المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17639 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05
مـعاييـر تحـسيـن الإنـتاجـيـة
2024-11-05
نـسـب الإنـتاجـيـة والغـرض مـنها
2024-11-05
المـقيـاس الكـلـي للإنتاجـيـة
2024-11-05
الإدارة بـمؤشـرات الإنـتاجـيـة (مـبادئ الإنـتـاجـيـة)
2024-11-05
زكاة الفطرة
2024-11-05



تفسير الأية (61-70) من سورة الأنبياء  
  
3235   07:03 مساءً   التاريخ: 13-9-2020
المؤلف : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الألف / سورة الأنبياء /

 

قال تعالى: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ } [الأنبياء: 61 - 70]

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

ذكر سبحانه ما جرى بين إبراهيم وقومه في أمر الأصنام بقوله {قالوا} يعني قوم إبراهيم {فأتوا به} أي: فجيئوا به {على أعين الناس} أي: بحيث يراه الناس ويكون بمشهد منهم {لعلهم يشهدون} عليه بما قاله فيكون ذلك حجة عليه بما فعل عن الحسن وقتادة والسدي قالوا كرهوا أن يأخذوه بغير بينة وقيل معناه لعلهم يشهدون عقابه وما يصنع به أي يحضرونه عن ابن إسحاق والضحاك { قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} المعنى فلما جاءوا به قالوا له هذا القول مقررين له على ذلك فأجابهم إبراهيم (عليه السلام) بأن { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} اختلفوا في معناه وتقديره على وجوه:

 (أحدها) أنه مقيد بقوله { إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} والتقدير فقد فعله كبيرهم إن نطقوا فسألوهم فقد علق الكلام بشرط لا يوجد فلا يكون كذبا ويكون كقول القائل فلان صادق فيما يقول إن لم يكن فوقنا سماء (وثانيها) إنه خرج مخرج الخبر وليس بخبر إنما هو إلزام يدل عليه الحال فكأنه قال ما ينكرون أن يكون فعله كبيرهم هذا والإلزام يأتي تارة بلفظ السؤال وتارة بلفظ الأمر وتارة بلفظ الخبر وربما يكون أحد هذه الأمور أبلغ فيه ووجه الإلزام إن هذه الأصنام إن كانت آلهة كما تزعمون فإنما فعل ذلك بهم كبيرهم لأن غير الإله لا يقدر أن يكسر الآلهة (وثالثها) إن تقديره فعله من فعله على ما تقدم ذكره وهو قول الكسائي وأما ما ذكر فيه أنه أراد به الخبر عن الكبير وقال أنه غضب من أن يعبد معه الصغار فكسرهن وما روي في ذلك من أن إبراهيم (عليه السلام) كذب ثلاث كذبات قوله إني سقيم وقوله {بل فعله كبيرهم} وقوله في سارة لما أراد الجبار أخذها وكانت زوجته أنها أختي فمما لا يعول عليه فقد دلت الأدلة العقلية التي لا تحتمل التأويل على أن الأنبياء لا يجوز عليهم الكذب وإن لم يقصدوا به غرورا ولا ضررا كما لا يجوز عليهم التعمية في الأخبار ولا التقية لأن ذلك يؤدي إلى التشكك في أخبارهم وكلام إبراهيم (عليه السلام) يجوز أن يكون من المعاريض فقد أبيح ذلك عند الضرورة وقد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل .

وقد قيل في تفسير قوله إني سقيم إن معناه أني سأسقم لأنه لما نظر إلى بعض علم النجوم وقت نوبة حمى كانت تأتيه فقال إني سأسقم وقيل: معناه إني سقيم عندكم فيما أدعوكم إليه وسنذكر الكلام فيه في موضعه.

 وأما قوله في سارة أنها أختي فإنما أراد في الدين قال سبحانه إنما المؤمنون إخوة وقد دل الدليل العقلي على أن الكذب قبيح لكونه كذبا فلا يحسن على وجه من الوجوه.

 { فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} معناه: فرجع بعضهم إلى بعض وقال بعضهم لبعض أنتم الظالمون حيث تعبدون ما لا يقدر على الدفع عن نفسه وما نرى الأمر إلا كما قال وقيل معناه فرجعوا إلى عقولهم وتدبروا في ذلك إذ علموا صدق إبراهيم فيما قاله وحاروا عن جوابه فأنطقهم الله بالحق فقالوا إنكم أنتم الظالمون هذا الرجل في سؤاله وهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها { ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} إذ تحيروا وعلموا أنها لا تنطق.

 ثم اعترفوا بما هو حجة عليهم فقالوا {لقد علمت} يا إبراهيم { مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} فكيف نسألهم فأجابهم إبراهيم بعد اعترافهم بالحجة { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} أي: أ فتوجهون عبادتكم إلى الأصنام التي لا تنفعكم شيئا إن عبدتموها ولا تضركم إن تركتموها لأنها لو قدرت على نفعكم وضركم لدفعت عن أنفسها من دون الله سبحانه الذي يقدر على ضرركم ونفعكم على أنه ليس كل من قدر على الضر والنفع استحق العبادة وإنما يستحقها من قدر على أصول النعم التي هي الحياة والشهوة والقدرة وكمال العقل وقدر على الثواب والعقاب.

