أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-03-25
890
التاريخ: 2023-11-11
799
التاريخ: 2023-03-15
903
التاريخ: 16-1-2020
1623
|
إن ثابت هابل هو مقياس للسرعة التي يتمدد بها الكون اليوم، وإذا كان الكون آخِذًا في التمدد بالمعدل ذاته، فهذا يخبرنا بمقدار الوقت المنقضي منذ الانفجار العظيم. وإذا قمنا بقسمة 1 على قيمة ثابت هابل 1/H)) فسنعرف مقدار الوقت المنقضي منذ أن كانت المجرات مجتمعة في نقطة واحدة؛ أي الوقت المنقضي منذ الانفجار العظيم. وبالطريقة عينها، إذا غادرَتْ سيارة ما مدينة لندن متجهة غربا على امتداد الطريق «إم 4» بسرعة ثابتة قدرها 60 ميلا في الساعة، فعلى بُعد 120 ميلا من لندن سنعرف أن الرحلة بدأت منذ ساعتين تحديدًا. لكن الأمور أعقد قليلا هنا؛ لأن أبسط نموذج للكون مستقى من معادلات أينشتاين يقول إن الكون لا بد أنه قد بدأ في التمدد بسرعة أكبر، ثم تباطأ التمدد مع مرور الزمن، وذلك بفعل الجاذبية التي تعيق التمدد؛ ومن ثَمَّ فإن التقييم الأفضل لعمر الكون يكون بأخذ ثلثي قيمة (1/H)، أما قيمة H/1 نفسها فيشار إليها باسم: «عمر الكون وفقًا لثابت هابل». لكن النقطة المهمة هنا هي أننا لو تمكَّنَّا من قياس ثابت هابل فسنتمكن من قياس عمر الكون.
ولأن عمر الكون يتناسب عكسيًا مع قيمة ثابت هابل، فكلما صغرت قيمة ثابت هابل كان الكون أكبر عمراً وباستخدام القيمة التي حددها هابل نفسه للثابت والبالغة 525 كيلومترًا في الثانية لكل ميجا فرسخ فلكي - يكون عمر الكون نحو ملياري عام. لكن حتى في ثلاثينيات القرن العشرين كان من الجلي أن ثمة خطأ ما في هذا التقدير؛ لأنه يقلُّ عن عمر كوكب الأرض، وهذا هو السبب وراء أن فكرة الانفجار العظيم لم تبدأ في أن تُؤخَذ مأخذ الجدية إلا بعد أربعينيات القرن العشرين، حين حدثت مراجعة جذرية لمقياس المسافات، وذلك بعد إزالة الخلط الحادث بين نوعين من النجوم المتغيرة. وبضربة واحدة، خُفّض ثابت هابل إلى النصف، وتضاعفت التقديرات الخاصة بعمر الكون، وهو ما جعل عمر الكون يبدو قريبًا من عمر كوكب الأرض.
