أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-05-16
646
التاريخ: 2023-02-11
1170
التاريخ: 29-1-2021
2397
التاريخ: 11-10-2014
1629
|
هذا الشطر من قصة ابني آدم أعني قوله تعالى : {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة : 31] آية واحدة في القرآن لا نظيرة لها من نوعها وهي تمثل حال الإنسان في الانتفاع بالحس ، وأنه يحصل خواص الأشياء من ناحية الحس ، ثم يتوسل بالتفكر فيها إلى أغراضه ومقاصده في الحياة على نحو ما يقضي به البحث العلمي أن علوم الإنسان ومعارفه تنتهي إلى الحس خلافا للقائلين بالتذكر والعلم الفطري.
وتوضيحه أنك إذا راجعت الإنسان فيما عنده من الصور العلمية من تصور أو تصديق جزئي أو كلي وبأي صفة كانت علومه وإدراكاته وجدت عنده وإن كان من أجهل الناس وأضعفهم فهما وفكرا صورا كثيرة وعلوما جمة لا تكاد تنالها يد الإحصاء بل لا يحصيها إلا رب العالمين.
ومن المشهود من أمرها على كثرتها وخروجها عن طور الإحصاء والتعديد أنها لا تزال تزيد وتنمو مدة الحياة الإنسانية في الدنيا ، ولو تراجعنا القهقرى وجدناها تنقص ثم تنقص حتى تنتهي إلى الصفر ، وعاد الإنسان وما عنده شيء من العلم بالفعل قال تعالى : {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق : 5]
وليس المراد بالآية أنه تعالى يعلمه ما لم يعلم وأما ما علمه فهو فيه في غنى عن تعليم ربه فإن من الضروري أن العلم في الإنسان أيا ما كان هو لهدايته إلى ما يستكمل به في وجوده وينتفع به في حياته ، والذي تسير إليه أقسام الأشياء غير الحية بالانبعاثات الطبيعية تسير وتهتدي أقسام الموجودات الحية - ومنها الإنسان - إليه بنور العلم فالعلم من مصاديق الهدى.
وقد نسب الله سبحانه مطلق الهداية إلى نفسه حيث قال : {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه : 50] وقال : {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى : 2 ، 3] وقال وهو بوجه من الهداية بالحس والفكر : {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل : 63] وقد مر شطر من الكلام في معنى الهداية في بعض المباحث السابقة ، وبالجملة لما كان كل علم هداية وكل هداية فهي من الله كان كل علم للإنسان بتعليمه تعالى.
ويقرب من قوله : "علم الإنسان ما لم يعلم" قوله : {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل : 78].
والتأمل في حال الإنسان والتدبر في الآيات الكريمة يفيدان أن علم الإنسان النظري أعني العلم بخواص الأشياء وما يستتبعه من المعارف العقلية يبتدئ من الحس فيعلمه الله من طريقه خواص الأشياء كما يدل عليه قوله : {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة : 31]
فنسبة بعث الغراب لإراءة كيفية المواراة إلى الله سبحانه نسبة تعليم كيفية المواراة إليه تعالى بعينه فالغراب وإن كان لا يشعر بأن الله سبحانه هو الذي بعثه ، وكذلك ابن آدم لم يكن يدري أن هناك مدبرا يدبر أمر تفكيره وتعلمه ، وكانت سببية الغراب وبحثه بالنسبة إلى تعلمه بحسب النظر الظاهري سببية اتفاقية كسائر الأسباب الاتفاقية التي تعلم الإنسان طرق تدبير المعاش والمعاد ، لكن الله سبحانه هو الذي خلق الإنسان وساقه إلى كمال العلم لغاية حياته ، ونظم الكون نوع نظم يؤديه إلى الاستكمال بالعلم بأنواع من التماس والتصاك تقع بينه وبين أجزاء الكون ، فيتعلم بها الإنسان ما يتوسل به إلى أغراضه ومقاصده من الحياة فالله سبحانه هو الذي يبعث الغراب وغيره إلى عمل يتعلم به الإنسان شيئا فهو المعلم للإنسان.
