المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17761 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24



جانب من جهاد موسى وهارون  
  
2235   07:49 مساءاً   التاريخ: 10-10-2014
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : تفسير الامثل
الجزء والصفحة : ص523-524.
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / قصص الأنبياء / قصة النبي موسى وهارون وقومهم /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2014 2135
التاريخ: 2024-08-11 425
التاريخ: 10-10-2014 8480
التاريخ: 29-11-2020 3097

لقد جرى ذكر قصص الأنبياء والأُمم السابقة كنماذج حيّة ، وبدأ الحديث أوّلا عن نوح (عليه السلام) ، ثمّ عن الأنبياء بعد نوح ، ووصل الدور في هذه الآيات إِلى موسى وهارون(عليهما السلام) ومواجهاتهم المستمرة مع فرعون وأتباعه ، فتقول الآية الأُولى : {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ} [يونس : 75] (1).

«الملأ» كما أشرنا إِلى ذلك سابقاً تطلق على الأشرف الأثرياء اللامعين الذين يملأ ظاهرهم العيون ويلاحظ حضورهم في كل مكان من المجتمع. وتأتي عادة في مثل هذه الآيات محل البحث بمعنى المناصرين والمشاورين والملتفين حول شخص ما.

ونرى الكلام في هذه الآيات يدور حول بعثة موسى إِلى فرعون وملئه فقط ، في حين أنّ موسى مبعوث لكل الفراعنة وبني إِسرائيل ، وعلّة ذلك أنّ مقدرات المجتمع في يد الهيئة الحاكمة ، وبناءً على هذا فإِنّ أي برنامج إِصلاحي وثوري يجب أن يستهدف هؤلاء أوّلا ، كما تقول ذلك الآية (12) من سورة التوبة : (فقاتلوا أئمّة الكفر).

إِلاّ أنّ فرعون وأتباعه امتنعوا عن قبول دعوة موسى ، وعن التسليم في مقابل الحق : (فاستكبروا) ونظراً للتكبر والاستعلاء وعدم امتلاكهم لروح التواضع فإِنّهم لم يلتفتوا إِلى الحقائق الواضحة في دعوة موسى ، وأصرّوا واستمروا في إِجرامهم : (وكانوا قوماً مجرمين).

الرحلة الاولى من المواجهة السلبية مع موسى .

تتحدث الآية التّالية {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس : 76 - 78] .عن مراحل مواجهة الفراعنة لموسى وأخيه هارون ، وأوّل تلك المراحل هي مرحلة الإِنكار والتكذيب والإِفتراء واتهامهما بسوء النية ، وابطال سنن الأجداد ، والإِخلال بالنظام الإِجتماعي ، كما يقول القرآن : (فلمّا جاءهم الحق من عندنا قالوا إِن هذا لسحر مبين).

إِنّ جاذبية دعوة موسى الخارقة من جهة ، ومعجزاته الباهرة من جهة أُخرى ، وتزايد نفوذه بصورة محيرة من جهة ثالثة ، دفعت الفراعنة إِلى التفكير في حل لهذه المسألة ، فلم يجدوا وسيلة أفضل من رميه بالسحر ، فأعلنوا أنّه ساحر وأنّ عمله سحر ليس إِلاّ ، وهذه التهمة سائدة في جميع مراحل الأنبياء وعلى طول تاريخهم ، خاصّة نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم).

إِلاّ أنّ موسى (عليه السلام) نهض للدفاع عن نفسه ، فأزاح الستار وأوضح كذب هؤلاء وأبطل تهمتهم ، ففي البداية : (قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا) (2).

صحيح أنّ لكلّ من السحر والمعجزة نفوذاً وتأثيراً ، وأن من الممكن أن يؤثر الحق والباطل على ادراكات الناس ونفسياتهم ، إلاّ أن السحر الذي هو أمر باطل يتميز تماماً عن المعجزة التي هي حق ، إِذا لا يمكن المقارنة بين نفوذ الأنبياء ونفوذ السحرة ، فإِنّ أعمال السحرة تفتقد الى الهدفية ومحدودة ولا قيمة لها ، ومعجزات الأنبياء لها أهداف إِصلاحية وتغييرية وتربوية واضحة ، وتعرض بشكل واسع وغير محدود.

إِضافة إِلى أنّه : (ولا يفلح الساحرون) وهذا التعبير دليل آخر على امتياز عمل الأنبياء عن السحر. ففي الدليل السابق أثبت اختلاف السحر والمعجزة ووجه وهدف الاثنين وافتراق أحدهما عن الآخر ، أمّا هنا فإِنّ الدليل يستعين لإِثبات المطلب باختلاف حالات السحرة وأصحاب المعاجز.