لكن في الوقت عينه تقريبا، بدأ الفلكيون في تطوير فهم جيد لكيفية عمل النجوم، وعمل تقديرات موثوق بها لأعمارها، فتبيَّنَ أن بعض النجوم يبلغ من العمر أكثر من عشرة مليارات عام، وهو ما سبب مجددًا الحرج لفكرة الانفجار العظيم بالشكل الذي كانت عليه في خمسينيات القرن العشرين. وقد كان هذا أحد الأسباب التي جعلت نموذجا كونيًّا منافسًا - نموذج الحالة الثابتة - جذَّابًا في أعين بعض الفلكيين في ذلك الوقت. كانت الفكرة وراء نموذج الحالة الثابتة هي أنه بينما تتباعد المجرات في كون متمدد، فإن القوى المسئولة عن استطالة المكان تتسبب أيضًا في ظهور مادة جديدة في الفجوات بين المجرَّات؛ ذرات من الهيدروجين من شأنها أن تكون سُحُبًا من الغاز الذي منه تتكون مجرات جديدة كي تملأ الفجوات وفق هذه الصورة، لا وجود لبداية للكون، ولن تكون هناك نهاية، ويبدو الكون على الدوام بنفس المظهر تقريبا، لكن في ستينيات القرن العشرين دق المسمار الأخير في نعش نموذج الحالة الثابتة، حين اكتشف اثنان من المتخصصين في علم الفلك الراديوي هسيسًا من ضوضاء الراديو آتيا من كل اتجاه في الفضاء. وقد فُسِّر إشعاع الخلفية الميكروي الكوني هذا – الذي تنبأت به نظرية الانفجار العظيم (مع أن هذا التنبؤ قد ذهب طي النسيان!) – على أنه البقايا الخافتة للإشعاع القوي الصادر عن الانفجار العظيم نفسه، وهو التفسير الذي تعزّز بمشاهدات لاحقة؛ منها تلك الآتية من أقمار صناعية متخصصة أُرسلت إلى الفضاء لدراسة هذا الإشعاع. وقد زالت الحاجة لنموذج الحالة الثابتة البديل؛ لأن التقديرات الخاصة بعمر الكون زادت تدريجيا مع مرور الأعوام.
ومنذ عام 1950 فصاعدًا، قللت المراجعات التدريجية لمقياس المسافة - والمبنية على المشاهدات الآخِذة في التحسن - قيمة ثابت هابل إلى أن صار مع بداية تسعينيات القرن العشرين معروفًا أنه يقع في نطاق يتراوح بين 50 و100، بالوحدات المعتادة، أو كما عبر أحد الفلكيين عن الأمر: 75 ± 25 ومن هنا جاء مشروع تليسكوب هابل المحوري.
وكحال مجرة أندروميدا فإن المجرات داخل العناقيد عادةً ما تتحرك على نحو عشوائي عبر الفضاء بسرعة بضع مئات الكيلومترات في الساعة، وهذا يعني أنه من أجل الحصول على تقديرات موثوق بها للإزاحة الحمراء الكونية لعنقود مجري، من الأفضل النظر إلى العناقيد المجرِّيَّة البعيدة؛ حيث تكون الإزاحة الحمراء أكبر وتمثل السرعات الفردية العشوائية وما يرتبط بها من إزاحات دوبلر الزرقاء نسبةً أصغر من الإزاحة الحمراء الكلية. لكن بطبيعة الحال من الأصعب قياس المسافات في حالة العناقيد المجرية البعيدة؛ لذا ثمة نوع من المقايضة حين يتعلَّق الأمر باستخدام العناقيد بهذه الطريقة من أجل تحديد قيمة ثابت هابل استخدم مشروع تليسكوب هابل المحوري الطريقة التقليدية التي ابتكرها هابل نفسه، والخاصة بالحصول على المسافات الدقيقة إلى المجرات القريبة عن طريق النجوم القيفاوية؛ وذلك باستخدام المسافات الخاصة بالنجوم القيفاوية في معايرة سطوع مؤشرات المسافة الأخرى، كالمستعرات العظمى، ثم المضي أبعد في الكون في سلسلة من الخطوات. كان الفارق في هذه الحالة، بعد ستين عاما من وقت هابل، أننا نملك تليسكوبًا أفضل، وأنه جرى التخلص من الخلط بين نوعين مختلفين من النجوم المتغيرة، وأن الخمود النجمي صار مفهوما، وأن مؤشرات المسافة الثانوية