المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4870 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05
مـعاييـر تحـسيـن الإنـتاجـيـة
2024-11-05
نـسـب الإنـتاجـيـة والغـرض مـنها
2024-11-05
المـقيـاس الكـلـي للإنتاجـيـة
2024-11-05
الإدارة بـمؤشـرات الإنـتاجـيـة (مـبادئ الإنـتـاجـيـة)
2024-11-05
زكاة الفطرة
2024-11-05

Nonconservative forces
2024-02-15
قنوات الاتصال غير الرسمية
28-4-2016
رفض الامام الحسين لبيعة يزيد
12-8-2017
العوامل التي تتدخل في تكوين التربة - الكائنات الحية
20-9-2019
مفهوم المحاكاة عند إبن رشد
14-08-2015
بارلوبتير
14-8-2016


استدلال بعض المشاهير على عموم القدرة  
  
951   04:40 مساءاً   التاريخ: 5-08-2015
المؤلف : مهدي النراقي
الكتاب أو المصدر : جامع الأفكار وناقد الأنظار
الجزء والصفحة : ص423.ج1
القسم : العقائد الاسلامية / التوحيد / صفات الله تعالى / الصفات الثبوتية / القدرة و الاختيار /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-3-2019 1080
التاريخ: 10-3-2019 789
التاريخ: 9-12-2018 645
التاريخ: 24-10-2014 1009

قد استدلّ بعض المشاهير على عموم القدرة : بأنّ امكان الصدور عن الغير بالإرادة علّة للمقدورية ، إذ الشيء الّذي لم يتّصف بإمكان الصدور عن الغير بالإرادة لم يتّصف بالمقدورية ، وما اتصف به اتّصف بها وثبت بينهما التلازم المفيد للعلّية المثبتة للمطلوب. بل هو يكفي لاثبات المطلوب وإن لم يفد العلّية بالمعنى المعروف ، فانّ مرادنا بالعلّية ما يتناول مثل التلازم، فلا يرد انّه لا يلزم ممّا ذكر إلاّ التلازم بين امكان الصدور عن الغير بالإرادة والمقدورية ، وهو لا يفيد علّية لها لجواز أن يكونا معلولي علّة ثالثة. والظاهر انّ امكان الصدور عن الغير بالإرادة هو المقدورية ، والفرق بينهما بالإجمال والتفصيل كالفرق بين الانسان والحيوان الناطق. فالمراد بالعلّية هاهنا ينبغي أن يكون علّية الحكم ـ كما يقال : علّة انسانية زيد إنّما هي كونه حيوانا ناطقا ـ.

واذ صحّ استلزام امكان الصدور عن الغير بالإرادة للمقدورية نقول : وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان الصدور عن الواجب ـ تعالى ـ سواء كان بالواسطة أو بلا واسطة نظرا إلى ادلّة اثبات الصانع واثبات التوحيد ، فقدرة الواجب متعلّقة بجميع ما له امكان الصدور عن الغير. فمن لم يجوّز كون الممكن فاعلا مستندا إلى أنّ الممكن باعتبار انّه ممكن لا شيء محض وما كان كذلك لا يصحّ أن يصير موجدا يكون عنده وقوع جميع الممكنات بايجاد الواجب وقدرته. ومن جوّز كون الممكن محرّكا للأجسام جوّز أن يوجد الواجب ـ تعالى ـ حركات الأجسام ، ضرورة أنّ القادر على ايجاد المحرّك قادر على ايجاد الحركات.

والحاصل : انّ قدرة الواجب المقرونة بجميع شرائط التأثير لا تتعلّق إلاّ بالممكنات الّتي لها امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالنظام الأعلى ، إمّا بلا واسطة ـ كما ذهب إليه البعض ـ أو مطلقا ، مع الاتفاق في أنّ صدور غير الحركات من الجواهر انّما هو من الواجب. وأمّا قدرته على الاطلاق فهي متعلّقة بجميع ما هو ممكن الصدور عن الغير ؛

انتهى ما ذكره بزيادة بعض مقدّماته المطوية.

قال بعض الأفاضل : تقرير هذا الدليل على محاذات ما ذكره أن يقال : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا بالإرادة ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان الصدور عن الغير مطلقا ؛ ينتج : انّ كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا. ثمّ نقول : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير مطلقا له امكان الصدور عن الواجب بالإرادة ـ سواء كان بواسطة أو بغيرها ـ ، لوجوب انتهاء جميع الاغيار إلى الواجب ؛ ينتج : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الواجب بالإرادة.

ويمكن اختصاره بأن يقال : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا بالضرورة ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير بالضرورة له امكان الصدور عن الواجب بالإرادة ـ لما ذكرنا ـ ، فتحصل النتيجة.

وإنّما حملنا كلامه على قياسين لمكان قوله : « بالإرادة » ، اذ لو لم نعتبره في الاوسط يلزم إمّا الغائه أو عدم تكرّر الأوسط. وإن اعتبرناه لم يلزم من الدليل كون ما له امكان الصدور عن الغير بالإيجاب ـ كالإحراق الصادر عن النار مثلا ـ متعلّقا لقدرته ـ تعالى ـ ؛ انتهى.

وتوضيح ما ذكره أخيرا بقوله : « وانّما حملنا كلامه » : انّ المستدلّ المذكور جعل صغرى القياس قولنا : كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير بالإرادة ، وكبراه قولنا : وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان الصدور عن الواجب ، وجعل النتيجة قولنا : وكلّ مقدور له امكان الصدور عن الواجب بالإرادة. فاعتبر قوله : « في الإرادة » مع الأوسط في الصغرى ولم يعتبره معه في الكبرى. فان اعتبرناه معه في الكبرى وقلنا تركه فيها حوالة على الظهور ، يكون المراد من « المقدور » في النتيجة ما هو ممكن الصدور عن الغير بالإرادة ، فيلزم منه أن يكون كلّ ما هو ممكن الصدور عن الغير بالإرادة ممكن الصدور عن الواجب ولا يكون ما هو ممكن الصدور عن الغير بالإيجاب ـ كالإحراق الصادر عن النار ـ ممكن الصدور عن الواجب. وإن لم نعتبره معه في الكبرى وقلنا : لا حاجة إليه فيها ، فيلزم الغائه في الصغرى ، فلا بدّ أن يحمل قوله على قياسين ، بأن نقول : ذكر صغرى القياس الأوّل وكبرى القياس الثاني مع نتيجته ، وأحال ساير اجزائهما على الظهور.

ثمّ حمل قول المستدلّ المذكور على قياسين ـ وكان اثبات المطلوب بقياس واحد ممكنا في الواقع ـ وقال : « ويمكن اختصار الاستدلال » ، فجعل الصغرى قولنا : « كلّ مقدور له امكان الصدور عن الغير مطلقا » ـ أي : سواء كان بالإرادة أو بغيرها ـ ، وادّعى الضرورة في ذلك ؛ وجعل الكبرى قولنا : « وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير مطلقا بالضرورة له امكان الصدور عن الواجب بالإرادة » ، وجعل دليل ذلك ما اشرنا إليه آنفا من أنّ جميع الأغيار ينتهي إلى الواجب ؛ فكلّ ما يمكن صدوره عن الغير يمكن صدوره عن الواجب بالإرادة ، سواء كان بواسطة أو بغيرها ؛ فتحصل النتيجة ـ أعني قولنا : « كلّ مقدور له امكان الصدور عن الواجب بالإرادة » ـ.

هذا ما ذكره بعض الأفاضل في شرح كلام القائل المذكور مع توضيحه.

ويرد عليه ـ على تقدير جعل الاستدلال المذكور قياسين ـ : أنّ المراد من « المقدور » : الّذي جعل موضوعا لصغرى القياس وحمل عليه قولنا : « له امكان الصدور عن الغير بالإرادة » ، لا ما يصلح لتعلّق القدرة به ـ كما هو ظاهره ـ ، أو الممكن مطلقا. فعلى الأوّل لا يلزم من القياسين ـ اللذين ذكرهما ـ إلاّ انّ كلّ ما يصدر عن الشيء بالقدرة له امكان الصدور عن الواجب ، وهذا لا يشمل ما يصدر عن شيء بالإيجاب ـ كالإحراق للنار ـ ؛ مع أنّ غرضه ادخال ذلك ـ كما صرّح به الفاضل المذكور الّذي حمل الاستدلال المذكور على قياسين ـ.

مع أنّه حينئذ لا حاجة إلى الحمل على قياسين ، لأنّه صرح بأنّه لو جعلنا الاستدلال واعتبرنا قولنا : « في الإرادة » في الكبرى وقلنا : تركه فيها للظهور ، لم يلزم من الاستدلال كون ما له امكان الصدور عن الغير بالإيجاب ـ كالإحراق للنار ـ متعلّقا لقدرته ـ تعالى ـ ، فالحمل على قياسين لا دخال ذلك. فاذا لم يدخل معه فأيّ حاجة إليه؟!. بل يكفى قياس واحد. وعلى الثاني ـ أي : كون المراد من المقدور هو الممكن

مطلقا ـ نمنع صغرى القياس الأوّل ، إذ لعلّ من الممكنات ما لا يمكن صدوره عن الغير بالإرادة ـ كالأفعال الصادرة عن الطبائع ـ. مع أنّه لا حاجة حينئذ أيضا إلى التطويل المذكور وجعل الاستدلال المذكور قياسين ، إذ يكفي حينئذ أن يقال : كلّ ممكن له امكان الصدور عن الغير بالإرادة ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير بالإرادة له امكان الصدور عن الواجب بالإرادة ـ لانتهاء جميع الأغيار إليه تعالى ـ ؛ فينتج : انّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الواجب بالإرادة. فقد ظهر انّ جعل الاستدلال المذكور قياسين مع وجود قيد « الإرادة » لا ينفع في الغرض المذكور ـ أي : ادخال ما له امكان الصدور بالإيجاب ـ ؛ وانّما ينفع فيه حذف هذا القيد وهو موجود في كلام المستدلّ. وبالجملة لا ريب في انّه مع أخذ الإرادة في الاستدلال المذكور والقول بأنّ حذف المستدلّ له اخيرا بناء على الظهور أو لعدم الاحتياج إليه يكون الاستدلال ناقصا غير ناهض لاثبات المطلوب ـ سواء أريد من المقدور ما يصلح لتعلّق القدرة به أو الممكن ، وسواء جعل قياسين أو قياسا واحدا ، كما تقدّم ـ ؛ لورود ما اشرنا إليه من عدم دخول ما يصدر عن الشيء بالإيجاب ؛ ومن منع الصغرى ، إذ لا نسلّم انّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الغير بالإرادة ، بل لا نسلّم ذلك في كلّ موجود أيضا فضلا عن الممكنات الغير الموجودة. فهو لا ينتهض على اثبات شيء من الاحتمالات المذكورة للعنوان المذكور فضلا عن الاحتمال الّذي ذكرنا هو انّه هو المقصود ـ أعني : شمول القدرة لجميع الممكنات الموجودة والمعدومة ـ ؛ هذا.