إِنّ السحرة ، وبحكم عملهم وفنهم الذي له صفة الإِنحراف والإِغفال ، أفراد انتهازيون يفكرون في الربح ، يستغفلون الناس ويخادعونهم ، ويمكن معرفتهم من خلال أعمالهم. أمّا الأنبياء فهم رجال يطلبون الحق ، حريصون على هداية الناس ، مطهرون ، لهم هدف وغاية ، ولا يهتمون بالأُمور المادية.

إِن السحرة لا يرون وجه الفلاح مطلقاً ، ولا يعملون إلاّ من أجل المال والثروة والمنصب والمنافع الشخصية ، في حين أن هدف الأنبياء هداية خلق الله وإِصلاح المجتمع الإِنساني من جميع جوانبه المادية والمعنوية.

ثمّ يستمر فرعون وملؤه في رمي موسى (عليه السلام) بسيل الإِتهامات الصريحة ، حيث (قالوا : أجئتنا لتلفتنا عمّا وجدنا عليه آباءنا). الواقع ، أنهم قدموا صنم «سنة الآباء» وعظمتهم الخيالية والأسطورية حتى يوجهوا الرأي العام ضد موسى وهارون ، بأنّهما يريدان أن يعبثا بمقدسات مجتمعكم وبلادكم.

ثمّ استمروا في هذا التشويه ، وقالوا بأن دعوتكم إِلى دين الله ما هي إلاّ كذب محض ، وكل هذه مصائد وخطط خيانية بهدف التسلط على الناس : (وتكون لكما الكبرياء في الأرض).

في الحقيقة ، إِنّ هؤلاء لما كانوا يسعون دائماً من أجل الحكم الظالم على الناس كانوا يظنون أنّ الآخرين مثلهم ، وهكذا كانوا يفسرون مساعي المصلحين والأنبياء.

(وما نحن لكما بمؤمنين) لأنا على علم بنواياكم وخططكم الهدامة. 

المرحلة الثّانية : [ ابطال السحر وضهور المعجزة ] 

تفصل هذه الآيات  {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [يونس : 79 - 82] ، مرحلة أُخرى من المجابهة ، وتتحدث عن إِجراءات فرعون العملية ضد موسى وأخيه هارون.

فعندما لاحظ فرعون قسماً من معجزات موسى ، كاليد البيضاء والحية العظيمة ، ورأى أنّ ادعاء موسى ليس واهياً بدون دليل وبرهان ، وأنّ هذا الدليل سيؤثر في جميع أنصاره أو الآخرين قليلا أو كثيراً ، فكّر بجواب عملي كما يقول القرآن : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) فقد كان يعلم أنّ كل عمل يجب أن يؤتى من طريقة ويجب أن يستعين بالخبراء بذلك الفن.

هل إِنّ فرعون كان حقيقة في شك من أحقّية دعوة موسى ، وكان يريد أن يحاربه ويواجهه عن هذا الطريق؟ أم أنّه كان يعلم أنّه مرسل من الله ، إلاّ أنّه كان يظن أنّه يستطيع بواسطة ضجّة السحرة وغوغائهم أن يهدئ الناس ، ويمنع مؤقتاً خطر نفوذ موسى في الأفكار العامّة ، ويقول للناس بأنّه إِن جاء بعمل خارق للعادة فإِنّنا غير عاجزين عن القيام بمثله ، وإِذا شاءت إِرادتنا الملوكية ذلك ، فإِنّ مثل هذا الشيء سهل يسير بالنسبة لنا !

ويبدو أنّ الإِحتمال الثّاني أقرب ، ويؤيد ذلك سائر الآيات المرتبطة بقصّة موسى التي وردت في سورة طه وأمثالها ، وأنّه هبّ لمجابهة موسى عن وعي ودراية.

على كل حال : (فلمّا جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون).

جملة (ألقوا ما أنتم ملقون) تعني في الأصل : ألقوا كل ما تستطيعون إِلقاءه ، وهذا إِشارة إِلى الحبال والعصي الخاصّة التي كان جوفها خالياً ، وصبت فيه مواد كيماوية خاصّة بحيث أنّها تتحرك وتتقلب إِذا ما قابلت نور الشمس. والشاهد على هذا الكلام الآيات التي وردت في سورة الأعراف والشعراء ، ففي الآية (43)ـ (44) من سورة الشعراء نقرأ : (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزّة فرعون إِنّا لنحن الغالبون). ولكن من الطبيعي أنّها تتضمن هذا المعنى أيضاً بأنّ أظهروا كل ما تملكون من القدرة في الميدان.

على كل حال ، فإِنّ هؤلاء قد عبأوا كل ما يملكون من قدرة ، وألقوا كل ما أتوا به ـ معهم في وسط الحلبة : (فلمّا ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إِنّ الله سيبطله)فأنتم أفراد فاسدون ومفسدون لأنّكم تخدمون حكومة جبارة وظالمة وتعملون على تقوية دعائم هذه الحكومة الغاشمة الدكتاتورية وهذا بنفسه أقوى دليل على كونكم مفسدين ، و(إِنّ الله لا يصلح عمل المفسدين).

في الواقع ، إِنّ كل إِنسان ذي عقل وعلم يستطيع أن يدرك هذه الحقيقة حتى قبل انتصار موسى على السحرة ، وهي أنّ عمل السحرة لا يقوم على اساس من الحق. لأنّه يصب في طريق تقوية دعائم الظلم والجور ، فأي شخص لم يكن يعلم أنّ فرعون غاصب وظالم ومفسد؟ ومعه ألا تعتبر خدمة مثل هذا الجهاز الحاكم مشاركة في ظلمه وفساده؟ وهل يمكن أن يكون عمل هؤلاء صحيحاً وإِلهياً؟ كلاّ مطلقاً ، وبناءً على هذا كان من الواضح أنّ الله سيبطل هذه المساعي المفسدة.

هل أنّ التعبير بـ «سيبطله» دليل على أنّ السحر حقيقة واقعية ، إلاّ أنّ الله يبطله؟ أم أنّ المقصود من الجملة هو أنّ الله يكشف كون السحر باطلا؟

إِنّ الآية (116) من سورة الأعراف تقول : إِنّ سحر السحرة قد أثر في أعين الناس فخوفوهم به : {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف : 116] وهذا التعبير لا ينافي أن يكون هؤلاء قد أوجدوا نوعاً من الحركات الواقعية في تلك الحبال والعصي بواسطة سلسلة من الوسائل المرموزة كما وقع ذلك في المفهوم والمعنى اللغوي للسحر ، وخاصّة بالإِستفادة من الخواص الفيزيائية والكيميائية للأجسام المختلفة ، إلاّ أنّ من المسلّم به أنّ هذه الحبال والعصي لم تكن موجودات حيّة كما ظهرت أمام أعين الناس ، كما قال القرآن في سورة طه الآيه (66) : (فإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِليه من سحرهم أنّها تسعى). بناء على هذا ، فإِنّ بعض تأثير السحر واقعي ، والبعض الآخر وهم وخيال.

وفي الآية الأخيرة ، إِنّ موسى قال لهؤلاء : إِنّ النصر والغلب لنا في هذه المبارزة حتماً. لأنّ الله سبحانه قد وعد أن يظهر الحق بواسطة المنطق القاطع ، ومعجزات أنبيائه القاهرة ، ويفضح ويخزي المفسدين وأهل الباطل وإِن كره المجرمون ذلك : (ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون).

والمراد من «كلماته» إمّا وعد الله بنصرة الرسل وإِحقاق الحق ، أو معجزاته القاهرة القوية (3).

المرحلة الثّالثة : [ التوكل على الله والنجاة من فرعون ]

عكست هذه الآيات  { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس : 83 - 86] ، مرحلة أُخرى من المواجهة الثورية بين موسى وفرعون ، ففي البداية تبيّن وضع المؤمنين فتقول : (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ).

إِنّ هذه المجموعة الصغيرة القليلة ، والتي كان الشباب والأشبال يشكلون أكثريتها بمقتضى ظاهر كلمة ذرية ، كانت تواجه ضغوطا شديدة من فرعون وأتباعه الى درجة أنّهم خافوا أن يصل بهم الامر الى ترك دين موسى نتيجة هذه الضغوط الشديدة : (على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإِنّ فرعون لعال في الأرض وإِنّه لمن المسرفين).

وهناك بحث بين المفسّرين في أنّه من كانت هذه الذريّة التي آمنت بموسى؟ وإِلى من يعود ضمير (من قومه) إِلى موسى أم فرعون؟

فذهب البعض الى أنّ هؤلاء كانوا نفراً قليلا من قوم فرعون والأقباط كمؤمن آل فرعون ، وزوجة فرعون وماشطتها ووصيفتها ، والظاهر أنّ الدليل على اختيار هذا الرأي أن أغلب بني إسرائيل قد آمنوا. وهذا لا يناسب التعبير بـ (ذرية من قومه) لأنّه يدل على صغر هذه المجموعة.

إِلاّ أنّ البعض الآخر يرى أنّهم جماعة من بني إِسرائيل ، والضمير يعود إِلى موسى ، لأنّ اسم موسى قد ذكر قبله ، وحسب قواعد اللغة والنحو فإِنّ الضمير يجب أن يرجع إِليه.