 ثم قال إبراهيم (عليه السلام) مهجنا لأفعالهم مستقذرا لها { أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال الزجاج معنى أف لكم تبا لأعمالكم وأفعالكم وقد ذكرنا اختلاف القراء فيه وما قيل في تفسيره في سورة بني إسرائيل { أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أي: أ فلا تتفكرون بعقولكم في أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة {قالوا حرقوه} والمعنى فلما سمعوا منه هذا القول قال بعضهم لبعض حرقوه بالنار {وانصروا آلهتكم} أي: وادفعوا عنها وعظموها { إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أي: إن كنتم ناصريها والمعنى فلا تنصرونها إلا بتحريقه بالنار قال ابن عمر ومجاهد إن الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار رجل من أكراد فارس فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة وقال وهب إنما قاله نمرود وفي الكلام حذف قال السدي فجمعوا الحطب حتى أن الرجل منهم ليمرض فيوصي بكذا وكذا من ماله فيشترى به حطب وحتى أن المرأة لتغزل فتشتري به حطبا حتى بلغوا من ذلك ما أرادوا فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار لم يدروا كيف يلقونه فجاء إبليس فدلهم على المنجنيق وهو أول منجنيق صنعت فوضعوه فيها ثم رموه.

 { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} معناه: فلما جمعوا الحطب وألقوه في النار قلنا للنار ذلك وهذا مثل فإن النار جماد لا يصح خطابه والمراد أنا جعلنا النار بردا عليه وسلامة لا يصيبه من أذاها شيء كما قال سبحانه وتعالى كونوا قردة خاسئين والمعنى أنه صيرهم كذلك لا أنه خاطبهم وأمرهم بذلك وقيل يجوز أن يتكلم الله سبحانه بذلك ويكون ذلك صلاحا للملائكة ولطفا لهم وذكر في كون النار بردا على إبراهيم وجوه (أحدها) إن الله سبحانه أحدث فيها بردا بدلا من شدة الحرارة التي فيها فلم تؤذه (وثانيها) إن الله سبحانه حال بينها وبينه فلم تصل إليه (وثالثها) إن الإحراق إنما يحصل بالاعتمادات التي في النار صعدا فيجوز أن يذهب سبحانه تلك الاعتمادات.

 وعلى الجملة فقد علمنا إن الله سبحانه منع النار من إحراقه وهو أعلم بتفاصيله قال أبو العالية لو لم يقل سبحانه {وسلاما} لكانت تؤذيه من شدة بردها ولكان بردها أشد عليه من حرها فصارت سلاما عليه ولو لم يقل {على إبراهيم} لكان بردها باقيا على الأبد وقال أبو عبد الله (عليه السلام) ) لما أجلس إبراهيم في المنجنيق وأرادوا أن يرموا به في النار أتاه جبرائيل (عليه السلام) فقال السلام عليك يا إبراهيم ورحمة الله وبركاته أ لك حاجة فقال أما إليك فلا فلما طرحوه دعا الله فقال يا الله يا واحد يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فحسرت النار عنه وأنه لمحتب ومعه جبرائيل (عليه السلام) وهما يتحدثان في روضة خضراء وروى الواحدي بالإسناد مرفوعا إلى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال إن نمرود الجبار لما ألقى إبراهيم (عليه السلام) في النار نزل إليه جبرائيل (عليه السلام) بقميص من الجنة وطنفسة(2) من الجنة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه تمام الخبر وقال كعب ما أحرقت النار من إبراهيم (عليه السلام) غير وثاقه وقيل إن إبراهيم (عليه السلام) ألقي في النار وهو ابن ست عشرة سنة.

 { وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} معناه: إن الكفار أرادوا بإبراهيم (عليه السلام) كيدا أي شرا وتدبيرا في إهلاكه { فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} قال ابن عباس هو أن سلط الله على نمرود وخيله البعوض حتى أخذت لحومهم وشربت دماءهم ووقعت واحدة في دماغه حتى أهلكته والمعنى أنهم كادوه أرادوا أن يكيدوه بسوء فانقلب عليهم ذلك .

______________

1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج7،ص96-99.

2- الطنفسة :البساط.الحصير.

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

{قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } . أرادوا ان يستجوبوه ويحاكموه علنا ، ويشهد عليه من يشهد ، ثم يرى الناس ما يحل به من العقوبة { قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ } . أتوا به واستجوبوه : هل أنت الذي اعتدى على أربابنا ؟ { قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ } . هذا القول من القضايا الفرضية أي ان كانوا من ذوي الاحساس فقد فعله كبيرهم ، مثل ان كان للَّه ولد فأنا أول العابدين ، ومهما يكن فإن القصد هو إلزامهم الحجة ، وان هذه الأصنام لو كانت آلهة لأدركت وتكلمت ، وحطمت من أراد بها سوءا .

{ فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ } بعد أن سمعوا مقالة إبراهيم ( عليه السلام ) تساءلوا : كيف نعبد أحجارا ونرجو خيرها ونخاف شرها ، وهي لا تملك القدرة على دفع الضر والسوء عن نفسها { فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ } تساءلوا ثم انتهوا إلى الاعتراف بأنهم في جهل وضلال . . ولكن سرعان ما عادوا إلى حالهم السابقة { ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ } : أعوذ باللَّه من النكسات والنكبات . . والنكسة هي الوقوف على الرأس ، وجعل أسفل الشيء أعلاه ، وأعلاه أسفله ، هي أن تبدد ما تملك من قدرة ليتحكم بك كل لئيم ، هي أن تعطي سلاحك لعدوك كي يقتلك ، أو تعطيه الحجة عليك من فعلك أو قولك ، تماما كما فعل قوم إبراهيم حين قالوا له :

{ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ } . وإذا كانوا لا ينطقون فكيف تعبدونهم ؟

قال الطبري : نكس الشيء صيّر أعلاه أسفله ، ونكس الحجة ان يحتج الإنسان بما هو حجة لخصمه على المحتج ، كما فعل قوم إبراهيم .

{ قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً ولا يَضُرُّكُمْ } . أنتم تعلمون ان هذه الأصنام لا تدرك ولا تنطق ، ولا تضر ولا تنفع ، فكيف تعبدونها { أُفٍّ لَكُمْ ولِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } ؟ وما ذا تصنع مع قوم يصرون على الضلال ، وهم يعلمون انه ضلال ؟ لا شيء إلا أن تقول لهم : قبحا لكم يا أشباه الرجال ولا رجال . و { قالُوا حَرِّقُوهُ وانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ } .

انصروا الآلهة . . أما الآلهة فهي عاجزة عن الانتصار لنفسها . . ومع ذلك هي آلهة . . « عنزة ولو طارت » . . هذا هو النكس والوقوف على الرأس .

{ قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ } . قالوا وقال اللَّه ، ولا راد لقوله :

وتسأل : ان النار محرقة بطبيعتها ، فكيف صارت بردا ؟

الجواب : ان المؤثر الأول في كل وجود هو اللَّه جلت عظمته ، فالفيض كله من عنده ، واليه تنتهي جميع الوسائط ، علة كانت أو شرطا أو أي شيء ، فالاحراق من النار ، والنار من الوقود ، والوقود من الطبيعة ، وهي من كلمته تعالى ، فهو الذي خلق النار التي تؤثر الإحراق شريطة أن لا يقول لها : كوني بردا ، فإذا قال لها ذلك كانت كما قال ، وبتعبير آخر ان بردها وحرها يتبع إرادة من خلقها وأوجدها { وأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الأَخْسَرِينَ } . أوقدوا النار ليحرقوا بها إبراهيم ، فكانت من معجزاته الكبرى والأدلة القاطعة على صدقه ونبوته : « ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ » - 54 آل عمران .

وفي بعض التفاسير القديمة ان النمرود لما رأى أن النار لا تؤثر في إبراهيم أمر بمصادرة أمواله ونفيه من البلاد ، فقال له إبراهيم : إذا أخذتم أموالي فردوا عليّ ما ذهب من عمري في بلادكم ، ثم تحاكما إلى قاضي النمرود ، فقضى على إبراهيم بمصادرة أمواله ، وعلى النمرود أن يرد عليه عمر إبراهيم ، فاستسلم النمرود وترك لإبراهيم أمواله .

وما نقلنا هذه الحكاية ايمانا منا بصدقها ، بل لأنها ترمز إلى أن لكل انسان الحق فيما أفنى فيه عمره ، وأذهب فيه دهره على شريطة أن يكون من الحلال الطيب .

________________

1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 286-288.

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

قوله تعالى:{ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} المراد بإتيانه على أعين الناس إحضاره في مجمع من الناس ومرآهم وهو حيث كسرت الأصنام كما يظهر من قول إبراهيم (عليه السلام):{بل فعله كبيرهم هذا} بالإشارة إلى كبير الأصنام.

وكأن المراد بشهادتهم أن يشهدوا عليه بأنه كان يذكرهم بالسوء فيكون ذلك ذريعة إلى أخذ الإقرار منه بالجذ والكسر، وأما ما قيل: إن المراد شهادتهم عقاب إبراهيم على ما فعل فبعيد.

قوله تعالى:{ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} الاستفهام - كما قيل - للتقرير بالفاعل فإن أصل الفعل مفروغ عنه معلوم الوقوع وفي قولهم{بالهتنا} تلويح إلى أنهم ما كانوا يعدونه من عبدة الأصنام.

قوله تعالى:{ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} ما أخبر (عليه السلام) به بقوله:{ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} دعوى بداعي إلزام الخصم وفرض وتقدير قصد به إبطال ألوهيتها كما سيصرح به في قوله{ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} إلخ.

وليس بخبر جدي البتة، وهذا كثير الورود في المخاصمات والمناظرات فالمعنى قال: بل شاهد الحال وهو صيرورة الجميع جذاذا وبقاء كبيرهم سالما يشهد أن قد فعله كبيرهم هذا وهو تمهيد لقوله:{فاسألوهم} إلخ.

وقوله:{ فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} أمر بأن يسألوا الأصنام عن حقيقة الحال وأن الذي فعل بهم هذا من هو؟ فيخبروهم به إن كانوا ينطقون فقوله:{ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} شرط جزاؤه محذوف يدل عليه قوله {فاسألوهم}.