كالمستعرات العظمى صارت مفهومة على نحو أفضل هي الأخرى عما كان عليه الحال في وقت هابل. وبلغ التقدير النهائي الذي توصل إليه فريق عمل المشروع الثابت هابل، في مايو 2001: 72 ± 8، وهو ما يعني أن عمر الكون يبلغ نحو 14 مليار عام. ومن حسن الطالع أنه في العقد السابق على ذلك، في تسعينيات القرن العشرين، كانت أعمار النجوم التي نراها قد تحددت بواسطة طرق مستقلة تماما، ووجد أنها تبلغ نحو 13 مليار عام؛ وبذا يكون الكون أكبر بالفعل من النجوم والمجرات التي يحتوي عليها. وهذه النتيجة أعمق كثيرًا مما تبدو عليه من الوهلة الأولى؛ فعمر الكون يتحدد من خلال دراسة بعض من أكبر الأشياء في الكون - العناقيد المجرية - وتحليل سلوكها باستخدام النسبية العامة وفهمنا للكيفية التي تعمل بها النجوم، والتي منها حسبنا أعمارها، يأتي من دراسة بعض من أصغر الأشياء في الكون - نوى الذرات – واستخدام النظرية العظيمة الأخرى للقرن العشرين - ميكانيكا الكم - في حساب الكيفية التي تندمج بها النوى بعضها مع بعض كي تُطلق الطاقة التي تُبقي النجوم على سطوعها. وحقيقة أن العمرين يتماثل كلٌّ منهما مع الآخر، وأن أعمار أقدم النجوم تقل قليلا عن عمر الكون، هي واحدة من أكثر الأسباب إقناعًا للإيمان بأن فيزياء القرن العشرين بأسرها ناجحة، وأنها تقدم توصيفا جيدًا للعالم من حولنا، بداية من أصغر نطاقات الحجم وانتهاء بأكبرها.
في الوقت الحالي تأكَّد من خلال طرق أخرى مستقلة، أنَّ قيمة ثابت هابل تقترب من 70 كيلومترًا في الثانية لكل ميجا فرسخ فلكي. وبعض هذه الطرق يتضمن معدات تكنولوجية متقدمة على غرار الأقمار الصناعية، وفهما راقيًا للفيزياء، لكنَّ نهجا واحدًا بسيطا يوضّح بجلاء العلاقة بين المجرَّات والكون، وعند الجمع بينه وبين القياسات الأخرى الأكثر تعقيدًا، فإن العادية المجرية تتعزّز لدينا.
إن الدليل على أن مجرة درب التبانة ما هي إلا مجرَّة حلزونية عادية؛ مبني على عينة صغيرة إلى حد ما من المجرات القريبة نسبيًّا إلينا، وذلك بالمقاييس الكونية. لكن إذا تقبلنا هذا الدليل بمعناه الظاهري، فسيقدِّم لنا طريقة لتقدير المسافات إلى المجرات الأخرى، وذلك عن طريق مقارنة أحجامها بحجم مجرة درب التبانة، أو مقارنته بمتوسط العينة المحلية من المجرات، التي تناهز القيمة عينها تقريبًا. لا مغزى تقريبا من وراء عقد مثل هذه المقارنات بالمجرَّات المنفردة؛ لأننا نعلم أن هناك نطاقا عريضًا من الأحجام؛ فأكبر المجرّات الحلزونية في الجوار، المجرَّة M101، يبلغ قطرها نحو 62 كيلو فرسخًا فلكيًّا؛ أي أكبر من ضعفي قطر مجرة درب التبانة؛ ومن ثَمَّ فإن تقدير المسافة إليها عن طريق الافتراض أن حجمها يساوي حجم مجرة درب التبانة لن يكون فكرة سديدة. إن ما نحتاج إليه هو قياس إحصائي من نوع ما، بحيث يمكننا أن نأخذ الحجم المتوسط للمجرات البعيدة للغاية عبر الكون ونقارن هذا المتوسط بمتوسط حجم المجرات القريبة.
شكل 5-3: المجرة غير المنتظمة 1427 NGC.
منذ وقت هابل بنى الراصدون فهارس تحدِّد مواضع آلاف المجرات وإزاحاتها الحمراء وأحجامها الزاوية؛ فهارس عديدةً مختلفة يحتوي كل منها على آلاف المجرات. بعض هذه الفهارس يتضمن الأحجام الزاوية، التي يُعبّر عنها عادة من خلال أقطار خطوط السطوع الكنتورية عينها المستخدمة في تحديد مدى عاديّة مجرة درب التبانة.
