى أخرى.
ولا مصداق للمتشابه على الإطلاق في القرآن ، ولا مانع من وجود محكم على الإطلاق.
الثامن : أن من الواجب أن يفسر بعض القرآن بعضا.
التاسع : أن للقرآن مراتب مختلفة من المعنى ، مترتبة طولا من غير أن تكون الجميع في عرض واحد فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، أو مثل عموم المجاز ، ولا هي من قبيل اللوازم المتعددة لملزوم واحد ، بل هي معان مطابقية يدل على كل واحد منها اللفظ بالمطابقة بحسب مراتب الأفهام.
ولتوضيح ذلك نقول : قال الله تبارك وتعالى : {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران : 102] ، فأنبأ أن للتقوى الذي هو الانتهاء عما نهى الله عنه والائتمار بما أمر الله به مرتبة هي حق التقوى ، ويعلم بذلك أن هناك من التقوى ما هو دون هذه المرتبة الحقة ، فللتقوى الذي هو بوجه العمل الصالح مراتب ودرجات بعضها فوق بعض.
وقال أيضا : {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران : 162 ، 163] ، فبين أن العمل مطلقا سواء كان صالحا أو طالحا درجات ومراتب ، والدليل على أن المراد بها درجات العمل قوله : والله بصير بما يعملون ، ونظير الآية قوله تعالى : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف : 19] ، وقوله تعالى : "و لكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون" : الأنعام - 132 ، والآيات في هذا المعنى كثيرة ، وفيها ما يدل على أن درجات الجنة ودركات النار بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها.
ومن المعلوم أن العمل من أي نوع كان هو من رشحات العلم يترشح من اعتقاد قلبي يناسبه ، وقد استدل تعالى على كفر اليهود وعلى فساد ضمير المشركين وعلى نفاق المنافقين من المسلمين وعلى إيمان عدة من الأنبياء والمؤمنين بأعمالهم وأفعالهم في آيات كثيرة جدا يطول ذكرها ، فالعمل كيف كان يلازم ما يناسبه من العلم ويدل عليه.
وبالعكس يستلزم كل نوع من العمل ما يناسبه من العلم ويحصله ويركزه في النفس كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت : 69] ، وقال تعالى : "و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين" : الحجر - 99 ، وقال أيضا : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ } [الروم : 10] ، وقال : {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة : 77] ، والآيات في هذا المعنى أيضا كثيرة تدل الجميع على أن العمل صالحا كان أو طالحا يولد من أقسام المعارف والجهالات وهي العلوم المخالفة للحق ما يناسبه.
وقال تعالى - وهو كالكلمة الجامعة في العمل الصالح والعلم النافع - : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر : 10] ، فبين أن شأن الكلم الطيب وهو الاعتقاد الحق أن يصعد إلى الله تعالى ويقرب صاحبه منه ، وشأن العمل الصالح أن يرفع هذا العلم والاعتقاد.
ومن المعلوم أن ارتفاع العلم في صعوده إنما هو بخلوصه من الشك والريب وكمال توجه النفس إليه وعدم تقسيم القلب فيه وفي غيره وهو مطلق الشرك فكلما كمل خلوصه من الشك والخطوات اشتد صعوده وارتفاعه.
ولفظ الآية لا يخلو عن دلالة على ذلك فإنها عبرت في الكلم الطيب بالصعود ووصف العمل بالرفع ، والصعود يقابل النزول كما أن الرفع يقابل الوضع ، وهما أعني الصعود والارتفاع وصفان يتصف بهما المتحرك من السفل إلى العلو بنسبته إلى الجانبين فهو صاعد بالنظر إلى قصده العلو واقترابه منه ، ومرتفع من جهة انفصاله من السفل وابتعاده منه ، فالعمل يبعد الإنسان ويفصله من الدنيا والإخلاد إلى الأرض بصرف نفسه عن التعلق بزخارفها الشاغلة والتشتت والتفرق بهذه المعلومات الفانية غير الباقية وكلما زاد الرفع والارتفاع زاد صعود الكلم الطيب ، وخلصت المعرفة عن شوائب الأوهام وقذارات الشكوك ، ومن المعلوم أيضا كما مر : أن العمل الصالح ذو مراتب ودرجات ، فلكل درجة من العمل الصالح رفع الكلم الطيب وتوليد العلوم والمعارف الحقة الإلهية على ما يناسب حالها.
والكلام في العمل الطالح ووضعه الإنسان نظير الكلام في العمل الصالح ورفعه وقد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة : 6]
فظهر أن للناس بحسب مراتب قربهم وبعدهم منه تعالى مراتب مختلفة من العمل والعلم ، ولازمه أن يكون ما يتلقاه أهل واحدة من المراتب والدرجات غير ما يتلقاه أهل المرتبة والدرجة الأخرى التي فوق هذه أو تحتها ، فقد تبين أن للقرآن معاني مختلفة مترتبة.
وقد ذكر الله سبحانه أصنافا من عباده وخص كل صنف بنوع من العلم والمعرفة لا يوجد في الصنف الآخر كالمخلصين وخص بهم العلم بأوصاف ربهم حق العلم ، قال تعالى : {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [الصافات : 159 ، 160] ، وخص بهم أشياء أخر من المعرفة والعلم سيجيئ بيانها إن شاء الله تعالى ، وكالموقنين وخص بهم مشاهدة ملكوت السماوات والأرض قال تعالى : {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } [الأنعام : 75] ، وكالمنيبين وخص بهم التذكر ، قال تعالى : {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر : 13] ، وكالعالمين وخص بهم عقل أمثال القرآن ، قال تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت : 43] ، وكأنهم أولوا الألباب والمتدبرون لقوله تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد : 24] (صلى الله عليه وآله وسلم) - 24 ، ولقوله تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء : 82] ، فإن مؤدى الآيات الثلاث يرجع إلى معنى واحد وهو العلم بمتشابه القرآن ورده إلى محكمه ، وكالمطهرين خصهم الله بعلم تأويل الكتاب قال تعالى : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة : 77 - 79] ، وكالأولياء وهم أهل الوله والمحبة لله وخص بهم أنهم لا يلتفتون إلى شيء إلا الله سبحانه ولذلك لا يخافون شيئا ولا يحزنون لشيء ، قال تعالى : {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس : 62] وكالمقربين والمجتبين والصديقين والصالحين والمؤمنين ولكل منهم خواص من العلم والإدراك يختصون بها ، سنبحث عنها في المحال المناسبة لها.
ونظير هذه المقامات الحسنة مقامات سوء في مقابلها ، ولها خواص رديئة في باب العلم والمعرفة ، ولها أصحاب كالكافرين والمنافقين والفاسقين والظالمين وغيرهم ، ولهم أنصباء من سوء الفهم ورداءة الإدراك لآيات الله ومعارفه الحقة ، طوينا ذكرها إيثارا للاختصار ، وسنتعرض لها في خلال أبحاث هذا الكتاب إن شاء الله.
العاشر : أن للقرآن اتساعا من حيث انطباقه على المصاديق وبيان حالها فالآية منه لا يختص بمورد نزولها بل يجري في كل مورد يتحد مع مورد النزول ملاكا كالأمثال التي لا تختص بمواردها الأول ، بل تتعداها إلى ما يناسبها ، وهذا المعنى هو المسمى بجري القرآن ، وقد مر بعض الكلام فيه في أوائل الكتاب.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|