ويمكن أن يجعل الصغرى والكبرى في الاستدلال المذكور عكس ما تقدّم ، بأن يجعل المحمول موضوعا وبالعكس حتّى تصير صورة القياس هكذا : كلّ ما له امكان الصدور عن الغير بالإرادة فهو مقدور ، وكلّ مقدور فله امكان الصدور عن الواجب بالإرادة ، لينتج : كلّ ما له امكان الصدور عن الغير بالإرادة فله امكان الصدور عن الواجب بالإرادة.

وهو كسابقه ـ أي : عكسه ـ في امكان جعله قياسين ؛ وفي ورود ما يرد عليه.

فانّ المراد من المقدور حينئذ ـ أعني : الاوسط ـ ما يصلح لتعلّق القدرة به ، فلا يكون

ما يصدر عن الشيء بالإيجاب داخلا فيما يمكن صدوره عن الواجب بالإرادة. بل حينئذ لو حذف لفظ « الإرادة » لم يصحّ الاستدلال أيضا ، لورود المنع على الصغرى. فلو شئنا أن نتمّ هذا الاستدلال بحيث يرجع إلى ما حقّقناه وجب أن يحذف قولنا : « بالإرادة » عن الصغرى  ويجعل الموضوع في الصغرى هو « الممكن مطلقا » ، والمحمول قولنا : « له امكان الصدور عن الغير مطلقا » حتّى تصير صورة القياس هكذا : كلّ ممكن له امكان الصدور عن الغير ، وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير فله امكان الصدور عن الواجب بالإرادة ـ سواء كان بلا واسطة أو بواسطة ـ ، فينتج : انّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الواجب بالإرادة. وهذا معنى عموم قدرته ـ تعالى ـ.

وأمّا الكبرى فظاهرة ، لانتهاء جميع الأغيار إليه ـ تعالى ـ ، بناء على ثبوت التوحيد وحدوث العالم وقيام الدلالة على صدور ما يصدر عنه بالإرادة والقدرة ، وكفاية صدور علّة الشيء عنه ـ تعالى ـ بالقدرة والإرادة في كون هذا الشيء صادرا بها. وأمّا الصغرى فلانّ كلّ ممكن فهو محتاج إلى المؤثّر ، فمؤثّره إمّا واجب أو ممكن موجود أو معدوم ؛ وعلى التقادير يثبت المطلوب ـ كما مرّ غير مرّة ـ.

وبذلك يندفع ما أورد على الصغرى : بأنّا لا نسلّم انّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الغير ، إذ لعلّ من الممكنات ما لا يقدر شيء على ايجاده وإن لم تأب ذاته عن الوجود. ولو سلّم فلا نسلّم امكان صدوره عن شيء من الوجودات ، بل ربّما لا يجوز صدوره إلاّ عن ممكن معدوم ، وكذا الحال في ذلك الممكن أيضا ، وهكذا. فلا يلزم امكان صدوره عن الواجب ـ تعالى ـ ، لأنّ امكان الصدور عن الواجب بلا واسطة أو بواسطة إنّما هو فيما يمكن صدوره عن موجود منته إليه ـ تعالى ـ ، لا عن معدوم يتوقّف وجوده على معدوم آخر ، وهكذا. وعلى هذا فلا ينتهض الاستدلال المذكور على اثبات عموم القدرة بالمعنى المطلوب ـ أعني : شمولها لجميع الممكنات الموجودة والمعدومة ـ ، بل لو نزّلنا عن الايراد الأوّل فانّما يثبت عموم القدرة بمعنى شمولها لجميع الموجودات بلا واسطة أو بواسطة.

وحينئذ إذا نزّلنا عن الايراد الأوّل فلو اجرى الاستدلال المذكور في اثبات عموم

القدرة بهذا المعنى ـ بأن يبدّل « الممكن » في موضوع الصغرى « بالموجود » ـ لتمّ ولا يرد عليه شيء ممّا أوردناه ، بل هو في الحقيقة ما ذكرناه من انّ بعد اثبات التوحيد وحدوث العالم لا خفاء في كون جميع الموجودات مستندة إليه ـ تعالى ـ بلا واسطة أو بواسطة. وعلى ما ذكر يمكن أن يجعل مدّعى المستدلّ المذكور انّ كلّ ما يصلح لتعلّق ايجاد الغير به فهو مقدور له ـ تعالى ـ بواسطة أو بلا واسطة ؛ وحمل كلامه على ذلك ممكن ، بل وهو ظاهر الانطباق عليه. فان خصّ الغير حينئذ بالغير الموجود اندفع عنه الايرادان معا ، وإن لم يخصّ به فلا شبهة في اندفاع الايراد الأوّل عنه وإن أورد عليه الايراد الثاني ؛ انتهى ما أورد بتغيير اقتضاه الايضاح.

ووجه الاندفاع : انّ بعد ما ثبت انّ كلّ ممكن محتاج إلى مؤثّر فكلّ ممكن يتعيّن ويتميّز في لحاظ العقل أو في حاقّ الواقع ونفس الأمر يتميّز ويتشخّص له أيضا في أحد الطرفين ما يصلح للتأثير فيه وكونه موجدا له ، فاندفع الايراد الأوّل.

ثمّ إذا كان الصالح لتأثيره فيه وايجاده له معدوما والصالح لإيجاد هذا المؤثّر أيضا معدوما ... وهكذا ، فامّا تنتهى سلسلة هذه المعدومات إلى الواجب أو لا ـ بل تذهب إلى غير النهاية ـ ، فعلى الأوّل يثبت المطلوب أيضا ؛ وعلى الثاني نقول : انّ مجموع تلك السلسلة المعدومة الغير المتناهية بحيث لا يشذّ عنه شيء ـ لإمكانه ـ ، فيحتاج إلى مؤثّر ـ أي : إلى ما يصلح للتأثير فيه ـ. فهذا المؤثّر إن كان واجب الوجود بالذات يثبت المطلوب أيضا ؛

وإن كان غيره فإمّا أن يكون موجودا فيثبت المطلوب أيضا ـ لانتهاء جميع الممكنات الموجودة إليه تعالى ـ ،

وإن كان معدوما لزم الخلف ، لأنّا اخذنا جميع سلسلة الممكنات المعدومة بحيث لا يشذّ عنها شيء.

ثمّ ما ذكره أخيرا من امكان اجراء الاستدلال المذكور في اثبات عموم القدرة بمعنى شمولها لجميع الموجودات وتخصيص مدّعى القائل به ، ففيه : انّ ثبوت عموم القدرة بهذا المعنى أمر بديهي لا ريب فيه ، وانّما المهمّ بين العقلاء اثبات شمولها لجميع

الممكنات الموجودة والمعدومة ـ كما هو الظاهر من ادلّتهم ـ ، والتخصيص بغير ما هو المطلوب المهمّ خلاف الظاهر والمتبادر.

فان قلت : هل يمكن أن يحمل قياس المستدلّ المذكور على القياس الّذي ذكرته وتمّمته؟!.

قلت : لا ، لأنّ موضوع الصغرى في قياسنا هو قولنا : « كلّ ممكن » ، وفي قياسه هو قولنا : « كلّ ما له امكان الصدور عن الغير » ، والمحمول فيها في قياسنا هو قولنا : « له امكان الصدور عن الغير » ، وفي قياسه هو قولنا : « فهو مقدور » ؛ ومع ذلك جعل فيه الإرادة جزء لموضوع الصغرى ، فكيف يرجع أحدهما إلى الاخر؟.

وبذلك يظهر انّ استدلاله لا يخلوا عن اختلال.

نعم! يمكن أن يقال ـ على تكلّف! ـ : انّ الصغرى في استدلاله محذوفة ـ وهي الّتي ذكرناها ـ ، وقد حذفها اعتمادا على الظهور ، وكذا حذف قولنا : « بالإرادة » عن محمول الكبرى أيضا اعتمادا على الظهور ؛ وقوله : « انّ امكان الصدور عن الغير بالإرادة علّة للمقدورية » مقدّمة خارجة عن القياس ، والغرض من ايرادها بيان انّه إذا ثبت بالقياس المذكور انّ كلّ ممكن له  امكان الصدور عن الواجب بالإرادة يثبت عموم قدرته ، إذ علة المقدورية ليست إلاّ امكان الصدور بالإرادة. فاذا ثبت أنّ كلّ ممكن له امكان الصدور عن الواجب بالإرادة وثبت بحكم تلك المقدمة انّ كلّ ما له امكان الصدور عن شيء بالإرادة فهو مقدور له يثبت انّ كلّ ممكن مقدور له ـ تعالى ـ ، وهو معنى عموم القدرة.

وعلى هذا حمل كلام بعض الأعلام حيث قال بعد ايراد ما نقلناه من المستدلّ المذكور : توجيهه أن يقال : علّة مقدورية شيء لفاعل هو امكان صدوره عنه بإرادته ـ كما يظهر من تفسير القدرة ـ ، وهذا بالنسبة إليه ـ تعالى ـ يعمّ جميع الممكنات ، إذ كلّ ما يمكن صدوره عن فاعل فهو ممكن الصدور عن الواجب بالذات بإرادته بلا واسطة أو بواسطة ينتهي إليه ضرورة انتهاء جميع سلسلة وجود جميع الممكنات إلى ارادته الموجودة لوجود العالم جملة ، فقدرته متعلّقة مطلقا بجميع الممكنات ، وهذا ممّا ليس

النزاع فيه ؛ انتهى.

ثمّ لا يخفى انّ ترتيب القياس على ما قرّرناه يجعل الاستدلال على نحو ما استدللنا به على المطلوب سابقا ، فهو يثبت عموم

القدرة السابقة المطلقة ـ أي : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات بالنسبة إلى جميع الممكنات الموجودة والمعدومة بلا واسطة ، نظرا إلى أنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بالنظر إلى ذاته ـ ؛ ويثبت عموم القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير بالنسبة إلى الممكنات الّتي لها امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالنظام الأعلى ، وهي الممكنات الموجودة. وإلى هذا اشار المستدلّ المذكور في آخر كلامه بقوله : « والحاصل انّ قدرة الواجب المقرونة بجميع شرائط التأثير ... ـ إلى آخره ». فانّه بيان المراد من قوله : « فقدرة الواجب متعلّقة بجميع ما له امكان الصدور عن الغير » حتّى يظهر به مطلوب القوم من العمومية. فغرضه منه انّ المراد من القدرة الّتي قلنا أنّها متعلّقة بجميع ما له امكان الصدور عن الغير هو القدرة المطلقة الّتي لا يقارن ولا يلاحظ معها أمر آخر ، لا القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير ، إذ ربّما يمتنع صدور شيء عنه ـ تعالى ـ بالنظر إلى علمه بالنظام الأعلى ومنافاة وجود ذلك الشيء له.