فتحصل أن الآية على ظاهرها من غير تكلف إضمار أو تقديم وتأخير أو محذور تعقيد، وأن صدرها المتضمن لدعوى استناد الفعل إلى كبيرهم إلزام للخصم وتوطئة وتمهيد لذيلها وهو أمرهم بسؤال الأصنام إن نطقوا لينتهي إلى اعتراف القوم بأنهم لا ينطقون.

وربما قيل: إن قوله:{إن كانوا ينطقون} قيد لقوله:{بل فعله كبيرهم} والتقدير: بل إن كانوا ينطقون فعله كبيرهم، وإذ كان نطقهم محالا فالفعل منه كذلك وقوله:{فاسألوا} جملة معترضة.

وربما قيل: إن فاعل قوله:{فعله} محذوف والتقدير بل فعله من فعله ثم ابتدأ فقيل: كبيرهم هذا فاسألوهم إلخ وربما قيل: غير ذلك وهي وجوه غير خالية من التكلف لا يخلوالكلام معها من التعقيد المنزه عنه كلامه تعالى.

قوله تعالى:{ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} تفريع على قوله:{ فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} فإنهم لما سمعوا منه ذلك وهم يرون أن الأصنام جمادات لا شعور لها ولا نطق تمت عند ذلك عليهم الحجة فقضى كل منهم على نفسه أنه هو الظالم دون إبراهيم فقوله:{ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} استعارة بالكناية عن تنبههم وتفكرهم في أنفسهم، وقوله:{ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} أي قال كل لنفسه مخاطبا لها: إنك أنت الظالم حيث تعبد جمادا لا ينطق.

وقيل: المعنى فرجع بعضهم إلى بعض وقال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون وأنت خبير بأن ذلك لا يناسب المقام وهو مقام تمام الحجة على الجميع واشتراكهم في الظلم ولو بني على قول بعضهم لبعض في مقام هذا شأنه لكان الأنسب أن يقال: إنا نحن الظالمون كما في نظائره قال تعالى:{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ:} القلم: 31، وقال:{ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ:} الواقعة: 67.

قوله تعالى:{ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} قال الراغب: النكس قلب الشيء على رأسه ومنه نكس الولد إذا خرج رجله قبل رأسه قال تعالى:{ثم نكسوا على رءوسهم}.

انتهى فقوله:{ثم نكسوا على رءوسهم} كناية أو استعارة بالكناية عن قلبهم الباطل على مكان الحق الذي ظهر لهم والحق على مكان الباطل كأن الحق علا في قلوبهم الباطل فنكسوا على رءوسهم فرفعوا الباطل وهو كون إبراهيم ظالما على الحق وهو كونهم هم الظالمين فخصموا إبراهيم بقولهم{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}.

ومعنى قولهم:{لقد علمت} إلخ.

أن دفاعك عن نفسك برمي كبير الأصنام بالفعل وهو الجذ وتعليق ذلك باستنطاق الآلهة مع العلم بأنهم لا ينطقون دليل على أنك أنت الفاعل الظالم فالجملة كناية عن ثبوت الجرم وقضاء على إبراهيم.

قوله تعالى:{ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} لما تفوهوا بقولهم:{ما هؤلاء ينطقون} وسمعه إبراهيم لم يشتغل بالدفاع فلم يكن قاصدا لذلك من أول بل استفاد من كلامهم لدعوته الحقة فخصمهم بلازم قولهم وأتم الحجة عليهم في كون أصنامهم غير مستحقة للعبادة أي غير آلهة.

فما حصل تفريع قوله:{ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} أن لازم كونهم لا ينطقون أن لا يعلموا شيئا ولا يقدروا على شيء، ولازم ذلك أن لا ينفعوكم شيئا ولا يضروكم، ولازم ذلك أن يكون عبادتهم لغوا إذ العبادة إما لرجاء خير أو لخوف شر وليس عندهم شيء من ذلك فليسوا بآلهة.

وقوله:{ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} تزجر وتبر منهم ومن آلهتهم بعد إبطال ألوهيتها، وهذا كشهادته على وحدانيته تعالى بعد إثباتها في قوله فيما مر:{وأنا على ذلكم من الشاهدين}، وقوله:{أ فلا تعقلون} توبيخ لهم.

قوله تعالى:{ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} هو (عليه السلام) وإن أبطل بكلامه السابق ألوهية الأصنام وكان لازمه الضمني أن لا يكون كسرهم ظلما وجرما لكنه لوح بكلامه إلى أن رميه كبير الأصنام بالفعل وأمرهم أن يسألوا الآلهة عن ذلك لم يكن لدفع الجرم عن نفسه بل كان تمهيدا لإبطال ألوهية الآلهة وبهذا المقدار من السكوت وعدم الرد قضوا عليه بثبوت الجرم وأن جزاءه أن يحرق بالنار.

ولذلك قالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم بتعظيم أمرهم ومجازاة من أهان بهم وقولهم:{إن كنتم فاعلين} تهييج وإغراء.

قوله تعالى:{ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} خطاب تكويني للنار تبدلت به خاصة حرارتها وإحراقها وإفنائها بردا وسلاما بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام) على طريق خرق العادة، وبذلك يظهر أن لا سبيل لنا إلى الوقوف على حقيقة الأمر فيه تفصيلا إذ الأبحاث العقلية عن الحوادث الكونية إنما تجري فيما لنا علم بروابط العلية والمعلولية فيه من العاديات المتكررة، وأما الخوارق التي نجهل الروابط فيها فلا مجرى لها فيها.

