أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-9-2020
9317
التاريخ: 14-9-2020
3361
التاريخ: 4-9-2020
14313
التاريخ: 14-9-2020
4436
|
قال تعالى : {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان : 30 - 40] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
{وقال الرسول} يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) يشكو قومه {يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} يعني هجروا القرآن وهجروني وكذبوني عن ابن عباس والمعنى جعلوه متروكا لا يسمعونه ولا يتفهمونه وقيل إن قوله {وقال الرسول} معناه ويقول كما في قول الشاعر :
مثل العصافير أحلاما ومقدرة *** لو يوزنون بزف الريش ما وزنوا (2)
أي : ما يزنون .
ثم عزى الله سبحانه نبيه بقوله {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين} أي وكما جعلنا لك عدوا من مشركي قومك جعلنا لكل نبي عدوا من كفار قومه عن ابن عباس والمعنى في جعله إياهم عدوا لأنبيائه أنه تعالى أمر الأنبياء (عليهم السلام) أن يدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى وترك ما ألفوه من دينهم ودين آبائهم وإلى ترك عبادة الأصنام وذمها وكانت هذه أسبابا داعية إلى العداوة فإذا أمرهم بها فقد جعلهم عدوا لهم .
{وكفى بربك هاديا ونصيرا} أي حسبك بالله هاديا إلى الحق وناصرا لأوليائه في الدنيا والآخرة على أعدائهم وقيل هاديا للأنبياء إلى التحرز عن عداوة المجرمين بالاعتصام بحبله {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} معناه وقال الكفار لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) هلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور جملة واحدة قال الله تعالى {كذلك} أي نزلناه كذلك متفرقا {لنثبت به فؤادك} أي لنقوي به قلبك فتزداد بصيرة وذلك أنه إذا كان يأتيه الوحي متجددا في كل حادثة وكل أمر كان ذلك أقوى لقلبه وأزيد في بصيرته وقيل إنما أنزلت الكتب جملة واحدة لأنها نزلت على الأنبياء يكتبون ويقرءون فنزلت عليهم مكتوبة والقرآن إنما نزل على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ ولذلك نزل متفرقا وأيضا فإن في القرآن الناسخ والمنسوخ وفيه ما هو جواب لمن سأله عن أمور وفيه ما هو إنكار لما كان وفيه ما هو حكاية شيء جرى فاقتضت الحكمة إنزاله متفرقا .
{ورتلناه ترتيلا} أي بيناه تبيينا ورسلناه ترسيلا بعضه في إثر بعض عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقيل فصلناه تفصيلا عن السدي وقيل فرقناه تفريقا عن النخعي وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال يا ابن عباس إذا قرأت القرآن فرتله ترتيلا قال وما الترتيل ؟ قال : ((بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذ الشعر (3) ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكونن هم أحدكم آخر السورة {ولا يأتونك بمثل} أي : ولا يأتيك المشركون بمثل يضربونه لك في إبطال أمرك ومخاصمتك {إلا جئناك بالحق} الذي يبطله ويدحضه {وأحسن تفسيرا} أي وبأحسن تفسيرا مما أتوا به من المثل أي بيانا وكشفا .
{الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم} أي يسحبون على وجوههم إلى النار وهم كفار مكة وذلك أنهم قالوا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه هم شر خلق الله فقال الله سبحانه {أولئك شر مكانا} أي منزلا ومصيرا {وأضل سبيلا} أي دينا وطريقا من المؤمنين وروى أنس أن رجلا قال يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة قال ((إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة)) أورده البخاري في الصحيح .
ثم ذكر سبحانه حديث الأنبياء وأممهم تسلية للنبي فقال {ولقد آتينا موسى الكتاب} يعني التوراة {وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا} أي معينا يعينه على تبليغ الرسالة ويحتمل عنه بعض أثقاله {فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا ب آياتنا} يعني فرعون وقومه وفي الكلام حذف أي فذهبا إليهم فلم يقبلوا منهما وجحدوا نبوتهما {فدمرناهم تدميرا} أي أهلكناهم إهلاكا بأمر فيه أعجوبة {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم} أي وأغرقنا قوم نوح بالطوفان وهو مجيء السماء بماء منهمر وتفجير الأرض عيونا حتى التقى الماء على أمر قد قدر قال الزجاج من كذب نبيا فقد كذب بجميع الأنبياء .
{وجعلناهم للناس آية} أي عبرة وعظة {وأعتدنا} أي وهيأنا {للظالمين عذابا أليما} سوى ما حل بهم في الدنيا {وعادا وثمود} أي وأهلكنا عادا وثمود {وأصحاب الرس} وهوبئر رسوا فيها نبيهم أي القوة فيها عن عكرمة وقيل إنهم كانوا أصحاب مواش ولهم بئر يقعدون عليها وكانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم شعيبا فكذبوه فانهار البئر وانخسفت بهم الأرض فهلكوا عن وهب وقيل الرس قرية باليمامة يقال لها فلج قتلوا نبيهم فأهلكهم الله عن قتادة وقيل كان لهم نبي يسمى حنظلة فقتلوه فأهلكوا عن سعيد بن جبير والكلبي وقيل هم أصحاب رس والرس بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار فنسبوا إليها عن كعب ومقاتل وقيل أصحاب الرس كان نساؤهم سحاقات عن أبي عبد الله (عليه السلام) .
{قرونا بين ذلك كثيرا} أي وأهلكنا أيضا قرونا كثيرا بين عاد وأصحاب الرس على تكذيبهم وقيل بين نوح وأصحاب الرس والقرن سبعون سنة وقيل أربعون سنة عن إبراهيم {وكلا ضربنا له الأمثال} أي وكلا بينا لهم أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا عن مقاتل وقيل معناه بينا لهم الأحكام في الدين والدنيا {وكلا تبرنا تتبيرا} أي وكلا أهلكنا إهلاكا على تكذيبهم وجحودهم قال الزجاج كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته {ولقد أتوا} يعني كفار مكة {على القرية التي أمطرت مطر السوء} يعني قرية قوم لوط أمطروا بالحجارة {أ فلم يكونوا يرونها} في أسفارهم إذا مروا بها فيخافوا ويعتبروا {بل كانوا لا يرجون نشورا} يعني بل رأوها وإنما لم يعتبروا بها لأنهم كانوا لا يخافون البعث وقيل لا يأملون ثوابا ولا يؤمنون بالنشأة الثانية فركبوا المعاصي .
_____________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج7 ، ص293-297 .
2- المفلجة من الاسنان : المنفرجة . واللصص تقارب الاسنان .
3- الدقل : رديء التمر ويابسه ، وما ليس له اسم خاص ، فتراه ليبسه ورداءته لا يجتمع ، ويكون منثورا . والهذ : سرعة القراءة .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{وقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} . أي أعرضوا عنه ، وأبوا أن يؤمنوا به ، أو ينظروا إليه نظرة الفاحص والباحث عن الحق ليكون على بصيرة منه ويقين . . كذب صناديد قريش بنبوة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ، وقالوا عنه وعن القرآن ما قالوا حرصا على مناصبهم ، وخوفا على مكاسبهم ، فرفع النبي شكواه منهم إلى ربه الذي بيده مقاليد الأمور وتدبيرها ، وهكذا العاقل لا يشكو حاجته إلا لمن بيده قضاؤها . . أجل ، قد يشكو إلى صديق يواسيه أو يسليه ، أو يتوجع . قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) : (من شكا إلى أخيه فقد شكا إلى اللَّه ، ومن شكا إلى غير أخيه فقد شكا اللَّه) . يريد بأخيه أخاه في الايمان ، وان المؤمن إذا شكا إلى مؤمن مثله دعا اللَّه أن يفرج عنه ، وأمره بالصبر والتوكل على اللَّه ، ولا يؤيسه من رحمته تعالى ، أما غير المؤمن فإنه يشمت به ، أو يشير عليه بما يصرفه عن اللَّه .
{وكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} . مصلح يقول للطاغية :
يا مجرم ، ويدمغه بالفساد والضلال ، وبالعدوان على حقوق الناس ومقدساتهم ، ويجرده من سلطانه وكيانه ، يفعل هذا وغير هذا ، ثم يقف الطاغية جامدا لا يحرك ساكنا ؟ كلا . وتقدم نظير هذه الآية في سورة الأنعام الآية 112 ج 3 ص 249 .
وأجبنا هناك عن سؤال من يسأل : إذا كان اللَّه هو الذي جعل لكل نبي عدوا من الأشرار فلما ذا يعاقب من نصب العداء للأنبياء ؟ .
{وكَفى بِرَبِّكَ هادِياً ونَصِيراً} . الخطاب لرسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) ، وفيه وعد منه تعالى أن يمد رسوله بالنصر على أعدائه ، كما أمده بالهداية إلى الحق ، وان يظهر دينه على الدين كله ولوكره المشركون .
{وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَولا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً} . نزل القرآن على مكث وفقا لحاجات الناس ، وكان مبدأ نزوله والرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) في الأربعين من عمره الشريف ، واستمر الوحي آنا فآنا إلى أن انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى ، وهو في سن ال 63 ، وحاول المشركون أن يصرفوا الناس عن القرآن بكل سبيل فقالوا : هو أساطير الأولين . . ولكنهم لم يتمسكوا بهذه الفرية ، ويصروا عليها ، لأنها تكذّب نفسها بنفسها ، فابتدعوا دعاية أخرى وقالوا : لوكان القرآن من عند اللَّه لأنزله دفعة واحدة لأن اللَّه لا يحتاج إلى تأمل وتفكير كالمؤلفين . . وما من شك لو نزل القرآن دفعة واحدة لقالوا - كما هو شأن المعاندين - لولا نزل على مكث لنتفهمه ونتأثر به ونعتاد عليه . . ولكن الحقائق تفرض نفسها على رغم المعاندين والمعارضين {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ورَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً} أي نزلنا القرآن على التوالي ليقوى قلبك يا محمد على حفظه ، وفهم معناه ، وضبط أحكامه .
{ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وأَضَلُّ سَبِيلاً} . الخطاب لرسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) ، والواو في يأتونك ويحشرون لأعدائه المشركين ، والمراد بالمثل كل ما يعترضون به على الرسول الكريم . . في الآية 5 من هذه السورة حكى سبحانه اعتراضهم على القرآن بأنه أساطير الأولين ، وفي الآية 7 حكى قولهم عن الرسول انه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، وفي الآية 8 قالوا : هو رجل مسحور ، وفي الآية 21 قالوا :
لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ، وفي الآية 32 قالوا : لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة .
وبعد ان أبطل سبحانه كل ما قالوه خاطب نبيه الكريم : {ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أي ان المشركين يخاصمونك ويجادلونك يا محمد بالباطل ، ونحن نمدك بالحق الواضح ، والحجة التي تدحض أقوالهم ، وتفضحهم .
في أباطيلهم . . هذا في الدنيا ، أما جزاؤهم في الآخرة فان الزبانية تسحبهم على وجوههم ، ومن كانت هذه حاله فهو شر خلق اللَّه وأشقاهم في مقره ومكانته ، وعمله وسيرته .
{ولَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً} . تقدمت قصة موسى وفرعون في العديد من الآيات ، منها الآية 103 إلى الآية 145 من سورة الأعراف ج 3 ص 371 إلى ص 392 ، وعند تفسير الآية 9 من سورة طه ذكرنا سبب التكرار لقصة موسى (عليه السلام) .
{وقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً} . أيضا تقدمت قصة نوح أكثر من مرة . أنظر تفسير الآية 25 إلى الآية 49 من سورة هود ج 4 ص 222 - 237 .
{وعاداً} أنظر تفسير الآية 50 - 60 من سورة هود ج 4 ص 237 - 243 {وثَمُودَ} أنظر تفسير الآية 61 - 68 من سورة هود ج 4 ص 243 - 247 {وأَصْحابَ الرَّسِّ} اسم بئر وأصحابه قوم شعيب ، وتقدمت قصته في سورة هود من الآية 84 - 95 ج 4 ص 256 - 264 {وقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً} وأيضا أهلكنا أمما وجماعات كثيرة بين عاد وأصحاب الرس لأنهم كذبوا الأنبياء والرسل .
{وكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الأَمْثالَ وكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً} . أهلكناهم بعد البيان والانذار والمواعظ بالقصص وضرب الأمثال ، ولكنهم أصروا على الكفر والضلال ، فكان جزاؤهم الخراب والدمار {ولَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} . المراد بالقرية هنا قرى قوم لوط لقوله تعالى : {ولُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وعِلْماً ونَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ} [الأنبياء - 74] . وقوله : {فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود - 82] . والمعنى ان المشركين كانوا يمرون في أسفارهم بقرى لوط ، ويرون آثار الهلاك والدمار ، وكان عليهم أن يتعظوا بها ويؤمنوا بنبوتّك يا محمد ، ولكنهم جحدوا وعاندوا لأنهم لا يوقنون بالبعث والحساب والجزاء .