وكل قطر زاوي يمكن تحويله إلى قطر خطّي حقيقي عن طريق ضربه في رقم يعتمد فقط على الإزاحة الحمراء التي نعرفها، وفي ثابت هابل، الذي نفترض أننا نعرفه بالفعل. وإذا أخذنا آلاف المجرات ذات الإزاحات المختلفة والمنتشرة عبر السماء، يكون من الممكن أن نختار قيمة ما لثابت هابل، وأن نحسب كل الأقطار الخطّية. وبعد ذلك نأخذ متوسطا للعينة كلها كي نقدّر الحجم المتوسط للمجرّة. ومن اليسير عمل هذا الأمر مرارا وتكرارًا باستخدام جهاز كمبيوتر يواصل تغيير قيمة ثابت هابل، إلى أن تصير القيمة المتوسطة التي تخرج بها الحسابات مساويةً للقطر المتوسط الخاص بالمجرات الحلزونية القريبة على غرار مجرة درب التبانة؛ وهذا يمنحنا قيمة فريدة لثابت هابل.
شكل 5-4: المنطقة المركزية للمجرَّة M100، كما صوّرتها كاميرا الحقل الواسع الكوكبية 2 الموجودة على تليسكوب هابل الفضائي.
ثمة صعوبات عملية علينا التغلب عليها؛ فمثلًا علينا التأكد من أن كل الأقطار قد قيست بالطريقة عينها، وأن العينة مقصورة على المجرّات التي لها نفس البنية الإجمالية التي للمجرات الموجودة في عيّنتنا المحلية، وأن المشاهدات تلتقط بالفعل كل المجرات ذات الصلة. وأحد أهم العوامل التي يجب وضعها في الحسبان أنه من الأيسر رؤية المجرات الأكبر؛ لذا في حالة الإزاحات الحمراء الأكبر ستحتوي عيّنة المجرّات على عدد أقل مما ينبغي من المجرّات الصغيرة؛ لأنه جرى إغفالها، وهذا التأثير يُعرف باسم «تأثير مالمكويست». لكن لحسن الحظ، عن طريق مقارنة أعداد المجرّات ذات الأحجام المختلفة الموجودة على إزاحات حمراء مختلفة يصبح من الممكن حساب المقدار الإحصائي لهذا التأثير – الطريقة التي يتم بها إغفال المجرَّات الصغيرة في العينة مع زيادة مقدار الإزاحة الحمراء - وتصويبه من أوجه التعقيد أيضًا أن علينا حذف المجرات القريبة من الحسابات؛ لأن إزاحات دوبلر العشوائية الخاصة بها تناهز الإزاحات الحمراء الكونية في المقدار وتسبب تشوش الصورة. لكن هذ الطريقة تصلح مع المجرات حتى مسافة 100 ميجا فرسخ فلكي، وحتى في ظل كل هذه المحاذير يقدِّم أحد الفهارس القياسية، المعروف باسم «آر سي 3»، مجموعةً فرعية تتكون من أكثر من ألف مجرة مناسبة تفي بهذه المعايير، وهذا عدد وفير يمثل عيّنة موثوقا بها إحصائيا.
وعند انتهاء كل العمل، يتبيَّن أن قيمة ثابت هابل المبنية على مقارنة أقطار المجرَّات تقع في أعلى الستينيات، هذا إذا كانت درب التبانة مجرد مجرة عادية حقًا. وهذه القيمة تتفق مع القياسات الأخرى. بالطبع ليست هذه أفضل أو أدق طريقة لقياس ثابت هابل، لكنها طريقة قيمة لسببين: السبب الأول هو أنها طريقة فيزيائية بارعة يمكن تفهمها من منظور خبراتنا الحياتية اليومية، التي فيها نعرف أن البقرة التي تقف على الطرف القصيِّ لحقل كبير تبدو أصغر حجمًا لأنها بعيدة، وهي لا تتطلب أي فهم عميق للفيزياء أو الرياضيات.