نعم نعلم إجمالا أن لهمم النفوس دخلا فيها وقد تكلمنا في ذلك في مباحث الإعجاز في الجزء الأول من الكتاب.

والفصل في قوله:{قلنا} إلخ.

لكونه في معنى جواب سؤال مقدر وتقدير الكلام بما فيه من الحذف إيجازا نحومن قولنا: فأضرموا نارا وألقوه فيها فكأنه قيل: فما ذا كان بعده فقيل: قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، وعلى هذا النحو الفصل في كل{قال} و{قالوا} في الآيات السابقة من القصة.

قوله تعالى:{ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} أي احتالوا عليه ليطفئوا نوره ويبطلوا حجته فجعلناهم الأخسرين حيث خسروا ببطلان كيدهم وعدم تأثيره وزادوا خسارة حيث أظهره الله عليهم بالحفظ والإنجاء.

_____________

1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص245-248.

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

إبراهيم وبرهانه المبين:

إنّ المألوف ـ عادةً ـ عندما تقع جريمة في مكان ما، فإنّه ومن أجل كشف الشخص الذي قام بهذا العمل، تبحث علاقات الخصومة والعداء، ومن البديهي أنّه لم يكن هناك شخص في تلك البيئة من يعادي الأصنام غير إبراهيم، ولذلك توجّهت إليه أفكار الجميع، و { قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}عليه بالجريمة.

وإحتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد مشاهدة منظر عقاب إبراهيم، لا الشهادة على كونه مجرماً. غير أنّ الآيات المقبلة التي لها صبغة التحقيق والإستجواب تنفي هذا الإحتمال، إضافةً إلى أنّ التعبير بـ«لعلّ» لا يناسب المعنى الثّاني، لأنّ الناس إذا حضروا ساحة العقاب فسيشاهدون ذلك المنظر حتماً، فلا معنى لـ«لعلّ».

فنادى المنادون في نواحي المدينة: «ليحضر كلّ من يعلم بعداء إبراهيم وإهانته للأصنام»، فإجتمع كلّ الذين كانوا يعلمون بالموضوع، وكذلك سائر الناس ليروا أين ستصل عاقبة عمل هذا المتّهم؟

لقد حدثت ضجّة وهمهمة عجيبة بين الناس، لأنّ هذا العمل كان في نظرهم جريمة لم يسبق لها نظير من قبل شابّ مثير للفتن والمتاعب، وكانت قد هزّت البناء الديني للناس.

وأخيراً تشكّلت المحكمة، وكان زعماء القوم قد إجتمعوا هناك، ويقول بعض المفسّرين: أنّ نمرود نفسه كان مشرفاً على هذه المحاكمة، وأوّل سؤال وجّهوه إلى إبراهيم (عليه السلام) هو أن: { قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}؟

هؤلاء لم يكونوا مستعدّين حتّى للقول: أأنت حطّمت آلهتنا وجعلتها قطعاً متناثرة؟ بل قالوا فقط: أأنت فعلت بآلهتنا ذلك؟

فأجابهم إبراهيم جواباً أفحمهم، وجعلهم في حيرة لم يجدوا منها مخرجاً { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}.

إنّ من اُسس علم معرفة الجرائم أن يكون المتّهم بادية عليه آثار الجريمة، والملاحظ هنا أنّ آثار الجريمة كانت باديةً على يد الصنم الكبير، [وفقاً للرواية المعروفة: إنّ إبراهيم جعل الفأس على رقبة الصنم الكبير].

لماذا تأتون إليّ؟ ولماذا لا تتّهمون إلهكم الكبير؟ ألا تحتملون أنّه غضب على الآلهة الصغيرة، أو إنّه إعتبرهم منافسيه في المستقبل فعاقبهم؟

ولمّا كان ظاهر هذا التعبير لا يطابق الواقع في نظر المفسّرين، ولمّا كان إبراهيم نبيّاً معصوماً ولا يكذب أبداً، فقد ذكروا تفاسير مختلفة، وأفضلها كما يبدو هو:

إنّ إبراهيم (عليه السلام) قد نسب العمل إلى كبير الأصنام قطعاً، إلاّ أنّ كلّ القرائن تشهد أنّه لم يكن جادّاً في قصده، بل كان يريد أن يزعزع عقائد الوثنيين الخرافية الواهية، ويفنّدها أمامهم، ويُفهم هؤلاء أنّ هذه الأحجار والأخشاب التي لا حياة فيها ذليلة وعاجزة إلى الحدّ الذي لا تستطيع أن تتكلّم بجملة واحدة تستنجد بعبّادها، فكيف يريدون منها أن تحلّ معضلاتهم؟!

ونظير هذا التعبير كثير في محادثاتنا اليوميّة، فنحن إذا أردنا إبطال أقوال الطرف المقابل نضعِ أمامه مسلّماته على هيئة الأمر أو الإخبار أو الإستفهام، وهذا ليس كذباً أبداً، بل الكذب هو القول الذي لا يمتلك القرينة معه.

وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في كتاب الكافي: «إنّما قال: بل فعله كبيرهم، إرادة الإصلاح، ودلالة على أنّهم لا يفعلون»(2) ثمّ قال: «والله ما فعلوه وما كذّب»(3).

