أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-1-2023
2204
التاريخ: 19-05-2015
3885
التاريخ: 19-05-2015
3415
التاريخ: 2-8-2016
4545
|
لقد كانت شخصيّة الإمام الرضا ( عليه السّلام ) ملتقى للفضائل بجميع أبعادها وصورها ، فلم تبق صفة شريفة يسمو بها الإنسان إلّا وهي من نزعاته ، فقد وهبه اللّه كما وهب آباءه العظام وزيّنه بكل مكرمة ، وحباه بكل شرف وجعله علما لامّة جده ، يهتدي به الحائر ، ويسترشد به الضال ، وتستنير به العقول .
إنّ مكارم أخلاق الإمام الرضا ( عليه السّلام ) نفحة من مكارم أخلاق جده الرسول الأعظم ( صلّى اللّه عليه واله ) الذي امتاز على سائر النبيين بهذه الكمالات ، فقد استطاع ( صلّى اللّه عليه واله ) بسمو أخلاقه أن يطور حياة الإنسان ، وينقذه من أحلام الجاهلية الرعناء ، وقد حمل الإمام الرضا ( عليه السّلام ) أخلاق جده ، وهذا إبراهيم بن العباس يقول عن مكارم أخلاقه :
« ما رأيت ، ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرضا ( عليه السّلام ) ، ما جفا أحدا قط ، ولا قطع على أحد كلامه ، ولا ردّ أحدا عن حاجة ، وما مدّ رجليه بين جليسه ، ولا اتكأ قبله ، ولا شتم مواليه ومماليكه ، ولا قهقه في ضحكة ، وكان يجلس على مائدته مماليكه ومواليه ، قليل النوم بالليل ، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى آخرها ، كثير المعروف والصدقة ، وأكثر ذلك في الليالي المظلمة »[1].
ومن معالي أخلاقه انه كما تقلد ولاية العهد التي هي أرقى منصب في الدولة الإسلاميّة لم يأمر أحدا من مواليه وخدمه في الكثير من شؤونه وإنّما كان يقوم بذاته في خدمة نفسه ، حتى قيل : إنه احتاج إلى الحمّام فكره أن يأمر أحدا بتهيئته له ، ومضى إلى حمّام في البلد لم يكن صاحبه يظن أن ولي العهد يأتي إلى الحمّام في السوق فيغسل فيه ، وإنما حمامات الملوك في قصورهم .
ولما دخل الإمام الحمّام كان فيه جندي ، فأزال الإمام عن موضعه ، وأمره أن يصب الماء على رأسه ، ففعل الإمام ذلك ، ودخل الحمّام رجل كان يعرف الإمام فصاح بالجندي هلكت ، أتستخدم ابن بنت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) ؟ ! فذعر الجندي ، ووقع على الإمام يقبل أقدامه ، ويقول له متضرّعا :
« يا ابن رسول اللّه ! هلّا عصيتني إذ أمرتك ؟ » .
فتبسّم الإمام في وجهه وقال له ، برفق ولطف :
« إنّها لمثوبة ، وما أردت أن أعصيك فيما أثاب عليه »[2].
ومن سموّ أخلاقه أنه إذا جلس على مائدة أجلس عليها مماليكه حتى السائس والبوّاب وقد اعطى بذلك درسا لهم ، لقاء التمايز بين الناس ، وانهم جميعا على صعيد واحد ، ويقول إبراهيم بن العباس : سمعت علي بن موسى الرضا ( عليه السّلام ) يقول : « حلفت بالعتق ، ولا احلف بالعتق الّا أعتقت رقبة ، وأعتقت بعدها جميع ما املك ، ان كان يرى أنه خير من هذا ، وأومأ إلى عبد أسود من غلمانه ، إذا كان ذلك بقرابة من رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) ، إلّا أن يكون له عمل صالح فأكون أفضل به منه »[3].
وقال له رجل : واللّه ما على وجه الأرض أشرف منك أبا .
فقال ( عليه السّلام ) : « التقوى شرّفتهم ، وطاعة اللّه احفظتهم » .
وقال له شخص آخر : أنت واللّه خير الناس . . .
فردّ عليه قائلا : « لا تحلف يا هذا ! خير مني من كان أتقى للّه عز وجل ، وأطوع له ، واللّه ما نسخت هذه الآية وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ »[4].
