أقرأ أيضاً
التاريخ: 27/11/2022
1190
التاريخ: 16-6-2022
2202
التاريخ: 2024-01-15
928
التاريخ: 2-2-2023
1155
|
قدرة ابن قلاقس في الارتجال
ومن بديع الارتجال ما حكاه المذكور عن ابن قلاقس الإسكندري رحمه الله تعالى إذ قال(1): دخل الأعز أبو الفتوح ابن قلاقس على بلال بن مدافع بن بلال الفزاري ، فعرض عليه سيفا قد نظم الفـرنـد' في صفحته جوهره ، وأذكى الدهر ناره وجمد نهره ، وألبسه من سلخ الأفاعي رداء وجسمه ردى أو داء ، لا يمنع من برقه بدر مجن ولا ثريا مغفر ، ولا يسلم من حده من ثبت ولا ينجو لطوله من فر ، فهو يبكي للنفاق ويضحك ، ويرعد للغيظ ويفتك، وأمره بصفة شانه ، فقال على لسانه:
أروق كما أروع فإن تصفي فإني رائق الصفحات رائع
تدافع بي خطوب الدهر حتى نقلت إلى بلال عن مدافع
وقال أيضا فيه :
رب يوم له من النقع سحب ما لها غير سائل(2) الدم ودق
قد جلته يمنى بلال بحدي فكأني في راحة الشمس برق
255
وقال أيضا فيه :
أنا في الكريهة كالشهاب الساطع من صفحة تبدو وحد قاطع
فكأنما استمليت تلك وهذه من وصف كف بلال ابن مدافع
وقال أيضاً فيه:
انظر لمطرد المياه بصفحتي ولنار حدي كم بها من صالي
قد عاد شدي في المضايق شيمتي كبلال ابن مدافع بن بلال
وسأله صاحب له وصف مشط عاج قد أشبه الثريا شكلا ولوناً، وشق ليلا من الشعر جونا، فقال:
ومتيم بالآبنوس وجسمه عاج ومن أدهانه شرفاتها(3)
كتمت دياجي الشعر منه بدرها فوشت به للعين عيوقاته
وقال فيه:
وأبيض ليل الآبنوس إذا سرى تمزق عن صبح من العاج باهر
وإن غاص في بحر الشعور رأيته تبشرنا أطرافه بالجواهر
وقال فيه:
ومشرق يشبه لون الضحى حسنا ويسري في الدجى الفاحم
وكلما قلب في لمة أضحكهـا عن ثغر باسم
وجلس بمصر في دار الأنماط يوماً مع جماعة، فمرت بهم امرأة تعرف بابنة أمين الملك ، وهي شمس تحت سحاب النقاب، وغصن في أوراق الشباب،
256
فحدقوا إليها تحديق الرقيب إلى الحبيب والمريض إلى الطبيب فجعلت تتلفت الظبي المذعور، أفرقه القانص فهرب، وتثنى تثني الغصن الممطور عانقه النسيم فاضطرب ، فسألوه العمل في وصفها، فقال: هذا يصلح أن يعكس فيه قول العطار الأزدي القيرواني:
أعرضن لما أن عرضن، فإن يكن حذراً فأين تلتفت الغزلان
ثم صنع:
لها ناظر في ذرا ناضر كما ركب السن فوق القناة
لوت حين ولت لنا جيدها فأي حياة بدت من وفاة
كما ذعر الظبي من قانص فمر وكرر في الالتفات(4)
ثم صنع أيضا :
ولطيفة الألفاظ لكن قلبها لم أشك منه لوعة إلا عتا
كملت محاسنها فود البدر أن يحظى ببعض صفاتها أو ينعتا
قد قلت لما أعرضت وتعرضت يا مؤيسا يا مطمعا قل لي متى
قالت أنا الظبي الغرير وإنما ولى وأوجس نبأة(5) فتلفتا
قال علي بن ظافر: وحضر يوما عند بني خليف بظاهر الإسكندرية في قصر رسا بناؤه وسما ، وكاد يمزق بمزاحمته أثواب السما، قد ارتدى جلابيب السحائب ولاث عمائم الغمائم، وابتسمت ثنايا شرفاته، واتسمت بالحسن حنايا غرفاته، وأشرف على سائر نواحي الدنيا وأقطارها، وحبته الرياض بما ائتمنتها عليه السحب من ودائع أمطارها ، والرمل بفنائه قد نثر تبره في زبرجد
257