ولهذا المعنى نظائر في القرآن كقوله تعالى : {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة : 4] عد ما علموه وعلموه مما علمهم الله وإنما تعلموه من سائر الناس أو ابتكروه بأفكار أنفسهم ، وقوله : {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } [البقرة : 282] وإنما كانوا يتعلمونه من الرسول ، وقوله : {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } [البقرة : 282] وإنما تعلم الكاتب ما علمه بالتعلم من كاتب آخر مثله إلا أن جميع ذلك أمور مقصودة في الخلق والتدبير فما حصل من هذه الأسباب من فائدة العلم الذي يستكمل به الإنسان فالله سبحانه هو معلمه بهذه الأسباب كما أن المعلم من الإنسان يعلم بالقول والتلقين ، والكاتب من الإنسان يعلم غيره بالقول والقلم مثلا.
وهذا هو السبيل في جميع ما يسند إليه تعالى في عالم الأسباب فالله تعالى هو خالقه وبينه وبين مخلوقة أسباب هي الأسباب بحسب الظاهر وهي أدوات وآلات لوجود الشيء ، وإن شئت فقل : هي من شرائط وجود الشيء الذي تعلق وجوده من جميع جهاته وأطرافه بالأسباب ، فمن شرائط وجود زيد "الذي ولده عمرو وهند" أن يتقدمه عمرو وهند وازدواج وتناكح بينهما ، وإلا لم يوجد زيد المفروض ، ومن شرائط "الإبصار بالعين الباصرة" أن تكون قبله عين باصرة ، وهكذا.
فمن زعم أنه يوحد الله سبحانه بنفي الأسباب وإلغائها ، وقدر أن ذلك أبلغ في إثبات قدرته المطلقة ونفي العجز عنه ، وزعم أن إثبات ضرورة تخلل الأسباب قول بكونه تعالى مجبرا على سلوك سبيل خاص في الإيجاد فاقدا للاختيار فقد ناقض نفسه من حيث لا يشعر.
وبالجملة فالله سبحانه هو الذي علم الإنسان خواص الأشياء التي تنالها حواسه نوعا من النيل ، علمه إياها من طريق الحواس ، ثم سخر له ما في الأرض والسماء جميعا ، قال تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية : 13].
و ليس هذا التسخير إلا لأن يتوسل بنوع من التصرف فيها إلى بلوغ أغراضه وأمانيه في الحياة أي أنه جعلها مرتبطة بوجوده لينتفع بها ، وجعله متفكرا يهتدي إلى كيفية التصرف والاستعمال والتوسل ، ومن الدليل على ذلك قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج : 65] ، وقوله تعالى {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف : 12] ، وقوله تعالى : {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } [المؤمنون : 22] وغير ذلك من الآيات المشابهة لها فانظر إلى لسان الآيات كيف نسبت جعل الفلك إلى الله سبحانه وهو من صنع الإنسان ، ثم نسب الحمل إليه تعالى وهو من صنع الفلك والأنعام ونسب جريانها في البحر إلى أمره وهو مستند إلى جريان البحر أو هبوب الريح أو البخار ونحوه ، وسمي ذلك كله تسخيرا منه للإنسان لما أن لإرادته نوع حكومة في الفلك وما يناظرها من الأنعام وفي الأرض والسماء تسوقها إلى الغايات المطلوبة له.
وبالجملة هو سبحانه أعطاه الفكر على الحس ليتوسل به إلى كماله المقدر له بسبب علومه الفكرية الجارية في التكوينيات أعني العلوم النظرية.
قال تعالى : {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل : 78] وأما العلوم العملية وهي التي تجري فيما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي فإنما هي بإلهام من الله سبحانه من غير أن يوجدها حس أو عقل نظري ، قال تعالى : {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس : 7 - 10] وقال : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم : 30] فعد العلم بما ينبغي فعله وهو الحسنة وما لا ينبغي فعله وهو السيئة مما يحصل له بالإلهام الإلهي وهو القذف في القلب.
فجميع ما يحصل للإنسان من العلم إنما هي هداية إلهية وبهداية إلهية ، غير أنها مختلفة بحسب النوع : فما كان من خواص الأشياء الخارجية فالطريق الذي يهدي به الله سبحانه الإنسان هو طريق الحس ، وما كان من العلوم الكلية الفكرية فإنما هي بإعطاء وتسخير إلهي من غير أن يبطله وجود الحس أو يستغني الإنسان عنها في حال من الأحوال ، وما كان من العلوم العملية المتعلقة بصلاح الأعمال وفسادها وما هو تقوى أو فجور فإنما هي بإلهام إلهي بالقذف في القلوب وقرع باب الفطرة.
والقسم الثالث الذي يرجع بحسب الأصل إلى إلهام إلهي إنما ينجح في عمله ويتم في أثره إذا صلح القسم الثاني ونشأ على صحة واستقامة كما أن العقل أيضا إنما يستقيم في عمله إذا استقام الإنسان في تقواه ودينه الفطري ، قال تعالى : {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } [البقرة : 269] 7 وقال تعالى : "و ما يتذكر إلا من ينيب" : غافر : 13 وقال تعالى : {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام : 110] وقال تعالى : {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة : 130] أي لا يترك مقتضيات الفطرة إلا من فسد عقله فسلك غير سبيله.
والاعتبار يساعد هذا التلازم الذي بين العقل والتقوى ، فإن الإنسان إذا أصيب في قوته النظرية فلم يدرك الحق حقا أو لم يدرك الباطل باطلا فكيف يلهم بلزوم هذا أو اجتناب ذاك؟ كمن يرى أن ليس وراء الحياة المادية المعجلة شيء فإنه لا يلهم التقوى الديني الذي هو خير زاد للعيشة الآخرة.
وكذلك الإنسان إذا فسد دينه الفطري ولم يتزود من التقوى الديني لم تعتدل قواه الداخلية المحسة من شهوة أو غضب أو محبة أو كراهة وغيرها ، ومع اختلال أمر هذه القوى لا تعمل قوة الإدراك النظرية عملها عملا مرضيا.
والبيانات القرآنية تجري في بث المعارف الدينية وتعليم الناس العلم النافع هذا المجرى ، وتراعي الطرق المتقدمة التي عينتها للحصول على المعلومات ، فما كان من الجزئيات التي لها خواص تقبل الإحساس فإنها تصريح فيها إلى الحواس كالآيات المشتملة على قوله : "أ لم تر أ فلا يرون أ فرأيتم ، أ فلا تبصرون" وغير ذلك وما كان من الكليات العقلية مما يتعلق بالأمور الكلية المادية أو التي هي وراء عالم الشهادة فإنها تعتبر فيها العقل اعتبارا جازما وإن كانت غائبة عن الحس خارجة عن محيط المادة والماديات ، كغالب الآيات الراجعة إلى المبدأ والمعاد المشتملة على أمثال قوله : "لقوم يعقلون ، لقوم يتفكرون ، لقوم يتذكرون ، يفقهون ، وغيرها ، وما كان من القضايا العملية التي لها مساس بالخير والشر والنافع والضار في العمل والتقوى والفجور فإنها تستند فيها إلى الإلهام الإلهي بذكر ما بتذكره يشعر الإنسان بإلهامه الباطني كالآيات المشتملة على مثل قوله : "ذلكم خير لكم ، فإنه آثم قلبه ، فيهما إثم ، والإثم والبغي بغير الحق ، إن الله لا يهدي" وغيرها ، وعليك بالتدبر فيها.
ومن هنا يظهر أولا : أن القرآن الكريم يخطئ طريق الحسيين وهم المعتمدون على الحس والتجربة ، النافون للأحكام العقلية الصرفة في الأبحاث العلمية ، وذلك أن أول ما يهتم القرآن به في بيانه هو أمر توحيد الله عز اسمه ، ثم يرجع إليه ويبتنى عليه جميع المعارف الحقيقية التي يبينها ويدعو إليها.
ومن المعلوم أن التوحيد أشد المسائل ابتعادا من الحس ، وبينونة للمادة وارتباطا بالأحكام العقلية الصرفة.
والقرآن يبين أن هذه المعارف الحقيقية من الفطرة قال : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم : 30] أي إن الخلقة الإنسانية نوع من الإيجاد يستتبع هذه العلوم والإدراكات ، ولا معنى لتبديل خلق إلا أن يكون نفس التبديل أيضا من الخلق والإيجاد ، وأما تبديل الإيجاد المطلق أي إبطال حكم الواقع فلا يتصور له معنى فلن يستطيع الإنسان ، وحاشا ذلك أن يبطل علومه الفطرية ، ويسلك في الحياة سبيلا آخر غير سبيلها البتة ، وأما الانحراف المشهود عن أحكام الفطرة فليس إبطالا لحكمها بل استعمالا لها في غير ما ينبغي من نحو الاستعمال نظير ما ربما يتفق أن الرامي لا يصيب الهدف في رميته فإن آلة الرمي وسائر شرائطه موضوعة بالطبع للإصابة إلا أن الاستعمال يوقعها في الغلط ، والسكاكين والمناشير والمثاقب والإبر وأمثالها إذا عبئت في الماكينات تعبئة معوجة تعمل عملها الذي فطرت عليه بعينه من قطع أو نشر أو ثقب وغير ذلك لكن لا على الوجه المقصود ، وأما الانحراف عن العمل الفطري كان يخاط بنشر المنشار ، بأن يعوض المنشار فعل الإبرة من فعل نفسه ، فيضع الخياطة موضع النشر ، فمن المحال ذلك.
وهذا ظاهر لمن تأمل عامة ما استدل به القوم على صحة طريقهم كقولهم : إن الأبحاث العقلية المحضة ، والقياسات المؤلفة من مقدمات بعيدة من الحس يكثر وقوع الخطأ فيها كما يدل عليه كثرة الاختلافات في المسائل العقلية المحضة فلا ينبغي الاعتماد عليها لعدم اطمئنان النفس إليها.
وقولهم في الاستدلال على صحة طريق الحس والتجربة : أن الحس آلة لنيل خواص الأشياء بالضرورة وإذا أحس بأثر في موضوع من الموضوعات على شرائط مخصوصة ثم تكرر مشاهدة الأثر معه مع حفظ تلك الشرائط بعينها من غير تخلف واختلاف كشف ذلك عن أن هذا الأثر خاصة الموضوع من غير اتفاق لأن الاتفاق لا يدوم البتة.
والدليلان كما ترى سيقا لإثبات وجوب الاعتماد على الحس والتجربة ورفض السلوك العقلي المحض مع كون المقدمات المأخوذة فيهما جميعا مقدمات عقلية خارجة عن الحس والتجربة ثم أريد بالأخذ بهذه المقدمات العقلية إبطال الأخذ بها ، وهذا هو الذي تقدم أن الفطرة لن تبطل البتة وإنما يغلط الإنسان في كيفية استعمالها!.
وأفحش من ذلك استعمال التجربة في تشخيص الأحكام المشرعة والقوانين الموضوعة كأن يوضع حكم ثم يجري بين الناس يختبر بذلك حسن أثره بإحصاء ونحوه فإن غلب على موارد جريانه حسن النتيجة أخذ حكما ثابتا جاريا وإلا ألقى في جانب وأخذ آخر كذلك وهكذا ، ونظيره فيه جعل الحكم بقياس أو استحسان.
والقرآن يبطل ذلك كله بإثبات أن الأحكام المشرعة فطرية بينة ، والتقوى والفجور العامين إلهاميان علميان ، وأن تفاصيلها مما يجب أخذه من ناحية الوحي ، قال تعالى : {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء : 36] وقال : {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } [البقرة : 168] والقرآن يسمى الشريعة المشرعة حقا قال تعالى : {أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة : 213] وقال : {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم : 28] وكيف يغني وفي اتباعه مخافة الوقوع في خطر الباطل وهو الضلال؟ قال : {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس : 32] وقال : {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ } [النحل : 37] أي إن الضلال لا يصلح طريقا يوصل الإنسان إلى خير وسعادة فمن أراد أن يتوسل بباطل إلى حق أو بظلم إلى عدل أو بسيئة إلى حسنة أو بفجور إلى تقوى فقد أخطأ الطريق ، وطمع من الصنع والإيجاد الذي هو الأصل للشرائع والقوانين فيما لا يسمح له بذلك البتة ، ولو أمكن ذلك لجرى في خواص الأشياء المتضادة ، وتكفل أحد الضدين ما هو من شأن الآخر من العمل والأثر.
وكذلك القرآن يبطل طريق التذكر الذي فيه إبطال السلوك العلمي الفكري وعزل منطق الفطرة ، وقد تقدم الكلام في ذلك.
وكذلك القرآن يحظر على الناس التفكر من غير مصاحبة تقوى الله سبحانه ، وقد تقدم الكلام فيه أيضا في الجملة ، ولذلك ترى القرآن فيما يعلم من شرائع الدين يشفع الحكم الذي يبينه بفضائل أخلاقية وخصال حميدة تستيقظ بتذكرها في الإنسان غريزة تقواه ، فيقوى على فهم الحكم وفقهه ، واعتبر ذلك في أمثال قوله تعالى : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة : 232] وقوله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } [البقرة : 193] ،
وقوله تعالى : {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت : 45].
قوله تعالى : {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة : 32] في المجمع : ، الأجل في اللغة الجناية ، انتهى.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|