_____________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج5 ، ص466-468 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} المراد بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بقرينة ذكر القرآن ، وعبر عنه بالرسول تسجيلا لرسالته وإرغاما لأولئك القادحين في رسالته وكتابه والهجر بالفتح فالسكون الترك .
وظاهر السياق أن قوله : {وقال الرسول} إلخ معطوف على {يعض الظالم} والقول مما يقوله الرسول يوم القيامة لربه على طريق البث والشكوى وعلى هذا فالتعبير بالماضي بعناية تحقق الوقوع والمراد بالقوم عامة العرب بل عامة الأمة باعتبار كفرتهم وعصاتهم .
وأما كونه استئنافا أو عطفا على قوله : {وقال الذين لا يرجون لقاءنا} وكون ما وقع بينهما اعتراضا فبعيد من السياق وعليه فلفظة قال على ظاهر معناها والمراد بالقوم هم القادحون في رسالته الطاعنون في كتابه .
ونظيره في الضعف قول بعضهم : إن المهجور من الهجر بمعنى : الهذيان .
وهو ظاهر .
قوله تعالى : {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا} أي كما جعلنا هؤلاء المجرمين عدوا لك كذلك جعلنا لكل نبي عدوا منهم أي هذه من سنتنا الجارية في الأنبياء وأممهم فلا يسوأنك ما تلقى من عداوتهم ولا يشقن عليك ذلك ، ففيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
ومعنى : جعل العدو من المجرمين أن الله جازاهم على معاصيهم بالختم على قلوبهم فعاندوا الحق وأبغضوا الداعي إليه وهو النبي فلعداوتهم نسبة إليه تعالى بالمجازاة .
وقوله : {وكفى بربك هاديا ونصيرا} معناه - على ما يعطيه السياق - لا يهولنك أمر عنادهم وعداوتهم ولا تخافنهم على اهتداء الناس ونفوذ دينك فيهم وبينهم فحسبك ربك كفى به هاديا يهدي من استحق من الناس الهداية واستعد له وإن كفر هؤلاء وعتوا فليس اهتداء الناس منوطا باهتدائهم وكفى به نصيرا ينصرك وينصر دينك الذي بعثك به وإن هجره هؤلاء ولم ينصروك ولا دينك فالجملة مسوقة لإظهار الاستغناء عنهم .
فظهر أن صدر الآية مسوق لتسلي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذيله للاستغناء عن المجرمين من قومه ، وفي قوله : {وكفى بربك} حيث أخذ بصفة الربوبية : مضافة إلى ضمير الخطاب ولم يقل : وكفى بالله تأييد له .
{ وقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَولا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَحِدَةً كذَلِك لِنُثَبِّت بِهِ فُؤَادَك ورَتّلْنَهُ تَرْتِيلاً (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا } [الفرقان : 30 - 40]
نقل لطعن آخر مما طعنوا به في القرآن وهو أنه لم ينزل جملة واحدة والجواب عنه .
قوله تعالى : {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} المراد بهم مشركو العرب الرادون لدعوة القرآن كما في قدحهم السابق المحكي بقوله : {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه} إلخ .
وقوله {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} قد تقدم أن الإنزال والتنزيل إنما يفترقان في أن الإنزال يفيد الدفعة والتنزيل يفيد التدريج لكن ذكر بعضهم أن التنزيل في هذه الآية منسلخ عن معنى التدريج لأدائه إلى التدافع إذ يكون المعنى على تقدير إرادة التدريج : لولا فرق القرآن جملة واحدة والتفريق ينافي الجملية بل المعنى هلا أنزل القرآن عليه دفعة غير مفرق كما أنزل التوراة والإنجيل والزبور .
لكن ينبغي أن يعلم أن نزول التوراة مثلا كما هو الظاهر المستفاد من القرآن كانت دفعة في كتاب مكتوب في ألواح والقرآن إنما كان ينزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتلقي من عند الله بتوسط الروح الأمين كما يتلقى السامع الكلام من المتكلم ، والدفعة في إيتاء كتاب مكتوب وتلقيه تستلزم المعية بين أوله وآخره لكنه إذا كان بقراءة وسماع لم يناف التدريج بين أجزائه وأبعاضه بل من الضروري أن يؤتاه القارىء ويتلقاه السامع آخذا من أوله إلى آخره شيئا فشيئا .
وهؤلاء إنما كانوا يقترحون نزول القرآن جملة واحدة على ما كانوا يشاهدون أو يسمعون من كيفية نزول الوحي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو تلقي الآيات بألفاظها من لسان ملك الوحي فكان اقتراحهم أن الذي يتلوه ملك الوحي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سورة بعد سورة وآية بعد آية ويتلقاه هو كذلك فليقرأ جميع ذلك مرة واحدة وليتلقه هو مرة واحدة ولو دامت القراءة والتلقي مدة من الزمان ، وهذا المعنى أوفق بالتنزيل الدال على التدريج .
وأما كون مرادهم من اقتراح نزوله جملة واحدة أن ينزل كتابا مكتوبا دفعة كما نزلت التوراة وكذا الإنجيل والزبور على ما هو المعروف عندهم فلا دلالة في الكلام المنقول عنهم على ذلك .
على أنهم ما كانوا مؤمنين بهذه الكتب السماوية حتى يسلموا نزولها دفعة .
وكيف كان فقولهم : {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} اعتراض منهم على القرآن من جهة نحو نزوله ، يريدون به أنه ليس بكتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه إذ لوكان كتابا سماويا متضمنا لدين سماوي يريده الله من الناس وقد بعث رسولا يبلغه الناس لكان الدين المضمن فيه المراد من الناس دينا تامة أجزاؤه معلومة أصوله وفروعه مجموعة فرائضه وسننه وكان الكتاب المشتمل عليه منظمة أجزاؤه ، مركبة بعضه على بعض .
وليس كذلك بل هو أقوال متفرقة يأتي بها في وقائع مختلفة وحوادث متشتتة ربما وقع واقع فأتى عند ذلك بشيء من الكلام مرتبط به يسمى جملها المنضودة آيات إلهية ينسبها إلى الله ويدعي أنها قرآن منزل إليه من عند الله سبحانه وليس إلا أنه يتعمل حينا بعد حين عند وقوع وقائع فيختلق قولا يفتريه على الله ، وليس إلا رجلا صابئا ضل عن السبيل .
هذا تقرير اعتراضهم على ما يستفاد من مجموع الاعتراض والجواب .
قوله تعالى : {كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} الثبات ضد الزوال ، والإثبات والتثبيت بمعنى واحد والفرق بينهما بالدفعة والتدريج ، والفؤاد القلب والمراد به كما مر غير مرة الأمر المدرك من الإنسان وهو نفسه ، والترتيل - كما قالوا - الترسيل والإتيان بالشيء عقيب الشيء ، والتفسير - كما قال الراغب - المبالغة في إظهار المعنى المعقول كما أن الفسر بالفتح فالسكون إظهار المعنى المعقول .
وظاهر السياق أن قوله : {كذلك} متعلق بفعل مقدر يعلله قوله : {لنثبت} ويعطف عليه قوله : {ورتلناه} والتقدير نزلناه أي القرآن كذلك أي نجوما متفرقة لا جملة واحدة لنثبت به فؤادك ، وقول بعضهم : إن {كذلك} من تمام قول الذين كفروا سخيف جدا .
فقوله : {كذلك لنثبت به فؤادك} بيان تام لسبب تنزيل القرآن نجوما متفرقة وبيان ذلك أن تعليم علم من العلوم وخاصة ما كان منها مرتبطا بالعمل بإلقاء المعلم مسائله واحدة بعد واحدة إلى المتعلم حتى تتم فصوله وأبوابه إنما يفيد حصولا ما لصور مسائله عند المتعلم وكونها مذخورة بوجه ما عنده يراجعها عند مسيس الحاجة إليها ، وأما استقرارها في النفس بحيث تنمو النفس عليها وتترتب عليها آثارها المطلوبة منها فيحتاج إلى مسيس الحاجة والإشراف على العمل وحضور وقته .
ففرق بين بين أن يلقي الطبيب المعلم مثلا مسألة طبية إلى متعلم الطب إلقاء فحسب وبين أن يلقيها إليه وعنده مريض مبتلى بما يبحث عنه من الداء وهو يعالجه فيطابق بين ما يقول وما يفعل .
ومن هنا يظهر أن إلقاء أي نظرة علمية عند مسيس الحاجة وحضور وقت العمل إلى من يراد تعليمه وتربيته أثبت في النفس وأوقع في القلب وأشد استقرارا وأكمل رسوخا في الذهن وخاصة في المعارف التي تهدي إليها الفطرة فإن الفطرة إنما تستعد للقبول وتتهيأ للإذعان إذا أحست بالحاجة .
ثم إن المعارف التي تتضمنها الدعوة الإسلامية الناطق بها القرآن إنما هي شرائع وأحكام عملية وقوانين فردية واجتماعية تسعد الحياة الإنسانية مبنية على الأخلاق الفاضلة المرتبطة بالمعارف الكلية الإلهية التي تنتهي بالتحليل إلى التوحيد كما أن التوحيد ينتهي بالتركيب إليها ثم إلى الأخلاق والأحكام العملية .
فأحسن التعليم وأكمل التربية أن تلقى هذه المعارف العالية بالتدريج موزعة على الحوادث الواقعة المتضمنة لمساس أنواع الحاجات مبينة لما يرتبط بها من الاعتقاد الحق والخلق الفاضل والحكم العملي المشروع مع ما يتعلق بها من أسباب الاعتبار والاتعاظ بين قصص الماضين وعاقبة أمر المسرفين وعتو الطاغين والمستكبرين .
وهذه سبيل البيانات القرآنية المودعة في آياته النازلة كما قال تعالى : {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء : 106] وهذا هو المراد بقوله تعالى : {كذلك لنثبت به فؤادك} والله أعلم .
نعم يبقى عليه شيء وهو أن تفرق أجزاء التعليم وإلقاءها إلى المتعلم على التمهل والتؤدة يفسد غرض التعليم لانقطاع أثر السابق إلى أن يلحق به اللاحق وسقوط الهمة والعزيمة عن ضبط المطالب ففي اتصال أجزاء العلم الواحد بعضها ببعض إمدادا للذهن وتهيئة للفهم على التفقه والضبط لا يحصل بدونه البتة .
وقد أجاب تعالى عنه بقوله : {ورتلناه ترتيلا} فمعناه على ما يعطيه السياق أن هذه التعليمات على نزولها نجوما متفرقة عقبنا بعضها ببعض ونزلنا بعضها إثر بعض بحيث لا تبطل الروابط ولا تنقطع آثار الأبعاض فلا يفسد بذلك غرض التعليم بل هي سور وآيات نازلة بعضها إثر بعض مترتبة مرتلة .
على أن هناك أمرا آخر وهو أن القرآن كتاب بيان واحتجاج يحتج على المؤالف والمخالف فيما أشكل عليهم أو استشكلوه على الحق والحقيقة بالتشكيك والاعتراض ، ويبين لهم ما التبس عليهم أمره من المعارف والحكم الواقعة في الملل والأديان السابقة وما فسرها به علماؤهم بتحريف الكلم عن مواضعه كما يظهر بقياس ما كان يعتقده الوثنيون في الله تعالى والملائكة والجن وقديسي البشر وما وقع في العهدين من أخبار الأنبياء وما بثوه من معارف المبدأ والمعاد ، إلى ما بينه القرآن في ذلك .
وهذا النوع من الاحتجاج والبيان لا يستوفي حقه إلا بالتنزيل التدريجي على حسب ما كان يبدو من شبههم ويرد على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مسائلهم تدريجا ، ويورد على المؤمنين أو على قومهم من تسويلاتهم شيئا بعد شيء وحينا بعد حين .
وإلى هذا يشير قوله تعالى : {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} - والمثل الوصف - أي لا يأتونك بوصف فيك أوفي غيرك حادوا به عن الحق أو أساءوا تفسيره إلا جئناك بما هو الحق فيه أو ما هو أحسن الوجوه في تفسيره فإن ما أتوا به إما باطل محض فالحق يدفعه أو حق محرف عن موضعه فالتفسير الأحسن يرده إلى مستواه ويقومه .
فتبين بما تقدم أن قوله : {كذلك لنثبت به فؤادك} - إلى قوله - وأحسن تفسيرا} جواب عن قولهم : {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} بوجهين : أحدهما : بيان السبب الراجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو تثبيت فؤاده بالتنزيل التدريجي .
