المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تربية الماشية في جمهورية مصر العربية
2024-11-06
The structure of the tone-unit
2024-11-06
IIntonation The tone-unit
2024-11-06
Tones on other words
2024-11-06
Level _yes_ no
2024-11-06
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05



رسائل للسان الدين  
  
1521   01:51 صباحاً   التاريخ: 23-8-2022
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني
الكتاب أو المصدر : نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرّطيب
الجزء والصفحة : مج1، ص:505-519
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الاندلسي /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-3-2022 2543
التاريخ: 23-8-2022 1522
التاريخ: 18-1-2023 1273
التاريخ: 2024-01-07 626

رسائل للسان الدين

وقد ألم لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى بذكر قرطبة وبعض أوصافها في كتاب له كتبه على لسان سلطانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرناه بجملته في الباب الخامس من القسم الثاني فليراجع ثمة، ونص محل الحاجة منه هنا: ثم كان الغزو إلى أم البلاد، ومثوى الطارف والتلاد، قرطبة، وما قرطبة؟ المدينة التي على عمل أهلها في القديم بهذا الإقليم كان العمل، والكرسي الذي بعصاه رعي الهمل، والمصر الذي له في خطة المعمور الناقة والجمل (1) ، والأفق الذي هو لشمس الخلافة العبشمية الحمل، فخيم الإسلام

(505)

في عقوتها (2) المستباحة، وأجاز نهرها المعيي على (3) السباحة، وعم دوحها الأشب بوارا، وأدار المحلات بسورها سوارا، وأخذ بمخنقها حصارا، وأعمل النصر بشجرة أصلها اجتناء ما شاء واهتصارا، وجدل من أبطالها من لم يرض جهارا، ورفعت الأعلام إعلاما بعز الإسلام وإظهارا، فلولا استهلال الغوادي، وأن أتى الوادي، لأفضت إلى فتح الفتوح تلك المبادي، ولقضى تفثه العاكف البادي. انتهى.

ومما كتب به لسان الدين - رحمه الله تعالى - في وصف هذه الغزوة لسلطان بني مرين على لسان صاحب الأندلس، ما صورته: المقام الذي نطالعه بأخبار الجهاد، ونهدي إليه عوالي العوالي صحيحة الإسناد، ونبشره بأخبار الفتح البعيد الآماد، ونسأل الله تعالى له توالي الإسعاف ودوام الإسعاد والإمداد (4) ، ونرتقب من صنع الله تعالى على يديه تكييفا يخرق حجاب المعتاد، وامتعاضا يطلع بآفاق البلاد نجوم غرر الجياد، ويفتح أبوا بالفتوح بأقاليد السيوف الحداد، وينبئ عن مكارم من سلف من الآباء الكرام والأجداد، مقام محل أخينا الذي نستفتح له بالفتح والظهور، ونهدي إلى مجده لما نعلم من فضل نيته وحسن قصده لطائف السرور، ونستظهر بملكه المؤيد (5) المؤمل ومجده المشهور، ونتوعد منهما العدو بالحبيب المذخور والولي المنصور، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى عالي القدر، قرير العين منشرح الصدر، ولا زال حديث فخره سائرا مسير الشمس والبدر، عظم سلطانه الخليق بالتعظيم، الواثق منه بالذخر الكريم، المثني على

 (506)

مجده الصميم وفضله العميم، أمير المسلمين عبد الله الغني بالله محمد ابن أمير المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر: سلام كريم، بر عميم، يخص مقامكم الأعلى، وأخوتكم الفضلى، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله رب العباد، وملهم الرشاد، ومكيف الإسعاف والإسعاد، الولي النصير الذي نلقي إلى التوكل عليه مقاليد الاعتماد، ونمد إلى إنجاده (6) أيدي الاعتداد، ونرفع إليه أكف الاستمداد، ونلخص لوجهه الكريم عمل الجهاد، فنتعرف عوارف الفضل المزداد، ونجتني ثمار النصر من أغصان القنا المياد، ونجتلي وجوه الصنع الوسيم أبهر من وجه الصباح الباد، ونظفر بالنعيم العاجل في الدنيا والنعيم الآجل يوم قيام الأشهاد، ونتفيأ ظلال الجنة من تحت أوراق السيوف الحداد، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله النبي الهاد، رسول الملحمة المؤيد (7) بالملائكة الشداد، ونبي الرحمة الهامية العهاد، أكرم الخلق بين الرائح والغائد، ذي اللواء المعقود والحوض المورود والشفاعة في يوم التناد، الذي بجاهه نجدع أنوف الآساد يوم الجلاد، وببكرته ننال أقصى الأمل والمراد، وفي مرضاته نصل أسباب الوداد، فنعود بالتجر الرابح من مرضاة رب العباد،ونستولي من ميدان السعادة المعادة على الآماد، والرضى عن آله وصحبه وأنصاره وحزبه الكرماء الأمجاد، دعائم الدين من بعده وهداة العباد، أنجاد الأنجاد وآساد الآساد، الذين ظاهروه في حياته بالحلوم الراجحة الأطواد، والبسالة التي لا تنال بالعدد في سبيل الله والأعداد، حتى بوأوا الإسلام في القواعد الشهيرة والبلاد، وأرغموا أنوف أهل الجحد والإلحاد، فأصبح الدين رفيع العماد، منصور العساكر والأجناد، مستصحب العز في الإصدار والإيراد، والدعاء لمقامكم الأعلى بالسعد الذي يغني عن اختيار الطوالع وتقويم الميلاد، والنصر الذي تشرق أنباؤه في

 (507)

جنح ليل المداد، والصنع الذي شرع له أبواب التوفيق والسداد، من حمراء غرناطة حرسها الله واليسر وثيق المهاد (8) ، والخير واضح الأشهاد، والحمد لله في المبدإ والمعاد، والشكر له على آلائه المتصلة الترداد، ومقامكم الذخر الكافي العتاد، والمردد المتكفل بالإنجاد، وإلى هذا وصل الله سعدكم، وحرس مجدكم، ووالى نصركم وعضدكم (9) وبلغكم من فضله العمين أملكم وقصدكم، فإننا نؤثر تعريفكم بتافه المتزايدات (10) ، ونورد عليكم أشتات (11) الأحوال المتجددات، إقامة لرسم الخلوص في التعريف بما قل، ومودة خالصة في الله، عز وجل، فكيف إذا كان التعريف بما تهتز منابر الإسلام ارتياحا لوروده، وتنشرح الصدور منه لمواقع فضل الله وجوده، والمكيفات البديعة الصفات في وجوده، وهو أننا قدمنا إعلامكم بما نويناه من غزو مدينة قرطبة أم البلاد الكافرة، ومقر الحمية المشهودة (12) والخيرات الوافرة، والقطر الذي عهده بإلمام الإسلام متقادم، والركن الذي لا يتوقع صدمة صادم، وقد اشتمل سورها من زعماء ملة الصليب على كل رئيس بئيس (13) ، وهزبر ootnote>7 ، وذي مكر وتلبيس، ومن له سمة تذيع مكانه وتشيعه، وأباع على المنشط والمكره تطيعه، فاستدعينا المسلمين من أقاصي البلاد، وأذعنا في الجهات نفير الجهاد، وتقدمنا إلى الناس بسعة الأزواد، وأعطينا الحركة التي تخلف المسلمون فيها وراءهم جمهور الكفر من الأقطار والأعداد حقها من الاستعداد، وأفضنا (14) العطاء والاستلحاق والاستركاب في أهل الغناء

 (508)

وأبطال الجلاد، فحشر الخلق في صعيد، وأخذوا الأهبة والزينة في عيد سعيد، وشمل الاستدعاء كل قريب وبعيد عن وعد ووعيد، ورحلنا وفضل الله شامل، والتوكل عليه كاف كافل، وخيمنا بظاهر الحضرة حتى استوفى الناس آرابهم، واستكملوا أسرابهم،ودسنا منهم بلاد النصارى بجموع كثرها الله وله الحمد وأنماها، وأبعد في التماس ما عنده من الأجر منتماها، وعندما حللنا قاشرة (15) وجدنا السلطان دون بطره مؤمل نصرنا وإنجادنا، ومستعيد حظه من لواحق (16) جهادنا، ومقتضي دين كدحه بإعانتنا إياه وإنجادنا، قد نزل بظاهرها في محلات ممن استقر على دعوته، وتمسك بطاعته، وشمله حكم جماعته، فكان لقاؤنا إيه على حال أقرت عيون المسلمين، وتكفلت بإعزاز الدين، ومجملها يغني عن التعيين، والشرح والتبيين، ورأى هو ومن معه من وفور جيش الله ما هالهم، وأوشك في حال اليقظة خيالهم، من جموع تسد الفضا، وأبطال تقارع أسود الغضا، وكتائب منصورة، ورايات منشورة، وأمم محشورة، تفضل عن مرأى العين، وترجي العدو في مهاوي الحين، فاعترفوا بما لم يكن في حسابهم، واعتبر في عزة الله سبحانه أولو ألبابهم، وإذا كثر الله تعالى العدد نما وزكا، وإذا أزاح العلل ما اعتذر غاز ولا شكا، وسالت من الغد الأباطح بالأعراف، وسمت الهوادي إلى الاستشراف، وأخذ الترتيب حقه من المواسط الجهادية والأطراف، وأحكمت التعبية التي لا ترى العين فيها خللا، ولا يجد الاعتبار (17) عندها دخلا، وكان النزول على فرسخ من عدوة النهر الأعظم من خارج المدينة أنجز الله تعالى وعد دمارها، وأعادها إلى عهدها في الإسلام وشعارها، ومحا ظلام الكفر من آفاقها بملة الإسلام وأنوارها، وقد برزت من حاميتها شوكة سابغة الدروع، وافرة الجموع، واستجنت

 (509)

من أسوار القنطرة العظمى بحمى لا يخفر، وأخذ أعقابها من الحماة والكماة العدد الأوفر، فبادر إليهم سرعان خيل المسلمين فصدقوهم الدفاع والقراع، والمصال والمصاع، وخالطوهم هبرا بالسيوف، ومباكرة بالحتوف، فتركوهم حصيدا، وأذاقوهم وبالا شديدا، وجدلوا منهم جملة وافرة، وأمة كافرة، وملكوا بعض تلك الأسوار فارتفعت بها راياتهم الخافقة، وظهرت عليها عزماتهم الصادقة، واقتحم المسلمون الوادي سبحا (18) في غمره، واستهانة في سبيل الله بأمره، وخالطوا حامية العدو في ضفته فاقتلعوها، وتلقوا بأوائل الأسوار ففرعوها، فلو كنا في ذلك اليوم على عزم من القتال، وتيسير الآلات وترتيب الرجال، لدخل البلد، وملك الأهل والولد، لكن أجار الكفار من الليل كافر، وقد هلك منهم عدد وافر، ورجع المسلمون إلى محلاتهم ونصر الله سافر، والعزم ظافر، ومن الغد خضنا البحر الذي جعلنا العزم فيه سفينا، والتوكل على الله للبلاغ ضمينا، ونزلنا من ضفته القصوى (19) منزلا عزيزا مكينا، بحيث يجاور سورها طنب القباب، وتصيب دورها من بين المخيمات (20) بوارق النشاب، وبرزت حاميتها على متعددات الأبواب، مقيمة أسواق الطعان والضراب، فآبت بصفقة الخسر والتباب، ولما شرعنا في قتالها، ورتبنا أشتات النكايات لنكالها، وإن كنا لم نبق على مطاولة نزالها، أنزل الله المطر الذي قدم بعهاده العهد، وساوى النجد من طوفانه الوهد، وعظم به الجهد، ووقع الإبقاء على السلاح، والكف بالضرورة عن الكفاح، وبلغ المقام عليها، والأخذ بمخنقها والثواء لديها، خمسة أيام لم تخل فيها من اقتراع،ولا الأبواب من دفاع عليها وقراع، وأنفذت مقاتل الستائر أنقابا، وارتقب الفتح الموعود ارتقابا، وفشت في

 (510)

أهلها الجراح والعيث والصراح، وساءهم المساء بعزة الله والصباح (21) ، ولولا عائق المطر لكان الإجهاز والاستفتاح، والله بعدها الفتاح، وصرفت الوجوه إلى تخريب العمران، وتسليط النيران، وعقر الأشجار، وتعفية الآثار، وأتى منها العفاء على المصر الشهير في الأمصار، وتركت زروعها المائحة عبرة لأولي الأبصار (22) ، ورحلنا عنها وقد ألبسها الدخان حدادا، ونكس من طغاتها أجيادا، فاعتادت الذل اعتيادا، والفت الهون قيادا، وكادت أن تستباح عنوة لولا أن الله تعالى جعل لها ميعادا، وأتى القتل من أبطالها، ومشاهير رجالها، ممن يبارز ويناطح، ويماسي بالناس ويصابح، على عدد جم أخبرت سيماهم المشهورة بأسمائهم، ونبهت علاماتها على نبهائهم، وظهر إقدام المسلمين في المعتركات (23) ، وبروزهم (24) بالحدود المشتركات، وتنفيلهم الأسلاب، وقودهم الخيل المسومة قود الغلاب، وكان القفول، وقد شمل الأمن والقبول، وحصل الجهاد المقبول، وراع الكفر العز الذي يهول، والإقدام الذي شهدت به الرماح والخيول، وخاض المسلمون من زرع الطرق التي ركبوها، والمنازل التي استباحوها وانتهبوها، بحورا بعد منها الساحل، وفلاحة مدركة تتعدد فيها المراحل، فصيروها صريما، وسلطوا عليها النار غريما، وحلوا بظاهر حصن أندوجر (25) وقد أصبح مألف أذمار غير أوشاب، ووكر طيور (26) نشاب، فلما بلونا مراسه صعبا، وأبراجه ملئت حرسا شديدا وشهبا، ضننا بالنفوس أن تفيض دون افتتاحه، فسلطنا العفاء على

 (511)

ساحه، وأغرينا الغارات باستيعاب ما بأحوازه واكتساحه، وسلطنا النار على حزونه وبطاحه، وألصقنا بالرغام ذوائب أدواحه، وانصرفنا بفضل الله والمناجل دامية، والأجور نامية، وقد وطئنا المواطئ التي كانت على الملوك قبلنا بسلا، ولم نترك بها حرثا يرفد ولا نسلا، ولا ضرعا يرسل رسلا، والحمد لله الذي يتمم النعيم بحمده، ونسأله صلة النصر (27) فما النصر إلا من عنده؛ عرفناكم بهذه الكيفيات (28) ، الكريمة الصفات، والصنائع الروائع التي بعد العهد بمثلها في هذه الأوقات، علما بأنها لديكم من أحسن الهديات الوديات ولما نعلمه لديكم من حسن النيات وكرم الطويات، فإنكم سلالة الجهاد المقبول، والرفد المبذول، ووعد النصر المفعول، ونرجو الله، عز وجل، أن ينتقل خيالكم للمعاهد الجهادية، إلى المعاينة في نصر الملة المحمدية، وأن يجمع الله بكم كلمة الإسلام، على عبد الأصنام، ويتم النعمة على الأنام، وودنا لكم ؟ ما علمتم ؟ يزيد على ممر الأيام، والله يجعله في ذاته لكم متصل الدوام، مبلغا إلى دار السلام، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، ويضاعف الآلاء عندكم، والسلام الكريم يخصكم (29) ورحمة الله وبركاته، انتهى.

ومن هذا المنحى ما كتب به لسان الدين رحمه الله تعالى عن سلطانه، ونصه: المقام الذي أحاديث سعادته لا تمل على الإعادة والتكرار، وسبيل مجادته الشهيرة أوضح من شمس الظهيرة عند الاستظهار، وأخبار صنائع الله لملكه، ونظم فرائد الآمال في سلكه، تخلدها أقلام الأقدار، بمداد الليل في قرطاس النهار، وترسمها بتذهيب الإسفار في صفحات (30) الأقمار، وتجعلها هجيرى حملاء الأسفار، وحداة القطار في مسالك الأقطار، مقام

 (512)

محل أخينا الذي نلذ عادة هنائه مع الإعادة، ونتلقى أنباء علائه بالإذاعة والإشادة، ونطرز بأعلام ثنائه صحائف المجادة، ونشكر الله أن وهب لنا من أخوته المضافة إلى المحبة والودادة، ما يرجح في ميزان الاعتبار أخوة الولادة، وعرفنا بيمن ولايته عوارف السعادة، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى في أعلام الملك السعيد، بيت القصيد، ووسطى القلادة، ومجلى الكمال الذي تبارى بميدان بأسه وجوده جنسا الإبادة والإفادة، ولا زالت آماله أقاصية تنثال طوع (31) الإرادة، ويمن نقيبته يجمع من أشتات الفتوح والعز الممنوح بين الحسنى وزيادة (32) ، معظم سلطانه العالي، المثني على مجده المرفوع إسناده في عوالي المعالي، المسرور بما ينسيه الله له من الصنع المتوالي، والفتح المقدم والتالي، أمير المسلمين عبد الله الغني بالله محمد ابن أمير المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد بن فرج بن نصر، أيد الله بأمره، وأسعد عصره (33) : سلام كريم يتأرج في الآفاق شذا طيبه، وتسمع في ذروة الود بلاغة خطيبه، ويتضمن نوره سواد المداد، عند مراسلة الوداد، فيكاد يذهب بعبوسه المجهول وتقطيبه، ورحمة الله وبركاته، أما بعد حمد الله فاتح الأبواب بمقاليد الأسباب، مهما استصعبت، وميسر الأمور محكم المقدور إذا أجهدت الحيل وأتعبت، مخمد نيران الفتن ما التهبت، وجامع كلمة الإسلام وقد تصدعت وتشعبت، ومسكن رجفان (34) الأرض بعدما اضطربت، ومحييها بعهاد الرحمة مهما اهتزت وربت، اللطيف الخبير الذي قدرت حكمته الأمور ورتبت، منهي كل نفس إلى ما خطت الأقلام عيها وكتبت، ونفت وأوجبت وشاءت وأبت، ومجازيها يوم العرض

 (513)

بما كسبت (35) ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله هازم الأحزاب لما تألفت وتألبت، وجالب الحتف إليها عندما أجلبت، رسول الملحمة إذا الليوث وثبت، ونبي الرحمة التي هيأت النجاة وسببت، وأبلغت النفوس المطمئنة من السعادة ما طلبت، ومداوي القلوب المريضة وقد انتكبت وانقلبت، بلطائفه التي راضت وهذبت، وقادت إلى الجنة العليا واستجلبت، وأدت عن الله وأدبت، الذي بجاهه نستكشف الغماء إذا طنبت (36) ، ونستوكف النعماء، إذا أخلفت البروق وكذبت، ونتحاب في طاعته ابتغاء الوسيلة إلى شفاعته فنقول وجبت حسبما ثبت (37) ، والرضى عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه التي استحقت المزية المرضية واستوجبت، لما انتمت إلى كماله وانتسبت، وببذل نفوسها في الله ومرضاته تقربت، وغلى نصرته في حياته انتدبت، والمناصل قد رويت من دماء الأعداء واختضبت (38) ، وخلفته في أمته بعد مماته بالهمم التي عن صدق اليقين أعربت، فتداعت لمجاهدة (39) الكفار وانتدبت، وأبعدت المغار وأدربت، حتى بلغ ملك أمته أقاصي البلاد التي نبت، فكسرت الصلب التي نصبت، ونفلت (40) التيجان التي عصبت، ما همت السحب وانسحبت، وطلعت الشمس وغربت، والدعاء لمثابتكم العليا بالنصر العزيز كلما جهزت الكتائب وتكتبت، والفتح المبين كلما ركنت عقائل القواعد إذا خطبت، والصنائع التي مهما حدقت فيه العيون تعجبت، أو جالت في لطائفها الأفكار استطابت مذاق الشكر واستعذبت، حتى تنجز لكم مواعيد النصر فقد اقتربت، فإنا كتبنا إليكم كتب الله لكم أغيا ما سألت الألسن السائلة واستوعبت، من

 (514)

حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وجنود الله بفضل الله تعالى ونعمته قد غلبت، وفتحت وسلبت، وأسود جهاده قد أردت الأعداء بعدما كلبت، ومراعي الآمال قد أخصبت، والحمد لله حمدا يجلو وجوه الرضى بعدما احتجبت، ويفتح أبواب المزيد فكلما استقبلها الأمل رحبت، والشكر لله شكرا يقيد شوارد النعم مما أبقت وما هربت، وإلى هذا - وصل الله لمقامكم أسباب الظهور والاعتلاء، وعرفكم عوارف الآلاء على الولاء - فإننا لما ورد علينا كتابكم البر الوفادة، الجم الإفادة، الجامع بين الحسنى والزيادة، جالي غرة الفتح الأعظم من ثنايا السعادة، وواهب المنن المتاحة وواصفالنعم العادة، فوقفنا (41) من رقه المنشور على تحف سنية، وأماني هنية، وقطاف للنصر جنية، ضمنت سكون البلاد وقرارها، وأن الله قد أذهب الفتن وأوارها وأخمد نارها، ونضح عن وجه الإسلام عارها، وجمع الأهواء على من هويته السعادة بعد أن أجهد اختيارها، فأصبح الشتيت مجتمعا، وجنح الجناح مرتفعا، والجبل المخالف خاشعا متصدعا، وأصحب (42) في القياد من كان متمنعا (43) ، فاستوثقت الطاعة، وتبجحت السنة والجماعة، وارتفعت الشناعة، وتمسكت البلاد المكرهة بأذيال وليها لما رأته، وعادت الأجياد العاطلة إلى حليها بعدما أنكرته، أجلنا جياد الأقلام في ملعب الهناء وميدانه، لأول أوقات إمكانه على بعد مكانه، وأجهدنا عبارة الكلام في إجلال هذا الصنع وتعظيم شأنه، وأغرينا الثناء بشيم مجدكم في شرحه لها وبيانه، رأينا أن لا نكل ذلك إلى اليراع، ونفرده فيه بالاجتماع، وما يتعاطاه من منة الذراع، وأن نشد بردء من المشافهة أزره، ونعضد بمعين من اللسان أمره، فعينا لذلك من يفسر منه المجمل، ويمهد المقصد المعمل، حتى يجمع بين أغراض البر، والعلن منه

 (515)

والسر، ويقيم شتى الأدلة على الوداد المستقر، ووجهنا في غرض الرسالة به إليكم، واخترنا لشرحه بين يديكم، خطيب الوفود، وبركة المشايخ في هذا المقام المحمود، الشيخ الجليل الشهير الكبير الصالح الفاضل أبا البركات ابن الحاج (44) - وصل الله حفظه؛ وأجزل من الحمد واللطف حظه؛ - وهو البطل الذي لا يعلم الإجالة في الميدان، ولا يبصر بوظائف ذلك الشان، ومرادنا منه أن يطيل ويطيب، ويجيل في وصف محاسنكم اللسان الرطيب، ويقرر ما عندنا لمقامكم من التشيع الذي قام على الحب المتوارث أساسه، واطرد حكمه وأنتج قياسه، وليجعل تلو مقصد الهناء، بمجلسكم الباهر السناء، الصارف إلى الجهاد إلى سبيل الله والفناء، وجه التهمم والاعتناء، على مر الآناء، ما تجدد لدينا من الأنباء في جهاد الأعداء، وإن كان رسولكم - أعزه الله تعالى - قد شارك في السرى والسير ويمن الطير، وأغنى في الحكاية عن الغير، فلا سرف في الخير، وهو أننا لما انصرفنا من منازلة قرطبة نظرا للحشود التي نفدت معدا أزوادها،وشابت بهشيم الغلة المستغلة (45) مفارق بلادها، وإشفاقا لفساد أقواتها، بفوات أوقاتها، رحلنا عنها وقد انطوينا من إعفاء أكثر (46) تلك الزروع، المائلة الفروع، الهائلة الروع، على هم ممض، وأسف للمضاجع مقض (47) ، إذ كان عاذل المطر يكف ألسنة النار عن المبالغة في التهابها،وحلاق إهابها، ونفض أغوارها، ونهب شوارها، وإذاعة أسرارها، وهي البحور المتلاطمة، إذا حطمتها الرياح الحاطمة، واللجج الزاخرة، إذا حركتها

 (516)

السوافي الماخرة، تود العيون أن تتحدى حدودها القاصية فلا تطيق، والركائب الراكضة أن تشرف على غايتها فيفضل عن مراحلها الطريق، قد جللها الربيع أرزاقا تغص به الخزائن والأطباق، وحبوبا مفضلة لا يرزؤها الإنفاد والإنفاق، ولو اعتصبت (48) على انتسافها الآفاق، فخففنا في سبيل الله لتعقيب غزو تلك الأقطار المخالفة، بمحق الصائفة، وإحانة (49) تلك الطائفة، بكلوم المجاعة الجائفة (50) ، خفوفا لم نقنع فيه بالاستنابة، حرصا على استئصال الصبابة، وأعفينا الرحل من اتصال الكد، وقابلنا قبولهم على استصحابنا فيها بالرد، وأطللنا على قرطبة بمحلاتنا ننسف جبال النعم (51) نسفا، ونعم الأرض زلزالا وخسفا، ونستقري مواقع البذر إحراقا (52) ، ونخترق أجوابها المختلفة بحب الحصيد اختراقا،ونسلط عليها من شرر النار أمثال (53) الجمالات الصفر مدت من الشواظ أعناقا، ونوسع القرى الواسعة قتلا واسترقاقا، وندير على مستديرها أكواس الحتوف دهاقا، وأخذت النيران واديها الأعظم من كلا جانبيه حتى كأن القيون (54) أحمت سبيكته فاستحالت، وأذابت صفيحته فسالت، وأتت الكفار سماؤهم بالدخان المبين، وصارت الشمس من بعد سفورها وعموم نورها منقبة المحيا معصبة الجبين، وخضنا أحشاء الفرنتيرة (55) نعم أشتات النعم انتسافا، وأقوات أهلها إتلافا، وآمال سكانها إخلافا، وقد بهتوا لسرعة الرجوع، ودهشوا

 (517)

لوقوع الجوع، وتسبيب تخريب الربوع، فمن المنكر البعيد، أن يتأتى بعد عمرانها المعهود، وقد اصطلم الزرع واجتث العود، وصار إلى العدم منها الوجود، ورأوا من عزائم (56) الإسلام خوارق تشذ عن نطاق العوائد، وعجائب تستريب فيها عين المشاهد، إذ اشتمل هذا العام، المتعرف فيه من الله تعالى الإنعام، على غزوات أربع دمرت فيها القواعد الشهيرة تدميرا، وعلا فوق مراقيها الأذان عزيزا جهيرا، وضويقت كراسي الملك تضييقا كبيرا، وأذيقت وبالا مبيرا، ورياح الإدالة إن شاء الله تعالى تستأنف هبوبا، وبأسا مشبوبا، والثقة بالله قد ملأت نفوسا مؤمنة وقلوبا، والله سبحانه المسؤول أن يوزع شكر هذه النعمة التي أثقل الأكتاد، وأبهظت الطوق المعتاد، وأبهجت المسيم (57) والمرتاد، فبالشكر يستدر مزيدها (58) ، ويتوالى تجديدها، وقطعنا في بحبوحة تلك العمالة المستبحرة العمارة، والفلج المغني وصفها عن الشرح والعبارة، مراحل ختمنا بالتعريج على حزب (59) جيان حربها، ففللنا ثانية غربها، وحثثنا في أنجادها وأغوارها ركائب الاستيلاء، فم نترك بها ملقط طير، فضلا عن معاف عير، ولا اسأرنا لفلها المحروب بلالة خير، وقفلنا وقد تركنا بلاد النصارى التي منها لكيادنا المدد، والعدة والعدد، وفيها الخصام واللدد، قد لبست الحداد حريقا، وسلكت إلى الخلاء والجلاء طريقا، ولم نترك بها مضغة تخالط ريقا، ولا نعمة تصون من الفراق فريقا، وما كانت تلك النعم لولا أن أعان الله تعالى من عنصري النار والهواء بجنود كونه الواسع، ومدركه البعيد الشاسع، لتتولى الأيدي البشرية تغريبها ولا ترزأ كثيرها، ولا

 (518)

لتمتاح بالاغتراف غديرها، بل لله القدرة جميعا، فقدرته لا تتحامى ريعا، ولا حمى مريعا منيعا، وعدنا والعود في مثلها أحمد، وقد بعد في شفاء النفوس الأمد،ونسخ بالسرور الكمد، ورفعت من عز الإسلام العمد، والحمد لله حمد الشاكرين، ومنه نلتمس عادة النصر على أعدائه فهو خير الناصرين، عرفناكم به ليسر دينكم المتين، ومجدكم الذي راق منه الجبين، والله يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، ويبلغكم أملكم من فضله، وقصدكم بمنه وطوله، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله تعالى وبركاته، انتهى. رجع إلى ما كنا بسبيله من أخبار قرطبة الجليلة الوصف، وذكر جامعها البديع الإتقان والرصف، فنقول:

رجع إلى ما كنا بسبيله من أخبار قرطبة الجليلة الوصف، وذكر جامعها البديع الإتقان والرصف، فنقول:

قد شاع وذاع على ألسنة الجم الغفير من الناس في هذه البلاد المشرقية وغيره أن جامع قرطبة ثلاثمائة ونحو ستين طاقا، على عدد أيام السنة، وأن الشمس تدخل كل يوم من طاق، إلى أن يتم الدور ثم تعود، وهذا شيء لم أقف عليه في كلام المؤرخين من أهل المغرب والأندلس، ولو كان كما شاع لذكروه وتعرضوا له، لأنه من أجب ما يسطر، مع أنهم ذكروا ما هو دونه، فالله أعلم بحقيقة الحال في ذلك (60) ، وستأتي في الباب السابع رسالة الشقندي الطويلة وفيها من محاسن قرطبة وسائر بلاد الأندلس الطم والرم، وقد ذكرنا في الباب الأول جملة من محاسن قرطبة، فأغنىذلك عن إعادتها هنا، على أن رسالة الشقندي تكرر فيها بعض ما ذكرناه، لأنا لم نرد أن نخل منها بحرف، فأتينا بها بلفظها، وإن تكرر بعض ما فيها مع بعض ما أسلفناه، والعذر واضح للمنصف المغضي، والله نسأل سلوك السبيل الذي يرضي، بمنه وكرمه.

 (519)

وقال صاحب نشق الأزهار: إن في جامع قرطبة تنورا من نحاس أصفر يحمل ألف مصباح، وفيه أشياء غريبة، من الصنائع العجيبة، يعجز عن وصفها الواصفون، قيل: أحكم عمله في سبع سنين، وفيه ثلاثة أعمدة من رخام أحمر، مكتوب على الواحد اسم محمد، وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف، وعلى الثالث (61) صورة غراب نوح عليه الصلاة والسلام، الثلاثة خلقها الله تعالى ولم يصنعها صانع، انتهى.

قلت: لم أر أحدا من محققي المؤرخين للأندلس وثقاتهم ذكر هذا، على قلة اطلاعي، وهو عندي بعيد، لأنه لو كان لذكره الأئمة.

وقد حكى القاضي (62) عياض في الشفاء أشياء وجد عليها اسم نبينا صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر هذا، ويستبعد أن يكون بجامع قرطبة ولا يذكره، والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر.

وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: من دور قرطبة أربعة عشر ميلا، وعرضها ميلان، وهي على النهر الكبير وعليه جسران، وبها الجامع الكبير الإسلامي، وبها الكنيسة المعظمة بين النصارى، وبهذه المدينة معدن الفضة ومعدن الشاذنج (63) ، وهو حجر من شأنه أن يقطع الدم؛ وكان يجلب منها البغال التي تباع كل واحدة منها بخمسمائة دينار من حسنها وعلوها الزائد، انتهى.

 

__________

 (1) ك: والمصر والمعمور الذي... الخ.

(2) ك: في عفرتها؛ ق ط: بعقرتها، والعقوة - بالواو - : الساحة.

(3) ك: المغني عن.

(4) ك: توالي الأسعار والأمداد؛ وسقطت " الأمداد " من ط ج.

(5) المؤيد: زيادة في ك.

(6) ك: انجاده وامداده.

(7) ط: المؤيدة.

(8) ك: قد وطأ المهاد.

(9) زاد في ك: وعددكم وعددكم.

(10) ق: المستزيدات.

(11) ق: بعد الشتات.

(12) ق: الشهيرة.

(13) بئيس: سقطت من ق.

(14) ك: وأقصينا.

(15) قاشرة: ذكر ياقوت أنها من أحواز لبلة؛ وفي اللمحة البدرية: قشرة؛ وفي ق ج: ناشرة.

(16) ك: مواقع.

(17) ق ط ج ودوزي: الاختيار، وصوابها " الاختيار " .

(18) في الأصول: سيما.

(19) ك: من ضفة القوي العزيز؛ ج ق ط: ضفة القوي.

(20) ك: الخيمات.

(21) وفشت... والصباح: سقطت العبارة من ق.

(22) ك ط: عبرة للأبصار.

(23) ق: على المعتركات.

(24) ق ط ودوزي: وبذرهم؛ ج: وندرهم.

(25) أندوجر (Andujar) (أندوشر عند ياقوت) حصن قريب من قرطبة إلى شمال شرقيها على نهر الوادي الكبير. وفي ك: أندجر.

(26) ك: طير؛ ج: طور.

(27) ك: حلة النصر.

(28) ق ط ودوزي: المكيفات.

(29) ك: يصحبكم.

(30) ق: صحائف.

(31) ق: طول.

(32) ك ط ح: والزيادة.

(33) ك: نصره.

(34) ق: رجفات.

(35) ق: مما اكتسبت.

(36) ك ط: أطنبت.

(37) ق: ثبتت.

(38) ك: وأخصبت، وفي الهامش: نسخة " واختضبت " . ط: وأخضبت.

(39) ق: لجهاد.

(40) ك: ونعلت؛ ج ط: ونقلت.

(41) ك: فأوقفنا؛ ق: فوافقنا.

(42) ق: وأوضحت؛ ط ج: وأضحت.

(43) ق ط: مستمنعا؛ دوزي: ممتنعا.

(44) أبو البركات ابن الحاج: محمد بن محمد بن إبراهيم ابن الحاج البلقيقي السلمي (توفي 773 أو 771) أحد شيوخ لسان الدين؛ سيترجم له المقري وانظر الكتيبة الكامنة: 127 والإحاطة 2: 101 والمرقبة العليا: 164 والديباج 164 والتعريف بابن خلدون: 61 وغاية النهاية 2: 235.

(45) ق: المستقبلة.

(46) أكثر: سقطت من ق.

(47) ق ك: مغض.

(48) هذه اللقطة مصحفة في الأصول، فهي: اعتصت في ج؛ وفي ق ك ط: اعتضت.

(49) ق ك ج: وإعانة؛ وفي ط: لمحق الضائقة.

(50) ق ك ط ج ودوزي: المجاع الخائفة.

(51) في ك: الجبال؛ وفي ق: جليل النعم؛ ج: جبائل النعم.

(52) ك: احتراقا.

(53) ط: أثقال.

(54) ق ك: العيون.

(55) تصحفت هذه الكلمة على عدة وجوه؛ فهي الغرنيرة في ق والغريرة ف ك... والفرنيرة في ط ج والصواب الفرنتيرة (La Frontera).

(56) ق: غرائب.

(57) ك: المثيم.

(58) ك ق ط ج: فريدها.

(59) ق: خرب؛ ك: حرب.

(60) في ذلك: سقطت من ق.

(61) ط: وعلى الأرض؛ ق ج: وعلى الآخر.

(62) القاضي: سقطت من ك ط ج.

(63) الشاذنج والشاذلة: يسمونه حجر الدم، ويستعمل لدمل القروح، وتعمل منه شيافات لأمراض العين.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.