ولا شك أنّ المعنى الثّاني أوفق لظاهر الآية ، والدليل الآخر الذي يؤيد ذلك هو الآية التالية التي تقول : (وقال موسى يا قوم ...) أي إِنّه خاطب المؤمنين بـ «قومي».

الإِشكال الوحيد الذي يبقى على هذا التّفسير ، هو أنّ جميع بني إِسرائيل قد آمنوا بموسى ، لا جماعة منهم.

إِلاّ أنّ هذا الإِيراد يمكن دفعه بملاحظة هذه النقطة ، وهي أنّنا نعلم أنّ الشباب في كل ثورة هم أوّل مجموعة تنجذب إِليها ، فإِضافة إِلى قلوبهم الطاهرة وأفكارهم السليمة ، فإِنّ الحماس والهيجان الثوري لديهم أكبر وأقوى ، علاوة على أنّهم غير متعلقين بالأُمور المادية التي تدعو الكبار إِلى المحافظة عليها وغيرها الملاحظات المختلفة الأُخرى ، فليس لهم مال وثروة يخافون ضياعها ، ولا منصب ولا مقام يخشون فقدانه.

بناءً على هذا ، فمن الطبيعي أن تنجذب هذه الفئة إِلى موسى ، وتعبير «الذريّة» يناسب هذا المعنى جدّاً. هذا إِضافةً إِلى أنّ كبار السن الذين التحقوا فيما بعد بهذه الفئة لم يكن لهم دور مهم في المجتمع آنذاك ، وكانوا ضعفاء وعاجزين ، وهذا التعبير ـ كما نقل عن ابن عباس (4)ـ في حقهم ليس ببعيد كما أنّنا حينما ندعو بعض أصدقائنا نقول : اذهب وادعُ الأولاد ، بالرغم من أنهم قد يكونون كباراً ، وإِذا لم نتفق وهذا المعنى للآية ، فإِنّ الإِحتمال الأوّل يبقى على قوته.

إِضافةً إِلى أن الذرية وإِن كانت تطلق عادة على الأولاد ، إلاّ أنّها من ناحية الأصل اللغوي ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ تشمل الصغير والكبير.

والملاحظة الأُخرى التي ينبغي الإِلتفات إِليها هنا ، هي أنّ المراد من الفتنة التي تستفاد من جملة (أن يفتنهم) هو صرف هؤلاء عن دين موسى بالتهديد والإِرعاب والتعذيب ، أو بمعنى آخر إِيجاد مختلف المصاعب والعراقيل امامهم سواء كانت دينية أو غير دينية.

على كل حال ، فقد حدّث موسى هؤلاء بلسان المحبّة والمودة من أجل تهدئة خواطرهم وتسكين قلوبهم : (وقال موسى يا قوم إِن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إِن كنتم مسلمين).

إِنّ حقيقة التوكل هي إِلقاء العمل والتصرف في الأُمور على كاهل الوكيل ، وليس معنى التوكل أن يترك الإِنسان الجد والسعي وينزوي في زاوية ويقول : إِنّ الله معتمدي وكفى ، بل معناه أن يبذل قصارى جهده ، فإِذا لم يستطع أن يحل المشكلة ويرفع الموانع من طريقه ، فلا يدع للخوف طريقاً إِلى نفسه ، بل يصمد أمامها بالتوكل والاعتماد على لطف الله والاستعانة بذاته المقدسة وقدرته اللامتناهية ، ويستمر في جهاده المتواصل ، وحتى في حالات القدرة والاستطاعة فإِنّه لا يرى نفسه مستغنياً عن الله ، لأنّ كل قدرة يتمتع بها هي من الله في النهاية.

هذا هو مفهوم التوكل الذي لا ينفك عن الإِيمان والإِسلام ، لأنّ الفرد المؤمن والمذعن لأوامر الله يعتقد أنّه قادر على كل شيء ، وكل عسير مقابل إِرادته سهل يسير. ويعتقد بوعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر.

إِنّ هؤلاء المؤمنين المخلصين أجابوا دعوة موسى بالتوكل : (فقالوا على الله توكلنا). ثمّ رجوا من الله سبحانه أن ينجيهم من شر الأعداء ووساوسهم وضغوطهم ويؤمّنهم : (ربّنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين).

(ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) والجميل في الأمر أنّ فرعون قد وصف في الآية الأُولى بأنّه من (المسرفين) وفي الآية الثّالثة سمّي هو وأعوانه باسم (الظالمين) ، وفي آخر آية بأنّهم من (الكافرين).

إِنّ هذا التفاوت في التعبيرات ربّما لأن الإِنسان يشرع في مسير الذنب والخطأ من الإِسراف أوّلا ، أي التعدي على الحدود ، ثمّ الظلم ، وينتهي عمله أخيراً إِلى الكفر والالحاد!