والسبب الثاني هو أنه يمكن استخدام المنطق على نحو معكوس أيضًا. فأول إثبات حقيقي لكون مجرة درب التبانة هي مجرة حلزونية عادية جاء من مقارنة حجمها بأحجام 17 مجرَّة أخرى قريبة نسبيًّا فقط، لكن لو كان ثابت هابل قريبا من 70، وهو ما تشير إليه التحليلات والمشاهدات الأكثر تقدما، فعندئذٍ يمكن استخدام تلك القيمة في حساب الحجم المتوسط للألف والنيف مجرَّة في عينتنا - وبعضها يبعد مائة ميجا فرسخ فلكي عنا - ونجد أنها قريبة للغاية بالفعل من حجم مجرة درب التبانة الحجم المتوسط لعيّنتنا القريبة من المجرَّات. وعلى أقل تقدير، مجرتنا مماثلة لنوعية المجرات القرصية الموجودة في منطقتنا المحلية من الفضاء التي يبلغ عرضها 200 ميجا فرسخ فلكي، ويبلغ حجمها أكثر من 4 ملايين ميجا فرسخ فلكي مكعب.
لكن لا تزال هذه في حقيقة الأمر فقاعة محلية مقارنة بحجم الكون القابل للرصد؛ فهناك أجرام بإزاحات حمراء معروفة تتوافق مع مسافات تزيد عن عشرة ملايين سنة ضوئية؛ أي أبعد ثلاثين مرة من أبعد المجرات المستخدمة في هذه الطريقة لتقدير قيمة ثابت هابل. ودراسات هذه الأجرام تبين أن الأمر ينطوي على ما أكثر هو من هذا؛ إذ يبدو أن تمدد الكون لم يتباطأ منذ الانفجار العظيم بالكيفية التي تتنبأ بها أبسط حلول معادلات أينشتاين، بل ربما بدأ في التسارع.
في تسعينيات القرن العشرين بدأ الفلكيون في استخدام مشاهدات المستعرات العظمى في معايرة العلاقة بين الإزاحة الحمراء والمسافة من أجل الإزاحات الحمراء التي تساوي 1 تقريبًا (أكبر إزاحات حمراء معروفة لمثل هذه المستعرات تقل عن 2). وتعتمد هذه الطريقة على اكتشاف أن نوعًا معينًا من المستعرات العظمى - عائلة تُعرف باسم (المستعرات العظمى من النوع 1A) - يبدو أن كلَّ أفراده يصلون لنفس القيمة القصوى من السطوع المطلق، وقد جرى اكتشاف هذا من خلال مشاهدات المستعرات العظمى من النوع «1A» في المجرات القريبة التي نعرف جيدًا المسافات التي تفصلنا عنها. وقد مثل هذا الاكتشاف أهمية خاصةً؛ لأن المستعرات العظمى ساطعة للغاية، لدرجة أنها يمكن أن تُرَى من على مسافات بعيدة جدًّا.
ومع أن المستعرات العظمى من النوع 1A لها السطوع المطلق نفسه، فإنها كلما كانت على مسافة أبعد في الكون، بَدَتْ أكثر خفوتًا، وهذا يعني أنها لو كانت تصل بالفعل إلى نفس القيمة القصوى من السطوع المطلق، فإنه من خلال قياس القيمة القصوى من السطوع الظاهري للمستعرات العظمى من النوع «1A» في المجرات البعيدة للغاية، سيكون بإمكاننا حساب مقدار بعد هذه المجرّات عنا، وإذا أمكننا قياس الإزاحات الحمراء لنفس هذه المجرات كذلك، فسيكون بمقدورنا معايرة ثابت هابل. وحين جرت هذه المشاهدات باستخدام أقصى حدود قدراتنا التكنولوجية، وجد الراصدون أن المستعرات العظمى في المجرَّات البعيدة للغاية أخفَتُ قليلا مما ينبغي أن تكون عليه لو كانت المجرات التي توجد فيها تقع على المسافات التي تشير إليها القيمة المتفق عليها لثابت هابل.
