أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-08-26
262
التاريخ: 17-10-2014
1356
التاريخ: 17-10-2014
1616
التاريخ: 27-11-2014
1734
|
في عقيدة المسلمين في هذا الباب، فنقول : المعروف بينهم عدم وقوع التحريف في الكتاب، وأنّه كما لم يقع التحريف بالزيادة إجماعاً كما عرفت، كذلك لم يقع التحريف بالنقيصة، وأنّ ما بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على الرسول الامّي صلى الله عليه و آله، وقد صرّح بعدم وقوع التحريف في الكتاب أعاظم علماء الشيعة الأمامية وأعلامهم من المتقدّمين والمتأخِّرين، وإليك نقل بعض كلماتهم : قال شيخ المحدّثين صدوق الطائفة في محكيّ كتاب الاعتقادات : «اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللَّه - تعالى - على نبيّه محمد صلى الله عليه و آله هو ما بين الدفّتين؛ وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك.
ومن نسب إلينا أنّا نقول : إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب» (1) .
وقال المفيد - رحمه اللَّه تعالى - في أوائل المقالات : «وقد قال جماعة من أهل الإمامة : إنّه لم ينقص من كلمة، ولا من آية، ولا من سورة، ولكن حُذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان ثابتاً منزلًا وإن لم يكن من جملة كلام اللَّه - تعالى - الذي هو القرآن المعجز، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً، قال اللَّه - تعالى - : {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه : 114].
فسمّى تأويل القرآن قرآناً، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف.
وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل، وإليه أميل، واللَّه أسأل توفيقه للصواب» (2) .
وقال السيِّد المرتضى قدس سره في المحكي عنه في جواب المسائل الطرابلسيّات : إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار، والوقائع العظام والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة؛ فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدٍّ لم يبلغه ما ذكرناه؛ لأنّ القرآن معجزة النبوّة، ومأخذ العلوم الشرعيّة والأحكام الدينيّة، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة، والضبط الشديد؟ وقال أيضاً قدّس اللَّه روحه : إنّ العلم بتفسير القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة، ككتاب سيبويه والمزني، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما، حتّى لو أنّ مدخلًا أدخل في كتاب سيبويه باباً في النحو ليس من الكتاب، لَعُرف وميّز، وعلم أ نّه ملحق وليس من أصل الكتاب، وكذلك القول في كتاب المزني.
ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء.
وذكر أيضاً رضى الله عنه : أ نّ القرآن كان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن.
واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنّه كان يعرض على النبيّ صلى الله عليه و آله ويتلى عليه، وأنّ جماعة من الصحابة مثل عبداللَّه بن مسعود وابيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ صلى الله عليه و آله عدّة ختمات، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث.
وذكر أنّ من خالف في ذلك من الإماميّة والحشويّة لا يعتدّ بخلافهم؛ فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّتها (3) .
وقال الشيخ الطوسي - قدّس سرّه القدوسي - في أوّل تفسيره المسمّى بالتبيان : أمّا الكلام في زيادته ونقصانه، فممّا لا يليق به - يعني بالتفسير - أيضاً؛ لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى رحمه الله، وهو الظاهر في الروايات، غير أ نّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملًا، والأولى الإعراض عنها. .. (4)
وتبعه على ذلك المحقّق الطبرسي في مقدّمة تفسيره «مجمع البيان» (5) , الذي هو كالتلخيص لتفسير «التبيان».
وقال كاشف الغطاء في محكي كشفه : لا ريب في أ نّه - يعني القرآن - محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديّان، كما دلّ عليه صريح القرآن، وإجماع العلماء في جميع الأزمان، ولا عبرة بالنادر، وما ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهة من العمل بظاهرها - إلى أن قال : - فلابدّ من تأويلها بأحد وجوه. (6)
وعن السيِّد القاضي نور اللَّه في مصائب النواصب : ما نسب إلى الشيعة الإماميّة من قولهم بوقوع التغيير في القرآن ليس ممّا قال به جمهور الإماميّة، وإنّما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم (7) .
و عن الشيخ البهائي قدس سره بأنّه قال : وأيضاً اختلفوا في وقوع الزيادة والنقصان فيه، والصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك زيادةً كان أو نقصاناً، ويدلّ عليه قوله - تعالى - : {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر : 9],وما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم أمير المؤمنين عليه السلام منه في بعض المواضع، مثل قوله - تعالى - : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } [المائدة : 67] في عليّ وغير ذلك، فهو غير معتبر عند العلماء (8) .
وعن المقدس البغدادي في شرح الوافية :.
وإنّما وقع الخلاف في النقيصة، والمعروف بين أصحابنا حتّى حكي عليه الإجماع عدم النقيصة أيضاً.
وعنه أيضاً، عن الشيخ عليّ بن عبد العالي (9) .أنّه صنَّف في نفي النقيصة رسالة مستقلّة، وذكر كلام الصدوق المتقدّم، ثمّ اعترض بما يدلّ على النقيصة من الأحاديث، وأجاب بأنّ الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب والسنّة المتواترة أو الإجماع، ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه، وجب طرحه (10) .
وحكي هذا القول - أيضاً - عن العلّامة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه «العروة الوثقى» ناسباً له إلى جمهور المجتهدين (11) .
وعن المحدّث الشهير المولى الفيض الكاشاني في كتابي «الوافي (12) وعلم اليقين» (13) (14) .
رّح به أيضاً فقيد العلم الكامل الجامع الشيخ محمد جواد البلاغي في مقدّمة تفسيره، المسمّى ب «آلاء الرحمن» (15) .
وبالجملة : لا مجال للارتياب في أنّ المشهور بين علماء الشيعة الإماميّة بل المتسالم عليه بينهم، هو القول بعدم التحريف، وإنّما ذهب إليه منهم طائفة قليلة من الأخباريّين (16) ، اغتراراً بظاهر الروايات الدالّة على ذلك، التي سيجيء الجواب عن الاستدلال بها، ومع ذلك فلا مساغ لنسبة هذا القول إلى الطائفة المحقّة، وجعل ذلك من المطاعن في الفرقة الناجية، كما يظهر من بعض مفسِّري أهل السنّة وغيرهم.
ولا بأس بنقل عبارة بعضهم ليظهر ركوبهم مركب التعصّب وهو عثور، وينقدح ابتلاء الطائفة المحقّة بمثل هذه الافتراءات الكاذبة، والنسب الباطلة غير الصادقة، فنقول : قال الآلوسي في مقدّمة تفسيره روح المعاني : وزعمت الشيعة أنّ عثمان، بل أبا بكر وعمر أيضاً حرّفوه، وأسقطوا كثيراً من آياته وسوره، فقد روى الكليني منهم عن هشام بن سالم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّ القرآن الذي جاء به جبرئيل عليه السلام إلى محمّد صلى الله عليه و آله سبعة عشر ألف آية (17) .
وروى محمد بن نصر، عنه أنّه قال : كان في {لَمْ يَكُنِ} اسم (18) سبعين رجلًا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم (19) .
وروى عن سالم بن سلمة قال : قرأ رجل على أبي عبداللَّه عليه السلام - وأنا أسمعه (20) - حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبداللَّه عليه السلام : كفّ عن هذه القرءة، اقرأ كما يقرأ الناس حتّى يقوم القائم عليه السلام، فإذا قام القائم قرأ كتاب اللَّه - عزّوجلّ - على حدّه (21) .
وروى عن محمّد بن جهم الهلالي وغيره، عن أبي عبداللَّه عليه السلام : {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل : 92] ليس كلام اللَّه، بل محرّف عن موضعه، والمنزل : «أئمّة هي أزكى من أئمّتكم» (22) .
وذكر ابن شهر آشوب المازندراني في كتاب «المثالب» له : أنّ سورة الولاية اسقطت بتمامها، وكذا أكثر سورة الأحزاب؛ فإنّها كانت مثل سورة الأنعام، فأسقطوا منها فضائل أهل البيت عليهم السلام، وكذا أسقطوا لفظ «ويلك» من قبل {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة : 40], و «عن ولاية عليّ» من بعد { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات : 24]
و«بعليّ بن أبي طالب» من بعد {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب : 25]، و«آل محمّد» من بعد {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الشعراء : 227] (23) إلى غير ذلك.
فالقرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم شرقاً وغرباً، وهو لكرة الإسلام ودائرة الأحكام مركزاً وقطباً أشدّ تحريفاً عند هؤلاء من التوراة والإنجيل، وأضعف تأليفاً منهما وأجمع للأباطيل، وأنت تعلم أنّ هذا القول أوهى من بيت العنكبوت، وأنّه لأوهن البيوت ، ولا أراك في مرية من حماقة مدّعيه وسفاهة مفتريه، ولما تفطّن بعض علمائهم لما به جعله قولًا لبعض أصحابه.
ثمّ نقل كلام الطبرسي في مقدّمة مجمع البيان، المشتمل على نقل كلام السيِّد المرتضى المتقدّم، ونسبة ذلك إلى قوم من حشوية (24) العامّة.
ثمّ قال : وهو كلام دعاه إليه ظهور فساد مذهب أصحابه حتّى للأطفال.
ثمّ أنكر نسبة ذلك إلى قوم من الحشويّة، نظراً إلى إجماع العامّة على عدم وقوع النقص فيما تواتر قرآناً، كما هو موجود بين الدفّتين اليوم.
ثمّ قال : «نعم، أسقط زمن الصديق ما لم تتواتر وما نسخت تلاوته، وكان يقرؤه من لم يبلغه النسخ، وما لم يكن في العرضة الأخيرة، ولم يألُ جُهداً في تحقيق ذلك، إلّا أنّه لم ينتشر نوره في الآفاق إلّا زمن ذي النورين، فلهذا نسب إليه.
كما روي عن حميدة بنت يونس أنّ في مصحف عائشة : «إنَّ اللَّه و مَلئِكَته يصلُّون على النَّبىّ يَأيُّهَا الَّذين ءامنُوا صَلُّوا عليْه وسَلّموا تسْلِيماً - وعلى الّذين يصلون الصفوف الأوّل» وأنّ ذلك قبل أن يغيّر عثمان المصاحف (25)
فما أخرج أحمد، عن ابيّ قال : قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله : «إنّ اللَّه - تبارك وتعالى - أمرني أن أقرأ عليك قال : فقرأ عليّ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة : 1 - 4] إنّ الدين عند اللَّه الحنيفيّة غير المشركة، ولا اليهوديّة، ولا النصرانيّة، ومن يفعل خيراً فلن يكفر (26) .
وفي رواية : ومن يعمل صالحاً فلن يكفره، وما اختلف الذين اوتوا الكتاب إلّا من بعدما جاءتهم البيّنة، إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللَّه وفارقوا الكتاب لمّا جاءهم أولئك عند اللَّه شرّ البريّة، ما كان الناس إلّا امّة واحدة، ثمّ أرسل اللَّه النبيّين مبشِّرين ومنذرين يأمرون الناس، يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويعبدون اللَّه وحده، أولئك عند اللَّه خير البريّة، جزاؤهم عند ربّهم جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي اللَّه عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربّه (27) .
وفي رواية الحاكم : فقرأ فيها : «لو أنّ ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطاه يسأل ثانياً، ولو سأل ثانياً فأعطاه يسأل ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب، ويتوب اللَّه على من تاب. ..» (28) .
وما روي عنه أيضاً أنّه كتب في مصحفه سورتي الخلع والحفد : «اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك، ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللّهمّ إيّاك نعبد، ولك نصلّي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إنّ عذابك بالكفّار ملحق» (29) .فهو من ذلك القبيل، ومثله كثير.
وعليه يحمل ما رواه أبو عبيد، عن ابن عمر، قال : لا يقولنَّ أحدكم : قد أخذت القرآن كلّه، وما يدريه ما كلّه؟! قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل : قد أخذت منه ما ظهر (30)
والروايات في هذا الباب أكثر من أن تحصى، إلّا أنّها محمولة على ما ذكرناه، وأين ذلك ممّا يقوله الشيعي الجسور : { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور : 40]
انتهى ما أردنا نقله من كلامه حشره اللَّه لا مع أجداده، بل مع من يحبّه ويتولّاه.
وأنت خبير بما فيه : أمّا أوّلًا : فلأنّك عرفت (31) أنّ المشهور عند أصحابنا الإماميّة، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف، بل قد عرفت (32) أنّ الصدوق قدس سره جعله من عقائد الإماميّة، وادّعى كاشف الغطاء فيه الضرورة والبداهة، ومعه لا وجه للافتراء عليهم، ونسبة هذا القول السخيف إلى الطائفة المحقّة - الظاهرة في الشهرة بينهم - وذهاب الكليني وبعض آخر من المحدّثين؛ كشيخه علي بن إبراهيم القمّي صاحب التفسير إلى القول بالتحريف - لا يسوغ النسبة إلى الجميع أو المشهور، مع أنّ منشأ النسبة إليه وإلى شيخه هو ذكر الأخبار الظاهرة فيه.
ومن الواضح أنّ نقل الخبر لا يدلّ على اختيار الناقل لما يفهم منه ظاهراً؛ لأنّه فرع اعتباره أوّلًا، وظهوره عنده في ذلك ثانياً، وخلوّه عن المعارض ثالثاً، وحجّيته في مثل هذه المسألة رابعاً، وتحقّق ذلك عند الناقل غير واضح.
وأمّا ثانياً : فلأنّ إنكار ذهاب الحشويّة من العامّة إلى ذلك.
وهم الفرقة القائلة بحجّية ظواهر القرآن واعتبارها، ولو كان على خلاف العقل الصريح؛ ولذا التزموا بالتجسيم نظراً إلى ذلك، ولعلّه لأجله سمّيت بالحشويّة - في غير محلّه؛ لشيوع هذا القول منهم من الأزمنة المتقدّمة (33) .
وأمّا ثالثاً : فلأنّه أنكر التحريف غاية الإنكار، والتزم بما يرجع إليه من نسخ التلاوة، الذي هو في الحقيقة تحريف، حيث قال في عبارته المتقدّمة : «نعم، أُسقط زمن الصديق ما لم تتواتر وما نسخت تلاوته، وكان يقرؤه من لم يبلغه النسخ».
والعجب ! أنّه لا يختصّ هذا الإيراد بالرجل، بل هو شائع بين الجمهور، حيث إنّهم قد صرّحوا بنفي التحريف، وإثبات نسخ التلاوة، وعليه حملوا الروايات الكثيرة المرويّة بطرقهم، الدالّة على اشتمال القرآن الأوّلي على أزيد من ذلك، وقد نسخت تلاوة الزائد، وقد نقل بعضها الآلوسي في عبارته المتقدّمة، ولا بأس بذكر البعض الآخر أيضاً مثل : ما روى المسور بن مخرمة قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : أَلم تجد فيما انزل علينا : «أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة»؟ فإنّا لا نجدها! قال : اسقطت فيما اسقط من القرآن (34) .
وروى ابن أبي داود، عن ابن شهاب قال : بلغنا أنّه كان انزل قرآن كثير، فقتل علماؤه يوم اليمامة، الذين كانوا قد وعوه، ولم يعلم بعدهم، ولم يكتب، الحديث (35) .
وروى عروة بن الزبير، عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبيّ صلى الله عليه و آله مائتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلّا ما هو الآن (36) .
وروى ابن عبّاس، عن عمر أنّه قال : إنّ اللَّه - عزّوجلّ - بعث محمّداً صلى الله عليه و آله بالحقّ، وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل اللَّه آية الرّجم، فقرأناها وعقلناها و وعيناها ، فلذا رجم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ورجمنا بعده.
ثمّ قال : إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللَّه أن لا ترغبوا عن آبائكم؛ فإنّه كفر بكم.
أو أنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم (37) .
وآية الرّجم التي ادّعى عمر - على طبق الرواية - أ نّها من القرآن رويت بوجوه : منها : إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة نكالًا من اللَّه واللَّه عزيز حكيم (38) .
ومنها : الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة بما قضيا من اللّذة (39) .
ومنها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة (40) .
وغير ذلك من الموارد التي التزموا فيها بنسخ التلاوة، مع أ نّه لا يعلم مرادهم من نسخ التلاوة هل كان نسخها بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، أو بأيدي من تصدّى للزعامة والخلافة بعده؟ فإن كان الأوّل، فما الدليل على النسخ بعد ثبوت كون المنسوخ من القرآن بنحو التواتر على اعتقادهم؟ ولذا يقولون بأ نّه «كان يقرؤه من لم يبلغه النسخ»، وصرّح بذلك الآلوسي في عبارته المتقدّمة، فإن كان المثبت له هو خبر الواحد، فقد قرّر في محلّه من علم الاصول (41) . وغيره أنّه لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد، والظاهر الاتّفاق عليه (42) , وإن وقع الاختلاف في جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد (43)
وإن كان هو السنّة المتواترة، فمع عدم ثبوت التواتر - كما هو واضح - نقول : إنّه حكي عن الشافعي، وأكثر أصحابه، وأكثر أهل الظاهر : القطع بعدم جواز نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة، وحكي عن أحمد أيضاً في إحدى الروايتين عنه، بل أنكر جماعة من القائلين بالجواز وقوعه وتحقّقه (44) .
وإن كان الثاني : فهو عين القول بالتحريف، وكأنّ الآلوسي ومن يحذو حذوه توهّموا أنّ النزاع في باب التحريف نزاع لفظي، وإلّا فأيّ فرق بينه وبين نسخ التلاوة بهذا المعنى؟ وعلى ذلك يصحّ أن يقال : إنّ جمهور علماء السنّة قائلون بالتحريف؛ لتصريحهم بنسخ التلاوة، الذي يرجع إليه، بل هو عينه، كما أنّه ينكشف أ نّ من لم يجعل اللَّه له نوراً فما له من نور.
وأمّا رابعاً : فلأنّه كيف يصحّ الالتزام بأنّ سورتي الخلع والحفد - اللّتين سمّاهما الراغب في المحاضرات سورتي القنوت (45) ونسبوهما إلى مصحف ابن عبّاس، ومصحف زيد وقراءة ابيّ وأبي موسى (46) - أن يكونا من القرآن؟ فإنّه كيف يصحّ قوله : «يفجرك» في السورة الاولى؟ وكيف تتعدّى كلمة «يفجر»؟ وأيضاً أنّ الخلع يناسب الأوثان، فماذا يكون المعنى؟ وبماذا يرتفع الغلط؟ أو ما هي النكتة في التعبير بقوله : «ملحق»؟ وما هو وجه المناسبة وصحّة التعليل لخوف المؤمن من عذاب اللَّه بأنّ عذاب اللَّه بالكافرين ملحق؟ فإنّ هذه العبارة إنّما تناسب التعليل؛ لأن لا يخاف المؤمن من عذاب اللَّه؛ لأنّ عذابه بالكافرين ملحق.
وكذا آية الرجم - التي ادّعى عمر أ نّها من القرآن - يسأل من القائل بنسخ تلاوته على تقدير صحّة روايته، وأنّه ما وجه دخول «الفاء» في قوله : «الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة بما قضيا من اللّذة»، وليس هناك ما يصحّح دخولها من شرط أو نحوه، لا ظاهراً، ولا على وجه يصحّ تقديره، وإنّما دخلت «الفاء» على الخبر في قوله - تعالى - : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور : 2],لأنّ كلمة اجلدوا بمنزلة الجزاء لصفة الزنا في المبتدأ، والزنا بمنزلة الشرط، وليس الرجم جزاءً للشيخوخة، ولا هي سبباً.
فالظاهر أنّ الوجه في دخول «الفاء» هي الدلالة على كذب الرواية، كما هو غير خفيّ على اولي الدّراية.
ثمّ إنّ قضاء اللّذة أعمّ من الجماع، والجماع أعمّ من الزنا، والزنا أعمّ من سبب الرجم الذي هو الزنا مع الإحصان، فكيف يصحّ إطلاق القول بوجوب رجمهما مع قضاء اللّذة والشهوة؟ كما هو واضح.
وإن قيل بكونه كناية عن الزنا نقول : على تقدير تسليمه بأنّ السبب كما عرفت ليس هو الزنا المطلق، وليست الشيخوخة ملازمة للإحصان، كما لا يخفى.
إذا عرفت هذين الأمرين يقع الكلام بعدهما في أدلّة الطرفين وتحقيق ما هو الحقّ في البين.
_____________________________
1. الاعتقادات، المطبوع ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد : 5/ 84، باب الاعتقاد في مبلغ القرآن ( 33) .
2. أوائل المقالات، المطبوع ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد : 4/ 81.
3. حكي عنه في مجمع البيان : 1/ 15 - 16 مقدّمة الكتاب، الفنّ الخامس.
4. التبيان في تفسير القرآن : 1/ 3 مقدّمة الكتاب.
5. مجمع البيان في تفسير القرآن : 1/ 15 مقدمة الكتاب.
6. كشف الغطاء : 3/ 453 - 454، كتاب القرآن.
7. مصائب النواصب : 121، الطائفة الثامنة، وعنه الشيخ البلاغي في آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1 : 64 - 65.
8. كما ذكره صاحب آلاء الرحمن في تفسير القرآن : 1/ 65.
9. توفّي سنة 940.
10. حكى عنه أيضاً في آلاء الرحمن في تفسير القرآن : 1/ 65.
11. ذكر هذا السيد الخوئي في كتابه البيان : 200.
12. الوافي : 9/ 1778 - 1780.
13. علم اليقين في اصول الدين : 1/ 562 - 569، الفصل 8 من الباب الثاني عشر من المقصد الثالث.
14. فاضل موحدى لنكرانى ،محمد، مدخل التفسير (طبع جديد) ، 1جلد، مركز فقه الائمه الاطهار (ع) - قم، چاپ : چهارم، 1428ه.ق.
15. آلاء الرحمن في تفسير القرآن : 1/ 63 - 71.
16. قال في قوانين الاصول 1/ 403، المقصد الثاني من الباب السادس، قانون 2 : فعن أكثر الأخباريّين : أنّه وقع فيه - أي في القرآن - التحريف والزيادة والنقصان، ثمّ أجاب عنه.
17. الكافي : 2/ 634، كتاب فضل القرآن، باب النوادر ح 28.
18. في الكافي هكذا : عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال : دفع إليّ أبو الحسن عليه السلام مصحفاً وقال : لا تنظر فيه، ففتحته وقرأت فيه :« لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ»[ سورة البيّنة 98 : 1] فوجدت فيها اسم سبعين إلخ، فوقع سهو من الآلوسي.
19. الكافي : 2/ 631، كتاب فضل القرآن باب النوادر ح 16.
20. في الكافي : وأنا أستمع، وفيه : كفّ بدل« مه».
21. الكافي : 2/ 633، كتاب فضل القرآن، باب النوادر ح 23.
22. الكافي : 1/ 292، كتاب الحجّة ب 65 ح 1، وفيه زيد بن الجهم الهلالي، والحديث هنا نقل بالمعنى.
23. كتاب مثالب النواصب، مخطوط.
24. الحشوية : بسكون الشين وفتحها، قوم من أهل الحديث، همّهم نقل الأحاديث والالتزام بها حتّى وإن خالفت أصلًا من اصول الدين وعارضت مبنىً من مبانيه، لم يأبهوا عمّن يأخذون رواياتهم التي ينقلونها بلا دراية.
ولا ممّن يستفيدونها.
يقول عنهم العلّامة التهانوي في موسوعته : وهم قوم تمسكوا بالظواهر فذهبوا الى التجسّم وغيره، وهم من الفرق الضالّة.
وراح ينقل ما قاله فيهم السُّبكي : الحشوية طائفة ضلّوا عن سواء السبيل، يُجرون آيات اللَّه على ظاهرها ويعتقدون أنّه المراد.
ثمّ ذكر أسباب تسميتهم بالحشوية.
( موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم 1 : 678 - 679) .
25. المصاحف لابن أبي داود السجستاني : 211، الرقم 236، وفيه : والّذين يصلون الصفوف الأوّل، الإتقان في علوم القرآن : 3/ 82، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5 : 580، الآية 56 من سورة الأحزاب، وفيه : والذين يصفون الصفوف الأوّل.
26. المسند لابن حنبل : 8/ 40 ح 21261.
27. الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور : 8/ 536 - 537 عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
28. المستدرك على الصحيحين : 2/ 244 ح 2889 عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
29. كتاب الدعاء للطبراني : 238 ح 750، الإتقان في علوم القرآن : 1/ 226، النوع التاسع عشر.
30. الإتقان في علوم القرآن : 3/ 81 - 82، النوع السابع والأربعون.
(31) (32) . في ص 200 - 204.
33. موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم : 1/ 678.
34. الإتقان في علوم القرآن : 3/ 84، الدر المنثور في التفسير بالمأثور : 1/ 232.
35. المصاحف لابن أبي داود السجستاني : 100 ح 81، كنز العمال : 2/ 584 ح 4778، وتأتي بتمامها في ص 276.
36. الإتقان في علوم القرآن : 3/ 82، الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي : 14/ 113، محاضرات الادباء ومحاورات الشعراء والبلغاء : 4/ 169.
37. صحيح البخاري : 8/ 33، باب رجم الحبلى 31، قطعة من ح 6330.
38. الإتقان في علوم القرآن : 3/ 82.
39. الإتقان في علوم القرآن : 3/ 82.
40. المسند لابن حنبل : 8/ 142 ح 21652، سنن الدارمي 2 : 124 ح 2320.
41. كفاية الاصول : 276، حقائق الاصول : 1/ 535.
42. البيان في تفسير القرآن : 284، فقد جزم بإجماع المسلمين عليه.
43. الإحكام في اصول الأحكام : 2/ 347 المسألة الخامسة.
44. الإحكام في اصول الأحكام : 3/ 165، المسألة العاشرة.
45. محاضرات الأُدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء : 4/ 168.
46. الإتقان في علوم القرآن : 1/ 226 - 227.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|