كرومه، والجو قد بعث بذخائر الطيب لطيمة" نسيمه، والنخل قد أظهرت جواهرها ، ونشرت غدائرها، والطل ينثر لؤلؤه في مسارب النسيم ومساحبه، والبحر يرعد غيظا من عبث الرياح به ، فسأله بعض الحضور أن يصف ذلك الموضع الذي تمت محاسنه ، وغبط به ساکنه فجاشت لذلك لجج بحره، وألقت إليه جواهره لترصيع لبة ذلك القصر وتحره، فقال:
قصر بمدرجة النسيم تحدثت فيه الرياض بسرها المستور
خفض الخورنق والسدير سموه وثنى قصور الروم ذات قصور
لاث الغمام عمامة مسكية وأقام في أرض من الكافور
غنى الربيع به محاسن وصفه فافتر عن نور يروق ونور
فالدوح يسحب حلة من سندس تزهی بلؤلؤ طلها المنثور
والنخل كالغيد الحسان تقرطت بسبائك المنظـوم والمنثور
والرمل في حبك النسيم كأنما أبدى غصون سوالف المذعور
والبحر يرعد فكانه درع تشن بمعطفي مقرور
وكأننا والقصر يجمع شملنا في الأفق بين كواكب وبدور
وكذاك دهر بني خليف لم يزل يثني المعاطف في حبير حبور
ثم قال ابن ظافر وأخبر في الفقيه أبو الحسن علي ابن الطوسي المعروف بابن السيوري الإسكندري النحوي بما هذا معناه، قال: كنت مع الأعز بن قلاقس في جماعة، فمر بنا أبو الفضائل ابن فتوح المعروف بالمصري، وهو راجع من المكتب، ومعه دواته وهو في تلك الأيام قرة العين ظرفا وجمالا، وراحة القلب قربا ووصالا، كل عين إلى وجهه محدقة، ولمشهد خديه بخلوق الحجل مخلقة، فاقترحنا عليه أن يتغزل فيه، فصنع بديها:
258
علقته متعلقا بالخط معتكفا عليه
حمل الدواة ولا دواء لعاشق يرجى لديه
فدماء حبات القلوب تلوح صبغاً في يديه
لم أدر ما أشكو إليه أهجره ام مقلتيه
والحب يخرسني على أني ألكع سيبوبه
ما لي إذا أبصرته(7) شغل سوى نظري إليه
وقد آن وقت الرجعة إلى كلام الأندلسيين الذي حلا، وأبعدنا عنه بما مر النجعة، فتقول:
ذكر الفتح في قلائد العقيان، كما قال ابن ظافر، ما معناه(8): أخبرني الوزير أبو عامر ابن بشتغير أنه حضر مجلس القائد أبي عيسى ابن لبون في يوم سفرت فيه أوجه المسرات، ونامت عنه أعين المضرات، وأظهرت سفاته غصوناً تحمل بدوراً، وتطوف من المدام بنار مازجت من الماء نوراً، وشموس الكاسات تطلع في أكفها كالورد في السوسان، وتغرب بين أقاحي نجوم الثغور فتذبل نرجس الأجفان، وعنده الوزير أبو الحسن ابن الحاج اللورقي وهو يومئذ قد بذل الجهد، في التحلي بالزهد، فأمر القائد بعض السقاة أن يعرض عليه ذهب كاسه، ويحييه بزبرجد آسه، ويغازله بطرفه ويميل عليه بعطفه، ففعل ذلك عجلا، فأنشد أبو الحسن مرتجلا:
ومهفهف مزج الفتور بشدة وأقام بين تبذل وتمنع
والله لولا أن يقال هوى الهوى منه بفضل عزيمة وتورع
لأخذت في تلك السبيل بمأخذي فيما مضى ونزعت فيها منزعي
وحكى الحميدي(9) أن عبد الملك بن إدريس الجزيري كان ليلة بين يدي الحاجب ابن أبي عامر والقمر يبدو تارة، ويخفيه السحاب تارة ، فقال بديها:
أرى بدر السماء يلوح حيناً فيبدو ثم يلتحف السحايا
وذاك لأنه لما تبدى وأبصر وجهك استحيا فغابا
مقال لو نمى عني إليه لراجعني بتصـديقي جوابا
وكان صاعد اللغوي(10) صاحب كتاب " الفصوص " – وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب ـ كثيراً ما يمدح بلاد العراق بمجلس المنصور بن أبي عامر ، ويصفها ويقرظها ، فكتب الوزير أبو مروان عبد الملك بن شهيد والد الوزير أبي عامر أحمد بن شهيد صاحب الغرائب ، وقد تقدم بعض كلامه قريباً ، إلى المنصور في يوم بـرد – وكان أخص وزرائه به – بهذه الأبيات:
أما ترى برد يومنا هذا صيرنا للكمون أفذاذا
قد فطرت صحة الكبود به حتى لكادت تعود أفلاذا
فادع بنا للشمول مصطليا نغذ سيرا إليك إغذاذا
وادع المسمى بها وصاحبه(11) تدع نبيلا وتدع أستاذا
260
وكان المنصور قد عزم ذلك اليوم على الانفراد بالحرم ، فأمر بإحضار من جرى رسمه من الوزراء والندماء ، وأحضر ابن شهيد في محفة لنقرس كان يعتاده ، وأخذوا في شأنهم ، فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله ، ووقت لم يعهدوا نظيره ، وطما الطرب وسما بهم ، حتى نهايج القوم ورقصوا ، وجعلوا يرقصون بالنوبة ، حتى انتهى الدور إلى ابن شهيد ، فأقامه الوزير أبو عبد الله ابن عباس ، فجعل يرقص وهو متوكئ عليه ، ويرتجل ويومئ إلى المنصور ، وقد غلب عليه السكر(12)
هاك شيخاً قاده عذر لكا قام في رقصته مستهلكا
لم يطبق برقصها مستثبتاً فانثنى يرقصها مستمسكا
عاقه عن هزها منفرداً نقرس أخى عليه فاتكا
أنا لو كنت كما تعرفني قمت إجلالا على رأسي لكا
قهقه الإبريق مني ضاحكاً ورأى رعشة رجلي فبكى
قال ابن ظافر: وهذه قطعة مطبوعة ، وطرفها الأخير واسطتها ، وكان حاضر هم ذلك اليوم رجل بغدادي يعرف بالفكيك ، حسن النادرة سريعها ، وكان ابن شهيد استحضره إلى المنصور فاستطبعه ، فلما رأى ابن شهيد يرقص قائماً مع ألم المرض الذي كان يمنعه من الحركة قال : الله درك يا وزير ! ترقص بالقائمة ، وتصلي بالقاعدة ، فضحك المنصور ، وأمر لابن شهيد بمال جزيل ، ولسائر الجماعة ، وللبغدادي.
وقال ابن بسام : حدث أبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر بن
261
عثمان المصحفي قال : دخلت يوما على أبي عامر ابن شهيد ، وقد ابتدأت علته التي مات بها ، فأنس بي ، وجرى الحديث إلى أن شكوت له تجني بعض أصحابي علي ، ونفاره عني، فقال لي : سأسعى في إصلاح ذات البين ، فخرجت عنه ، واتفق لقائي لذلك المتجني علي مع بعض أصحابي وأعزهم علي ، فلما رآني ذلك الصديق موليا عنه أنكر عليه ، وسأله عن السبب الموجب ، فأخبره، وزادا في مشيهما حتى لحقا بي ، وعزم علي في مكالمة صاحبي ، وتعاتبنا عتاباً أرق من الهواء، وأشهى من الماء على الظماء ، حتى جئنا دار أبي عامر ، فلما رآنا جميعاً ضحك وقال : من كان الذي تولى إصلاح ما كنا شررنا بفساده ؟ قلنا : قد كان ما كان ، فأطرق قليلا ثم أنشد:
من لا أسمي ولا أبوح به أصلح بيني وبين من أهوى
أرسلت من كابد الهوى فدرى كيف يداوي مواقع البلوى
ولي حقوق في الحب ثابتة لكن إلفي يعدها دعوى
وقد ذكرنا في هذا الكتاب من غرائب أبي عامر ابن شهيد في مواضع متفرقة الغرائب، وقدمنا في الباب الرابع حكايته مع المرأة الداخلة في رمضان لجامع قرطبة وحكينا [ها] هناك بلفظ " المطمح "، فلتراجع.
وعبر ابن ظافر عن معناها بقوله(13): إن أبا عامر كان مع جماعة من أصحابه بجامع قرطبة في ليلة السابع والعشرين من رمضان(14)، فمرت امرأة به من بنات أجلاء قرطبة ، قد كملت حسنا وظرفا ، ومعها طفل يتبعها كالظبية تستتبع خشفا ، وقد حقت بها الحواري، كالبدر حف بالدراري ، فحين رأت تلك الجماعة ، المعروفة بالخلاعة ، وقد رمقوا ذلك الظبي بعيون أسود رأت فريسة،
262
ارتاعت وتخوفت أن تخطف منها تلك الدرة النفيسة ، فاستدنت إليها خشفها ، وألزمته عطفها ، فارتجل ابن شهيد قائلا:
وناظرة تحت طي القناع .. إلخ
ومرت في الباب الرابع هذه الأبيات.
وقال الرئيس أبو الحسن عبد الرحمن بن راشد الراشدي(15): لما نعيت أبا عامر ابن شهيد إلى أبي عبد الله الحناط(16) الشاعر ، وقد عرف ما كان بينهما من المنافسة ، بكى وأنشدني لنفسه بديهة:
لما نعى الناعي أبا عامر أيقنت أني لست بالصابر
أودى في الظرف وترب الندى وسيد الأول والآخر
وقال ابن بسام(17): اصطبح المعتصم بن صمادح يوما مع ندمائه ، فأبرز لهم وصيفة مهدوية متصرفة في أنواع اللعب المطرب من الدك ، وحضر أيضاً هناك لاعب مصري ساحر فكان لعبه حسناً ، فارتجل أبو عبد الله ابن الحداد:
كذا فلتلح قمراً زاهرا وتجني الهوى ناظراً ناضرا
وسيبك سيب ندى مغدق أقام لنا هاميـا هامرا
وإن ليومـك ذا رونقاً منيرا كنور الضحى باهرا
صباح اصطبـاح بإسفاره لحظنا محيا الملا سافرا
وأطلعت فيه نجوم الكؤوس فما زال كوكبها زاهرا
وأسمعتنـا لاحنا فاتنا وأحفرتنا لاعبا ساحرا
263
يرفرف فوق رؤوس القيان فننظر ما يذهل الناظرا
ويحفظها ذيل سرباله فننظـر طالعهـا غائرا
فظاهرها ينثني باطنا وباطنها ينشي ظاهرا
وثناه ثان لألعابـه دقائق تثي الحجي حائرا(18)
وفي سورة الراح من سحره خواطر دلهت الخاطرا
إذا ورد اللحظ أثناءها فما الوهم عن وردها صادرا
ومن حسن دهرك إبداعه فما انفك عارضها ماطرا
وسعدك يحتلب المغربات فيجعل غائبهـا حـاضرا
قال(19): وحضر الأديب أحمد بن الشقاق عند القائد ابن دري(20) بجيان، هو وأبو زيد ابن مقانا الأشبوني، فأحضر لهما(21) عنبا أسود مغطى بورق أخضر ، فارتجل ابن الشقاق:
عنب تطلع من حشا ورق لنا(22) صبغت غلائل جلده بالإثمد
فكأنه من بينهـن كواكب كسفت فلاحت في سماء زبرجد
قال(23) : وحضر ابن مرزقان ليلة عند ذي النون بن خلدون ، وبحضرته وصيفة تحمل شمعة ، فاستحسنها ابن مرزقان فقال بديها:
يا شمعة تحملها أخرى كأنها شمس علت بدرا
امتحنت إحداكما مهجتي بمثل ما تمتحن الأخرى
264
قال(24): ودخل الأديب غانم يوماً على باديس صاحب غرناطة فوسع له على ضيق كان في المجلس ، فقال بديها:
صير فؤادك للمحبوب منزلة سم الخياط مجال للمحبين
ولا تسامح بغيضاً في معاشرة فقلما تتسع الدنيا بغيضتين
وأخذه من قول الخليل و ما تضايق سم الخياط بمتحابين ، ولا اتسعت الدنيا لمتباغضين(25) . وكان الخليل على تمرقة صغيرة ، والمجلس متضايق ، فدخل عليه بعض أصحابه ، فرحب به وأجلسه . معه على النمرقة ، فقال له الرجل إنها لا تسعنا، فقال ما ذكر.
وقال ابن بسام أيضا(26) : أمر الحاجب المنذر بن يحيى التجيبي صاحب سرقسطة بعرض بعض الجند في بعض الأيام ، ورئيسهم مملوك له يقال له خيار في نهاية الجمال ، فجعل ينفخ في القرن ليجتمع أصحابه على عادة لهم في ذلك ، فقال ابن هندو الداني فيه ارتجالا :
أعن بابل أجفان عينيك تنفث ومن قوم موسى أنت للعهد تنكث
أفي الحق أن تحكي سرافيل نافخاً وأمكث في رمس الصدود وألبث
عساك ، نبي الحسن، تأتي بآية فتنفخ في ميت الصدود فيبعث
قال : وكان بقرطبة غلام وسيم ، فمر عليه ابن فرج الحياني ، ومعه صاحب له ، فقال صاحبه : إنه لصبيح لولا صفرة فيه ، فقال ابن فرج ارتجالا(27) :
265
قالوا : به صفرة عابت محاسنه فقلت : ما ذاك من عيب به نزلا
عيناه تطلب في أوتار من قتلت فلست تلقاه إلا خائفا وجلا
قال : وكان يوما مع لمة من أهل الأدب في مجلس أنس ، فاحتاج رب المنزل إلى دينار ، فوجه إلى السوق ، فدخل به عليهم غلام من الصيارف في نهاية الجمال ، فرمى بالدينار إليهم من فيه تماجنا ، فقال ابن فرج(28):
أبصرت ديناراً بكف مهفهف یزهی به من كثرة الإعجاب
أوما به من فيه ثم رمى به فكانه بدر رمی بشهاب
قال(29): وخرج الأديب أبو الحسن ابن حصن الإشبيلي إلى وادي قرطبة في نزهة ، فتذكر إشبيلية ، فقال بديها:
ذكرتك يا حمص ذكرى هوى أمـات الحسود وتعنيته
كأنك والشمس عند الغروب عروس من الحسن منحوته
غدا النهر عقدك والطود تا جك والشمس أعلاه ياقوته
انتهى.
وعبر بعضهم ، وهو صاحب " بدائع البدائه " عن بعض حكايات صاحب القلائد بما يقاربها في المعنى ، فقال(30): إن المستعين بن هود ملك سرقسطة والثغور ركب نهر سرقسطة يوما لتفقد بعض معاقله ، المنتظمة بجيد ساحله ، وهو نهر رق“ ماؤه وراق ، وأزرى على نيل مصر ودجلة العراق ، قد اكتنفته البساتين من جانبيه ، وألقت ظلالها عليه ، فما تكاد عين الشمس أن
266
تنظر إليه ، هذا على اتساع عرضه ، وبعد سطح مائه من أرضه ، وقد توسط زورقه زوارق حاشيته توسط البدر للهالة ، وأحاطت به إحاطة الطفاوة(31) بالغزالة ، وقد أعدوا من مكايد الصيد ما استخرج ذخائر الماء ، وأخاف حتى حوت السماء ، وأهلة الهالات طالعة من الموج في سحاب ، وقائصة من بنات الماء كل طائرة كالشهاب ، فلا ترى إلا صيوداً كقصد الصوارم ، وقدود اللهاذم ، ومعاصم الأبكار النواعم ، فقال الوزير أبو الفضل ابن حسداي والطرب قد استهواه ، وبديع ذلك المرأى قد استرق هواه:
الله يوم أنيق واضح الغرر مفضض مذهب الآصال والبكر
كأنما الدهر لما ساء أعتبنا فيه بعتي فأبدى صفح معتذر
نسير في زورق حف السرور به من جانبيه بمنظوم ومنتثر
مد الشراع به قدا على ملك بذ الأوائل في أيامه الأخر
هو الإمام الهمام المستعين حوى علياء مؤتمن في هدي مقتدر
تحوي السفينة منه آية عجباً بحر تجمع حتى صار في نهر
تثار من قعره النينان مصعدة صيدا كما ظفر الغواص بالدرر
وللندامى به عتب ومرتشف كالريق يعذب في ورد وفي صدر
والشرب في ود مولى خلفه زهر يذكر وبهجته أبهى من القمر
ثم قال ما معناه(32) : وقوله " نينان " غير معروف ، فإن نونا لم يجيء جمعها على نينان ، وقد كان سيبويه لحن بشار بن برد في قوله في صفة السفينة:
للاعب نينان البحور وربما رأيت نفوس القوم من جربها تجري
فغيره بشار به " تيار البحور"، وقد قال أبو الطيب يصف خيلا:
267
فهن مع السيدان في البر عسل وهن مع النينان في البحر عوم
انتهى.