نعم! القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير انّما تتعلّق إمّا بدون واسطة ـ كما ذهب إليه الأشاعرة ـ أو مطلقا ـ كما ذهب إليه المعتزلة ـ بجميع ما له امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالنظام الأصلح دون ما يمتنع بالنظر إليه ، أمّا عند المعتزلة فلامتناع صدور الشرور والآفات العامّة المضادّة للنظام الأعلى ـ كاختلال الخلائق أجمعين وتكذيب الأنبياء والمرسلين ـ ؛ وأمّا عند الأشاعرة وإن لم يمتنع صدور شيء عنه عقلا ـ لتجويزهم صدور كلّ شيء حتى القبائح والشرور عنه تعالى عقلا ـ ، لكنّهم يقولون : عادته ـ تعالى ـ جارية بإيجاد الخيرات دون الشرور ، فكلّ ما يضادّ النظام الأعلى وان امكن تعلّق القدرة به بالذات لكن امتنع بالنظر إلى علمه بنظام الخير عند المعتزلة عقلا وعند الأشاعرة عادة.

وانّما حملنا القدرة المطلقة في كلام هذا القائل على القدرة بالمعنى المشهور ـ أعني :

امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات ـ دون القدرة المستلزمة (1) للحدوث ـ أعني : صحّة انفكاك كلّ من الطرفين بالنظر إلى الداعي ـ. وإن حمل هذا القائل القدرة الّتي وقع النزاع فيها بين الفلاسفة والمليين على القدرة بهذا المعنى ـ أي : ما يستلزم الانفكاك بين الواجب وبين كلّ من طرفى الفعل والترك ـ لأنّه إذا كان المدّعى اثبات عموم القدرة بالنسبة إلى جميع الممكنات أو جميع ما له امكان الصدور عن الغير تعيّن حمل القدرة على المشهور ، إذ لا شكّ أنّ الممكنات الّتي لم توجد تكون عدمها ممتنع الانفكاك عنه ـ تعالى ـ بالنظر إلى الداعي ؛ وانّما يصحّ ذلك بالنظر إلى ذاته ـ تعالى ـ. نعم! لو كان المدّعى اثبات عموم القدرة بالنسبة إلى جميع الموجودات امكن حمل القدرة على صحّة انفكاك كلّ من الطرفين بالنظر إلى الداعي بشرط أن لا يجعل انفكاك كلّ منهما في وقت دون وقت انفكاك الآخر (2) ، إذ انفكاك كلّ منهما في وقت واحد ممتنع على التحقيق ، لما مرّ من أنّ عدم العالم في زمان عدمه انّما كان بالنظر إلى الداعي وعلمه بالنظام الأعلى ، فوجوده فيه كان محالا بالنظر إلى الداعي وإن كان جائزا بالنظر إلى ذاته ـ تعالى ـ. وكذا وجوده في وقت وجوده إنّما كان بمقتضى الداعي من العلم بالأصلح أو ذات الوقت ، فعدمه فيه كان محالا بالنظر إليه وإن كان جائزا بالنظر إلى ذاته ـ تعالى ـ.

فإثبات عموم القدرة بالنسبة إلى جميع الممكنات أو جميع الموجودات في كلّ وقت إنّما يتأتّى إذا حمل القدرة على المعنى المشهور ـ أي : امكان كلّ من الطرفين وانفكاكهما بالنظر إلى الذات ـ لا على المعنى المستلزم للحدوث ـ أي : امكان كلّ من الطرفين وانفكاكهما بالنظر إلى الداعي ـ. وإنّما يتأتّى اثبات عموم القدرة بمعنى صحّة الانفكاك بالنظر إلى الداعي فيما له امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالأصلح بشرط أن لا يتّحد زمان انفكاك الطرفين ، بل يكون انفكاك الترك في وقت وانفكاك الفعل في وقت آخر ، والقدرة بهذا المعنى ليست إلاّ بمعنى ترك ايجاد العالم في الأزل وايجاده فيما لا يزال. وهذا المعنى هو معنى القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير الّتي صرّح هذا القائل بأنّها لا تتعلّق إلاّ بما له امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالنظام الأعلى ، فكيف يمكن أن يحمل القدرة المطلقة ـ الّتي صرّح هذا القائل بتعلّقها بجميع الممكنات ـ على هذا المعنى؟.

ثمّ لا يخفى انّه بعد اتفاقهم على تعلّق القدرة المستجمعة بجميع ما له امكان الوقوع بالنظر إلى العلم بالأصلح ـ أعني : نظام الممكنات الموجودة ـ اختلفوا ـ كما أشير إليه مرارا ـ بأنّ تعلّقها بجميع الممكنات هل هو بلا واسطة ـ حتّى يكون مفيض الوجود على الجميع هو الواجب سبحانه من دون تأثير من الوسائط ـ ، أو أعمّ من كونه بالواسطة بالنسبة إلى بعض الموجودات؟ وقد ذكرنا انّ الظاهر من كلام الحكماء هو الأوّل ، وهو المقطوع به عند الأشاعرة ، وقد صرّح به أيضا جماعة من المتأخّرين. قال بعض الأذكياء : لمّا ثبت انّ الامكان علّة الاحتياج إلى المؤثّر مطلقا في بادي الرأي وبعد حكم البرهان يظهر انّ الامكان علّة الاحتياج إلى الواجب المؤثّر الواجب بالذات ـ لأنّ مقتضى الوجود ليس إلاّ الواجب تعالى ، والامكان الّذي علّة الاحتياج إلى الواجب بالذات مشترك بين جميع الممكنات وعامّ بالنسبة إليها ـ فيكون جميع الممكنات صادرة عنه ـ تعالى ـ بالعلم والإرادة ، وما يصدر عن الشيء بالإرادة يكون مقدورا له ، لأنّ القدرة هي الصفة الّتي تؤثّر على وفق الإرادة ، فيكون جميع الموجودات صادرة عنه ـ تعالى ـ بالإرادة والاختيار ؛ فيلزم أن يكون جميع الممكنات مقدورة له ـ تعالى ـ بلا واسطة. فعمومية العلّة ـ الّتي هي الامكان ـ تستلزم عمومية صفة المقدورية ، وهذا هو مراد المحقّق الطوسي في التجريد من قوله : « وعمومية العلّة تستلزم عمومية الصفة (3) » ؛ انتهى.

والظاهر من كلام جماعة هو الثاني ، فانّه يظهر من كلامهم تجويز أن يؤثّر بعض الممكنات في بعض آخر بالجهة المستندة إليه ـ تعالى ـ. وقد ذكرنا انّ نظر الفرقة الأولى إلى أنّ مفيض الوجود ليس إلاّ الواجب ـ تعالى ـ ، لأنّ الممكن لا شيء محض وما كان كذلك لا يصحّ أن يصير موجدا ، وعلى هذا فشمول قدرته لجميع الموجودات بلا واسطة ظاهر لا سترة فيه.

ونظر الفرقة الثانية إلى أنّ الممكن لو كان موجدا قائما يؤثّر بالجهة المستندة إليه ـ تعالى ـ ، وهذه الجهة ليست عدما محضا ـ وقد تقدّم الكلام في ذلك مفصّلا ـ.

وعلى هذا لا يكون هذا الخلاف مختصّا بالحركات والأعراض ، لأنّ المستفاد من الدليل المذكور جواز ايجاد بعض الممكنات بعض الجواهر بالجهة المستندة إلى الواجب ، فما ادّعاه المستدلّ المذكور من اتفاقهم على أنّ صدور غير الحركات من الجواهر انّما هو من الواجب محلّ تأمّل!. إلاّ أن يقال : غرضه من الاتفاق اتفاق المتكلّمين ، فانّه لا نزاع بينهم في عدم صدور الجواهر من الممكن ، انّما النزاع بينهم ليس إلاّ في الأفعال المستندة إلى المخلوقين ـ الّتي هي حركات أو ما يتعلّق بها ـ. وأمّا غير تلك فالكلّ متّفقون على أنّ صدورها إنّما هو بقدرته وارادته.

نعم! ذهب معمّر بن عباد من المعتزلة إلى أنّ الله ـ تعالى ـ لم يخلق شيئا إلاّ الاجسام ، فأمّا الأعراض فانّها من مخترعات الأجسام إمّا طبعا ـ كالنار الّتي تحدث الاحراق والشمس الّتي تحدث الحرارة والقمر الّذي يحدث التلوين ـ ، وإمّا اختيارا ـ كالحيوان يحدث الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ـ. ولذهاب ابن عبّاد إلى ذلك خصّ المستدلّ المذكور ما يختصّ صدوره بالواجب ـ أعني : غير الحركات ـ بالجواهر دون غير أفعال العباد والحركات من الجواهر وسائر اقسام الأعراض ، فانّه لو لم يخصّصه بالجواهر لم يتناول كلامه مذهبه.

وعلى ايّ تقدير لا ريب في أنّ أحدا من المتكلّمين لم يجوّز صدور الجوهر من الممكن.

ثمّ الظاهر من قواعد الملّة استناد وجود جميع الموجودات من الجواهر والأعراض إليه ـ تعالى ـ بدون مشاركة من الوسائط سوى أفعال العباد ـ على ما تقدّم ـ. والقول بأنّ الدليل الدالّ على استناد جميع الموجودات إليه ـ تعالى ـ لا يجري في الحركة ـ بناء على أنّ حقيقتها لمّا لم يكن أمرا بالفعل ولا قابلة للفعلية بل هي دائما بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل فلا ينافي تحقّق جهة القوّة والعدم في فاعلها ، بل يجب أن تكون في فاعلها القريب المباشر لها جهة القوّة أيضا فيجوز أن يكون الممكن فاعلا لها ـ فقد عرفت ما فيه.

ثمّ لا ريب في أنّ من جوّز استناد الحركات إلى غير الواجب قد ذهب إلى أنّها مقدورة للواجب ـ تعالى ـ بالقدرة المطلقة ، لأنّ القادر على ايجاد المحرّك والمتحرّك قادر على ايجادهما موصوفين بالتحريك والتحرّك ضرورة. وذلك هو ايجاد الحركة منه ـ تعالى ـ ، لأنّ ايجادها قائمة بالذات ممتنع بالذات.

فان قيل : بعض التحريكات الممكنة قبيح وممتنع بالنسبة إليه ـ تعالى ـ! ؛

قلنا : امتناعه بالنظر إلى علمه وارادته المقدّسة عن الشرور والقبائح وكلّ ما يضادّ النظام لا بالنظر إلى قدرته ، فما لا يكون عامّا هو ارادته لا قدرته ، بل هي محيطة بالكلّ وشاملة للجميع.

ثم ما ذكره المستدلّ المذكور من أنّ من جوّز كون الممكن محرّكا للأجسام جوّز أن يوجد الواجب ـ تعالى ـ حركات الأجسام ، ضرورة انّ القادر على ايجاد المتحرّك قادر على ايجاد الحركات ، غرضه : انّ من قال بتعلّق القدرة المستجمعة للواجب لجميع الموجودات أعمّ من أن يكون بواسطة أو بدونها واسند حركات الاجسام إليها لا إلى الواجب ليكون تعلّق قدرته المستجمعة لجميع شرائط التأثير بها بالواسطة جوّز تعلّق قدرته المطلقة ـ أي : صحّة ايجادها ـ بالنظر إلى ذاته ـ تعالى ـ بها بلا واسطة ، لأنّ القادر على ايجاد المحرّك قادر على ايجاد الحركات بالنظر إلى ذاته وإن اقتضى العلم بالأصلح تخلّل الواسطة في الايجاد بالفعل. فانّ المستدلّ المذكور قد صرّح في قوله : « والحاصل انّ قدرة الواجب امّا بأنّ القدرة المطلقة تتعلّق بجميع ما له امكان الصدور عن الغير. وامّا القدرة المستجمعة لجميع الشرائط فانّما تتعلّق بما له امكان الوقوع بالنظر إلى علمه بالأصلح إمّا بلا واسطة ـ كما هو رأي جماعة ـ أو أعمّ من كونه بلا واسطة أو بواسطة ـ كما هو رأي آخرين » ـ. فغرضه من الكلام المذكور انّ من جوّز تخلّل الواسطة في القدرة المستجمعة وقال باستناد الحركات إلى غيره ـ تعالى ـ لم ينكر تعلّق قدرته المطلقة بها ، نظرا إلى أنّ مقدور المقدور مقدور. إلاّ أنّ ظاهر هذا الكلام منه يدلّ على اعتقاده انّ كل ممكن ولو كان مستندا إلى غيره ـ تعالى ـ مقدور له ـ تعالى ـ بالقدرة المطلقة بلا واسطة ؛ لأنّه لو كان مراده أنّه مقدور له بهذه القدرة ولو بالواسطة لم يكن فرق بينها وبين القدرة المستجمعة لجميع الشرائط ، لتصريحه بأنّ تعلّق القدرة المستجمعة لجميع الموجودات ولو بالواسطة متفق عليه ، وبأنّ صدور جميع الموجودات عنه ـ تعالى ـ ولو بتخلّل الوسائط في بعضها ممّا لا ريب فيه.

نعم! ما ذكره المستدلّ قبل كلامه المذكور بقوله : وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان الصدور عن الواجب سواء كان بالواسطة أو بلا واسطة ، فقدرة الواجب متعلّقة بجميع ما له امكان الصدور عن الغير اعمّ من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة بمعنى أنّ امكان صدور بعض الممكنات بالنظر إلى الذات انّما هو مع فرض تخلّل الوسائط لا بدونه وإن امكن صدور بعض اخر بدونه. وقد عرفت انّ ذلك خلاف التحقيق ، وانّ الامكان بالنظر إلى الذات ثابت بالنسبة إلى جميع الممكنات بلا واسطة.

هذا ؛ وقال بعض الافاضل : كان المناسب بعد قول المستدلّ المذكور : « ومن جوّز كون الممكن محرّكا للأجسام » أن يقال : يكون عنده أيضا جميع الممكنات مستندا إليه ـ تعالى ـ ، لكن أعمّ من واسطة أو بلا واسطة ؛ لأنّ هذا هو الملائم لما سبق. وأمّا ما ذكره بقوله : « جوّز أن يوجد ـ ... إلى آخره ـ » ، فلا يلائمه ، بل ظاهره انّه رجوع عن الكلام السابق ويكون غرضه اثبات كون الجميع مقدورا له ـ تعالى ـ بلا واسطة. وذلك بدعوى إلى الضرورة في أنّ من هو قادر على ايجاد فعله أيضا (4) فهو ـ تعالى ـ قادر على ايجاد الجميع بلا واسطة على مذهب المعتزلة أيضا.

ولا يخفى انّ دعوى الضرورة المذكورة قريبة جدّا ، لكن لا يثبت بها إلاّ قدرته ـ تعالى ـ على جميع الموجودات ، وكذا المقدورات لها ، لا على جميع الممكنات : إذ لعلّ من الممكنات ما لا يقدر شيء على ايجاده إذ لم يكن صدوره عن شيء من الموجودات ؛ انتهى.

ولا يخفى انّه لمّا كان اثبات عموم القدرة بالنسبة إلى جميع الممكنات غير تامّ عند هذا القائل ـ للمناقشتين اللّتين اشار إليهما أخيرا ـ جزم بأنّ ما يمكن اثباته انّما هو عموم

القدرة بالنسبة إلى جميع الموجودات ؛ وقد عرفت تحقيق الحقّ وجواب المناقشتين.

ثمّ في كلام هذا القائل خبط!. وذلك لأنّ ما ذكره من أنّ غرض المستدلّ المذكور اثبات كون الجميع مقدورا له ـ تعالى ـ بلا واسطة إن اراد من كلامه هذا : انّ غرض المستدلّ اثبات كون الجميع مقدورا له ـ تعالى ـ بلا واسطة بالقدرة المستجمعة لجميع الشرائط فهو ممنوع ، لأنّ ما ذكره لا يدلّ ـ بل لا يمكن حمله! ـ على ذلك ؛ وإن اراد منه : أنّ غرض المستدلّ اثبات كون الجميع مقدورا له بلا واسطة بالقدرة المطلقة وكونه رجوعا من كلامه السابق ـ بناء على ما ذكر من دلالة قوله سابقا : وكلّ ما له امكان الصدور عن الغير له امكان الصدور عن الواجب بلا واسطة أو بواسطة ، على أنّ تعلّق القدرة المطلقة بجميع الممكنات أعمّ من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة ـ ؛ ففيه : انّ ما قال المستدلّ المذكور لم لا يدلّ إلاّ على أنّ بعض الموجودات المستندة إلى بعض آخر ـ أعني : الحركات ـ يجوز استنادها إلى الواجب أيضا عند من يجوّز استناد بعض الممكنات إلى بعض آخر؟ ، لانّه قال : ومن جوّز كون الممكن محرّكا للأجسام جوّز أن يوجد الواجب حركات الاجسام ؛ فهو يدلّ على تعلّق قدرته المطلقة بلا واسطة بجميع الموجودات ، وليس فيه ما يدلّ على تعلّقها بالممكنات المعدومة. فالمفهوم من هذا الكلام ليس إلاّ ما سلّمه هذا القائل واعترف بأنّ الضرورة المذكورة يثبته ـ أعني : تعلّق قدرته تعالى بجميع الموجودات وكذا المقدورات لها ـ ، فأيّ مدخلية للمناقشتين؟ ؛ لأنّه لا ريب في أنّ الحركات من الممكنات الّتي يقدر شيء على ايجادها ، فاندفعت المناقشة الأولى ؛ ويمكن صدورها عن بعض الموجودات ، فاندفعت الثانية.

على أنّك قد عرفت حال المناقشتين ؛ هذا.

وقد ظهر ممّا ذكر انّ حاصل ما اخترناه وملخّصه : انّ القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير عامّة شاملة لكلّ الموجودات ومتعلّقة بجميعها ـ إمّا بلا واسطة في الجميع أو بتخلّل الوسائط في بعضها ـ ، وما انكرنا كلّ الانكار تخلّل الوسائط في البعض. وانّ القدرة بالمعنى المشهور ـ أي : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الذات ـ عامّة شاملة لجميع الممكنات سواء كانت موجودة أو معدومة ، يوجد بعد أو لا يوجد قطّ بلا واسطة ، لأنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له بالنظر إلى الذات. وقد اشرنا إلى جميع ما يتوقّف عليه اثبات ما اخترناه من الدلالة ودفع الايرادات.

إلاّ انّه قد بقي لنا أن نشير إلى الجواب عن شبهة أوردت على المقدّمة القائلة بأنّ مقدور المقدور للشيء مقدور له والشبهة هي : انّه لو كانت تلك المقدّمة صحيحة لكان كلّ فعل يصدر عن كلّ شيء ممكن الصدور بعينه عن الواجب ـ تعالى ـ ، فيلزم أن يكون هذا الشخص المعيّن من الفعل بوحدته الشخصية ووجوده الشخصي الصادر عن زيد مثلا ممكن الصدور بعينه من قدرة الله ـ تعالى ـ. وهو يوجب جواز تعدّد العلل المستقلّة للأمر الواحد الشخصي وكون الواحد بالمعنى العامّ مع ضعف وحدته ووجوده علّة وسببا للواحد بالعدد ، إذ السبب والمحتاج إليه على ذلك التقدير ـ أي : تقدير توارد العلل المستقلّة على المعلول الشخصي ـ ليس إلاّ القدر المشترك ، وهو هنا ما اشترك بين الواجب وزيد من القدرة. ولا ريب في بطلان ذلك من جانب الوجود في ما سوى الشرائط والمعدّات والآلات بأن يكون معنى عامّ علّة موجدة للواحد الشخصيّ سواء كان الشخص عين نشأة الوجود ـ كما ذهب إليه المعلم الثاني ـ أو لازما له ـ كما ذهب إليه آخرون ـ. وأمّا في جانب الوجود في مثل الشرائط والآلات والمعدّات بأن يكون معنى عامّ مشترك بين كثيرين شرطا أو معدّا أو آلة لوجود واحد شخصي مع وحدة فاعله الموجدة بالعدد ، فالظاهر انّ بطلانه غير ثابت.

بل المفهوم من كلام الشيخ في إلهيات الشفاء في مقام بيان انّ المفارق مع صورة فاعله فاعلة للهيولى جواز ذلك ، حيث قال : لقائل أن يقول : انّ مجموع ذلك العلّة والصورة ليس واحدا بالعدد ، بل واحد بمعنى عامّ ، والواحد بالمعنى العامّ لا يكون علّة للواحد بالعدد.

فنقول : انّا لا نمنع من أن يكون الواحد بالمعنى العامّ المستحفظ وحدة عمومه بواحد بالعدد علّة الواحد بالعدد (5) ؛ انتهى.

وقد تمسّك بعض الأعلام بهذا الكلام على جواز استناد حركة الشمس

إلى كلّ واحد من أصلي الخارج والتدوير. وامّا في جانب العدم بأن يكون معنى عامّ كعدم عامّ مشترك بين أعدام كثيرة سببا وعلّة لعدم معلول شخصيّ ، فلا ريب في صحّته كسببية عدم كلّ جزء من أجزاء العلّة اتفق سبقه أو مجموع جزءين عدما معا لعدم معلول شخصي. ولا ريب في أنّ ما نحن فيه من قبيل الأوّل ، لأنّ المطلوب جواز كون الواجب علّة موجدة لما أوجده غيره ، فيلزم أن تكون القدرة المشتركة بينهما علّة موجدة لواحد بالشخص.

وأجيب عن هذه الشبهة : انّه ليس المراد من المقدّمة المذكورة انّ هذا الشخص المعيّن من الفعل بوحدته الشخصية ووجوده الشخصي الصادر عن زيد مثلا ممكن الصدور بعينه عن قدرة الله ـ تعالى ـ حتّى يلزم ما ذكر من توارد العلل المستقلّة على المعلول الشخصي ، وكون المعنى العامّ علّة موجدة للواحد بالشخص ؛ بل المراد ـ خصوصا على رأي من قال باستقلال العباد في افعالهم ـ : انّ ذلك الفعل الصادر عن قدرة العبد يمكن أن يوجد ما هو معروض وجوده الشخصي ووحدته الشخصية بوجود آخر فائض عن محض قدرة الله بدل ذلك الوجود ؛ كما اشار إليه الحكيم الطوسي ـ ; في مبحث القدرة من الأعراض بقوله : « ولا يتّحد وقوع المقدور مع تعدد القادر (6) ». فانّ معناه : انّه لا يجوز أن يقع مقدور واحد من قادرين بوقوع واحد ؛ فيفهم منه انّه يجوز أن يقع منهما بوقوعين ، وذلك لا يتصوّر إلاّ بأن تقع ماهية المقدور تارة من قادر معروضة لوجود وأخرى من قادر آخر معروضة لوجود آخر بدل ذلك الوجود.

ثمّ ذلك ـ أي : اشتراك الماهية مع تعدّد الوجود الشخصي ـ لا يستلزم عدم اشتراك المقدور بالذات بين الواجب والعبد ، نظرا إلى أنّ الوجود الصادر من الواجب مغاير بالشخص للوجود الصادر من العبد ، بل هو ـ أي : المقدور بالذات ـ واحد مشترك بينهما ، إذ المجعول ـ وهو المقدور بالذات ـ هو الماهية المعروضة للوجود والشخص إمّا

بالجعل البسيط ـ كما ذهب إليه جماعة ـ أو بجعله موصوفا بالوجود ـ كما ذهب إليه آخرون ـ ؛ لا الوجود العارض وحده ، ولا مجموع العارض والمعروض. نعم! الأثر المترتّب على الجعل بالمعنى الثاني أوّلا هو الاتصاف ـ أي : مفاد الهيئة التركيبية الحملية ـ ، فيستدعى مجعولا ومجعولا إليه ؛ بخلاف الجعل بالمعنى الأوّل فانّ أثر الجعل المترتّب عليه أوّلا هو نفس المجعول وهو المعروض ، ولا يستدعي مجعولا إليه. ثمّ تترتّب عليه موجوديته ووحدته العددية وسائر لوازمه المتأخّرة عنها. وبالجملة المقدور بالذات على الجعلين هو الماهية المعروضة للوجود من حيث هي ـ أي : لا بشرط الوجود والوحدة ـ. والماهية من حيث هي أمر واحد على فرض صدورها من قادرين ـ وإن تعدّد وجودها بالشخص ـ ، فلا يلزم عدم اشتراك المقدور بالذات بينهما.

ثمّ الواحد المشترك بينهما لمّا كان هو الماهية دون الوجود الشخصي فلا يلزم مفاسد كون المتعدّد علّة لواحد من توارد العلل المستقلّة على معلول واحد وكون المعنى العامّ مع ضعف وجوده علّة للواحد بالعدد ، لأنّ المشترك حينئذ هو معروض الموجودية والوحدة العددية ، لا بشرطهما. والمفاسد المذكورة انّما يلزم إذا كان المشترك هو الموجود الواحد بما هو موجود واحد.

وأمّا على ما ذهب إليه بعض العرفاء من مجعولية الوجود أوّلا بالجعل البسيط وكون الماهية أمرا ينتزعه العقل من هذا الوجود ويحمل عليه الموجودية المصدرية المأخوذة من نفس الوجود ويصفه بها ثمّ بسائر اللوازم ، واثبت ذلك بما هو الحقّ عنده من تحقّق وجود الممكنات في نفس الأمر بل تقدمه على ماهيتها فيه ـ كما هو ظاهر كلام المحقّق الطوسى في كتاب مصارع المصارع حيث قال : واعلم انّ وجود المعلولات في نفس الأمر بل متقدّم على ماهياتها وعند العقل متأخّر عنها (7) ـ ، فالظاهر أيضا انّ المقدور بالذات ـ بمعنى ما يصحّ أن يتّصف بالموجودية وأن لا يتّصف بها بسبب إرادة الجاعل ـ ليس إلاّ الماهية الّتي هي المجعول بالعرض عنده ؛ وهي متعلّق الإرادة أوّلا أيضا لتقدّمها على الوجود عند العقل ـ كما ظهر من كلام المحقّق ـ. نعم! الأثر المترتّب على

الجعل أوّلا والتابع للجاعل من حيث هو جاعل ـ كتابعية الضوء للشمس ـ على هذا التقدير هو الوجود ، لكنّه مقدور بالعرض ومتعلّق للإرادة ثانيا.

والحاصل : انّ الأثر المترتّب على الجعل أوّلا على هذا المذهب والمعروض والمقدّم بالذات في الخارج وإن كان هو الوجود وانتزاع الماهية وغيرها من اللوازم يترتّب عليه ثانيا إلاّ أنّ الماهية لمّا كانت مقدّمة على الوجود بحسب الوجود العقلي فهي المقدورة بالذات ، والقدرة تعلّقت أوّلا بها وثانيا بالوجود. ولا ريب انّ الماهية على فرض صدورها من قادرين وان تعدّد وجودها بسبب تعدّد جاعلها إلاّ أنّ تعدّد وجودها إنّما يرفع وحدتها العددية دون وحدتها المعنوية ، فلا يلزم عدم اشتراك المقدور بالذات بينهما.

ثمّ جميع ما ذكر إنّما هو في جعل الليس أيسا وتصيير المعدوم موجودا ، سواء كان هذا المعدوم ـ الّذي صار موجودا ـ جوهرا قائما بنفسه أو حالاّ لوحظ وجوده في نفسه وقطع النظر عن قيامه بغيره ووجوده له ، سواء كان هذا الحالّ صورة أو عرضا خارجيا أو ادراكيا. وأمّا في جعل الشيء الموجود شيئا آخر ـ كجعل الجسم متحرّكا والهيولى مصوّرة وزيد أعمى ـ ، فالظاهر انّ الجعل فيه هو بعينه الجعل المتعلّق بإيجاد الحال في نفسه على أيّ نهج كان ، لكن لوحظ تعلّقه بوجوده في محلّه. فيكون أثر الجعل في هذه الملاحظة اتصاف المحلّ به ، ويكون له مجعول ومجعول إليه ، ويكون مركّبا البتة.

وإن زعم بعض اصحاب المذهب الأوّل ـ أعني : الجعل البسيط ـ انّ الأثر هاهنا أيضا أمر بسيط كنفس الاتصاف أو الصيرورة أو شبه ذلك ، لكنّه إذا قيس إلى الطرفين يسمّى مركّبا.

ثمّ ترتّب هذه الملاحظة ـ أي : ملاحظة وجود الحالّ لمحلّه على وجوده في نفسه ـ بحسب إرادة الجاعل ، فان لاحظ في ايجاده الحالّ اتصاف المحلّ به وتعلّق ارادته بذلك كان من باب جعل الموجود شيئا آخر وكان الأثر في هذه الملاحظة اتّصاف المحلّ به ، وإن لم يلاحظ ذلك ولم يتعلّق ارادته به ـ بل كان مقصوده ومراده هو ايجاد الحالّ في نفسه ـ كان من باب جعل الليس ايسا ، وكان الأثر المترتّب عليه أوّلا هو الماهية أواتصافها بالوجود أو نفس الوجود ـ نظرا إلى المذاهب الثلاثة المتقدّمة ـ ، وإن ترتّب عليه بالعرض اتصاف المحلّ به.

وبالجملة لو لوحظ مجرّد وجود الحالّ في نفسه وقطع النظر عن اتصاف المحلّ به لم يكن الأثر المترتّب عليه هو الاتصاف ؛ ولو لوحظ وجوده بمحلّه كان الأثر المترتّب على الجعل أوّلا في هذه الملاحظة هو الاتصاف ، ويكون المقدور بالذات أيضا هو اتصاف المحلّ الموجود بالحالّ ، ويكون هذا الاتصاف معروض الموجودية والوحدة العددية ، ووحدته انّما هو بوحدة وجود الوصف الحالّ أو منشأ انتزاعه. فاذا تعدّد الجاعل لاتصاف جسم مثلا بالحركة فلا ريب في أنّ الحركة الّتي يوجدها فيه أحد الجاعلين غير الحركة الّتي يوجدها الآخر فيه بالشخص ، فيتعدّد الاتصاف ويكون الاتصاف الصادر من أحدهما غير الاتصاف الصادر من الآخر بالشخص. ثمّ الاتصاف المقدور بالذات ليس هو الاتصاف بشرط الوحدة والوجود ليلزم عدم اشتراك المقدور بالذات بين القادرين ، بل المقدور بالذات هو الاتصاف من حيث هو ـ أي : لا بشرط الوجود والوحدة ـ ، كما انّ المقدور بالذات في الماهية هي الماهية من حيث هي ـ أي : لا بشرطها ـ. ولا ريب انّ الاتصاف من حيث هو أمر واحد مشترك بينهما.

ثمّ لا يخفى انّ جعل الشيء الموجود شيئا آخر على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يكون الجعل المتعلّق بوجود الحالّ لمحلّه والجعل المتعلّق لوجوده في نفسه متّحدا ـ أي : لا يكون أحد الجعلين مغايرا للآخر ـ. وهذا إنّما يكون إذا كان وجود الحالّ في نفسه هو بعينه وجوده لمحلّه ، فيكون الجعل المتعلّق بوجود الحال هو بعينه الجعل المتعلّق بوجوده لمحلّه، ويكون غرض الجاعل ابتداء ايجاد الحالّ واتصاف المحلّ به. كما في افاضة الاعراض على الموضوعات واتصافها بها ، إذ وجود الأعراض في أنفسها وجوداتها لموضوعاتها ـ كما صرّح به الشيخ الرئيس ـ ، فيكون الأثر لهذا الجعل شيئا واحدا ـ أعني : وجود الحالّ الّذي هو بعينه اتصاف المحلّ به ـ.

الثاني : أن يكون الجعل المتعلّق بوجود الحالّ لمحلّه جعلا مغايرا للجعل المتعلّق بوجود الحالّ في نفسه ، لكن كان لازما له ومتأخّرا عنه بالذات. كما في اتصاف الهيولى بالصورة ، إذ وجود الصورة متقدّم على اتصاف الهيولى بها ؛ بل على وجود الهيولى أيضا ، لكن من حيث هو وجود الصورة المطلقة الكلّية لا من حيث هو وجود هذه الصورة الشخصية. وعلى هذا يتحقّق جعلان : أحدهما : الجعل المتعلّق بوجود الصورة في نفسها ، وأثره هو ماهية الصورة أو اتصافها بوجودها أو وجودها ـ على اختلاف الأقوال في جعل الليس أيسا ـ ؛

وثانيهما : الجعل المتعلّق بوجود الصورة للهيولى واتصافها بها ، وأثره هو اتصاف الهيولى بها.

الثالث : أن لا يتحقّق جعل لوجود الحالّ في نفسه أصلا ، بل يتحقّق أوّلا جعل مركّب متعلّق بالاتصاف لا يكون جعلا للحالّ بوجه ولا يكون للحالّ جعل آخر يكون هذا الجعل تابعا له ، فيكون أثره هو الاتصاف فقط دون الوصف ـ كما في جعل الشيء متّصفا بالصفات السلبية والاعتبارية ـ.

والمقدور بالذات في هذه الاقسام الثلاثة كلّها هو الاتصاف ، ووحدته العددية بوحدة وجود الصفة أو منشأ انتزاعها. وانما هو مقدور بالذات إذا أخذ لا بشرط الوحدة والوجود وإن كان في الواقع معروضا لهما ، كما إذا أخذ بشرطهما. فالمشترك بين القادرين على جميع أقسام الجعل هو مفروض الموجودية والوحدة العددية لا بشرطهما ، وما لا يجوز اشتراكه هو الموجود الواحد بما هو موجود واحد ، فلا اشكال ؛ انتهى ما قيل في الجواب عن الشبهة المذكورة مع توضيحه وتنقيحه.

وأنت تعلم انّ حاصله يرجع إلى أنّ المقدور بالذات في جميع أقسام الجعل وعلى جميع المذاهب هو معروض الموجودية والوحدة العددية ـ أعني : الماهية والاتصاف ـ ، لا بشرطهما ، لأنّ المقدور بالحقيقة هو ما يخرج من الليس إلى الأيس لا نفس هذا الاخراج الّذي هو فعل الايجاد ، ولا مجرّد الأيس الّذي هو الوجود ، والمخرج من الليس إلى الأيس ليس إلاّ الماهية لا بشرط الوجود. والوحدة العددية أو الاتصاف الّذي هو أيضا نوع ماهية والماهية لا بشرطهما واحد بالمعنى لا بالعدد ، فكونها مقدورة للواجب ولغيره لا يوجب توارد العلل المستقلّة على معلول واحد شخصي ، ولا كون المعنى العامّ مع ضعف وجوده علّة للواحد بالشخص ، لأنّ الماهية بدون ضمّ الوحدة العددية والخصوصية الشخصية ليست واحدة بالعدد ، بل تكون واحدة بالعدد إذا اعتبرت مع وجودها ووحدتها العددية ، فهي بهذا الاعتبار ليست مقدورة بالذات لقادرين حتّى يلزم المفسدتان ، بل مقدورة لأحدهما فقط. ولا يمكن أن يصدر بعينها بهذه الوحدة والوجود الخاصّ عن الآخر ، بل تلك الماهية إذا صدرت عن الآخر تكون مغايرة بالعدد للماهية الصادرة عن الأوّل لاقترانهما بوجود آخر ووحدة عددية أخرى وإن اتّحدتا من حيث الحقيقة والمعنى ، فالمعنى العامّ الّذي هو القدرة المشتركة بين القادرين لا يكون علّة لواحد بالعدد ، بل يكون علّة أيضا لأمر عامّ والعلّة الواحد بالعدد انّما هو واحد بالعدد أيضا من أفراد العامّ ، فالعامّ علّة للعامّ والخاصّ علّة للخاصّ.

وأنت تعلم انّ الواحد بالمعنى انّما يتصوّر في الحقائق الكلّية ـ كالإنسان وغيره ـ دون الأفراد والأشخاص ، فحقيقة كلام هذا المجيب يرجع إلى : انّ كلّ ما يصدر عن غيره ـ تعالى ـ من فرد مندرج تحت نوع ـ كزيد المندرج تحت الانسان مثلا ـ يمكن للواجب أن يوجد فرد آخر لهذا النوع ـ كعمرو مثلا ـ ، فيشتركان الفردان في الماهية ، وهي لكونها في نفسهما واحدة بالمعنى وإن اختلفت بالعدد ؛ والمقدور بالذات هي تلك الماهية من حيث واحدة بالمعنى لا من حيث اقترانها بالخصوصيات من الوجود والوحدة العددية. فمن حيث وحدتها المعنويّة لا يلزم عدم اشتراك المقدور بالذات بينهما ، إذ الماهية المتحقّقة في ضمن زيد هي بعينها متحقّقة في ضمن عمرو ، والتفاوت بينهما إنّما هو بانضمام الخصوصيات الخارجة من الوجود والشخص ، فالماهية مع وحدتها المعنوية وكلّيتها متحقّقة في ضمن جميع الأفراد. وهذا هو معنى وجود الكلّى الطبيعي في الخارج ، فالماهية المتحقّقة في ضمن زيد الموجودة من أحد القادرين إذا أوجدها الآخر في ضمن عمرو يصدق انّه أوجد تلك الماهية ، فالمقدورات بالذات أمر متحقّق موجود في الخارج مشترك بينهما ، إلاّ أنّه من حيث انتفاء الوحدة العددية لا يلزم المفسدتان المذكورتان. وأمّا الوجود فلمّا كان افرادها متخالفة بالحقيقة عند الحكماء والمشترك بينهما لم يكن أمرا موجودا متحقّقا في الخارج بل أمرا اعتباريا عرضيا ، فلا يتحقّق بين وجود زيد ووجود عمرو مثلا أمر متحقّق في الخارج يكون مشتركا. فاذا افاض غيره ـ تعالى ـ وجود زيد فان امكن للواجب أيضا أن يفيض وجود زيد بعينه لزم المفسدتان ؛ وان افاض وجود عمرو لزم عدم اشتراك المقدور بالذات واشتراكهما في الوجود المطلق الّذي هو مفهوم عرضي غير مفيد، لأنّه ليس امرا متحصّلا في الخارج ولا يتعلّق به الجعل أصالة.

وغير خفي انّه على ما ذكره المجيب يلزم أن لا يكون الأشخاص والأفراد الصادرة عن غيره ـ تعالى ـ من حيث هي اشخاص وأفراد ممكنة له ـ تعالى ـ ، بل المقدور له انّما هو اشخاص وافراد اخر ، فزيد الموجود من غيره ـ تعالى ـ لا يكون ممكن الصدور عنه ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته ـ تعالى ـ. لأنّ الوجود ونشأته وساير ما يلزمها داخلة في حقيقة الشخص ، فالشخص من حيث هو شخص لا يكون له مقدورا له ـ تعالى ـ ومقدورية الماهية الانسانية لا مدخلية لها لمقدورية الشخص من حيث انّه شخص. والظاهر انّ المجيب يلزمه ويقول : انّ ذلك لاستحالة خارج عن عموم قدرته ـ تعالى ـ ، فعموم قدرته ـ تعالى ـ مخصّص بغير الجزئيات والأشخاص الصادرة عن غيره ـ تعالى ـ.

ولا يخفى انّه يمكن أن يقال : هذا وهن في عموم قدرته ـ تعالى ـ وعظم سلطانه! ، فانّه تعالى ـ حينئذ لا يكون قادرا على ايجاد كلّ شخص صدر من غيره. وقدرته على ايجاد غير ذلك الشخص ممّا هو داخل معه تحت أمر كلّي لا يدفع صدق عموم شمول قدرته لهذه الاشخاص بعينها.

وأيضا : ما ذكره المجيب انما يتأتّى في أفراد الجوهر ممّا يدخل تحت أمر كلّي واحد بالوحدة المعنوية موجود في الخارج ، ولا يتأتى في أفراد الأعراض ـ كالأفعال الصادرة عن العباد مثل الاحسان والضرب وامثالهما ـ ؛ وفي اتصاف الجسم بالحركة ممّا جعل المجيب المقدور بالذات فيه نفس الاتصاف ، لأنّها ليست من الحقائق المحصّلة في الخارج ، فلا يكون ما به الاشتراك في أفرادها أمرا موجودا في الخارج ، بل ما به الاشتراك بينهما أمر عرضي اعتباري ـ كمفهوم الضرب والحركة ـ أو مفهوم الاتصاف. فلو جعل زيد مثلا عمروا متّصفا بالحركة فلو امكن للواجب أن يجعل عمروا متّصفا بتلك الحركة بعينها وبذلك الاتصاف ، لزم المفسدتان ؛ ولو لم يمكنه ذلك بل أمكن له اتّصافه بحركة أخرى بدل تلك الحركة حتّى تختلف الحركتان بالعدد وبتعدّد الاتصاف أيضا بالعدد وكان المقدور بالذات هو نفس الاتصاف المشترك بين الواجب وبين زيد وعدم لزوم عدم الاشتراك في المقدور بالذات حينئذ ـ لاشتراكهما في مفهوم الاتصاف ـ ؛ فيرد : انّ مفهوم الاتصاف أمر غير متحصّل في الخارج وليس مثل الطبائع الكلّية الموجودة في الخارج حتّى يكون وجودها الخارجي ووحدتها المعنوية مصحّحا لاشتراك المقدور  بالذات. ولو صحّ مثل ذلك الاشتراك المقدور بالذات لصحّ أن يقال : المقدور بالذات هي نفس الايجاد والافاضة أو الوجود المطلق المشترك بين الموجودات ، ولا حاجة إلى جعل المقدور بالذات هو الماهية من حيث هي دون الوجود ـ كما ارتكبه هذا المجيب ـ. وعلى هذا فكلّ ما يصدر عن غيره ـ تعالى ـ أمكن أن يقال : انّه مقدور له ـ تعالى ـ إذا امكن له أن يوجد موجودا ما ولو كان مغايرا له في النوعية والجنسية لاشتراكهما في الايجاد والوجود المطلق. ولا ريب انّه لا مدخلية لمثل ذلك لعموم القدرة المطلوبة للقوم ، لأنّ ذلك ثابت لكلّ من يقدر على تأثير ما. فظهر ان الجواب الّذي ذكره هذا المجيب للشبهة المذكورة غير تامّ.

نعم! يمكن أن يقرّر هذا الجواب على وجه يصير تامّا ؛ وهو : انّ المقدور بالذات في مطلق الجعل ـ سواء كان المجعول جوهرا أو عرضا ، قارّا أو غير قارّ ، وبالجملة أيّ نوع منه كان حتّى مثل الاتصاف في مثل جعل الشيء شيئا آخر ـ هو الماهية. ومعنى كونها مقدورة لشيء أن يمكنه فعل الماهية ـ أي : جعلها موجودة بلوازمها ـ ، ولو كانت تلك الماهية مثل الاتصاف. ومآل الأقوال الثلاثة في الجعل ـ أعني : كون المجعول نفس الماهية أو الوجود أو اتصافها به ـ إلى أنّ الجاعل انّما يوجد الماهية ويخرجها من العدم إلى الوجود ، وإنّما الفرق في تعلّق الجعل أوّلا بنفس الماهية أو وجودها أو اتصافها به ؛ ولا مخالفة بينها في أنّ فعل الجاعل هو ايجاد الماهية وابرازها من كتم العدم إلى الوجود.

فالأثر المترتّب على الجعل أوّلا هو الماهية الخارجية ـ أي : الموجودة ـ ، ثمّ يترتب عليه جميع لوازمها الخارجية ووحدتها العددية. فالمقدور بالذات لمّا كان هو الماهية وكان معنى مقدوريتها امكان افاضة الوجود من حيث هو وجود لا من حيث هو وجود خاصّ معيّن ، فيكون معنى مقدورية فعل واحد شخصي امكان افاضة الوجود ـ من حيث هو وجود ـ على ماهية هذا الفعل. فمعنى كون الحركة مقدورة للواجب ولزيد أن يمكن لهما افاضة الوجود على ماهية الحركة ـ أي : اخراج ماهيتها من العدم إلى الوجود ـ. ولا ريب في أنّه ممكن لهما ، لأنّ كلاّ منهما قادر على ايجاد الحركة في محلّ خاصّ واحد وبه يتصحّح اشتراك المقدور بالذات ـ أي : الماهية ـ ، لان افاضة الوجود عليها واخراجها من العدم إلى الوجود مشترك بينهما. ولا يلزم حينئذ وجود علّتين لمعلول واحد شخصي لأنّ الشخص انّما هو نحو الوجود وما يلزمه ، ونحو الوجود وما يلزمه متغايران بالعدد في صورة تعدّد الفاعل. ولا يمكن أن يكون نفس الشخص ـ أي : نحو الوجود وخصوصية الوجود الخاصّ وتعيّنه ـ من حيث هو صادر عن أحد الفاعلين صادرا عن الآخر ، لأنّ ذلك يرفع المناسبة بين العلّة والمعلول ، وهو محال. فخصوصية الحركة الصادرة عن زيد ونحو وجودها وتعيّنها لا يمكن أن يصدر عن الواجب ، لأنّ صدوره لانحطاط مرتبته في الوجود لا يناسب ذاته المقدّسة ولا يليق بعلوّ شأنه. وحينئذ يمكن أن يقال : انّه لا يمكن أن يصدر عنه هذا التعين بالنظر إلى ذاته ، إلاّ انّه لا يمكن أن يصدر عنه بالنظر إلى ذات هذا التعين ولا يلزم منه وجود علّتين لمعلول واحد شخصي ، لأنّ شرط تحقّق العلّية وجود امكان الصدور عن الطرفين ، فاذا فقد الامكان من طرف المعلول ارتفعت العلّية والمعلولية ولو كان الامكان من طرف العلّة متحقّقا ، فانّ صدور الكذب من الواجب ممكن بالنظر إلى ذاته ، إلاّ أنّه لقبحه وعدم مناسبته لذاته الجسيمة لا يصير ذاته سببا وعلّة لصدوره وعلّيته البتة. وعلى التقديرين لا يكون عدم كونه ـ تعالى ـ علّة للتشخّص والتعيّن الصادر عن زيد مثلا وهنا في عموم قدرته ونقصا في عظم سلطانه ، فتأمّل ؛ هذا.

ويمكن أن يقال في الجواب : انّ جميع الأشخاص والأفراد بعينها ممكنة الصدور عن الواجب ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته ، وانّ هذا الشخص من الفعل بوحدته الشخصية ووجوده الشخصي الصادر عن زيد على الظاهر يمكن أن يصدر عنه ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته. وبالجملة صدور جميع الممكنات بأجناسها وأنواعها وأشخاصها ولوازمها وتعيناتها ووحداتها الشخصية عن الواجب ـ تعالى ـ ممكن بالنظر إلى ذاته ، ومع ذلك لا يلزم توارد العلل المستقلّة على أمر واحد شخصي ولا علّية المعنى العامّ للواحد الشخصي ؛ أمّا على طريقة الحكماء فظاهر ، لأنّهم لا يثبتون التأثير والايجاد لشيء من الممكنات ويقولون : الممكن لكونه محض القوّة والعدم لا يمكن أن يصير منشئا للإيجاد والافاضة ، فإيجاد الجميع والافاضة على الكلّ انّما هو منه ـ تعالى ـ بلا واسطة وان كان بعض الممكنات شرائط ووسائط لحصول الايجاد والافاضة من الواجب ـ تعالى ـ. فعلّة كلّ موجود شخصي بوحدته الشخصية ووجوده الشخصي وكلّ فعل شخصي كذلك منحصر بالواجب ـ تعالى ـ عندهم ، ولا شريك له في الافاضة اصلا حتّى يلزم تصوّر علّتين لمعلول واحد فضلا عن تواردهما عليه. وما ذهبوا إليه من وجوب ترتيب الصدور في الموجودات من العقول والنفوس والطبائع والعناصر والمركّبات لا ينافي القول بعدم الواسطة والافاضة ، لأنّ المراد بعدم الواسطة في التأثير انّ المخرج لكلّ شيء من القوّة والعدم لا يكون إلاّ من هو بريء من كلّ وجه عن العدم وهو ليس إلاّ الواجب سبحانه ـ ، والمراد بوجوب ترتيب صدور الأشياء عنه ـ تعالى ـ انّه يجب حفظ مرتبة وجودها بطريق التناوب بأن يصدر الأشرف فالأشرف ثمّ الاحسن فالأحسن ـ لعدم لياقتها بغير هذا الوجه من الصدور ـ ، فلو كان بنحو آخر لم يصدر شيء لاستلزامه اجتماع المتنافيين من كون الشيء مثلا عقلا وغير عقل ، لأنّه لو صدر العقل في مقام النفس ومرتبتها لم يصدر العقل ، ولو صدر العرض في مقام الجوهر ومرتبته لم يصدر العرض ـ وهكذا غير ذلك من مراتب الموجودات ـ. فعند الحكماء قدرته ـ تعالى ـ مع ارادته اللتين هما عين ذاته ـ تعالى ـ متعلّقة بكلّ شيء على الترتيب السببي والمسببي اللائق بنظام العالم على وجه أكمل وأتمّ.

فان قيل : الحركات والتحريكات الحاصلة في الأجسام لاشتمالها على جهة القوّة

يجب أن تكون في فاعلها أيضا جهة القوّة ، فالاوّل ـ سبحانه ـ لتجرّده وتعاليه عن جهة القوّة لا يمكن أن يكون فاعلا قريبا مباشرا لها عند الحكماء؟ ؛

قلنا : قد تقدّم انّ تحقّق جهة القوّة في فاعل ما فيه جهة القوّة غير لازم ؛ ولو سلّم نقول : انّ توسيط المثل وغيره ممّا يكون به جهة القوّة لا ينافي قرب الفاعل الموجد المؤثّر ، وذلك كما انّ الواحد من جميع الجهات عند الفلاسفة لا يمكن أن يصدر عنه إلاّ واحد مع انّ صدور جميع الموجودات القارّة انّما هو عنه ـ تعالى ـ عند جميعهم ، وذلك بتوسيط العقول وغيرها. والتأثير والايجاد انّما هو عنه ـ تعالى ـ وتلك الوسائط كالآلات والشرائط في صدور الكثرة عنه ـ كما نقل عنه في شرح الاشارات (8) وغيره ـ ، لا أنّها المؤثّرات القريبة وهو العلّة البعيدة ـ كما هو معروف عند غير المحقّقين من المتفلسفة ـ. نظير ذلك صدور الحركات الارادية عن نفوسنا ، اذ تحريك النفس الناطقة المجرّدة لليد مثلا لا يمكن إلاّ بانبعاث الميل الجزئي وتوسيط القوى الآلية وتحريك الأعصاب والعضلات ، وذلك لا يستلزم كون التأثير من تلك الوسائط.

وكذلك ادراكها للمتوهّمات والمتخيّلات والمحسوسات لا يمكن إلاّ بالآلات وهو المدرك للجميع بالحقيقة.

وأمّا على طريقة المعتزلة فلأنّ كلّ شخص من حيث هو أنّه شخص إذا صدر عن غيره ـ سبحانه ـ فيمكن صدوره عنه ـ تعالى ـ أيضا بالنظر إلى ذاته ، إلاّ أنّه لمّا صدر عن الغير لبعض المصالح الراجعة إلى نظام الخير صار هذا الصدور منشئا لاستحالة صدوره عن الله ـ سبحانه ـ ، لأنّ الشخص من حيث انّه واحد بعينه لا يمكن أن يقع في الخارج مرّتين ، فالإمكان بالنظر إلى ذاته ـ تعالى ـ حاصل ، فلا يلزم نفي شمول قدرته بالمعنى المقصود للشخص بعينه. والامتناع قد حصل بالغير ، فلا يلزم صحّة توارد العلّتين على الشخص في الواقع. وإلى هذا اشار المحقّق الطوسى في مبحث القدرة من الأعراض بقوله : ولا يتّحد وقوع المقدور مع تعدّد القادر » (9) ؛ فانّ افحام لفظ « الوقوع » اشارة إلى انّه يجوز أن يكون لمعلول واحد شخصي علّتان مستقلّتان ، لكن إذا وقع المعلول بأحدهما امتنع أن يقع بالآخر ؛ فلا يمكن وقوع المقدور الواحد الشخصي إلاّ من قادر واحد وإن امكن كونهما معلولا لهما بالنظر إلى ذاتهما.

ثمّ تعيّن صدور بعض المعلولات عن غيره ـ تعالى ـ وعدم صدوره عنه ـ سبحانه ـ مع صحّة صدوره عنه ـ تعالى ـ أيضا لأجل ملاحظة بعض المصالح الراجعة إلى النظام الأعلى مثلا لا يصحّ أن يصدر أفعال العباد منه ـ تعالى ـ بالنظر إلى الإرادة والعلم بالأصلح ، لأنّ صدورها منه ـ تعالى ـ يوجب الالجاء المنافي للتكليف ، فلم تبق القدرة مع الإرادة بها. وهذا لا يوجب امتناع تعلّق نفس القدرة من حيث هي قدرة بها ، إذ الايجاد غير معتبر في القدرة وإلاّ لزم عدم اقتداره ـ تعالى ـ على خلق العالم حين كان العالم معدوما ؛ وهو باطل بالاتفاق. فمجرّد عدم ايجاد الواجب افعال العباد لا يقتضي عدم شمول قدرته بالمعنى المشهور لها ، بل يصحّ أن يتعلّق بها من غير اعتبار العلم بالأصلح ؛ هذا.

وقد علمت انّه لو عمّم القدرة وأريد بها شمولها لجميع الاشياء ـ سواء كان بلا واسطة أو بواسطة ـ لكانت القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير والقدرة بالمعنى المشهور ـ أي : امكان الفعل والترك بالنظر إلى الذات ـ عامّة شاملة بالنظر إلى جميع الموجودات ، وكان الجميع صادرا عنه ـ تعالى ـ ؛ فيكون الواجب حينئذ بالنظر إلى اعمال العباد فاعلا بعيدا لا قريبا. ونفي الفاعلية القريبة لا يوجب نفي الفاعلية البعيدة بمعنى انّه لو لم يوجد البعيد على وجه يكون قادرا لم يصدر تلك الأفعال عنه ، لأنّ الصدور فرع وجود المصدر ؛ وهذا لا يوجب الالجاء ، لأنّ جعل الشيء قادرا يؤكّد اقتداره على افعاله ويمكّنه على الفعل والترك ؛ هذا.

وبقي الكلام في أنّه بناء على قواعد الاعتزال إذا كان الواحد الشخصي الصادر عن زيد مثلا ممكن الصدور عن الواجب بالنظر إلى ذاته لزم جواز كون علّتين مستقلّتين لشيء واحد بعينه وإن لم يصدر إلاّ عن أحدهما ، مع انّه باطل ؛ لأنّ المناسبة بين العلّة والمعلول لازمة والواحد من حيث هو واحد لا يناسب المختلفين.

والجواب : انّ وجوب المناسبة بين العلّة والمعلول أوجب عدم جواز كون الواحد من حيث هو واحد علّة لكثير ومعلولا لكثير من حيث هو كثير في مرتبة واحدة ، لأنّ الواحد إذا كان علّة لكثير أو معلولا له يجب أن يكون مناسبا لهؤلاء الكثير والوحدة من حيث هي وحدة مغايرة ومخالفة للكثرة من حيث هي كثرة ، فلو كان الواحد من حيث هو واحد مناسبا للكثرة من حيث هي كثرة لكان مغايرا ومخالفا لنفسه ، فعدم جواز التسلسل بين الواحد والكثير إنّما إذا كان أحدهما علّة للآخر من حيث الكثرة أو الوحدة والآخر معلولا له من حيث المقابل ، فلو كان الواحد علّة لكثير أو معلولا له من حيث اشتماله على جهات تعدّد الكثير أو من حيث اشتراك الكثير في جهة واحدة أو كونه في مراتب كثيرة لكان جائزا. ولذا صرّح الحكماء بأنّه إن كان كثير معلولا أو علّة لواحد يجب أن يكون لها مراتب كثيرة أو يكون للواحد جهات تعدّد الكثير أو للكثير اشتراك في جهة واحدة يكون الفعل بينهما بهذا الاعتبار. وإذا عرفت ذلك تعلم انّ امكان صدور واحد بعينه من قدرة الواجب بذاته ومن قدرة زيد هي صادرة عن قدرة الله لا يوجب علّية الكثير من حيث هو كثير للواحد من حيث هو واحد ؛ ولا يدفع المناسبة بين العلّة والمعلول ، لأنّ قدرة زيد لمّا كانت صادرة عن قدرة الله فبين القدرتين مناسبة البتة ، والفعل الواحد بالشخص لمّا كان صادرا عن قدرة زيد فيكون مناسبا لها ، وإذا كان مناسبا لها يكون مناسبا لقدرة الواجب أيضا ، لأنّ المناسب للمناسب مناسب. فعلّية الواجب وزيد لهذا الفعل الواحد انّما هو من جهتين مناسبتين هما : القدرة الواجبة الثابتة له ـ تعالى ـ بذاته ، و: قدرة زيد الفائضة منه ـ سبحانه ـ. فتتحقّق في الكثير ـ أعني : الواجب وزيد ـ جهة مشتركة ـ أي : مفهوم القدرة ـ بها يتصحّح كون الواجب وزيد علّتين لواحد شخصي.

وأنت تعلم انّ هذا القول ـ أي : جعل العلّة للواحد الشخصي هو القدرة المشتركة بين الواجب وبين زيد ـ يستلزم فسادين :

أحدهما : انّه يلزم أن يكون المعنى العامّ مع ضعف وحدته ووجوده علّة موجدة لواحد شخصي ، وقد مرّ بطلانه ؛

وثانيهما : انّ هذا الأمر العامّ المشترك بين الواجب وبين زيد إن كان ذاتيا لزم تركّبه ـ تعالى عنه علوّا كبيرا! ـ ، وان كان عرضيا كان تابعا لما به الاشتراك الذاتي ، وإلاّ بطل التناسب ، لأنّ الأشياء المختلفة بتمام الحقيقة لو كانت مشتركة في معنى واحد عرضي من دون استناده إلى معنى مشترك ذاتي لزم علّية الكثرة من حيث هي كثرة للواحد الشخصي من حيث أنّه واحد، وقد ظهر بطلانه. وإذا كان تابعا لما به الاشتراك الذاتي عاد محذور التركيب.

ومن هذا يظهر أنّ الأصوب ما ذهب إليه محقّقوا الحكماء من أنّ الافاضة على الكلّ وايجاد كلّ ممكن من الممكنات انّما هو من الواجب ـ عزّ اسمه ـ ، وغيره من الوسائط انّما هو شروط وآلات ومعدّات ، وليس أصل الافاضة والتأثير منه مطلقا ـ : لا من الجهة المستندة إلى ذاته ولا من الجهة المستندة إليه تعالى ـ. وحينئذ فعلّة كلّ موجود كائنا ما كان وكلّ ممكن من الممكنات ليست إلاّ هو ، فلا يلزم تحقّق علّتين لواحد بالشخص.

والحاصل : انّه لو كان واحد من الموجودات معلولا لغيره ـ تعالى ـ بمعنى أن يكون موجدا منه أو امكن له ايجاده بالنظر إلى ذاته وإن لم يصدر منه بالفعل فامّا أن يكون هذا الواحد مقدورا له ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته بلا واسطة بجهة مشتركة بينه وبين الغير فيستلزم المفسدتان المذكورتان ، أو بجهة خاصّة به ـ تعالى ـ حتّى يكون كلّ من الواجب وغيره قادرا على ايجاد الواحد بالشخص بجهة مختصّة به ـ أي : من حيث انّهما مختلفتان بتمام الحقيقة ـ لزم وجود علّتين مختلفتين بجميع الوجوه للواحد الشخصي ؛ وامّا أن لا يكون هذا الواحد مقدورا له بالنظر إلى ذاته بلا واسطة ، وحينئذ إن لم يكن مقدورا له بالواسطة أيضا لزم نفي القدرة عنه ـ تعالى ـ راسا ، وهو خلاف ما اجمع عليه العقلاء ؛ وإن كان مقدورا له بالواسطة لزم عدم شمول قدرته بالمعنى المشهور للكلّ بلا واسطة وكونه عاجزا بالنظر إلى ذاته عن ايجاد ما يوجده غيره ممّا هو معلول له ـ تعالى ـ ، وهو أيضا بديهى البطلان. فبقي أن يكون التأثير في الكلّ منحصرا به

ـ تعالى ـ ولا يكون معه شريك في الايجاد حتّى لا يلزم شيء من المفاسد المذكورة.

فان قيل : يلزم على هذا أن يكون أفعال العباد مستندة إليه ـ تعالى ـ ولا يكون مستندة إليهم ، إذ لو كانت مستندة إليهم لنقلنا الكلام إلى كلّ فعل واحد شخصي من تلك الأفعال ، فيلزم أحد المفاسد المذكورة ؛ وإذا لم تكن مستندة إليهم يلزم الجبر في التكليف! ؛

قلنا : يمكن أن يقال : انّ كونهم شروطا ووسائط للإفاضة والايجاد يكفي لاستناد افعالهم إليه. وقد اشير إلى انّ ذلك أحد التوجيهات لتصحيح الأمر بين الأمرين.

فان قيل : على ما تقدّم في كلام المجيب الأوّل من جواز صدور الواحد بالمعنى المشترك بين شخصين من علّتين فليجز صدور معلول واحد من الواحد بالمعنى المشترك بين العلّتين ، فيجوز أن تكون القدرة المشتركة بين الواجب وزيد علّة لمعلول واحد بالشخص ؛

قلنا : معلولية المعنى العامّ أمر معقول ليس فيها مفسدة. وأمّا علّيته فغير معقولة ، لضعف وجوده ولاستلزامه التركيب في الواجب ، فلا يجوز علّيته لواحد ولا كثير ؛ هذا.

__________________

(1) الاصل : الملزومة.

(2) الاصل : ولا جواز.

(3) راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الاولى من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 219.

(4) العبارة هكذا في النسختين.

(5) راجع : الشفاء / الإلهيات ، ج 1 ، ص 87.

(6) راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثالثة والعشرون من الفصل الخامس من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ، ص 192.

(7) راجع : مصارع المصارع ، ص 189.

(8) راجع : شرح الاشارات والتنبيهات ، المطبوع مع المحاكمات ، ج 3 ، ص 249 ؛ شرحي الاشارات ، ج 2 ، ص 47.

(9) راجع : تجريد الاعتقاد ، المسألة الثالثة والعشرون من الفصل الخامس من المقصد الثاني ؛ كشف المراد ، ص 192.

 




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.