زهده :
ومن صفات الإمام الرضا ( عليه السّلام ) الزهد في الدنيا ، والاعراض عن مباهجها وزينتها ، وقد تحدث عن زهده محمد بن عباد حيث قال : كان جلوس الرضا على حصيرة في الصيف ، وعلى مسح[5] في الشتاء ، ولباسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزيا[6].
والتقى به سفيان الثوري - وكان الإمام قد لبس ثوبا من خز - فأنكر عليه ذلك وقال له : لو لبست ثوبا أدنى من هذا . فأخذ الإمام ( عليه السّلام ) يده برفق ، وأدخلها في كمّه فإذا تحت ذلك الثوب مسح ، ثم قال له :
« يا سفيان ! الخزّ للخلق ، والمسح للحق . . . »[7].
وحينما تقلّد ولاية العهد لم يحفل بأي مظهر من مظاهر السلطة ، ولم يقم لها أي وزن ، ولم يرغب في أي موكب رسمي ، حتى لقد كره مظاهر العظمة التي كان يقيمها الناس لملوكهم .
سخاؤه :
ولم يكن شيء في الدنيا أحبّ إلى الإمام الرضا ( عليه السّلام ) من الإحسان إلى الناس والبر بالفقراء . وقد ذكرت بوادر كثيرة من جوده وإحسانه ، وكان منها ما يلي :
1 - أنفق جميع ما عنده على الفقراء ، حينما كان في خراسان ، وذلك في يوم عرفة فأنكر عليه الفضل بن سهل ، وقال له : إنّ هذا لمغرم . . .
فأجابه الإمام ( عليه السّلام ) : « بل هو المغنم لا تعدّنّ مغرما ما ابتغيت به أجرا وكرما »[8].
انه ليس من المغرم في شيء صلة الفقراء والإحسان إلى الضعفاء ابتغاء مرضاة اللّه تعالى ، وإنّما المغرم هو الإنفاق بغير وجه مشروع كإنفاق الملوك والوزراء الأموال الطائلة على المغنّين والعابثين .
2 - وفد عليه رجل فسلّم عليه ، وقال له : « أنا رجل من محبيك ومحبي آبائك وأجدادك ( عليهم السّلام ) ، ومصدري من الحج ، وقد نفدت نفقتي ، وما معي ما أبلغ مرحلة ، فإن رأيت أن ترجعني إلى بلدي ، فإذا بلغت تصدقت بالذي تعطيني عنك ، فقال له : اجلس رحمك اللّه . وأقبل على الناس يحدّثهم حتى تفرّقوا ، وبقي هو وسليمان الجعفري ، وخيثمة ، فاستأذن الإمام منهم ودخل الدار ثم خرج وردّ الباب وأخرج من أعلى الباب صرّة ، وقال : أين الخراساني ؟ فقام إليه فقال ( عليه السّلام ) له : خذ هذه المائتي دينار واستعن بها في مؤنتك ونفقتك ، ولا تتصدّق بها عني .
وانصرف الرجل مسرورا قد غمرته نعمة الإمام . والتفت إليه سليمان فقال له :
جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت ، فلماذا سترت وجهك عنه ؟
فأجابه الإمام ( عليه السّلام ) : إنما صنعت ذلك مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته ، أما سمعت حديث رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) : المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجة ، والمذيع بالسيئة مخذول . . . أما سمعت قول الشاعر :
متى آته يوما لأطلب حاجتي * رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه »[9]
3 - وكان إذا أتي بصحفة طعام عمد إلى أطيب ما فيها من طعام ، ووضعه في تلك الصحفة ثم يأمر بها إلى المساكين ، ويتلو قوله تعالى : فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ثم يقول : « علم اللّه عزّ وجلّ أن ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل له السبيل إلى الجنة »[10].
4 - وروي : « أن فقيرا قال له : أعطني على قدر مروّتك .
فأجابه الإمام ( عليه السّلام ) : « لا يسعني ذلك » .
والتفت الفقير إلى خطأ كلامه فقال ثانيا : أعطني على قدر مروّتي .
وهنا قابله الإمام ( عليه السّلام ) ببسمات فيّاضة بالبشر قائلا له : اذن نعم .
ثم قال : يا غلام ! أعطه مائتي دينار »[11].