المرحلة الرّابعة : مرحلة البناء من أجل الثّورة :

شرحت هذه الآيات {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ* قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [يونس : 87 ، 89] ، مرحلة أُخرى من نهضة وثورة بني إِسرائيل ضد الفراعنة. فتقول أولا : (وأوحينا إِلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة) فالأمر الالهي يقرر اختيار البيوت لبني اسرائيل بمصر وان تكون هذه البيوت متقاربة ومتقابلة.

ثمّ تطرقت إِلى مسألة تربية النفس معنوياً وروحياً ، فقالت : (وأقيموا الصلاة) ومن أجل أن تطرد آثار الخوف والرعب من قلوب هؤلاء وتعيد وتزيد من قدرتهم المعنوية والثّورية قالت : (وبشّر المؤمنين).

يستفاد من مجموع هذه الآية أنّ بني إِسرائيل كانوا في تلك الفترة بصورة جماعة متشتتة مهزومة ومتطفلة وملوّثة وخائفة ، فلا مأوى لهم ولا اجتماع مركزي ، ولا برنامجاً معنوياً بنّاء ، ولا يمتلكون الشجاعة والجرأة اللازمة للقيام بثورة حقيقية.

لذلك فإِنّ موسى وأخاه هارون قد تلقوا مهمّة وضع برنامج في عدّة نقاط من أجل تطهير مجتمع بني إِسرائيل ، وخاصّة في الجانب الروحي :

1 ـ الإِهتمام أوّلا بمسألة بناء المساكن ، وعزل مساكنهم عن الفراعنة ، وكان لهذا العمل عدّة فوائد :

إِحداها : أنّهم بتملّكهم المساكن في بلاد مصر سيشعرون برابطة أقوى تدفعهم للدفاع عن أنفسهم وعن ذلك الماء والتراب.

والأُخرى : أنّهم سينتقلون من الحياة الطفيلية في بيوت الأقباط إِلى حياة مستقلة.

والثّالثة : أنّ أسرار أعمالهم وخططهم سوف لا تقع في أيدي الأعداء.

2 ـ أن يبنوا بيوتهم متقاربة ويقابل بعضها الآخر. لأنّ القبلة في الأصل بمعنى حالة التقابل ، وإِطلاق كلمة القبلة على ما هو معروف اليوم إنّما هو معنىً ثانوي لهذه الكلمة (5).

وأدّى هذا العمل الى تجمع وتمركز بني إِسرائيل بشكل فاعل ، واستطاعوا بذلك وضع المسائل الاجتماعية بعامّة قيد البحث والتحقيق ، وأن يجتمعوا مع بعضهم لأداء المراسم الدينية والشعائر المذهبية ، وأن يرسموا الخطط اللازمة من أجل حريتهم.

3 ـ التوجه إِلى العبادة ، وخاصّة الصلاة التي تحرر الإِنسان من عبودية العباد ، وتربطه بخالق كل القوى والقدرات ، وتغسل قلبه وروحه من لوث الذنوب ، وتحيي فيه الشعور بالإِعتماد على النفس وعلى قدرة الله حيث ستدب وتنبعث روح جديدة في الإِنسان.

4 ـ إنّ هذه المهمّة وجهت الأمر لموسى ـ باعتباره قائداً ـ بأن يطهّر روح بني إِسرائيل من اشكال الخوف والرعب التي كانت من افرازات سنين العبودية والذلة الطويلة. وأن يربي وينمي فيهم الإِرادة والشهامة والشجاعة وذلك عن طريق بشارة المؤمنين بالفتح والنصر النهائي ، ولطف الله ورحمته.

الملفت للنظر أنّ بني إِسرائيل من أولاد يعقوب ، وجماعة منهم من أولاد يوسف طبعاً ، وقد حكم هو و اخوته مصر سنين طويلة ، وسعوا في عمران هذا الوطن ، إلاّ أنّه نتيجة لتركهم طاعة الله والغفلة والخلافات الداخلية وصلوا إِلى مثل هذا الوضع المأساوي. إِنّ هذا المجتمع المسحوق المصاب يجب أن يبنى من جديد ، ويمحو نقاط ضعفه ويستبدلها بالخصال الروحية البناءة ليعيد عظمة الماضي.

ثمّ أشارت إِلى إِحدى علل طغيان فرعون وأزلامه ، فتقول على لسان موسى : (وقال موسى ربّنا إِنّك آتيت فرعون وملاءه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ليضلوا عن سبيلك).

إِنّ اللام في «ليضلوا» لام العاقبة ، أي إِنّ جماعة الأشراف الأثرياء المترفين سيسعون من أجل إِضلال الناس شاؤوا أم أبوا ، وسوف لا تكون عاقبة أمرهم شيئاً غير هذا ، لأنّ دعوة الأنبياء والأطروحات الإِلهية توقظ الناس وتوحدّهم وبذلك لا يبقى مجال لتسلط الظالمين وكيد المعتدين وستضيق الدنيا عليهم ، فلا يجدوا بدّاً من معارضة الانبياء.

ثمّ يطلب موسى(عليه السلام) من الله طلباً فيقول : (ربّنا اطمس على أموالهم).

«الطمس» في اللغة بمعنى المحو وسلب خواص الشيء ، واللطيف في الأمر أن ما ورد في بعض الرّوايات من أنّ أموال الفراعنة قد أصبحت خزفاً وحجراً بعد هذه اللعنة ، (6) ربّما كان كناية عن أنّ التدهور الاقتصادي قد بلغ بهم أن سقطت فيه قيمة ثرواتهم تماماً وأصبحت كالخزف لا قيمة لها!

ثمّ اضافت (وأشدد على قلوبهم) اي : اسلبهم قدرة التفكير والتدبّر أيضاً لأنّهم بفقدانهم هاتين الدعامتين (المال والفكر) سيكونون على حافة الزوال والفناء ، وسينفتح أمامنا طريق الثورة ، وتوجيه الضربة النهائية لهؤلاء.

اللّهم إِن كنتُ قد طلبتُ ذلك منك في حق الفراعنة فليس ذلك نابعاً من روح الإِنتقام والحقد ، بل لأنّ هؤلاء قد فقدوا أرضية الإِيمان أبداً : (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) ومن الطبيعي أنّ الإِيمان بعد مشاهدة العذاب ـ كما سيأتي قريباً ـ لا ينفع هؤلاء أيضاً.

ثمّ خاطب الله سبحانه وتعالى موسى وأخاه بأنّه : الآن وقد أصبحتما مستعدين لتربية وبناء قوم بني إِسرائيل (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما) في سبيل الله ولا تخافا سيل المشاكل ، وكونا حازمين في أعمالكما ولا تستسلما أمام اقتراحات الجاهلين ، بل استمرا في برنامجكما الثوري (ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون).

 الفصل الأخير من المجابهة مع الظّالمين :

 هذه الآيات جسّدت آخر مرحلة من المواجهة بين بني إِسرائيل والفراعنة وبيّنت مصير هؤلاء في عبارات قصيرة ، لكنّها دقيقة وواضحة ـ كما هو دأب القرآن ـ وتركت المطالب الأُخرى تُفهم من الجمل السابقة واللاحقة. فتقول أوّلا : إِنّنا جاوزنا ببني إِسرائيل البحر ـ وهو نهر النيل العظيم أطلق عليه اسم البحر لعظمته ـ أثناء مواجهتهم للفراعنة ، وعندما كانوا تحت ضغط ومطاردة هؤلاء : (وجاوزنا ببني إِسرائيل البحر) إلاّ أنّ فرعون وجنوده طاردوا هؤلاء من أجل القضاء على بني إِسرائيل : (فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً).

«البغي» يعني الظلم ، «والعدو» بمعنى التعدي ، أي إِنّ هؤلاء إِنّما طاردوهم وتعقبوهم لغرض الظلم والتعدي عليهم ، أي على بني إِسرائيل.

جملة «فأتبعهم» توحي بأنّ فرعون وجنوده قد تتبعوا بني إِسرائيل طوعاً ، وتؤيد بعض الرّوايات هذا المعنى ، والبعض الآخر تخالف هذا المعنى ، (7) إلاّ أن ما يفهم ويستفاد من ظاهر الآية هو الحجة على كل حال.

أمّا كيفية عبور بني إِسرائيل للبحر ، وأي إِعجاز وقع في ذلك الحين ، فإِنّ شرح ذلك سيأتي في ذيل الآية (63) من سورة الشعراء ، إِن شاء الله تعالى.

على كل حال ، فإِنّ هذه الأحداث قد استمرت حتى أوشك فرعون على الغرق ، وأصبح كالقشة تتقاذفه الأمواج وتلهو به ، فعن ذاك زالت حجب الغرور والجهل من أمام عينه ، وسطع نور التوحيد الفطري وصدع بالإِيمان : (حتى إِذ أدركه الغرق قال آمنت أنّه لا إِله إلاّ الذي آمنت به بنوا إِسرائيل) فلست مؤمناً بقلبي فقط ، بل إِنّي من المسلمين عملياً : (وأنّا من المسلمين).

ولما تحققت تنبؤات موسى (عليه السلام) الواحدة تلو الأُخرى وأدرك فرعون صدق هذا النّبي الكبير أكثر فأكثر وشاهد قدرته وقوته ، اضطر إِلى إِظهار الإِيمان على أمل أن ينقذه ربّ بني إِسرائيل كما أنجاهم من هذه الأمواج المتلاطمة ولذلك يقول : آمنت أنّه لا إِله إلاّ الذي آمنت به بنو إِسرائيل!