لا يمكن استبعاد إمكانية أن تكون المستعرات العظمى في هذه المجرات البعيدة لا تسطع بنفس مقدار سطوع تلك الموجودة في المجرَّات الأقرب إلينا؛ حيث أن أفضل استنتاج يتوافق مع كل الأدلة المتاحة هو أن هذه المستعرات العظمى أبعد بالفعل عمَّا يُفترض أن تكون عليه لو كان الكون يتمدَّد بما يتوافق مع أبسط النماذج الكونية منذ الانفجار العظيم. فهناك تعديل بسيط مطلوب لمعادلات أينشتاين كي تتوافق أجزاء الصورة معا؛ إذ لا بد من إعادة إدخال ثابت كوني صغير إلى المعادلات مجددا. ربما لم يكن إدخال الثابت الكوني في البداية خطأ فادحا من جانب أينشتاين.
حين استحدث أينشتاين ثابته الكوني فإنه فعل ذلك كي يحافظ على نموذج الكون ساكنا، لكن يمكن لاختيارات مختلفة لقيمة هذا الثابت أن تجعل نموذج الكون يتمدد على نحو أسرع أو أبطأ، أو تجعله ينهار. واحتواء المعادلات على نوعية الثابت الكوني المطلوب لتفسير مشاهدات المستعرات العظمى يعني ضمنًا أن الكون بأسره مملوء بنوع من الطاقة ليس لها تأثير موضعي ملحوظ على المادة العادية المألوفة، بل هي تعمل عمل السائل المرن المضغوط، بحيث تدفع الكون إلى الخارج في مقابل قوة الجاذبية التي تسحبه إلى الداخل.
شكل 5-5: باستخدام مشاهدات المستعرات العظمى على إزاحات حمراء عالية للغاية، يمكن بَسْطُ مخطط العلاقة بين الإزاحة الحمراء والمسافة لمسافة بعيدة داخل الكون. وأفضل تمثيل يتفق مع البيانات (الخط المتصل) يسمح بوجود الثابت الكوني لامدا.
ولأن الثابت الكوني يُطلق عليه على نحو تقليدي المسمى لامدا، فإن هذا الحقل يُسمَّى «حقل لامدا»، وإذا اخترنا قيمة كثافة مناسبة لهذا الحقل، يكون من اليسير تفسير الكيفية التي تباطأ بها الكون في تمدده خلال المليارات القليلة الأولى من الأعوام عقب الانفجار العظيم، كما تنبَّأت النماذج الأبسط، لكنه بعد ذلك بدأ في التسارع ببطء. الأمر يسير على النحو التالي هناك تفسيرات ممكنة أكثر تعقيدًا من هذا للتسارع الكوني، لكن بما أن أبسط التفسيرات هو أجملها، حقل لامدا ساكن، ويمتلك القيمة عينها منذ الانفجار العظيم. ولأننا نعجز عن رؤية هذا الحقل، فعادةً ما يُطلَق عليه اسم «الطاقة المظلمة». والطاقة المظلمة خاصية من خصائص الزمكان نفسه؛ لذا حين يتمدَّد المكان ويكون هناك المزيد من السنتيمترات المكعبة التي تحتاج إلى أن تُملأ، لا تقل كثافة الطاقة المظلمة، وهذا يعني أن مقدار الطاقة المخزن في كل سنتيمتر مكعب من المكان يظل كما هو، وهو يمارس دومًا مقدار الدفع الخارجي عينه في كل سنتيمتر مكعب. وهذا يختلف تماما عمَّا يحدث للمادة مع تمدد الكون؛ فحين ظهر الكون إلى الوجود من الانفجار العظيم، كانت كثافة المادة في كل موضع تماثل كثافتها اليوم في نواة الذرة. ومن شأن مقدار يسير للغاية من هذه المادة أن يحتوي من الكتلة على ما يكافئ كل البشر الموجودين على الأرض اليوم؛ ومن ثُمَّ فإن الجاذبية المرتبطة بتلك الكثافة للمادة كانت هي المهيمنة تماما على حقل لامدا. ومع مرور الوقت، تمدَّدَ الكون وصار نفس مقدار المادة يشغل حيزا متزايدًا من المكان، وبالتبعية قلت كثافة المادة، وهذا يعني أن تأثير الجاذبية على التمدد صار يقل تدريجيا، إلى أن صار أقل من تأثير الطاقة المظلمة.