والمستعين بن هود هو أحمد بن المؤتمن على أمر الله يوسف بن المقتدر بالله أحمد بن المستضيء بالله سليمان بن هود ، الجذامي ، رحم الله تعالى الجميع .
وعبر المذكور عن قضية ابن وهبون في هلال شوال بما نصه(33):
خرج ابن وهبون يوما لنظر هلال شوال ، وأبو بكر ابن القبطرنة الوزير يسايره ، وهو يومئذ غلام يخجل البدر ، ويذوي " الغصن النضر ، وصفحته لم يسطرها العـذار بأنقاسه ووردة خده لم يسترها الشعر باسه ، فارتجل عبد الجليل :
يا هلال استتر بوجهك عني إن مولاك قابض بشمالي
هبتك تحكي سناه خدا بخد قم فجئي لقـده بمثال
وقد ذكرنا هذه الحكاية في غير هذا الموضع بلفظ الفتح في " القلائد " ولكنا أعدناها هنا لتعبير صاحب " البدائع " عنها محاكياً لطريقته.
وذكر ابن بسام(34) أن الوزير أبا عبد الله ابن أبي الخصال وقف بباب بعض القضاة ، واستأذن عليه، فحجب عنه ، فكتب إليه بديها(35):
جئناك للحاجة الممطول صاحبها وأنت تنعم والإخوان في بوس
وقد وقفنا طويلاً بابكم ثم انصرفنا على رأي ابن عبدوس
أشار به إلى قول الوزير أبي عامر ابن عبدوس :
268
لنا قاض له خلق أقل ذميمه النوق
إذا جئناه يحجبنا فتلعنه ونفترق
وهو تمليح مليح ، سامح الله تعالى الجميع
وقال أبو جعفر الكاتب القرطبي الربضي(36):
وأبي المدامة مـا أريد بشربها صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي
لم يبق من عنصر الشباب وطيبه شيء كعهدي لم يحل إلا هي
وبعضهم ينسبها لأبي القاسم عامر بن هشام ، والصواب – كما قال ابن الأبار(37)ـ الأول .
وقال أبو جعفر المذكور في فوارة رخام كلفه وصفتها والي قرطبة(38):
ما شغل الطرف مثل فائرة تمج صرف الحياة من فيها
اشرب بها والحباب في جذل يظهره حسنها ويخفيهـا
تكاد من رقة تضمنها تخطبها العين إذ توافيها
كأنها در منعمة زهراء قد ذاب نصفها فيها
ومن شعره أيضا :
269
ضحك المشيب براسه فبكى بأعين كاسه
رجل تخونه الزمان ببؤسه وبباسه
فجري على غلوائه طلق الجموح بناسه
أخـذا بأوفر حظه لرجائه من ياسه
وقال أحد بني القبطرنة الوزراء(39):
ذكرت سليمي ونار الوغى بقلبي كساعة فارقتها
وأبصرت قد القنا شبههـا وقد ملن نحوي فعانقتها
وهذا معنى بديع ما أراه سبق به.
وقال أبو الحسن ابن الغليظ المالقي(40): قلت يوماً للأديب أبي عبد الله ابن السراج المالقي ، ونحن على جربة ماء: أجز:
شربنا على ماء كأن خريره
فقال مبادراً :
بكاء محب بان عنه حبيب
فمن كان مشغوفاً كثيباً بإلفه فإني مشغوف به وكثيب
وكتب أبو بكر البلنسي(41) إلى الأديب أبي بحر صفوان بن إدريس هذين البيتين يستجيزه القسيم الأخير منهما:
270
خليلي أبا بحر وما قرقف اللمى(42) بأعذب من قولي خليلي أبا بحر
أجز غير مأمور قسيماً نظمته تأمل على نحر المياه على الزهر
فأجازه :
تأمل على نحر المياه حلى الزهر كعهدك بالخضراء والأنجم الزهر
وقد ضحكت للياسمين مباسم سروراً بآداب الوزير أبي بكر
وأصغت من الآس النضير مسامع لتسمع ما يتلوه من سور الشعر
وقال ابن خفاجة(43):
وما الأنس إلا في مجاج زجاجة ولا العيش إلا في صرير سرير
وإني وإن جئت المشيب لمولع بطرة ظل فوق وجه غدير
وقال ابن خفاجة أيضا(44):
وأسود يسبح في لجنة لا تكتم الحصباء غدرانها
كأنها في شكلها مقلة وذلك الأسود إنسانها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المصدر نفسه 2 : 47.
2- ب : مائر.
3- ب : حرقاته .
4- سقط البيت من ب.
5- في الأصول : نبوة .
6- م ب : روض .
7- البدائع : قابلته.
8- بدائع البدائه 2 : 87 ، والقلائد: 139.
9- جذوة المقتبس : 262 ؛ و بدائع البدائه 2 : 96 .
10- بدائع البدائه 2 : 103 ؛ والذخيرة 1/4 : 16 .
11- يريد غلاما اسمه " شمول ".
12- الذخيرة 1/4 : 17 4 وزاد في م : وقال ارتجالا.
13- بدائع البدائه 2:107.
14- من رمضان: سقطت من ب.
15- بدائع البدائه 2:109.
16- في الأصول : الخياط
17- بدائع البدائه 2:121.
18- اضطربت النسخة م بعد هذا البيت وسقط منها قسط كبير وستشير إلى موضع التئامها مع النسختين ق ب.
19- بدائع البدائه 2 : 132 وروی ابن بسام القصة ( المغيرة 2/1 : 262) عن المنفتل عبد العزيز ابن سيرة القرطبي .
20- ق ب : ابن دريد.
21- ب : فأحضرهما .
22- ب : له الذخيرة : لدي .
23- بدائع البدائه 2 : 123 .
24- المصدر نفسه : 123 .
25- ب بمتباغضين.
26- الذخيرة (3 : 282).
27- الذخيرة (2: 280).
28- الذخيرة (3: 280) .
29- بدائع البدائه 2: 124 .
30- بدائع البدائه 2: 124.
31- الطفاوة: دارة الشمس.
32- بدائع البدائه 2: 127.
33- المصدر السابق 2 : 128.
34- بدائع البدائه 2 : 147.
35- ب : بديهة.
36- انظر ما سبق ص : 228 ، وأبو جعفر هذا هو أحمد بن عبد الرحمن اللخمي الكاتب من أهل قرطبة ويعرف بالريفي لسكناه بالريف الشرقي منها ؛ توفي سنة 610 ( المقتضب من تحفة القادم : 126).
37- قال ابن الآبار : وهذه الأبيات قد انشدنيها بعض الأعلام لأبي القاسم عامر بن هشام وإنما هي لأبي جعفر هذا أنشدنيها صاحبنا أبو الحسن حازم بن محمد الأديب... إلخ ( الواني 7 : 24 نقلا من التحفة ولم يرد في المقتضب).
38- الأبيات في الوافي 7 : الورقة 24 ؛ وكلك الأبيات التي تليها .
39- انظر القلائد:155 والمغرب 1: 368.
40- بدائع البدائه 1: 72.
41- بدائع البدائه 1:79.
42- ب : الطلى
43- ديوان ابن خفاجة : 181.
44- ديوان ابن خفاجة : 363 ؛ وفي ق: وله.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|