إِلاّ أنّ من البديهي أنّ مثل هذا الإِيمان الذي يتجلّى عند نزول البلاء ونشوب أظفار الموت ، إِيمان اضطراري يتشبث به كل جان ومجرم ومذنب وليست له أية قيمة ، أو يكون دليلا على حسن نيته أو صدق قوله ، ولهذا فإِنّ الله سبحانه خاطبه فقال : (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين).

وقد قرأنا سابقاً في الآية (18) من سورة النساء : (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إِذا حضر أحدهم الموت قال إِنّي تبت الآن) ولهذا فإنّ كثير من الناس ما أن تستقر بهم الحال وينجون من الموت يعودون إِلى أوضاعهم وأعمالهم السابقة. ونظير هذا التعبير الذي ورد أعلاه جاء أيضاً في اشعار وكلمات الأدباء العرب والعجم ، مثل :

أتت وحياض الموت بيني وبينها وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل(8)

لكن (فاليوم ننجّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) آية للحكام المستكبرين ولكل الظالمين والمفسدين ، وآية للفئات المستضعفة.

هناك بحث بين المفسّرين المراد من البدن هنا ، فأكثرهم يرى بأنّ المراد هو جسد فرعون الذي فارقته الروح ، لأنّ عظمة فرعون في أفكار الناس في ذلك المحيط بلغت حدّاً بحيث أنّ الكثير لولا ذلك لم يكن يصدق أن فرعون يمكن أن يغرق ، وكان من الممكن أن تنسج الأساطير والخرافات الكاذبة حول نجاة وحياة فرعون بعد هذه الحادثة ، لذلك ألقى الله سبحانه جسده خارج الماء.

اللطيف هنا ، أنّ البدن في اللغة ـ كما قال الراغب في مفرداته ـ يعني الجسد العظيم ـ وهذا يدلنا على أن فرعون كان عظيم الهيكل ممتلئ الجسم كما هو الحال في الكثير من أهل الترف والرفاه الدنيوي!

إِلاّ أنّ البعض الآخر قالوا : إِنّ أحد معاني البدن هو الدرع ، وهذا إِشارة إِلى أن الله سبحانه قد أخرج فرعون من الماء بدرعه الذهبي الذي كان على بدنه ليعرف عن طريقه ، ولا يبقى أي مجال للشك في أنّه فرعون.

هذه النقطة أيضاً تستحق الإِنتباه ، وهي أنهم استفادوا من جملة «ننجيك» أنّ الله سبحانه قد أمر الأمواج أن تلقي بدنه على مكان مرتفع عن الساحل لأنّ مادة «النجوة» تعني المكان المرتفع والأرض العالية.

والنقطة الأُخرى التي تلاحظ في الآية أنّ جملة : (فاليوم ننجّيك) قد بدأت بفاء التفريع ، ومن الممكن أن يكون ذلك إِشارة إِلى أن إِيمان فرعون الباهت في هذه اللحظة اليائسة وفي ساعة الاحتضار كان كالجسد بدون روح ولذلك أثر بالمقدار الذي أنجى الله جسد فرعون من الماء بعد أن فارقته الروح ، حتى لا يكون طعمة للأسماك وليكون عبره للأجيال القادمة!

ويوجد الآن في متاحف مصر وبريطانيا جثة أو جثتين من جثث الفراعنة التي بقيت محنّطة بالمومياء ، فهل أنّ بدن فرعون المعاصر لموسى من بينها حيث حفظوه فيما بعد بالمومياء ، أم لا؟

لا يمكننا اثبات ذلك ، إلاّ أنّ تعبير (لمن خلفك) يقوي هذا الإِحتمال في أن بدن ذلك الفرعون من بين هذه الأبدان ، ليكون عبرة لكل الأجيال القادمة ، لأنّ تعبير الآية مطلق ويشمل كل الاجيال في المستقبل (فتدبر جيداً).

ويقول في نهاية الآية : إِنّه وبالرغم من كل هذه الآيات والدلالات على قدرة الله ، ومع كل الدروس والعبر التي ملأت تاريخ البشر فإِنّ الكثير معرضون عنها (وإِنّ كثيراً من النّاس عن آياتنا لغافلون).

وتبيّن آخر آية من هذه الآيات النصر النهائي لبني إِسرائيل ، والرجوع إِلى الأرض المقدسة بعد الخلاص من قبضة الفراعنة ، فتقول : (ولقد بوأنا بني إِسرائيل مبوأ صدق).