5 - ومن معالي كرمه ما رواه أحمد بن عبيد اللّه عن الغفاري ، قائلا : كان لرجل من آل أبي رافع - مولى رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) - عليّ حق فتقاضاني ، وألحّ عليّ ، فلما رأيت ذلك صليت الصبح في مسجد رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) ثم توجهت نحو الإمام الرضا ( عليه السّلام ) وكان في العريض ، فلما قربت من بابه خرج وعليه قميص ورداء فلما نظرت إليه ، استحييت منه ، ووقف لما رآني فسلمت عليه وكان ذلك في شهر رمضان ، فقلت له : جعلت فداك لمولاك - فلان - عليّ حق ، شهرني . فأمرني بالجلوس حتى يرجع فلم أزل في ذلك المكان حتى صليت المغرب ، وأنا صائم وقد مضى بعض الوقت فهممت بالانصراف ، فإذا الإمام قد طلع وقد أحاط به الناس ، وهو يتصدّق على الفقراء والمحوجين ، ومضيت معه حتى دخل بيته ، ثم خرج فدعاني فقمت إليه ، وأمرني بالدخول إلى منزله فدخلت ، وأخدت أحدثه عن أمير المدينة فلما فرغت من حديثي قال لي :
ما أظنّك أفطرت بعد ، قلت : لا ، فدعا لي بطعام ، وأمر غلامه أن يتناول معي الطعام ولمّا فرغت من الإفطار أمرني أن أرفع الوسادة ، وآخذ ما تحتها ، فرفعتها ، فإذا دنانير فوضعتها في كمّي ، وأمر بعض غلمانه أن يبلغوني إلى منزلي ، فمضوا معي ، ولمّا صرت إلى منزلي دعوت السراج ونظرت إلى الدنانير ، فإذا هي ثمانية وأربعون دينارا ، وكان حق الرجل علي ثمانية وعشرين دينارا ، وقد كتب على دينار منها : إنّ حقّ الرجل عليك ثمانية وعشرون دينارا وما بقي فهو لك[12].
تكريمه للضيوف : كان ( عليه السّلام ) يكرم الضيوف ، ويغدق عليهم بنعمه واحسانه وكان يبادر بنفسه لخدمتهم ، وقد استضافه شخص ، وكان الإمام يحدثه في بعض الليل فتغيّر السراج فبادر الضيف لاصلاحه فوثب الإمام ، وأصلحه بنفسه ، وقال لضيفه : « إنّا قوم لا نستخدم أضيافنا »[13].
عتقه للعبيد : ومن أحب الأمور إلى الإمام الرضا ( عليه السّلام ) عتقه للعبيد ، وتحريرهم من العبودية ، ويقول الرواة : انه اعتق ألف مملوك[14].
احسانه إلى العبيد : وكان الإمام ( عليه السّلام ) كثير البر والاحسان إلى العبيد ، وقد روى عبد اللّه بن الصلت عن رجل من أهل ( بلخ ) ، قال : كنت مع الإمام الرضا ( عليه السّلام ) في سفره إلى خراسان فدعا يوما بمائدة فجمع عليها مواليه ، من السودان وغيرهم ، فقلت : جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة ، فأنكر عليه ذلك وقال له :
« مه ان الربّ تبارك وتعالى واحد ، والام واحدة ، والأب واحد والجزاء بالأعمال . . . »[15].
ان سيرة أئمة أهل البيت ( عليهم السّلام ) كانت تهدف إلى الغاء التمايز العرقي بين الناس ، وانهم جميعا في معبد واحد لا يفضل بعضهم على بعض إلّا بالتقوى والعمل الصالح .
علمه :
والشيء البارز في شخصية الإمام الرضا ( عليه السّلام ) هو احاطته التامة بجميع أنواع العلوم والمعارف ، فقد كان باجماع المؤرخين والرواة اعلم أهل زمانه ، وأفضلهم وادراهم باحكام الدين ، وعلوم الفلسفة والطب وغيرها من سائر العلوم ، وقد تحدّث عبد السلام الهروي عن سعة علومه ، وكان مرافقا له ، يقول :
« ما رأيت اعلم من علي بن موسى الرضا ، ما رآه عالم إلّا شهد له بمثل شهادتي ، ولقد جمع المأمون في مجالس له عددا من علماء الأديان ، وفقهاء الشريعة والمتكلمين ، فغلبهم عن آخرهم حتى ما بقي منهم أحد إلّا أقرّ له بالفضل ، واقرّ له على نفسه بالقصور ، ولقد سمعته يقول : كنت أجلس في ( الروضة ) والعلماء بالمدينة متوافرون فإذا عيّ الواحد منهم عن مسألة أشاروا اليّ بأجمعهم ، وبعثوا اليّ المسألة فأجيب عنها . . »[16].
لقد كان الإمام أعلم أهل زمانه ، كما كان المرجع الاعلى في العالم الاسلامي الذي يرجع اليه العلماء والفقهاء فيما خفي عليهم من أحكام الشريعة ، والفروع الفقهيّة .
قال إبراهيم بن العباس : « ما رأيت الرضا يسأل عن شيء قط إلّا علم ، ولا رأيت اعلم منه بما كان في الزمان الأول ، إلى وقته وعصره ، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيبه الجواب الشافي »[17].
قال المأمون : « ما أعلم أحدا أفضل من هذا الرجل - يعني الإمام الرضا - على وجه الأرض . . . »[18]
معرفته بجميع اللغات :
وظاهرة أخرى من علومه هي : معرفته التامة ، واحاطته الشاملة بجميع اللغات ، قال أبو إسماعيل السندي : « سمعت بالهند ان للّه في العرب حجة ، فخرجت في طلبه ، فدللت على الرضا ( عليه السّلام ) فقصدته وأنا لا أحسن العربية ، فسلّمت عليه بالسندية ، فرد عليّ بلغتي ، فجعلت أكلمه بالسندية ، وهو يرد عليّ بها ، وقلت له : اني سمعت ان للّه حجة في العرب ، فخرجت في طلبه ، فقال ( عليه السّلام ) : انا هو ، ثم قال لي : سل عما أردته فسألته عن مسائل فأجابني عنها بلغتي »[19].
وقد اكّد هذه الظاهرة الكثيرون ممن اتصلوا بالامام ، يقول أبو الصلت الهروي : كان الرضا ( عليه السّلام ) يكلم الناس بلغاتهم ، فقلت له : في ذلك فقال :
يا أبا الصلت أنا حجة للّه على خلقه ، وما كان اللّه ليتخذ حجة على قوم ، وهو لا يعرف لغاتهم . أو ما بلغك قول أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) : أوتينا فصل الخطاب ، وهل هو إلّا معرفته اللغات .[20]
وروى ياسر الخادم فقال : كان لأبي الحسن ( عليه السّلام ) في البيت صقالبة ، وروم ، وكان أبو الحسن قريبا منهم فسمعهم يتكلمون بالصقلبية والرومية ، ويقولون : انا كنا نفصد كل سنة في بلادنا ، ولا نفصد هاهنا ، ولمّا كان من الغد بعث إليهم من يفصدهم[21].
الإمام ( عليه السّلام ) والملاحم :
وأخبر الإمام الرضا ( عليه السّلام ) عن كثير من الملاحم والاحداث قبل وقوعها ، وتحققت بعد ذلك على الوجه الأكمل الذي اخبر به ، وهي تؤكد - بصورة واضحة - اصالة ما تذهب اليه الشيعة من أن اللّه تعالى قد منح أئمة أهل البيت ( عليهم السّلام ) المزيد من الفضل والعلم ، كما منح رسله ، ومن بين ما اخبر به ما يلي :
1 - روى الحسن بن بشار فقال : « قال الرضا ( عليه السّلام ) : ان عبد اللّه - يعني المأمون ، يقتل محمدا يعني الأمين - فقلت له : عبد اللّه بن هارون يقتل محمد بن هارون ، قال : نعم ، عبد اللّه الذي بخراسان يقتل محمد بن زبيدة الذي هو ببغداد . . وكان يتمثل بهذا البيت :
وانّ الضغن بعد الضغن يفشو * عليك ، ويخرج الداء الدفينا[22]
ولم تمض الأيام حتى قتل المأمون أخاه الأمين .
2 - ومن بين الأحداث التي أخبر عنها : « أنّه لما خرج محمد بن الإمام الصادق بمكة ، ودعا الناس إلى نفسه ، وخلع بيعة المأمون ، قصده الإمام الرضا ، وقال له : يا عم لا تكذب أباك ، ولا أخاك - يعني الإمام الكاظم ( عليه السّلام ) - فإنّ هذا الأمر لا يتم ، ثم خرج ، ولم يلبث محمّد إلّا قليلا حتى لاحقته جيوش المأمون بقيادة الجلودي ، فانهزم محمد ومن معه ، وطلب الأمان ، فآمنه الجلودي ، وصعد المنبر وخلع نفسه ، وقال : ان هذا الأمر للمأمون وليس لي فيه حق »[23].
3 - روى الحسين نجل الإمام موسى ( عليه السّلام ) قال : « كنّا حول أبي الحسن الرضا ( عليه السّلام ) ، ونحن شبّان من بني هاشم إذ مرّ علينا جعفر بن عمر العلوي وهو رثّ الهيئة فنظر بعضنا إلى بعض وضحكنا من هيئته ، فقال الرضا : لترونه عن قريب كثير المال ، كثير التبع ، فما مضى إلّا شهر ونحوه ، حتى ولي المدينة وحسنت حاله »[24].
4 - روى محول السجستاني فقال : « لما جاء البريد باشخاص الإمام الرضا ( عليه السّلام ) إلى خراسان كنت انا بالمدينة فدخل المسجد ليودع رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) ، فودعه مرارا كل ذلك يرجع إلى القبر ، ويعلو صوته بالبكاء والنحيب ، فتقدمت اليه ، وسلمت عليه ، فيرد السلام ، وهنأته ، فقال : ذرني فإني اخرج من جوار جدي ، فأموت في غربة ، وادفن في جنب هارون ، قال : فخرجت متبعا طريقه ، حتى وافى خراسان فأقام فيها وقتا ثم دفن بجنب هارون »[25].
وتحقق ما أخبر به فقد مضى إلى خراسان ، ولم يعد منها واغتاله المأمون العباسي ، ودفن إلى جانب هارون .
5 - روى صفوان بن يحيى قال : لما مضى أبو إبراهيم - يعني الإمام الكاظم ( عليه السّلام ) - وتكلم أبو الحسن ( عليه السّلام ) خفنا عليه ، فقيل له : انك قد أظهرت أمرا عظيما ، وأنا نخاف عليك هذا الطاغية - يعني هارون - فقال ( عليه السّلام ) : « ليجهد جهده فلا سبيل له عليّ »[26].
وتحقق ذلك فإن هارون لم يتعرّض له بسوء ، وقد اكّد الإمام هذا المعنى لبعض أصحابه ، فقد روى محمد بن سنان قال : قلت لأبي الحسن الرضا في أيام هارون : انّك قد شهرت نفسك بهذا الأمر ، وجلست مجلس أبيك ، وسيف هارون يقطر الدم - اي من دماء أهل البيت وشيعتهم - فقال ( عليه السّلام ) : « جرّأني على هذا ما قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) : ان اخذ أبو جهل من رأسي شعرة ، فاشهدوا أني لست بنبي ، وانا أقول لكم : ان أخذ هارون من رأسي شعرة فاشهدوا أني لست بإمام »[27].
لقد اعلن ( عليه السّلام ) غير مرّة ان هارون لا يعرض له بسوء ، وأنه يدفن إلى جانب هارون ، فقد روى حمزة بن جعفر الأرجاني : خرج هارون من المسجد الحرام من باب ، وخرج علي الرضا من باب فقال ( عليه السّلام ) : « يا بعد الدار وقرب الملتقى ؛ إنّ طوس ستجمعني وإيّاه »[28].
وأكّد الإمام دفنه بالقرب من هارون في كثير من الأحاديث فقد روى موسى بن هارون قال : رأيت عليا الرضا في مسجد المدينة ، وهارون الرشيد يخطب ، قال ( عليه السّلام ) : « تروني وإياه ندفن في بيت واحد »[29].
6 - ومن الأحداث التي اخبر عنها نكبة البرامكة ، فقد روى مسافر أنه كان مع أبي الحسن علي الرضا ، فمرّ يحيى بن خالد البرمكي ، وهو مغط وجهه بمنديل من الغبار ، فقال ( عليه السّلام ) : « مساكين هؤلاء ما يدرون ما يحل بهم في هذه السنة .
وأضاف الإمام قائلا : وأعجب من هذا انا وهارون كهاتين ، وضمّ إصبعيه السبابة والوسطى » .
قال مسافر : فو اللّه ما عرفت معنى حديثه في هارون إلّا بعد موت الرضا ، ودفنه بجانبه[30].
7 - روى محمد بن عيسى عن أبي حبيب النباجي فقال : رأيت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) في المنام ، قد وافى النباج[31] ونزل في المسجد الذي ينزله الحجاج في كل سنة وكأني مضيت اليه ، وسلّمت عليه ، وكان بين يديه طبق من خوص فيه تمر صيحاني ، وكأنه قبض قبضة من ذلك التمر فناولني فعدّدته فكان ثماني عشر تمرة ، فتأولت الرؤيا بأني أعيش بعدد كل تمرة سنة فلمّا كان عشرين يوما كنت في أرض تعمر لي بالزراعة ، إذ جاءني من أخبرني بقدوم الرضا ( عليه السّلام ) من المدينة ونزوله في ذلك المسجد ، ورأيت الناس يسعون إليه ، فمضيت نحوه فإذا هو جالس في الموضع الذي كنت رأيت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) فيه في المنام ، وبين يديه طبق من خوص فيه تمر صيحاني ، فسلمت عليه ، فرد عليّ السلام ، واستدناني فناولني قبضة من ذلك التمر فعدّدته فإذا هو بعدد ما ناولني رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) فقلت : زدني يا بن رسول اللّه ، فقال : « لو زادك رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) لزدناك »[32].
8 - روى جعفر بن صالح قال : « أتيت الرضا ( عليه السّلام ) ، فقلت : امرأتي حامل فادع اللّه ان يجعله ذكرا ، فقال : هما اثنان ، فانصرفت وقلت : اسمّي أحدهما محمدا ، والآخر عليا ، ثم اتيته فقال لي : سمّ واحدا عليا والآخر امّ عمرو فلما قدمت الكوفة رأيتها ولدت غلاما وبنتا ، فسمّيت الذكر عليا ، والأنثى امّ عمرو »[33].
عبادته وتقواه :
ومن ابرز ذاتيات الإمام الرضا ( عليه السّلام ) انقطاعه إلى اللّه تعالى ، وتمسّكه به ، وقد ظهر ذلك في عبادته ، التي مثلت جانبا كبيرا من حياته الروحية التي هي نور ، وتقوى وورع ، يقول إبراهيم بن عباس في حديث : « . . . كان ( عليه السّلام ) قليل النوم بالليل ، كثير السهر ، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى الصبح وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر . . . »[34].
ويقول الشبراوي عن عبادته : إنه كان صاحب وضوء وصلاة ، وكان في ليله كلّه يتوضّأ ويصلّي ، ويرقد هكذا إلى الصباح[35].
لقد كان الإمام ( عليه السّلام ) أتقى أهل زمانه ، وأكثرهم طاعة للّه تعالى . لنقرأ ما يرويه رجاء بن أبي الضحاك عن عبادة الإمام ، إذ كان المأمون قد بعثه إلى الإمام ليأتي به إلى خراسان ، فكان معه في المدينة المنورة إلى مرو يقول :
واللّه ما رأيت رجلا كان اتقى للّه منه ، ولا أكثر ذكرا له في جميع أوقاته منه ، ولا أشدّ خوفا للّه عزّ وجلّ ، كان إذا أصبح صلّى الغداة فإذا سلّم جلس في مصلاه يسبح اللّه ، ويحمده ويكبره ، ويهلله ، ويصلي على النبي وآله ( صلّى اللّه عليه واله ) حتى تطلع الشمس ، ثم يسجد سجدة يبقى فيها حتى يتعالى النهار ، ثم يقبل على الناس يحدثهم ، ويعظهم إلى قرب الزوال ، ثم جدد وضوءه ، وعاد إلى مصلاه ، فإذا زالت الشمس قام وصلى ست ركعات يقرأ في الركعة الأولى الحمد ، وقل يا أيها الكافرون ، وفي الثانية الحمد وقل هو اللّه أحد ، ويقرأ في الأربع في كل ركعة الحمد للّه ، وقل هو اللّه أحد ، ويسلّم ، وفي كل ركعتين يقنت فيهما في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة ، ثم يؤذّن ، ثم يصلّي ركعتين ثم يقيم ، ويصلي الظهر ، فإذا سلّم سبّح اللّه وحمّده ، وكبّره ، وهلّله ما شاء اللّه ، ثم يسجد سجدة الشكر ، ويقول فيها مائة مرة شكرا للّه ، فإذا رفع رأسه قام فصلى ست ركعات ، يقرأ في كل ركعة الحمد للّه ، وقل هو اللّه أحد ، ويسلم في كل ركعتين ، ويقنت في ثانية كل ركعتين قبل الركوع وبعد القراءة ، ثم يؤذن ، ثم يصلي ركعتين ويقنت في الثانية ، فإذا سلم قام وصلى العصر ، فإذا سلّم جلس في مصلاه يسبّح اللّه ، ويحمّده ، ويكبّره ، ويهلّله ، ثم يسجد سجدة يقول فيها :
مائة مرة حمدا للّه ، فإذا غابت الشمس ، توضأ وصلّى المغرب ثلاثا بأذان وإقامة ، وقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة ، فإذا سلّم جلس في مصلّاه يسبّح اللّه ويحمّده ، ويكبّره ، ويهلّله ما شاء اللّه ، ثم يسجد سجدة الشكر ، ثم يرفع رأسه ولا يتكلم ، حتى يقوم ويصلّي أربع ركعات بتسليمتين ، يقنت في كل ركعتين في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة ، وكان يقرأ في الأولى من هذه الأربع الحمد وقل يا أيها الكافرون ، وفي الثانية الحمد وقل هو اللّه أحد ، ثم يجلس بعد التسليم في التعقيب ما شاء اللّه حتى يمسي ، ثم يفطر ، ثم يلبث حتى يمضي من الليل قريب من الثلث ، ثم يقوم فيصلي العشاء الآخرة أربع ركعات ، ويقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة فإذا سلّم جلس في مصلاه يذكر اللّه عز وجل ويسبّحه ويحمّده ويكبّره ويهلّله ما شاء اللّه ، ويسجد بعد التعقيب سجدة الشكر ثم يأوي إلى فراشه .
وإذا كان الثلث الأخير من الليل قام من فراشه بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار ، فاستاك [ استعمل السّواك ] ثم توضّأ ثم قام إلى صلاة الليل ، فصلّى ثمان ركعات ويسلّم في كل ركعتين ، يقرأ في الأولين منها في كل ركعة الحمد وثلاثين مرة قل هو اللّه أحد .
ويصلّي صلاة جعفر بن أبي طالب أربع ركعات يسلّم في كل ركعتين ، ويقنت في كل ركعتين في الثانية قبل الركوع ، ويحتسب بها من صلاة الليل ، ثم يصلي الركعتين الباقيتين ، يقرأ في الأولى الحمد وسورة الملك ، وفي الثانية الحمد وهل أتى على الإنسان ، ثم يقوم فيصلّي ركعتي الشفع ، يقرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو اللّه أحد ثلاث مرات ، ويقنت في الثانية ، ثم يقوم فيصلّي الوتر ركعة يقرأ فيها الحمد ، وقل هو اللّه أحد ثلاث مرات وقل أعوذ برب الفلق مرة واحدة ، وقل أعوذ برب الناس مرة واحدة ، ويقنت فيها قبل الركوع وبعد القراءة ، ويقول في قنوته :
« اللهم صلّ على محمد وآل محمد ، اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك انه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت وتعاليت . . . » .
ثم يقول : « استغفر اللّه وأسأله التوبة » سبعين مرة ، فإذا سلّم جلس في التعقيب ما شاء اللّه ، وإذا قرب الفجر قام فصلّى صلاة الفجر يقرأ في الأولى الحمد وقل يا أيها الكافرون وفي الثانية الحمد وقل هو اللّه أحد ، فإذا طلع الفجر أذّن وأقام وصلّى الغداة ركعتين ، فإذا سلّم جلس في التعقيب حتى تطلع الشمس ، ثم سجد سجدة الشكر حتى يتعالى النهار . . .[36].
لقد سرى حب اللّه في قلب الإمام ، وتفاعل في عواطفه ومشاعره حتى صار من خصوصيات شخصيّته .
تسلّحه بالدعاء :
ومن مظاهر حياة الإمام الروحية تسلحه بالدعاء إلى اللّه والتجاؤه إليه في جميع أموره ، وكان يجد فيه متعة روحية لا تعادلها أية متعة من متع الحياة .
وأثرت عن الإمام الرضا ( عليه السّلام ) كوكبة من الأدعية الشريفة كان من بينها ما يلي :
1 - قال ( عليه السّلام ) : « يا من دلّني على نفسه ، وذلّل قلبي بتصديقه ، أسألك الأمن والإيمان في الدنيا والآخرة . . »[37].
وحفل هذا الدعاء على إيجازه ، بظاهرة من ظواهر التوحيد وهي أنّ اللّه تعالى دلّ على ذاته ، وعرّف نفسه لخلقه ، وذلك بما أودعه ، وأبدعه في هذا الكون من العجائب والغرائب ، وكلها تنادي بوجوده .
2 - وقال ( عليه السّلام ) : « اللهم أعطني الهدى وثبّتني عليه ، واحشرني عليه آمنا ، أمن من لا خوف عليه ، ولا حزن ولا جزع إنك أهل التقوى ، وأهل المغفرة . . »[38]
لقد دعا الإمام ( عليه السّلام ) بطلب الهداية ، والانقياد الكامل إلى اللّه الذي هو من أعلى درجات المقربين والمنيبين إلى اللّه تعالى .
[1] عيون أخبار الرضا : 1 / 184 وعنه في بحار الأنوار : 49 / 90 ، 91 ، وعنه في حياة الإمام محمد الجواد ( عليه السّلام ) للقرشي : 35 .
[2] نور الأبصار : 138 ، عيون التواريخ : 3 / 227 مصور .
[3] عيون أخبار الرضا : 2 / 95 ، 96 وعنه في بحار الأنوار : 49 / 95 - 96 .
[4] عيون أخبار الرضا : 2 / 236 وعنه في بحار الأنوار : 49 / 95 .
[5] المسح : الكساء من الشعر .
[6] عيون أخبار الرضا : 2 / 178 ، المناقب : 4 / 389 .
[7] المناقب : 4 / 389 - 390 .
[8] المناقب : 4 / 390 .
[9] الكافي : 4 / 23 و 24 ومناقب آل أبي طالب : 4 / 390 ، وعن الكافي في بحار الأنوار : 49 / 101 ، ح 19 .
[10] المحاسن للبرقي : 2 / 146 ، ح 20 وعنه في بحار الأنوار : 49 / 97 ، ح 11 .
[11] مناقب آل أبي طالب : 4 / 390 .
[12] أصول الكافي : 1 / 486 ، ح 4 ، وعنه في الإرشاد : 2 / 255 وعنه في بحار الأنوار : 49 / 97 ، ح 12 .
[13] الكافي : 6 / 283 وعنه في بحار الأنوار : 49 / 102 ، ح 20 .
[14] الاتحاف بحب الاشراف : 58 .
[15] الكافي : 4 / 23 وعنه في بحار الأنوار : 49 / 101 ، ح 18 .
[16] إعلام الورى : 2 / 64 وعنه في كشف الغمة : 3 / 106 - 107 وعنهما في بحار الأنوار : 49 / 100 .
[17] عيون أخبار الرضا : 2 / 180 ، الفصول المهمّة : 251 .
[18] الإرشاد : 2 / 261 .
[19] الخرائج والجرائح : 1 / 340 ، ح 5 وعنه في بحار الأنوار : 49 / 50 ، ح 51 .
[20] المناقب : 4 / 362 .
[21] المناقب : 4 / 362 ، والفصد : ضرب العرق للحجامة .
[22] المناقب : 4 / 363 ، جوهرة الكلام : 146 .
[23] عيون أخبار الرضا : 2 / 207 وفي بحار الأنوار : 47 / 247 باب 30 ، ح 5 .
[24] الفصول المهمة : 229 ، بحار الأنوار : 12 / 13 .
[25] الاتحاف بحب الأشراف : 59 ، أخبار الدول : 114 .
[26] عيون أخبار الرضا : 2 / 226 .
[27] مناقب آل أبي طالب : 4 / 368 وعنه في بحار الأنوار : 45 / 59 .
[28] الإتحاف بحب الأشراف : 59 .
[29] الإتحاف بحب الأشراف : 59 .
[30] الإتحاف بحب الأشراف : 59 .
[31] النباج : منزل لحجاج البصرة .
[32] عيون أخبار الرضا : 2 / 210 ، ودلائل الإمامة : 189 ، وإعلام الورى : 2 / 54 عن الحاكم الحسكاني ، كشف الغمة : 3 / 103 ، جامع كرامات الأولياء : 2 / 156 .
[33] جوهرة الكلام : 146 .
[34] بحار الأنوار : 49 / 91 عن عيون أخبار الرضا : 2 / 184 .
[35] الاتحاف بحب الاشراف : 59 .
[36] عيون أخبار الرضا : 2 / 180 - 183 وعنه في بحار الأنوار : 49 / 93 وفي الحديث بقية إلى بيان بعض أذكاره وعباداته وقرائته لبعض السور في صلواته المندوبة .
[37] أصول الكافي : 2 / 579 .
[38] أعيان الشيعة : 4 / ق 2 / 197 .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|