أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-08-10
801
التاريخ: 2023-08-11
848
التاريخ: 2-6-2019
1637
التاريخ: 11-9-2016
3235
|
كانت أوروبا تحت سلطة الباباوات، يتصرفون فيها على هواهم، ويتحكمون في الأرواح والأشباح، والناس تائهون كما قال «دوزي» (1) في ظلام الجهالة، لا يرون النور إلا من سم الخياط، والنور لا يسطع إلا من جانب الأمة الإسلامية، من علوم وأدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك، وبغداد والبصرة وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وفارس وغرناطة وقرطبة هي المراكز العظيمة للعلم، وعواصم أوروبا التي نُدهش بها اليوم أشبه بقرى، لا علم فيها ولا عمران، وهي متأخرة في كل شئونها المادية والأدبية، وما كانت في بلاد الإسلام مدرسة ولا جامع ولا بلد ولا دار كبرى تخلو من خزائن كتب مسبلة على المطالعين ، هذا مع عزة المخطوطات في ذاك العهد يجتمع في تلك الدور العالمون يقرءون ويتباحثون ويتدارسون، تساوى في ذلك الرجال والنساء، وكانت المدارس في المدن والقرى وفي الأندلس خاصة مبذولة لكل طالب، حتى قال أحد مؤرخي الإفرنج: إن معظم سكان إسبانيا الإسلامية كانوا يقرءون ويكتبون في زمن كان أهل الطبقة العليا في أوروبا النصرانية أميين لا يقرءون عدا أفرادًا قلائل من الشمامسة، جعلوا الكتابة صناعة لهم. وقال روبرتسون: كان في إسبانيا في ابتداء القرن الخامس عشر مدن كثيرة أعمر من باقي مدن أوروبا حاشا مملكتي إيطاليا وبلاد القاع، وكان العرب أنشأوا في مدنهم معامل ومصانع أيام كانوا حاكمين فيها. وغصت بلاد المسلمين بالمجامع العلمية مؤلفة من علماء لا يُنظر في اختيارهم إلى الدين الذي يدينون به، بل يُراعى فيهم علمهم واختصاصهم، وكان الخلفاء والملوك والعظماء يجمعون المشتغلين في قصورهم، يتذاكرون أصناف العلوم، وما كان مجلس لهم يخلو من عالم أو علماء، ينصب الحضور له ويأخذون عنه، ومنهم من كان يستصحب العلماء في غزواته، أو يصحب أحمالا من الكتب في رحلاته؛ لأن نفسه تفطم عن كل شيء إلا عن الأبحاث العلمية وغيرها، وكان المنصور بن أبي عامر الأندلسي، وأمير المؤمنين المأمون في بغداد في جملة عشرات من رجال الإسلام كان هذا شأنهم. وذكر جبون خلال كلامه على حماية المسلمين للعلم في الشرق والغرب، أن ولاة الأقاليم والوزراء، كانوا ينافسون الخلفاء في إعلاء مقام العلم والعلماء، وبسط اليد في الإنفاق على بيوت العلم، ومساعدة الفقراء على طلبه، فانتشر من ذلك ذوق العلم، ووجدت اللذة في تحصيله بين الناس، من سمرقند وبخارى إلى فاس ،وقرطبة، قال: وقد أنفق وزير واحد لأحد السلاطين (نظام الملك) مائتي ألف دينار على بناء مدرسة بغداد «النظامية »، وجعل لها من الريع خمسة عشر ألف دينار في السنة تُصرف عليها، وكان الذين يغذون بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير يُنفق عليه من الريع المخصص للمدرسة ، وابن الغني يكتفى بمال أبيه، والمعلمون يُنقدون رواتب وافرة. بينا كان في الأندلس عبد الرحمن الثالث الأموي (2) ( 300 -350 ) عالم الملوك وحامي الآداب والعلوم والصنائع والتجارة، ورب السيف والقلم الذي أصبحت إسبانيا بأعماله وأعمال أخلافه أحسن الممالك حضارةً وحسن إدارة في القرون الوسطى، كنت ترى في رعيته بل في أعماله من يقرعه؛ لأنه بنى قصر الزهراء، واستفرغ جهده (3) في تنجيدها، وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها، وانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع، يقوم قاضي الجماعة بقرطبة منذر بن سعيد البلوطي، ويعظه على المنبر مبتدئًا خطبته بقوله تعالى: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعِ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(4)، ثم يفضي إلى ذم المشيد والاستغراق في زخرفته والسرف في الإنفاق عليه، ويتلو فيه قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(5) ، ويأتي بما شاكل ذلك من التخويف والوعظ، فيبكي الناس والخليفة، ويشكو هذا إلى ولده الحكم تقريع منذر بن سعيد له مقسمًا أن لا يصلي خلفه الجمعة أبدًا، ويقول له الحكم: «وما الذي يمنعك عن عزل منذر بن سعيد والاستبدال به؟» فيزجره وينتهره ويقول: أمثل منذر بن سعيد في فضله وورعه وعلمه وحلمه، لا أمَّ لَك، يعزل إرضاءً لنفس ناكبة عن الرشد؟ هذا ما لا يكون، وإني لأستحي من الله تعالى ألا أجعل بيني وبينه شفيعا في صلاة الجمعة مثل منذر بن سعيد، ولكنه قد وقد (6) نفسي وكاد يذهبها والله لوددت أن أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي، بلى يصلي بالناس حياته وحياتنا، فما أظننا نعتاض منه أبدًا. وبينا أهل أوروبا كلهم عبيد ملوكهم وباباواتهم وزعمائهم، لا يجسر إنسان أن ينقد عملًا أو يعترض على سياسة، كان رجال الإسلام يقدمون على وعظ الخلفاء، ولا يهابون سطوتهم ولا بطشهم، كمقام رجل من العباد عند المنصور العباسي يوم قال له: «وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك؟ إن الله استرعاك أمر عباده وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت. بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابًا من الجص والآجر، وأبوابًا من الحديد، وحراسًا مع السلاح، ثم سجنت نفسك عنهم فيها ، وبعثت عمالك في جبايات الأموال وجمعها، وأمرت أن لا يدخل عليك أحد من الرجال إلا فلان وفلان نفرا سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع العاري إليك، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرت أن لا يحجبوا دونك تجبي الأموال وتجمعها، قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه، فأتمروا أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل إلا خونوه عندك ونفوه، حتى تسقط منزلته عندك، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم عظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال، ليقووا بها على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو المقدرة والثروة من رعيتك، لينالوا ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلمًا وبغيًا وفسادًا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينك وبينه إلى أن قال: فإن قلت: إنما تجمع المال لشديد السلطان، فقد أراك الله عبرًا في بني أمية ما أغنى عنهم جمعهم من الذهب، وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع ، حين أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت: إنما تجمع المال أجسم من الغاية التي أنت فيها ، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة ما لطلب غاية هي تُدرك إلا بخلاف ما أنت عليه.» هكذا كان المسلمون في العالم حكامًا ومحكومين السلطان يعمل والواعظ يعظ، والناس آمنون والحرية مشاعة شاملة ، وبهذه الحرية التي تمتع بها العرب في دولهم، قبل أن تعرف معناها أمة من الأمم قبلهم، نشأ رجال في السياسة والحرب والإدارة والعلم والفن والصنائع والتجارة كانوا غرة في جبين الدهر، ولو جئنا نعدهم ونشير إلى ما رزقوا من ثقوب أذهان، ووفرة علم ، وسمو أخلاق، ولطف حيلة، لاقتضى الخروج عن حد الإيجاز، وبأدنى نظر في سيرهم، يُثبت لنا أن دينهم لم يحل دون مدنيتهم، من الظهور بهذا المظهر الخلاب الذي استهوى كل من عرفه ولا ريب أن قليلا في رجال الغرب قبل عصر النهضة من بلغوا في الفضل والكمال مبلغ رجال الأمويين في الشرق والأندلس وبعض رجال العباسيين، بل مبلغ رجال ملوك الطوائف، وقليل جدا في الغرب من كانوا متصفين بصفات الخير أمثال الصاحب بن عباد وابن العميد وركن الدولة ابن بويه ومنصور بن نوح الساماني وأبي الفداء ومحمود بن سبكتكين وصلاح الدين ونور الدين وطغتكين والمنصور بن أبي عامر ، وعشرات بل مئات بيضوا وجه الإنسانية بأعمالهم الصالحة، وبنبوغهم في معاناة أحوال الناس وحملهم على الجادة، لينعموا بالسعادتين الدنيوية والأخروية. وكان الغربيون خلال القرون الطويلة التي كان فيها العرب أنجب أمة من أمم الخليقة يترامى إليهم من طريق الأندلس وصقلية وإيطاليا أولا، ثم من طريق الصليبيين، ما تم في بلاد العرب والمسلمين من الرقي، فتصبو نفوسهم إلى تحقيق مثله أو بعضه في ربوعهم، وأنَّى لهم ذلك وسلطة رجال الدين عندهم تناولت كل فروع الحياة، وفرسانهم وملوكهم كانوا أدوات للتدمير لا للتعمير، تغلب الفظاعة على أعمالهم، والسماجة تُقرأ في تضاعيف مجتمعهم، وحضارتهم على حالة ابتدائية، كلما حفزها حافز عادت أدراجها بعوامل التقهقر المغروسة فيها.
..........................................
1- تاريخ المسلمين في إسبانيا لدوزي.
2- معلمة الإسلام.
3- مطمح الأنفس للفتح بن خاقان.
4- الريع المكان المرتفع، وآية بناء علمًا للمارة، وتعبثون: تسخرون.
5- شفا طرف، والجرف الجانب وهار: مشرف على السقوط، وانهار به سقط به. ريبة شك، وتقطع قلوبهم: تنفصل بأن يموتوا.
6- الوقذ: شدة الضرب، وقذه يقذه وقذا: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
قسم الشؤون الفكرية والثقافية يجري اختبارات مسابقة حفظ دعاء أهل الثغور
|
|
|