ولتفسير مشاهدات المستعرات العظمى، لا بد أن تأثير المادة على التمدد الذي يعمل على إبطاء التمدد - قد ضعف إلى درجة صار فيها مساويًا لتأثير الطاقة المظلمة، التي تعمل على تسريع التمدد، وذلك منذ نحو خمسة أو ستة مليارات عام مضت. ومن منظور الإزاحة الحمراء، حدث التحول بين إزاحة حمراء قدرها 0.1 وإزاحة قدرها 1.7، ومنذئذ صار تأثير الطاقة المظلمة أكبر من تأثير المادة، وهو ما جعل تمدد الكون يتسارع.
إذا كان التمدُّد آخِذًا في التسارع، فمن تبعات ذلك أن يكون الكون أكبر قليلا من الأربعة عشر مليار عام المحسوبة على افتراض عدم وجود تسارع؛ لأنه لو كان الكون يتمدد على نحو أبطأ في الماضي، فمن المؤكد أنه استغرق وقتا أطول كي يصل إلى حالته الراهنة. بَيْدَ أن هذا التأثير ضئيل للغاية، وهو يعمل في الاتجاه الصحيح بحيث يحافظ على عمر الكون أكبر من أعمار أقدم النجوم؛ لذا ما من حاجة لأن نشغل أنفسنا به.
إن مقدار الطاقة المظلمة المطلوبة لعمل كل ذلك مقدار ضئيل. فمع الوضع في الاعتبار اكتشاف أينشتاين أن الطاقة والكتلة متكافئتان فإن مقدار المادة المرتبطة بالطاقة المظلمة يقل قليلا عن 10-29 جرامات في كل سنتيمتر مكعب من الكون؛ لذا من المستحيل أن يجعل الأرض، أو المجموعة الشمسية، أو مجرة درب التبانة، أو حتى أحد العناقيد المجرية يتمدد ويتفكك؛ لأنه على النطاق المحلي ستتغلب عليه جاذبية المادة المركزة على نحو تام. لكن على المستوى الكوني، فإن وجود هذا المقدار من الطاقة - وإن كان ضئيلا - وكتلتها المكافئة، في «كل» سنتيمتر مكعب من الكون - حتى في كل «الفضاء الخاوي» بين النجوم والمجرات - يكون له تأثير بالغ؛ فهو يعني أن هناك من المادة على صورة طاقة مظلمة ما هو أكثر بكثير من المادة على صورة نجوم ومجرات ساطعة. كان هذا من شأنه أن يمثل مفاجأة كبيرة لهابل ومعاصريه، الذين تصوّروا أنهم كانوا يدرسون أهم مكونات الكون، لكن في نهاية تسعينيات القرن العشرين كان هذا هو المطلوب تماما؛ فبحلول ذلك الوقت كان من الجلي بالفعل أن هناك في الكون ما لا تدركه أعيننا، وكان علماء الكونيات يحاولون بالفعل العثور على ما يُسمَّى «الكتلة المفقودة»، وقد تبين أن حقل لامدا هو القطعة المفقودة التي أكملت الصورة الحديثة للكون، الصورة التي تقدم هيكلا عاما يمكننا داخله تفهم أصل المجرَّات وتطوُّرها، وهو الأمر الذي لا يزال على أي حال يمثل أهمية بالغة لأشكال الحياة مثلنا.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|