وإحتمل جمع من المفسّرين أنّ إبراهيم قد أدّى هذا المطلب بشكل جملة شرطيّة وقال: إنّ الأصنام إذا كانت تتكلّم فإنّها قد فعلت هذا الفعل، ومن المسلّم أنّ هذا التعبير لم يكن خلاف الواقع، لأنّ الأصنام لم تكن تتكلّم، ولم تكن قد أقدمت على مثل هذا العمل، ولم يصدر منها، ووردت رواية في مضمون هذا التّفسير أيضاً.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب، لأنّ الجملة الشرطيّة «إن كانوا ينطقون» جواب الطلب في «فاسألوهم»، وليست شرطاً لجملة «بل فعله كبيرهم». (فلاحظوا بدقّة).

واللطيفة الاُخرى التي ينبغي الإلتفات إليها هي: إنّ العبارة هي أنّه يجب أن يسأل من الأصنام المحطّمة الأيدي والأرجل عمّن فعل بها ذلك، لا من الصنم الكبير، لأنّ ضمير (هم)، وكذلك ضمائر «إن كانوا ينطقون» كلّها بصيغة الجمع، وهذا أنسب مع التّفسير الأوّل(4).

لقد هزّت كلمات إبراهيم الوثنيين وأيقظت ضمائرهم النائمة الغافلة، وأزاح الرماد عن شعلة النّار فأضاءها، وأنار فطرتهم التوحيديّة من خلف حجب التعصّب والجهل.

في لحظة سريعة إستيقظوا من هذا النوم العميق ورجعوا إلى فطرتهم ووجدانهم، كما يقول القرآن: { فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}(5) فقد ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم الذي تنتمون إليه، وكذلك ساحة الله واهب النعم المقدّسة.

والطريف في الأمر أنّنا قرأنا في الآيات السابقة أنّهم اتّهموا إبراهيم بكونه ظالماً، وهنا قبلوا وإعترفوا في أنفسهم بأنّ الظالم الأصلي والحقيقي هو أنفسهم. وفي الواقع فإنّ كلّ مراد إبراهيم من تحطيم الأصنام تحطيم فكر الوثنية وروح الصنمية، لا تحطيم الأصنام ذاتها، إذ لا جدوى من تحطيمها إذا صنع الوثنيّون العنودون أصناماً أكبر منها وجعلوها مكانها، وتوجد أمثلة كثيرة لهذه المسألة في تأريخ الأقوام الجاهلين المتعصّبين.

إلى الآن إستطاع إبراهيم أن يجتاز بنجاح مرحلة حسّاسة جداً من طريق تبليغه الرسالة، وهي إيقاظ الضمائر عن طريق إيجاد موجة نفسيّة هائجة.

ولكن للأسف، فإنّ صدأ الجهل والتعصّب والتقليد الأعمى كان أكبر من أن يُصقل ويُمحى تماماً بنداء بطل التوحيد.

وللأسف لم تستمر هذه اليقظة الروحية المقدّسة، وثارت في ضمائرهم الملوّثة المظلمة قوى الشيطان والجهل ضدّ نور التوحيد هذا، ورجع كلّ شيء إلى حالته الأُولى، وكم هو لطيف تعبير القرآن حيث يقول: { ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ }ومن أجل أن يأتوا بعذر نيابة عن الآلهة البُكْم قالوا: { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} فإنّهم دائماً صامتون، ولا يحطّمون حاجز الصمت. وأرادوا بهذا العذر الواهي أن يخفوا ضعف وذلّة الأصنام.

وهنا فُتح أمام إبراهيم الميدان والمجال للإستدلال المنطقي ليوجّه لهم أشدّ هجماته، وليرمي عقولهم بوابل من التوبيخ واللوم المنطقي الواعي: { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ}؟ فماذا تنفع هذه الآلهة المزعومة الخياليّة التي لا قدرة لها على الكلام، وليس لها شعور وإدراك، ولا تقدر أن تدافع عن نفسها، ولا تستطيع أن تحمي عبّادها، ولا يصدر عنها أي عمل؟

إنّ عبادة معبود ما إنّما يكون لأهليّته للعبادة، ومثل هذا الأمر لا معنى له في شأن الأصنام الميتة، أو يعبد رجاء فائدة ونفع تعود عليهم من قبله، أو الخوف من خسارتهم، إلاّ أنّ إقدامي على تحطيم الأصنام أوضح أنّها لا تملك أدنى حركة، ومع هذا الحال ألا يعتبر عملكم هذا حمقاً وجهالة؟!

ووسّع معلّم التوحيد دائرة الكلام، وإنهال بسياط التقريع على روحهم التي فقدت الإحساس، فقال: { أُفٍّ(6) لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}؟ إلاّ أنّه لم يلحّ في توبيخهم وتقريعهم لئلاّ يلجّوا في عنادهم.

في الحقيقة، كان إبراهيم يتابع خطّته بدقّة متناهية، فأوّل شيء قام به عند دعوتهم إلى التوحيد هو أن ناداهم قائلا: ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟ وهي لا تحسّ ولا تتكلّم وإذا كنتم تقولون: إنّها سنّة آبائكم، فقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين.

وفي المرحلة الثّانية أقدم على خطّة عملية ليبيّن أنّ هذه الأصنام ليست لها تلك القدرة على إهلاك كلّ من ينظر إليها نظرة إحتقار، خاصة وأنّه ذهب إليها مع سابق إنذار وحطّمها تماماً، وليوضّح أنّ تلك الأوهام التي حاكوها مجتمعين لا فائدة ولا ثمر فيها.

وفي المرحلة الثّالثة أوصلهم في تلك المحكمة التاريخيّة إلى طريق مسدود، فمرّة دخل إليهم عن طريق فطرتهم، وتارةً خاطب عقولهم، وأُخرى وعظّهم، وأحياناً وبّخهم ولامهم.

والخلاصة، فإنّ هذا المعلّم الكبير قد دخل من كلّ الأبواب، وإستخدم كلّ طاقته، إلاّ أنّ من المسلّم أنّ القابلية شرط في التأثير، وكان هذا قليل الوجود بين اُولئك القوم للأسف.

ولكن لا شكّ أنّ كلمات إبراهيم(عليه السلام) وأفعالهِ بقيت كأرضيّة للتوحيد، أو على الأقل بقيت كعلامات إستفهام في أذهان اُولئك، وأصبحت مقدّمة ليقظة ووعي أوسع في المستقبل. ويستفاد من التواريخ أنّ جماعة آمنوا به(7)، وهم وإن قلّوا عدداً، إلاّ أنّهم كانوا من الأهميّة بمكان، إذ هيّأوا الإستعداد النسبي لفئة أُخرى.

عندما تصير النّار جنّة:

مع أنّ عبدة الأوثان اُسقط ما في أيديهم نتيجة إستدلالات إبراهيم العمليّة والمنطقيّة، وإعترفوا في أنفسهم بهذه الهزيمة، إلاّ أنّ عنادهم وتعصّبهم الشديد منعهم من قبول الحقّ، ولذلك فلا عجب من أن يتّخذوا قراراً صارماً وخطيراً في شأن إبراهيم، وهو قتل إبراهيم بأبشع صورة، أي حرقه وجعله رماداً!

هناك علاقة عكسية بين القوّة والمنطق عادةً، فكلّ من إشتدّت قوّته ضعف منطقه، إلاّ رجال الحقّ فإنّهم كلّما زادت قوتهم يصبحون أكثر تواضعاً ومنطقاً.

وعندما لا يحقّق المتعصّبون شيئاً عن طريق المنطق، فسوف يتوسّلون بالقوّة فوراً، وقد طبّقت هذه الخطّة في حقّ إبراهيم تماماً كما يقول القرآن الكريم: { قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}.

إنّ المتسلّطين المتعنّتين يستغلّون نقاط الضعف النفسيّة لدى الغوغاء من الناس لتحريكهم ـ عادةً ـ لمعرفتهم بالنفسيات ومهارتهم في عملهم! وكذلك فعلوا في هذه الحادثة، وأطلقوا شعارات تثير حفيظتهم، فقالوا: إنّ آلهتكم ومقدّساتكم مهدّدة بالخطر، وقد سُحقت سنّة آبائكم وأجدادكم، فأين غيرتكم وحميّتكم؟! لماذا أنتم ضعفاء أذلاّء؟ لماذا لا تنصرون آلهتكم؟ احرقوا إبراهيم وانصروا آلهتكم ـ إذا كنتم لا تقدرون على أي عمل ـ ما دام فيكم عرق ينبض، ولكم قوّة وقدرة.

اُنظروا إلى كلّ الناس يدافعون عن مقدّساتهم، فما بالكم وقد أحدق الخطر بكلّ مقدّساتكم؟!

والخلاصة، فقد قالوا الكثير من أمثال هذه لخزعبلات وأثاروا الناس ضدّ إبراهيم بحيث أنّهم لم يكتفوا بعدّة حزم من الحطب تكفي لإحراق عدّة أشخاص، بل أتوا بآلاف الحزم وألقوها حتّى صارت جبلا من الحطب ثمّ أشعلوه فاتّقدت منه نار مهولة كأنّها البحر المتلاطم والدخان يتصاعد إلى عنان السّماء لينتقموا من إبراهيم أوّلا، وليحفظوا مهابة أصنامهم المزعومة التي حطّمتها خِطّته وأسقطت اُبّهتها!!

لقد كتب المؤرخّون هنا مطالب كثيرة، لا يبدو أي منها بعيداً، ومن جملتها قولهم: إنّ الناس سعوا أربعين يوماً لجمع الحطب، فجمعوا منه الكثير من كلّ مكان، وقد وصل الأمر إلى أنّ النساء اللاتي كان عملهنّ الحياكة في البيوت، خرجن وأضفن تلاًّ من الحطب إلى ذلك الحطب، ووصّى المرضى المشرفون على الموت بمبلغ من أموالهم لشراء الحطب، وكان المحتاجون ينذرون بأنّهم يضيفون مقداراً من الحطب إذا قضيت حوائجهم، ولذلك عندما أشعلوا النّار في الحطب من كلّ جانب إشتعلت نار عظيمة بحيث لا تستطيع الطيور أن تمرّ فوقها.

من البديهي أنّ ناراً بهذه العظمة لا يمكن الإقتراب منها، فكيف يريدون أن يلقوا إبراهيم فيها، ومن هنا اضطروا إلى الإستعانة بالمنجنيق، فوضعوا إبراهيم عليه وألقوه في تلك النّار المترامية الأطراف بحركة سريعة(8).

ونقرأ في الرّوايات المنقولة عن طرق الشّيعة والسنّة أنّهم عندما وضعوا إبراهيم على المنجنيق، وأرادوا أن يلقوه في النّار، ضجّت السّماء والأرض والملائكة، وسألت الله سبحانه أن يحفظ هذا الموحّد البطل وزعيم الرجال الأحرار.

ونقلوا أيضاً أنّ جبرئيل جاء للقاء إبراهيم، وقال له: ألك حاجة؟ فأجابه إبراهيم بعبارة موجزة: «أمّا إليك فلا» إنّي أحتاج إلى من هو غني عن الجميع، ورؤوف بالجميع.

وهنا إقترح عليه جبرئيل فقال: فاسأل ربّك، فأجابه: «حسبي مِن سؤالي علمه بحالي»(9).

وفي حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): إنّ إبراهيم ناجى ربّه في تلك الساعة: «ياأحد ياأحد، ياصمد ياصمد، يامن لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، توكّلت على الله»(10).

كما ورد هذا الدعاء بعبارات مختلفة وفي العديد من المصادر الاُخرى.

وعلى كلّ حال، فقد اُلقي إبراهيم في النّار وسط زغاريد الناس وسرورهم وصراخهم، وقد أطلقوا أصوات الفرح ظانّين أنّ محطّم الأصنام قد فني إلى الأبد وأصبح تراباً ورماداً.

لكنّ الله الذي بيده كلّ شيء حتّى النّار لا تحرق إلاّ بإذنه، شاء أن يبقى هذا العبد المؤمن المخلص سالماً من لهب تلك النّار الموقدة ليضيف وثيقة فخر جديدة إلى سجل إفتخاراته، وكما يقول القرآن الكريم: { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}.

لا شكّ أنّ أمر الله هنا كان أمراً تكوينيّاً، كالأمر الذي يصدره في عالم الوجود إلى الشمس والقمر، والأرض والسّماء، والماء والنّار، والنباتات والطيور.

والمعروف أنّ النّار قد بردت برداً شديداً إصطّكت أسنان إبراهيم منه، وحسب قول بعض المفسّرين: إنّ الله سبحانه لو لم يقل: سلاماً، لمات إبراهيم من شدّة البرد. وكذلك نقرأ في رواية مشهورة أنّ نار النمرود قد تحوّلت إلى حديقة غناء(11). حتّى قال بعض المفسّرين إنّ تلك اللحظات التي كان فيها إبراهيم في النّار، كانت أهدأ وأفضل وأجمل أيّام عمره(12).

على كلّ حال، فهناك إختلاف كبير بين المفسّرين في كيفية عدم إحراق النّار لإبراهيم، إلاّ أنّ مجمل الكلام أنّه في فلسفة التوحيد لا يصدر أي مسبّب عن أي سبب إلاّ بأمر الله، فيقول يوماً للسكّين التي في يد إبراهيم: لا تقطعي، ويقول يوماً آخر للنار: لا تحرقي، ويوماً آخر يأمر الماء الذي هو أساس الحياة أن يغرق فرعون والفراعنة!

ويقول الله سبحانه في آخر آية من الآيات محلّ البحث على سبيل الإستنتاج بإقتضاب: أنّهم تآمروا عليه ليقتلوه ولكن النتيجة لم تكن في صالحهم { وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}.

لا يخفى أنّ الوضع قد إختلف تماماً ببقاء إبراهيم سالماً، وخمدت أصوات الفرح، وبقيت الأفواه فاغرة من العجب، وكان جماعة يتهامسون علناً فيما بينهم حول هذه الظاهرة العجيبة، وأصبحت الألسن تلهج بعظمة إبراهيم وربّه، وأحدق الخطر بوجود نمرود وحكومته، غير أنّ العناد ظلّ مانعاً من قبول الحقّ، وإن كان أصحاب القلوب الواعية قد إستفادوا من هذه الواقعة، وزاد إيمانهم مع قلّتهم.

________________

1- تفسير الامثل ،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص281-289.

2- أصول الكافي،ج2،ص341،ح17 باب الكذب.

3- المصدر السابق ،ح22.

4ـ إضافة إلى أنّ ضمير كبيرهم مع البقيّة متشابه.

5ـ إحتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من {فرجعوا إلى أنفسهم} أنّهم تحدّثوا بينهم عن ذلك الكلام، ولام بعضهم بعضاً. إلاّ أنّ ما قلناه يبدو هو الأصحّ.

6ـ بحثنا في معنى {اُف} بصورة أكثر تفصيلا في ذيل الآية (23) من سورة الإسراء.

7- كامل ابن اثير،ج1،ص100.

8ـ مجمع البيان، وتفسير الميزان، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير القرطبي، في ذيل الآيات مورد البحث. وكذلك الكامل لابن الأثير المجلّد الأوّل ص98.

9ـ روضة الكافي، طبقاً لنقل الميزان، ج14، ص336.

10ـ تفسير الفخر الرّازي ذيل الآية.

11ـ تفسير مجمع البيان، ذيل الآية.

12ـ تفسير الفخر الرازي، ذيل الآية.

 

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .