أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-09-21
924
التاريخ: 2024-08-08
342
التاريخ: 2023-09-23
1135
التاريخ: 2023-09-26
906
|
كانت الملكة فكتوريا تكتب كل ما يجري لها يومًا بعد يوم حسب العادة الجارية عند كثيرين من الأوروبيين، ولم تكن تقتصر على سرد الحوادث مجردة بل كانت تُعقب عليها بما يبدو لها من الآراء، وكانت تُطالع الجرائد وتقرأ فيها الخطب والمناظرات التي تتلى في مجلس النواب والأعيان وتكتب ،خلاصتها، واقتطفت من ذلك كتابًا نشرته سنة 1868 وضمنته كثيرًا من حوادث حياتها بين سنة 1848 وسنة 1861، ثم أتبعته بكتاب آخر سنة 1883 نهجت فيه منهج الأول وجعلته تتمة له وألف السر ثيودور مارتن كتابًا كبيرًا بإرشادها في ترجمة زوجها البرنس ألبرت وهو في خمسة مجلدات، وكانت النساء المنتظمات في خدمتها يكتبن في يومياتهن ما يرينه ويسمعنه منها وما يشاهدنه في قصورها، وكثيرًا ما كنَّ يصفن ذلك فيما يكتبن به إلى أهلهن، وعليه فالمواد كثيرة لوصف حياتها كامرأة وزوجة ووالدة ، وكثيرة أيضًا لوصفها كملكة مما هو مشاهد من الارتقاء العظيم في ممالكها، ومما كتبه كبار المؤرخين عن ملكها، وهي في كل حال من هذه الأحوال قد بلغت غاية ما يطلب من نوع الإنسان من الكمال. والحياة سهول وحزون وصفاء وكدر، والحكيم من لم تأخذه هزة الطرب إذا صفت له ولا أبطرته النعمة إذا جاءته، ومن يتحمل الأكدار بالصبر الجميل ويتعظ بها ويتعلم منها الإشفاق على المبتلين، ولقد أحسن من قال:
ألا إنما الدنيا كظل غمامة إذا ما رجاها المستظل اضمحلت
فلا تك مفراحًا إذا هي أقبلت ولا تك محزانا إذا هي ولَّتِ
وما الملوك بمعزل عما ينال أبناء نوعهم من ضروب السراء والضراء، وما هم بالنسبة إليها إلا على ما فيهم من الأمزجة وما أُدبوا به من مهذبات الأخلاق ومثقفات العقول. ومن طالع الفصول الماضية عن حداثة الملكة فكتوريا وزوجها يتوقع لهما العيش الرغد لا بالنسبة إلى أنهما كانا محفوفين بكل أسباب الراحة والرفاهة؛ لأن هذه قد تُسعد المرء وقد تُشقيه، بل بالنسبة إلى حسن تربيتهما وتدينهما ورضي أخلاقهما، لكن نوائب الدهر لم تحالفهما وشمس الحياة لم تقو دوامًا على تبديد غيوم الهموم والغموم من أمامهما، وإذا لم يكن في هذه الحياة الدنيا سوى المرض والموت، فكفى بهما مكدرين لكل صفاء، أضف إلى ذلك حسد الحاسدين وحماقة الحمقى. وأول بلية كادت تقع بهما ودفعتها الأقدار أن البرنس ألبرت ركب مرة وذهب يطارد الأوعال وأطلت الملكة من إحدى كُوى القصر فشاهدته راكبًا فرسا جموحًا، وقد عدا به في غابة غبياء ملتفة الأشجار فخفق فؤادها ووقفت حيرى في أمرها، ولطم البرنس بفرع كبير من فروع الأشجار فسقط عن الجواد وترضض قليلًا، فركب جوادًا آخر وعاد إلى القصر والملكة بانتظاره وهي لا تكاد تصدق بسلامته، وحدث ذلك بعد زواجهما بشهرين. وبعد شهرين آخرين كانت الملكة والبرنس سائرين في مركبة مفتوحة نحو شروق الشمس في جهة الروض الأخضر، فلقيهما فتى في أثناء الطريق وأخرج غدارة من جيبه وأطلقها على الملكة فأجفلت الخيل وأوقفها السائق، لكن البرنس أمره أن يبقى سائرا، والتفت إلى الملكة وسألها عما إذا كانت قد ارتعبت مما جرى فضحكت وانغضت رأسها، لكن الفتي صوّب غدارة أخرى وأطلقها عليها، وأحنى البرنس رأسها فمرت الرصاصة فوقه، وبادر الناس إلى الفتى فأمسكوه ووقفت الملكة في المركبة لتري شعبها أنها لم تُصَب بمكروه، ثم أسرعت مع زوجها إلى بيت أمها لئلا يبلغها الخبر فتضطرب، وعادت بعد ذلك إلى الروض، وكان الذين فيه قد بلغهم ما جرى لها فاجتمعوا بمركباتهم واصطفوا صفين سارا حول مركبتها كحُرَّاس لها وهي تُومئ إليهم وتشكرهم باسمة مسرورة، ولكنها عادت إلى قصرها ودخلت غرفتها اغرورقت عيناها بالدموع شكرًا الله واستعظامًا للخطر الذي نجت منه. وفي الصيف ذهبت هي والبرنس إلى قصر وندزور هربًا من دخان لندن، وهما بارعان في الفنون الجميلة فكانا يقضيان ساعات الفراغ في التصوير والنقش والموسيقى. ورزقت ابنة في الحادي والعشرين من نوفمبر، وهي أرملة فردرك وليم إمبراطور ألمانيا المتوفى، ووالدة وليم الثاني الإمبراطور الحالي، وقبل أن مرت سنة على زواجهما كان البرنس يجري على الجليد في بحيرة قصر بكنهام فانكسر الجليد به وسقط في الماء المثلوج ولو لم تبادر الملكة إلى إغاثته لكن الخطب عظيمًا. وحكم بالقتل على الفتى الذي أطلق الرصاص عليها فكرهت أن يُقتل أحد بسببها، وبعد مداولة طويلة في هذا الموضوع أبدل القضاة عقوبة القتل بالنفي، ويوم اشتهر هذا الحكم حاول رجل آخر قتلها، وأطلق النار عليها فأخطأها فقالت إنني لا أستغرب ذلك ما دام قتل الملوك يعدُّ في شريعتنا ذنبًا سياسيا لا جناية، وبلغ السر روبرت بيل ذلك وكان رئيسًا للوزراء فبادر إليها ليتداول مع البرنس ألبرت في هذا الأمر، ولما وقع نظره عليها اغرورقت عيناه بالدموع خجلا مما جرى، وللحال أقرت الحكومة الإنكليزية على ما طلبته الملكة وهو أن تحسب محاولة قتلها جناية كبرى. وزارها في تلك الأثناء مندلسن الموسيقي الشهير وكتب إلى أمه يقول: دعاني البرنس ألبرت لكي أرى أرغنه الجديد قبلما أبرح البلاد الإنكليزية، فذهبت إليه ووجدته جالسًا وحده في غرفته ودخلت الملكة حينئذ بثياب الصباح وقالت إنها عزمت على المضي إلى كلارمنت بعد ساعة ثم التفتت إلى ما حولها وقالت انظروا كيف عبثت الرياح بأوراق الموسيقى وملأت أرض الغرفة بها، وانحنت وصارت تجمعها فأخذنا نساعدها في ذلك أنا والبرنس، ثم رجوت من البرنس أن يضرب على الأرغن أولا، حتى أفتخر بذلك حينما أعود إلى بلادي فضرب غيبًا وأجاد إجادة يفتخر بها كل موسيقي، ووقفت الملكة بجانبه ،مسرورة، وتلوته أنا فضربت الفصل القائل ما أجمل إقدام المبشرين! وقبل أن آتي على آخر السطر الأول شاركاني في الغناء ... ثم سألتني الملكة عما إذا كنت قد نظمت أغاني جديدة، وقالت إنها مولعة بأغاني المطبوعة، فقال لها البرنس إذن يجب أن تغني له واحدة منها، فامتنعت أولًا ثم قالت إنها تغني وفتشت عن الأغنية فلم تجدها؛ لأنها كانت قد ربطت مع بعض الأوراق والكتب لترسل إلى كلارمنت؛ حيث كانت عازمة أن تذهب، فقلت: لماذا لا تفكها؟ فنادت إحدى السيدات لتفكها وتأتي بها، ولما لم تحضر حالا. ذهبت هي بنفسها لتأتي بها، فأعطاني البرنس ألبرت حينئذ خاتما بديعا من ألماس، وقال إن الملكة ترجو منك أن تقبل هذه الهدية تذكارًا. ثم عادت الملكة وقالت إن الكتب قد أُرسلت الآن فلا سبيل إلى إرجاعها، فقلت عساني ألا أُحرم مما وعدتُ به بإرسالها، فجعلت تتداول مع زوجها، وأخيرًا قر القرار على أن تغنينا أغنية أخرى، فذهبنا معها إلى غرفتها لنفتش عن هذه الأغنية فوجدتُ هناك مجموعة من أغاني الأول فطلبت إليها أن تغني واحدة منها بدل تلك، فأخذتها وغنتها ولم تخطئ إلا في صوت واحد منها، وأجادت في بقية الأصوات إجادة لا مثيل لها، لكنها قالت إنها خافت مني لأني أستاذ هذا الفن فلم تحسن الغناء أمامي، فمدحتها بما هي أهله وأشرت إلى الصوت الذي لم تجده، ثم غنَّى البرنس وغنّيت أنا وأجدت على خلاف عادتي في مثل ذلك الموقف، واستأذنت بالانصراف فطلبا مني أن أعود إلى البلاد الإنكليزية سريعًا وأزورهما. ومرت السنون بحوادثها الكثيرة والناس يسعدون ويشقون في أطراف المعمورة، والملكة فكتوريا تشارك شعبها في سرائه وضرائه وزوجها يدرس الشرائع الإنكليزية ويحل المشاكل السياسية، ورزقهما الله أربعة بنين وخمس بنات من سنة 1840 إلى سنة 1857 فربياهم في خوف الله. والملكة فكتوريا مشتهرة بالتقوى ولكنها تكره التعصب الديني، والأدلة على ذلك كثيرة، منها كلام كتبته سنة 1850 وكانت مدرسة أكسفورد الجامعة ومدرسة كمبردج الجامعة والمجلس البلدي في مدينة لندن قد بعثوا إليها وفودًا يشكون مما حسبوه اعتداءً من الكاثوليك على سلطتها فكتبت: إنني لا أريد أبدًا أن أقول قولا تُشتم منه رائحة التعصب، نعم إني متمسكة بمذهب البروتستانت أشد التمسك، وسأبقى متمسكة به ما دمت حية ومستاءة من الذين يظهرون التدين وهم غير متدينين، لكنني جدا على ما أراه من التعصب الذي يبدو من كثيرين ولا أحتمل أن أسمع الأقوال التي تقال ضد المذهب الكاثوليكي؛ لأنها تؤلمني جدًّا ولأنها اعتداء على كثيرين من الكاثوليك الفضلاء، ومع ذلك فإني أرجو أن تزول أسباب هذا الاضطراب حالا، وتكون النتيجة حسنة على كنيستنا.» ومن كانت كذلك يسهل عليها أن تحكم ملايين من الناس على اختلاف مذاهبهم وتربي أولادها في خوف الله وحب القريب، ونشأ أولادها على ما ربَّتهم، وابنتها الأولى صورت صورة بديعة وهي في الخامسة عشرة من عمرها وعرضتها في معرض الصور فبيعت بمائتي جنيه، فدفعت ثمنها لأرامل الضباط الذين قتلوا في حرب القرم، وذلك أدلُّ دليل على حسن التربية والرأفة بالمبتلين. ولم تكتف بتعليم أولادها وتهذيبهم بل عودتهم هي وزوجها تحمل المشاق من صغرهم؛ لكي يرثوا للرعية، فكان الصبيان يعملون مع العمال في بستان قصر وندزور، ويأخذون أجرة مثلهم، وبنوا مرة حصنًا بأيديهم وضربوا له الآجر وشووه أيضًا، وكانت البنات يتمرن على كل الأعمال المنزلية حتى الطبخ، وكنَّ يطبخن ويوزعن ما يطبخنه على الفقراء، وكانت الملكة تمضي بأولادها إلى المعابد في أوقات العبادة وتنتبه إلى مواعظ الواعظين أشد الانتباه وتستفيد منها، قالت مرة في يومياتها: «وعظنا القس كيرد المحترم وهو من أشهر الوعاظ في سكتلندا، فأبان لنا أن الديانة الصحيحة تتغلب على كل أعمال الإنسان، لا تقتصر على القيام بالفروض الدينية، ولا تمنع معاملة الناس، بل تجعل صاحبها صالحًا في كل أعماله.» وقد مدحت هذه العظة وأمرت بطبعها على نفقتها. ودخلت سنة 1861 والحزن بين يديها فتُوفيت فيها أم الملكة فحزنت عليها الملكة وزوجها وأولادهما حزنا شديدًا، وكان البرنس قد أصيب بألم عصبي في وجهه، فجاء موت حماته واهتمامه الشديد بتوزيع تركتها؛ لأنها أقامته وصيًّا عليها ضِعْثًا على إيَّالة ثم بلغه أن الحمى التيفويدية دخلت بلاط ملك البرتغال فأماتت الملك وأخاه، وكان هذا الملك صديقا حميما له، فحزن عليه حزنا شديدًا، وجعل يفكر في زوال الدنيا ودنو الأجل، وقال للملكة: لو عرفت أن أحبائي الذين أتركهم يُعتنى بهم الاعتناء الواجب لقلت إني مستعد لمفارقة هذه الحياة غدًا. وكانت جراثيم الحمى التيفودية قد دخلت بدنه من حيث لا يدري، وحاربت جيوش الكريات الدموية وتغلبت عليها فلزم فراشه أيامًا وهو يزداد ضعفًا وسقما والملكة قائمة على خدمته بنفسها لا تفارقه ساعة، ولما دنا الأجل اجتمع أولاده في غرفته وركعوا حول سريره هم ووالدتهم فتنفس النفس الأخير وفاضت روحه إلى باريها، ولا تسل عما شمل البلاد الإنكليزية من الدهشة والكآبة، أما حزن الملكة عليه فلا يصفه لسان ولا يُعبر عنه قلم، وقفت في أول الأمر حيرى وقد جفت الدموع من عينيها فخاف الأطباء من ذلك وأوجسوا شرا، ثم احتضنت ابنتها الصغرى ففاضت عيناها بالدموع وجرى الحزن مجراه الطبيعي، ولولا ذلك لقُضي عليها. وقد تكرر هذا المصاب على الملكة بموت ابن وابنة وحفيد، ولكن موت زوجها كان أشد مصاب عليها، ولم تبرأ نفسها من أثره حتى الآن، وتزوج أولادها بعد ذلك وتوالت عليها أسباب الهناء والسرور، لكن حزنها لم يفارقها ولو لم يصرفها عن القيام بمهام ملكها والاهتمام بشأن أولادها. وتعلمت من هذا المصاب الفادح أن ترثي لكل مصاب من رعاياها ومن غيرهم، وقد انتبه المصورون لذلك فصوروها وهي تزور المستشفيات وتكلم المرضى وتواسيهم وترثي
لمصابهم كما ترى في شكل] 1ــ 8]، وقد حدث ذلك في مستشفى لندن سنة 1876؛ فإنها كانت تطوف في غرف ذلك المستشفى يومًا ما وبلغ ابنة صغيرة أنها هناك فجعلت تُنادي بأعلى صوتها دعوني أر الملكة، فإن رأيتها زال ما بي من المرض، وبلغ الملكة ذلك فأسرعت إليها وأخذت بيدها وجعلت تُكلمها باللطف والدَّعَة كما ترى في [شكل 8-1]، وصوروها أيضًا وهي تصنع الأحرمة بيديها كما ترى في [شكل 8-2] لتبعث بها إلى المرضى في المستشفيات، ذلك فوق الأموال الطائلة التي تجود بها كل سنة على المعوزين، نعم إن حرامًا تصنعه لا يُدفئ المتدثر به أكثر من حرام يصنعه غيرها، ولكن في هذا الصنيع فائدة لا تُقدر للأمة كلها؛ لأن الناس على دين ملوكهم، فإذا رأوا هذا الفضل وهذا الاهتمام من ملكتهم أخذوا إخذها وجروا على خطتها.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|