وثانيهما : بيان السبب الراجع إلى الناس وهو بيان الحق فيما يوردون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المثل والوصف الباطل ، والتفسير بأحسن الوجوه فيما يوردون عليه من الحق المغير عن وجهه المحرف عن موضعه .
ويلحق بهذا الجواب قوله تلوا : {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا} فهو كالمتمم للجواب على ما سيجيء بيانه .
وتبين أيضا أن الآيات الثلاث مسوقة جميعا لغرض واحد وهو الجواب عما أوردوه من القدح في القرآن هذا ، والمفسرون فرقوا بين مضامين الآيات الثلاث فجعلوا قوله : {كذلك لنثبت به فؤادك} جوابا عن قولهم : {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة{ ، وقوله : {ورتلناه ترتيلا} خبرا عن ترسيله في النزول أوفي القراءة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير ارتباط بما تقدمه .
وجعلوا قوله : {ولا يأتونك بمثل} إلخ ، كالبيان لقوله : {كذلك لنثبت به فؤادك} وإيضاحا لكيفية تثبيت فؤاده (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وجعله بعضهم ناظرا إلى خصوص المثل الذي ضربوه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأن الله بين الحق فيه وجاء بأحسن التفسير وقيل غير ذلك ، وجعلوا قوله : {الذين يحشرون} الآية أجنبيا عن غرض الآيتين السابقتين بالكلية .
والتأمل فيما قدمناه في توجيه مضمون الآيتين الأوليين وما سيأتي من معنى الآية الثالثة يوضح فساد جميع ذلك ، ويظهر أن الآيات الثلاث جميعا ذات غرض واحد وهو الجواب عما أوردوه من الطعن في القرآن من جهة نزوله التدريجي .
وذكروا أيضا أن الجواب عن قدحهم واقتراحهم بقوله : {كذلك لنثبت به فؤادك} جواب بذكر بعض ما لتفريق النزول من الفوائد وأن هناك فوائد أخرى غير ما ذكره الله تعالى ، وقد أوردوا فوائد أخرى أضافوها إلى ما وقع في الآية : منها : أن الكتب السماوية السابقة على القرآن إنما أنزلت جملة واحدة لأنها أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرءون فنزلت عليهم جملة واحدة مكتوبة والقرآن إنما نزل على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ ولذلك نزل متفرقا .
ومنها أن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها ودليل كونها من عند الله تعالى إعجازها ، وأما القرآن فبينة صحته وآية كونه من عند الله تعالى نظمه المعجز الباقي على مر الدهور المتحقق في كل جزء من أجزائه المقدر بمقدار أقصر السور حسبما وقع به التحدي .
ولا ريب أن مدار الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال ، ومن ضرورة تجددها تجدد ما يطابقها .
ومنها : أن في القرآن ناسخا ومنسوخا ولا يتيسر الجمع بينهما لمكان المضادة والمنافاة ، وفيه ما هو جواب لمسائل سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها وفيه ما هو إنكار لبعض ما كان ، وفيه ما هو حكاية لبعض ما جرى ، وفيه ما فيه إخبار عما سيأتي في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كالإخبار عن فتح مكة ودخول المسجد الحرام ، والإخبار عن غلبة الروم على الفرس إلى غير ذلك من الفوائد فاقتضت الحكمة تنزيله متفرقا .
وهذه وجوه ضعيفة لا تقتضي امتناع النزول جملة واحدة : أما الوجه الأول فكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أميا لا يقرأ ولا يكتب لا يمنع النزول جملة واحدة ، وقد كان معه من يكتبه ويحفظه .
على أن الله سبحانه وعده أن يعصمه من النسيان ويحفظ الذكر النازل عليه كما قال : {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى } [الأعلى : 6] ، وقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9] ، وقال : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } [فصلت : 41 ، 42] ، وقدرته تعالى على حفظ كتابه مع نزوله دفعة أو تدريجا سواء .
وأما الوجه الثاني : فكما أن الكلام المفرق يقارنه أحوال تقتضي في نظمه أمورا إن اشتمل عليها الكلام كان بليغا وإلا فلا ، كذلك الكلام الجملي وإن كان كتابا يقارنه بحسب فصوله وأجزائه أحوال لها اقتضاءات إن طابقها كان بليغا وإلا فلا فالبلاغة غير موقوفة على غير الكتاب النازل دفعة والكلام المجموع جملة واحدة .
وأما الوجه الثالث فالنسخ ليس إبطالا للحكم السابق وإنما هو بيان انتهاء أمده فمن الممكن الجمع بين الحكمين والمنسوخ والناسخ بالإشارة إلى أن الحكم الأول محدود موقت إن اقتضت المصلحة ذلك .
ومن الممكن أيضا أن يقدم بيان المسائل التي سيسألون عنها حتى لا يحتاجوا فيها إلى سؤال ولو سألوا عن شيء منها أرجعوا إلى سابق البيان ، وكذا من الممكن أن يقدم ذكر ما هو إنكار لما كان أو حكاية لما جرى أو إخبار عن بعض المغيبات فشيء من ذلك لا يمتنع تقديمه كما هو ظاهر .
على أن تفريق النزول لبعض هذه الحكم والمصالح من تثبيت الفؤاد فليست هذه الوجوه المذكورة وجوها على حدتها .
فالحق أن البيان الواقع في الآية بيان تام جامع لا حاجة معه إلى شيء من هذه الوجوه البتة .
قوله تعالى : {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا} اتصال الآية بما قبلها من الآيات على ما لها من السياق يعطي أن هؤلاء القادحين في القرآن استنتجوا من قدحهم ما لا يليق بمقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكروه واصفين له بسوء المكانة وضلال السبيل فلم يذكره الله تعالى في ضمن ما حكى من قولهم في القرآن صونا لمقام النبوة أن يذكر بسوء ، وإنما أشار إلى ذلك في ما أورد في هذه الآية من الرد عليهم بطريق التكنية .
فقوله : {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم} كناية عن الذين كفروا القادحين في القرآن الواصفين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما وصفوا ، والكناية أبلغ من التصريح .
فالمراد أن هؤلاء القادحين في القرآن الواصفين لك هم شر مكانا وأضل سبيلا لا أنت فالكلام مبني على قصر القلب ، ولفظتا {شر} و{أضل} منسلختان عن معنى التفضيل أو مفيدتان على التهكم ونحوه .
وقد كنى عنهم بالمحشورين على وجوههم إلى جهنم وهو وصف من أضله الله من المتعنتين المنكرين للمعاد كما قال تعالى : {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا } [الإسراء : 97 ، 98] .
ففي هذه التكنية مضافا إلى كونها أبلغ ، تهديد لهم بشر المكان وأليم العذاب وأيضا هي في معنى الاحتجاج على ضلالهم إذ لا ضلال أضل من أن يسير الإنسان على وجهه وهولا يشعر بما في قدامه ، وهذا الضلال الذي في حشرهم على وجوههم إلى جهنم ممثل للضلال الذي كان لهم في الدنيا فكأنه قيل : إن هؤلاء هم الضالون فإنهم محشورون على وجوههم ، ولا يبتلي بذلك إلا من كان ضالا في الدنيا .
وقد اختلفت كلماتهم في وجه اتصال الآية بما قبلها فسكت عنه بعضهم ، وذكر في مجمع البيان ، أنهم قالوا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين : إنهم شر خلق الله فقال الله تعالى : {أولئك شر مكانا وأضل سبيلا} وذكر بعضهم أنها متصلة بقوله قبل آيات : {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا} وقد عرفت ما يلوح من السياق .
وقد اختلفوا أيضا في المراد بحشرهم على وجوههم فقيل : وهو على ظاهره وهو الانتقال مكبوبا ، وقيل : هو السحب .
وقيل : هو الانتقال من مكان إلى مكان منكوسا وهو خلاف المشي على الاستقامة وفيه أن الأولى حينئذ التعبير بالحشر على الرءوس لا على الوجوه ، وقد قال تعالى في موضع آخر وهو كتوصيف ما يجري بعد هذا الحشر : { {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر : 48]
وقيل : المراد به فرط الذلة والهوان والخزي مجازا .
وفيه أن المجاز إنما يصار إليه إذا لم يمكن حمل اللفظ على الحقيقة .
وقيل : هومن قول العرب : مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب؟ وفيه أن مرجعه إلى الجهل بالمكان المحشور إليه ولا يناسب ذلك تقييد الحشر في الآية بقوله : {إلى جهنم} .
وقيل : الكلام كناية أو استعارة تمثيلية ، والمراد أنهم يحشرون وقلوبهم متعلقة بالسفليات من الدنيا وزخارفها متوجهة وجوههم إليها .
وأورد عليه أنهم هناك في شغل شاغل عن التوجه إلى الدنيا وتعلق القلوب بها ، ولعل المراد به بقاء آثار ذلك فيهم وعليهم .
وفيه أن مقتضى آيات تجسم الأعمال كون العذاب ممثلا للتعلق بالدنيا والتوجه نحوها فهم في الحقيقة لا شغل لهم يومئذ إلا ذلك .
قوله تعالى : {ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا} استشهاد على رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول الكتاب عليه قبال تكذيب الكفار به وبكتابه برسالة موسى وإيتائه الكتاب وإشراك هارون في أمره للتخلص إلى ذكر تعذيب آل فرعون وإهلاكهم ، ومعنى الآية ظاهر .
قوله تعالى : {فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا} قال في مجمع البيان ، التدمير الإهلاك لأمر عجيب ، ومنه التنكيل يقال : دمر على فلان إذا هجم عليه بالمكروه . انتهى .
والمراد بالآيات آيات الآفاق والأنفس الدالة على التوحيد التي كذبوا بها ، وذكر أبو السعود في تفسيره أن الآيات هي المعجزات التسع المفصلات الظاهرة على يدي موسى (عليه السلام) ولم يوصف القوم لهما عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن ذهابهما المتأخر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيانا لعلة استحقاقهم لما يحكى بعده من التدمير أي فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها فكذبوها تكذيبا مستمرا فدمرناهم . انتهى .
وهو حسن لو تعين حمل الآيات على آيات موسى (عليه السلام) .
ووجه اتصال الآيتين بما قبلهما هو تهديد القادحين في كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورسالته بتنظير الأمر بأمر موسى حيث آتاه الله الكتاب وأرسله مع أخيه إلى قوم فرعون فكذبوه فدمرهم تدميرا .
ولهذه النكتة قدم ذكر إيتاء الكتاب على إرسالهما إلى القوم وتدميرهم مع أن التوراة إنما نزلت بعد غرق فرعون وجنوده فلم يكن الغرض من القصة إلا الإشارة إلى إيتاء الكتاب والرسالة لموسى وتدمير القوم بالتكذيب .
وقيل : الآيتان متصلتان بقوله تعالى قبل : {وكفى بربك هاديا ونصيرا} وهو بعيد .
قوله تعالى : {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية واعتدنا للظالمين عذابا أليما} الظاهر أن قوله : {قوم نوح} منصوب بفعل مقدر يدل عليه قوله : {أغرقناهم} .
والمراد بتكذيبهم الرسل تكذيبهم نوحا فإن تكذيب الواحد من رسل الله تكذيب للجميع لاتفاقهم على كلمة الحق .
على أن هؤلاء الأمم كانوا أقواما وثنيين وهم ينكرون النبوة ويكذبون الرسالة من رأس .
وقوله : {وجعلناهم للناس آية} أي لمن بقي بعدهم من ذراريهم ، والباقي ظاهر .
قوله تعالى : {وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا} قال في مجمع البيان ، : الرس البئر التي لم تطو ذكروا أنهم كانوا قوما بعد ثمود نازلين على بئر أرسل الله إليهم رسولا فكذبوا به فأهلكهم الله ، وقيل هو اسم نهر كانوا على شاطئه وفي روايات الشيعة ما يؤيد ذلك .
وقوله : {وعادا} إلخ معطوف على {قوم نوح} والتقدير : ودمرنا أو وأهلكنا عادا وثمود وأصحاب الرس (إلخ) .
وقوله : {وقرونا بين ذلك كثيرا} القرن أهل عصر واحد وربما يطلق على نفس العصر والإشارة بذلك إلى من مر ذكرهم من الأقوام أولهم قوم نوح وآخرهم أصحاب الرس أو قوم فرعون ، والمعنى ودمرنا أو وأهلكنا عادا وهم قوم هود ، وثمود وهم قوم صالح ، وأصحاب الرس ، وقرونا كثيرا متخللين بين هؤلاء الذين ذكرناهم وهم قوم نوح فمن بعدهم .
قوله تعالى : {وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا} كلا منصوب بفعل يدل عليه قوله : {ضربنا له الأمثال} فإن ضرب الأمثال في معنى التذكير والموعظة والإنذار ، والتتبير التفتيت ، ومعنى الآية .
قوله تعالى : {ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أ فلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا} هذه القرية هي قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجيل وقد مر تفصيل قصصهم في السور السابقة .
وقوله : {أ فلم يكونوا يرونها} استفهام توبيخي فإن القرية كانت على طريق أهل الحجاز إلى الشام .
وقوله : {بل كانوا لا يرجون نشورا} أي لا يخافون معادا أو كانوا آيسين من المعاد ، وهذا كقوله تعالى فيما تقدم : {بل كذبوا بالساعة} والمراد به أن المنشأ الأصيل لتكذيبهم بالكتاب والرسالة وعدم اتعاظهم بهذه المواعظ الشافية وعدم اعتبارهم بما يعتبر به المعتبرون أنهم منكرون للمعاد فلا ينجح فيهم دعوة ولا تقع في قلوبهم حكمة ولا موعظة .
________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج15 ، ص165-176 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
إلهي ، إنّ الناس قد هجروا القرآن :
كما تناولت الآيات السابقة أنواعاً من ذرائع المشركين والكافرين المعاندين ، تتناول الآية الأُولى في مورد البحث هنا حزن وشكاية الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) بين يدي الله عزَّوجلّ من كيفية تعامل هذه الفئة مع القرآن ، فتقول : {وقال الرّسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً} . (2)
قول الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا ، وشكواه هذه ، مستمران إلى هذا اليوم من فئة عظيمة من المسلمين ، يشكو بين يدي الله أنّهم دفنوا القرآن بيد النسيان ، القرآن الذي هو رمز الحياة ووسيلة النجاة ، القرآن الذي هو سبب الإنتصار والحركة والترقي ، القرآن الممتلىء ببرامج الحياة ، هجروا هذا القرآن فمدّوا يد الإستجداء إلى الآخرين ، حتى في القوانين المدنية والجزائية .
إلى الآن ، لو تأملنا في وضع كثير من البلدان الإِسلامية ، خصوصاً أُولئك الذين يعيشون تحت هيمنة الشرق والغرب الثقافية ، لوجدنا أنّ القرآن بينهم كتاب للمراسم والتشريفات ، يذيعون ألفاظه وحدها بأصوات عذبة عبر محطات البث ، ويستخدمونه في زخرفة المساجد بعنوان الفن المعماري ، ولافتتاح منزل جديد ، أو لحفظ مسافر ، وشفاء مريض ، وعلى الأكثر للتلاوة من أجل الثواب .
ويستدلون بالقرآن ، أحياناً وغايتهم إثبات أحكامهم المسبّقة الخاطئة من خلال الإستعانة بالآيات ، وبالإستفادة من المنهج المنحرف في التّفسير بالرأي .
في بعض البلدان الإسلامية ، هناك مدارس في طول البلاد وعرضها بعنوان : مدارس «تحفيظ القرآن» وفريق عظيم من الأولاد والبنات مشغولون بحفظ القرآن ، في الوقت الذي تؤخذ أفكارهم عن الغرب حيناً ، وعن الشرق حيناً آخر ، وتؤخذ قوانينهم وقراراتهم من الأجانب ، أمّا القرآن فغطاء لمخالفاتهم فقط .
نعم ، اليوم أيضاً يصرخ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : (يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً) . مهجوراً من ناحية لبّه ومحتواه ، متروكاً من ناحية الفكر والتأمل ، ومهملا من ناحية برامجه البناءَة .
تقول الآية التي بعدها في مواساة النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، حيث كان يواجه هذا الموقف العدائي للخصوم : {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} .
لست وحدك قد واجهت هذه العداوة الشديدة لهذه الفئة ، فقد مرّ جميع الأنبياء بمثل هذه الظروف ، حيث كان يتصدى لمخالفتهم فريق من (المجرمين) فكانوا يناصبونهم العداء .
ولكن إعلم أنّك لست وحيداً ، وبلا معين {وكفى بربّك هادياً ونصيراً} .
فلا وساوسهم تستطيع أن تضلك ، لأنّ الله هاديك ، ولا مؤامراتهم تستطيع ، أن تحطمك ، لأن الخالق معينك ، الخالق الذي علمه فوق كل العلوم ، وقدرته أقوى من كل القدرات .
الآية التي بعدها ، تشير أيضاً إلى ذريعة أُخرى من ذرائع هؤلاء المجرمين المتعللين بالمعاذير ، فتقول : {وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة} .
أليس القرآن جميعه من قبل الله !؟ أليس من الأفضل أن ينزل جميع محتوى هذا الكتاب دفعة واحدة حتى يقف الناس على عظمته أكثر؟ ولماذا تتنزل هذه الآيات تدريجياً وعلى فواصل زمنية مختلفة؟
وقد يأخذ هذا الإشكال في كيفية نزول القرآن مأخذه من الأفراد السطحيين ، خاصّة إذا كانوا من المتمحلين للأعذار بأن هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس ومصدر كل حياة المسلمين ، ومحور كل قوانينهم السياسية والإجتماعية والحقوقية والعبادية ، لماذا لم ينزل كاملا ودفعة واحدة على نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) ، حتى يقرأه أتباعه من البداية إلى النهاية فيطلعون على محتواه . واساساً فقد كان الأفضل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أن يكون ذا اطلاع على جميع هذا القرآن دفعة واحدة ، كيما يجيب الناس فوراً على كل ما يسألونه ويريدون منه .
ولكن القرآن في تتمة نفس هذه الآية يجيبهم : {وكذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا} .وقد غفل اُولئك السطحيون عن هذه الحقيقة ، فلا شك أن نزول القرآن التدريجي له ارتباط وثيق بتثبيت قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين ، وسيأتي بحث مفصل عن ذلك في نهاية هذه الآيات .
ثمّ للتأكيد أكثر على هذا الجواب يقول تعالى : {ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيراً} . أي أنّهم لا يأتون بمثل أو مقولة أو بحث لاضعاف دعوتك ومقابلتها ، إلاّ آتيناك بكلام حقّ يقمع كلماتهم الجوفاء وأدلتهم الخاوية بأحسن بيان وأفضل تفسير .
وبما أنّ هؤلاء الأعداء الحاقدين استنتجوا ـ بعد مجموعة من إشكالاتهم ـ أن محمّداً وأصحابه مع صفاتهم هذه وكتابهم هذا وبرامجهم هذه شرُّ خلق الله (العياذ بالله) ، ولأنّ ذكر هذا القول لا يتناسب مع فصاحة وبلاغة القرآن ، فإنّ الله سبحانه يتناول الإجابة على هذا القول في الآية الأخيرة مورد البحث دون أن ينقل أصل قولهم ، يقول :
{الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شرُّ مكاناً وأضلّ سبيلا} .
نعم ، تتضح هناك نتيجة منهاج حياة الناس ، فريق لهم قامات منتصبة كشجر السرو ، ووجوه منيرة كالقمر ، وخطوات واسعة ، يتوجهون بسرعة إلى الجنّة ، في مقابل فريق مطأطئي رؤوسهم إلى الأرض ، تسحبهم ملائكة العذاب إلى جهنّم ، هذا المصير المختلف يكشف عمن كان ضالا وشقياً! ومن كان مهتدياً وسعيداً ؟!
وقوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان : 30 - 40]
مع كل هذه الدروس والعبر ، ولكن . . .
أشار القرآن المجيد في هذه الآيات إلى تاريخ الأُمم الماضية ومصيرهم المشؤوم مؤكّداً على ست أمم بخاصّة (الفراعنة ، وقوم نوح ، وقوم عاد ، وثمود ، وأصحاب الرَّس ، وقوم لوط) وذلك لمواساة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة ، ولتهديد المشركين المعاندين الذين مرَّ أنموذج من أقوالهم في الآيات السابقة ، من جهة أُخرى ويجسد دروس العبرة من مصير هذه الأقوام بشكل مختصر وبليغ تماماً .
يقول أوّلا : {ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً} .
فقد القيت على عاتقيهما لمسؤولية الثقيلة في جهاد الفراعنة ، ويجب عليهما مواصلة هذا العمل الثوري بمساعدة أحدهما الآخر حتى يثمر {فقلنا إذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا} فإنّهم قد كذبوا دلائل الله وآياته التي في الآفاق وفي الأنفس وفي كل عالم الوجود ، وأصروا على طريق الشرك وعبادة الأصنام من جهة . . ومن جهة أخرى أعرضوا عن تعاليم الانبياء السابقين وكذبوهم .
ولكن بالرغم من جميع الجهود والمساعي التي بذلها موسى وهارون ، بالرغم من رؤية كل تلك المعجزات العظيمة والبينات المتنوعة ، أصروا أيضاً على طريق الكفر والإِنكار ، لذا {فدمرناهم تدميراً} .
كلمة «تدمير» من مادة «دمار» بمعنى الإهلاك بأُسلوب يثير العجب ، حيث كان هلاك قوم فرعون في أمواج النيل المتلاطمة بتلك الكيفية المعروفة من عجائب التاريخ حقاً .
وكذلك : {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية ، واعتدنا للظالمين عذاباً أليماً} .
الملفت للإنتباه أنّه تعالى يقول : إنّ أُولئك كذبوا الرسل (لا رسولا واحداً فقط) ذلك أنه لا فرق بين أنبياء الله ورسله في أصل الدعوة ، وتكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم ، فضلا عن أنّهم كانوا مخالفين لدعوة جميع أنبياء الله ومنكرين لجميع الأديان .
وكذلك : {وعاداً وثموداً وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً} . (3)
«قوم عاد» هم قوم النّبي «هود» العظيم ، الذي بعث في منطقة (الأحقاف) أو(اليمن) .
و«قوم ثمود» قوم نبي الله «صالح» الذي بعث في منطقة وادي القرى (بين المدينة والشام) ، أمّا ما يتعلق بمسألة «أصحاب الرس» فسنبحثها في نهاية هذا البحث .
«قرون» جمع «قرن» وهي في الأصل بمعنى الجماعة الذين يعيشون معاً في زمان واحد ، ثمّ أطلقت على الزمان الطويل {أربعين أو مائة سنة} .
لكننا لم نجاز أولئك على غفلة أبداً ، بل {وكلاّ ضربنا له الأمثال} .
أجبنا على إشكالاتهم ، مثل الإِجابة على الإِشكالات التي يوردونها عليك ، وبينّا لهم الأحكام الإِلهية وحقائق الدين . أخطرناهم ، أنذرناهم ، كررنا عليهم مصائر وقصص الماضين ، لكن حين لم ينفع أيُّ من ذلك اهلكناهم ودمّرناهم تدميراً : {وكلا تّبرنا تتبيراً} . (4)
وفي نهاية المطاف ـ في الآية الأخيرة مورد البحث ـ يشير القرآن المجيد إلى خرائب مدن قوم لوط التي تقع على بداية طريق الحجازيين إلى الشام ، وإلى الأثر الحي الناطق عن المصير الأليم لأولئك الملوثين والمشركين ، فيقول تعالى : {ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها} .
نعم ، لقد كانوا يرون مشهد الخرائب هذه ، لكنّهم لم يأخذوا منها العبرة ، ذلك لأنّهم {بل كانوا لا يرجون نشوراً} .
إنّهم يعدون الموت نهاية هذه الحياة ، وإذا كان لهم اعتقاد بحياة ما بعد الموت فهو اعتقاد ضعيف وبلا أساس ، لا يطبع أثراً في ارواحهم ولا ينعكس في مناهج حياتهم ، ولهذا فهم يأخذون جميع الأشياء مأخذ اللعب ، ولا يفكرون إلاّ بأهوائهم السريعة الزوال .
______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج9 ، ص195-204 .
2 ـ الظاهر أن جملة «قال» فعل ماض ، تدل على أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد ذكر هذا القول على سبيل الشكوى في هذه الدنيا ، وأكثر المفسّرين أيضاً على هذا الإعتقاد ، لكن بعضاً آخر مثل «العلامة الطباطبائي» في «الميزان» يعتقدون أن هذا القول مرتبط بيوم القيامة ، والفعل الماضي هنا بمعنى المضارع . وذكر العلامة الطبرسي في مجمع البيان أيضاً هذا على سبيل الإحتمال ، لكن الآية التي بعدها ، والتي فيها جنبة مواساة للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دليل على أن التّفسير المشهور هو الأصح .
3 ـ «وعاداً وثموداً» عطف على ضمير «هم» في جملة «دمرناهم» . واحتمل بعضهم أيضاً أن العطف على «هم» في «جعلناهم» ، أو يكون عطفاً على محل «الظالمين» لكن الإحتمال الأوّل مناسب أكثر .
4 ـ «تتبير» من مادة «تبر» (على وزن ضرر ، وعلى وزن صبر) بمعنى الإهلاك التام .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|