إِنّ التعبير بـ (مبوأ صدق) يمكن أن يكون إِشارة إِلى أنّ الله سبحانه قد وفى بما وعد به بني إِسرائيل وأرجعهم إِلى الوطن الموعود ، أو أنّ (مبوّأ صدق) إِشارة إِلى طهارة وقدسية هذه الأرض ، وبذلك تناسب أرض الشام وفلسطين التي كانت محط الأنبياء والرسل.

وقد احتمل جماعة أن يكون المراد أرض مصر ، كما يقول القرآن في سورة الدخان / الآية (25) ـ (28) : (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناهما قوماً آخرين). وقد جاء هذا المضمون في الآية (57) ـ (59) من سورة الشعراء ، ونقرأ في آخرها : (وأورثناها بني إِسرائيل).

من هذه الآيات نخرج بأنّ بني إسرائيل قد بقوا فترة في مصر قبل الهجرة إِلى الشام ، وتنعّموا ببركات تلك الأرض المعطاء.

ثمّ يضيف القرآن الكريم : (ورزقناهم من الطيبات) ولا مانع بالطبع من أن تكون أرض مصر هي المقصودة ، وكذلك أراضي الشام وفلسطين. إلاّ أنّ هؤلاء لم يعرفوا قدر هذه النعمة (فما أختلفوا حتى جاءهم العلم) وبعد مشاهدة كل تلك المعجزات التي جاء بها موسى ، وأدلة صدق دعوته ، إلاّ (أن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) وإِذا لم يتذوقوا طعم عقاب الإِختلاف اليوم ، فسيذوقونه غداً.

وقد احتمل ـ أيضاً ـ في تفسير هذه الآية ، أن يكن المراد من الإِختلاف هو الإِختلاف بين بني إِسرائيل واليهود المعاصرين للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في قبول دعوته ، أي إِنّ هؤلاء رغم معرفتهم صدق دعوته حسب بشارات وعلامات كتبهم السماوية ، فإِنّهم اختلفوا ، فآمن بعضهم ، وامتنع القسم الأكبر عن قبول دعوته ، وإِنّ الله سبحانه سيقضي بين هؤلاء يوم القيامة.

إِلاّ أنّ الإِحتمال الأوّل أنسب لظاهر الآية.

كان هذا الحديث عن قسم من ماضي بني إِسرائيل المليء بالعبر ، والذي بُيّن ضمن آيات في هذه السورة ، وما أشبه حال أُولئك بمسلمي اليوم ، فإِنّ الله قد نصر المسلمين بفضله مرّات كثيرة. وقهر أعداءهم الأقوياء بصورة إِعجازية ، ونصر بفضله ورحمته هذه الأمة المستضعفة على أُولئك المتجبرين ، إلاّ أنّهم وللأسف الشديد ، بدل أن يجعلوا هذا النصر وسيلة لنشر دين الإِسلام في جميع أرجاء العالم ، فإِنّهم قد اتّخذوه ذريعة للتفرقة وإِيجاد النفاق والاختلاف بحيث عرّضوا كل انتصاراتهم للخطر! اللّهم نجّنا من كفران النعمة هذا.

_______________________

1- المراد من الآيات هي تلك الآيات المتعددة المشهورة التي كانت لموسى في بداية أمره.

2- الواقع ، أنّ للجملة أعلاه محذوف مقدر يفهم من مجموع الكلام ، وكانت في الأصل هكذا : أتقولون للحق لما جاءكم سحر ، أسحر هذا.

3-  لقد بحثنا مفصلا جزئيات مواجهة موسى لفرعون والفراعنة ، ومسائلها الرائعة في ذيل الآيات (113) وما بعدها من سورة الأعراف من المجلد الخامس ، وبحثنا السحر وحقيقته في المجلد الأوّل ذيل الآية (102) سورة البقرة ، فراجع.

4- تفسير الميزان ، ج10 ، ص112 ؛ وتفسير مجمع البيان ، ذيل الاية مورد البحث .

5- بعض المفسّرين لم يأخذوا القبلة في الآية أعلاه بمعنى المقابل ، بل فسروها بنفس معناها ، اي قبلة الصلاة ، ويعتبرون جملة : (وأقيموا الصلاة) شاهداً على ذلك ، إلاّ أن المعنى الأوّل أنسب لمفهوم الكلمة اللغوي الأصلي ، إِضافة إِلى أن إِرادة كلا المعنيين من هذه الكلمة لا إِشكال فيه أيضاً ، كما مر علينا نظير هذا مراراً.

6- تفسير مجمع البيان ، ذيل الاية مورد البحث ؛ وبحار الانوار ، ج13 ، ص115 .

7- بحار الانوار ، ج13  ، ص 110 و117 و123 و134 و140 .

8- تاريخ مدينة دمشق ، لأبن عساكر ، ج9 ، ص 253 .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .