المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17757 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24
من آداب التلاوة
2024-11-24
مواعيد زراعة الفجل
2024-11-24
أقسام الغنيمة
2024-11-24
سبب نزول قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم
2024-11-24

الأهمية الاقتصادية والطبية للتوت
2023-09-07
The Caesar Cipher
5-2-2016
مواد الأثر
2-3-2016
انقراض الدولة الكيانية الفارسية وقيام الدولة اليونانية.
2024-10-24
[تآمر الكافرين والهجرة الى المدينة]
22-11-2015
Malonic Ester Synthesis
18-11-2019


تفسير الآية (11-17) من سورة غافر  
  
5524   09:53 صباحاً   التاريخ: 13-8-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الغين / سورة غافر /

قال تعالى : {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُو الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوكَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر : 11 - 17] .

 

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) 

 

حكى سبحانه عن الكفار الذين تقدم وصفهم بعد حصولهم في النار بأنهم {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} اختلف في معناه على وجوه (أحدها) أن الإماتة الأولى في الدنيا بعد الحياة والثانية في القبر قبل البعث والإحياء الآتي في القبر للمسائلة والثانية في الحشر عن السدي وهو اختيار البلخي (وثانيها) أن الإماتة الأولى حال كونهم نطفا فأحياهم الله في الدنيا ثم أماتهم الموتة الثانية ثم أحياهم للبعث فهاتان حياتان وموتتان ونظيره قوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الآية عن ابن عباس وقتادة والضحاك واختاره أبو مسلم (وثالثها) أن الحياة الأولى في الدنيا والثانية في القبر ولم يرد الحياة يوم القيامة والموتة الأولى في الدنيا والثانية في القبر عن الجبائي .

{فاعترفنا بذنوبنا} التي اقترفناها في الدنيا {فهل إلى خروج من سبيل} هذا تلطف منهم في الاستدعاء أي هل بعد الاعتراف سبيل إلى الخروج وقيل إنهم سألوا الرجوع إلى الدنيا أي هل من خروج من النار إلى الدنيا لنعمل بطاعتك ولو علم الله سبحانه أنهم يفلحون لردهم إلى حال التكليف ولذلك قال ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه تنبيها على أنهم لو صدقوا في ذلك لأجابهم إلى ما تمنوه في الكلام حذف تقديره فأجيبوا بأنه لا سبيل لكم إلى الخروج .

{ذلكم} أي ذلكم العذاب الذي حل بكم {بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم} أي إذا قيل : ((لا إله إلا الله)) قلتم أ جعل الآلهة إلها واحدا وجحدتم ذلك {وإن يشرك به تؤمنوا} أي وإن يشرك به معبود آخر من الأصنام والأوثان تصدقوا {فالحكم لله} في ذلك والفصل بين الحق والباطل .

{العلي} القادر على كل شيء ليس فوقه من هو أقدر منه أومن يساويه في مقدوره ونقلت هذه اللفظة من علو المكان إلى علو الشأن ولذلك جاز وصفه سبحانه بذلك يقال استعلى فلان عليه بالقوة وبالحجة وليس كذلك الرفعة ولذلك لا يوصف مكانه بأنه رفيع كما وصف بأنه علي .

{الكبير} العظيم في صفاته التي لا يشاركه فيها غيره وقيل هو السيد الجليل عن الجبائي {هو الذي يريكم آياته} أي مصنوعاته التي تدل على كمال قدرته وتوحيده من السماء والأرض والشمس والقمر {وينزل لكم من السماء رزقا} من الغيث والمطر الذي ينبت ما هو رزق للخلق {وما يتذكر} أي وما يتعظ بهذه الآيات وليس يتفكر في حقيقتها {إلا من ينيب} أي يرجع إليه وقيل إلا من يقبل إلى طاعة الله عن السدي .

ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال {فادعوا الله مخلصين له الدين} أي وجهوا عبادتكم إليه تعالى وحده {ولوكره الكافرون} فلا تبالوا بهم ثم وصف سبحانه نفسه فقال {رفيع الدرجات} الرفيع بمعنى الرافع أي هو رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة عن عطا عن ابن عباس وقيل معناه رافع السماوات السبع عن سعيد بن جبير وقيل معناه أنه عالي الصفات {ذو العرش} أي مالك العرش وخالقه وربه وقيل ذو الملك والعرش الملك عن أبي مسلم {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} وقيل الروح هو القرآن وكل كتاب أنزله الله تعالى على نبي من أنبيائه وقيل الروح الوحي هنا لأنه يحيي به القلب أي يلقي الوحي على قلب من يشاء ممن يراه أهلا له يقال ألقيت عليه كذا أي فهمته إياه وقيل إن الروح جبرائيل (عليه السلام) يرسله الله تعالى بأمره عن الضحاك وقتادة وقيل إن الروح هاهنا النبوة عن السدي {لينذر} النبي بما أوحي إليه .

{يوم التلاقي} يلتقي في ذلك اليوم أهل السماء وأهل الأرض عن قتادة والسدي وابن زيد وقيل فيه يلتقي الأولون والآخرون والخصم والمخصوم والظالم والمظلوم عن الجبائي وقيل يلتقي الخلق والخالق عن ابن عباس يعني أنه يحكم بينهم وقيل يلتقي المرء وعمله والكل مراد والله أعلم {يوم هم بارزون} من قبورهم وقيل يبرز بعضهم لبعض فلا يخفى على أحد حال غيره لأنه ينكشف ما يكون مستورا .

{لا يخفى على الله منهم شيء} أي من أعمالهم وأحوالهم ويقول الله في ذلك اليوم {لمن الملك اليوم} فيقر المؤمنون والكافرون بأنه {لله الواحد القهار} .

 وقيل : إنه سبحانه هو القائل لذلك وهو المجيب لنفسه ويكون في الإخبار بذلك مصلحة للمكلفين قال محمد بن كعب القرظي يقول الله تعالى ذلك بين النفختين حين يفني الخلائق كلها ثم يجيب نفسه لأنه بقي وحدة والأول أصح لأنه بين أنه يقول ذلك يوم التلاقي يوم يبرز العباد من قبورهم وإنما خص ذلك اليوم بأن له الملك فيه لأنه قد ملك العباد بعض الأمور في الدنيا ولا يملك أحد شيئا ذلك اليوم .

فإن قيل : أليس يملك الأنبياء والمؤمنون في الآخرة الملك العظيم؟ فالجواب أن أحدا لا يستحق إطلاق الصفة بالملك إلا الله لأنه يملك جميع الأمور من غير تمليك مملك وقيل إن المراد به يوم القيامة قبل تمليك أهل الجنة ما يملكهم {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وفي الحديث ((أن الله تعالى يقول أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولا لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده مظلمة حتى أقصه منه)) ثم تلا هذه الآية .

 {لا ظلم اليوم} أي لا ظلم لأحد على أحد ولا ينقص من ثواب أحد ولا يزاد في عقاب أحد {إن الله سريع الحساب} لا يشغله محاسبة واحد عن محاسبة غيره .

____________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص429-432 .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) 

 

{قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} . ضمير قالوا يعود إلى أهل النار ، والموتة الأولى قبل خروجهم من بطون أمهاتهم ، والثانية الموت المعهود ، أما حياتهم الأولى فهي حياتهم في الدنيا ، والثانية البعث بعد الموت ، والمعنى ان أهل جهنم يتضرعون إلى اللَّه ، وهم في قعرها معذبون ، يتضرعون إليه تعالى ويقولون : إلهنا أنت القادر على كل شيء .

أوجدتنا في الدنيا ، ثم أخرجتنا منها بالموت ، ثم بعثتنا بعده ، ونحن الآن بين يديك نادمين معترفين بالخطايا والذنوب ، فهل من سبيل إلى منك وكرمك بالخروج من النار ، ولك عهد الطاعة والامتثال ؟

{ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} هذا جواب اللَّه سبحانه على قولهم : {فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} ويتلخص الجواب بأن داعي اللَّه دعاكم إلى الحق ، وأنتم في الحياة الدنيا ، فكذبتموه ، ودعاكم داعي الشيطان إلى الباطل فأجبتموه . . والآن تدعون فلا تجابون ، واحدة بواحدة ، وقوله تعالى : {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} يومئ إلى أنه لا حكم غدا إلا للَّه وحده فلا عالي ولا كبير إلا هو : {وعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه - 111] .

{هُو الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ويُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} .

أرانا سبحانه الكثير من الشواهد على وجوده وعظمته ، والدلائل على تدبيره وحكمته .

في السماء والأرض ، وفي الإنسان والحيوان ، وفي المطر والزرع . . إلى ما لا نهاية ، وبديهة ان هذه الدلائل والشواهد - على الرغم من كثرتها - لا تظهر إلا لمن أبصر وتدبر ، أما تائه القلب فإنه في عمى عنها ، قال طاغور :

ان اللَّه أبرز وجوده في قالب حي من صور الخليقة ، أبرزه في هذا التنسيق والانسجام بين قوى الطبيعة المتصارعة في وحدة شاملة تخضع جميعها لقانون رتيب لا تحيد عنه ، وفي الوقت نفسه تهدف إلى تحقيق غاية بعينها . . ان كل شيء في الطبيعة له وظيفة خاصة ، وعمل معين ، وهدف محدد يسعى إليه ، فما الحبة إلا عامل يكد ليبرز الشجرة الكامنة في أعماقها ، والشجرة بدورها تكد لتصل إلى الزهرة ، والزهرة تجاهد في سبيل الثمرة ، ولا يدرك هذا إلا صاحب القلب السليم} . والمراد بصاحب القلب السليم هو المراد بالذات من قوله تعالى : {وما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} .

( فَادْعُوا اللَّهً مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ولَوكَرِهً الْكافِرُونَ ) . الخطاب للمؤمنين ، والمراد بالدعاء هنا العبادة ، وبالدين الطاعة ، والمعنى اعبدوا اللَّه وحده ، وأطيعوه في أمره ونهيه ، ولا تأخذكم في ذلك لومة لائم ، وقد سهل سبحانه لعباده سبل طاعته ، حيث أرشدهم محذرا ، وكلفهم يسيرا ، وما ترك عذرا لمتعلل ( رفيع الدرجات ) . هذا كناية عن علوه تعالى وعظمته ، وقيل : ان المراد بالدرجات هنا تفاوت العارفين باللَّه في معرفتهم به قوة وضعفا ، ابتداء من معرفة الرجل العادي إلى معرفة الفلاسفة والأنبياء {ذو العرش} كناية عن الملك والاستيلاء .

{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} . المراد بالروح هنا الوحي ، وبيوم التلاق يوم القيامة حيث يلتقي فيه كل إنسان بجزاء عمله ، والمراد بإنذار هذا اليوم الانذار بعذابه ، وجاء التعبير بأنه هو المنذر للإشارة إلى شدة وقعه وهوله ، والمعنى ان اللَّه سبحانه ينزل الوحي على من يشاء من عباده لينذر الناس بأنهم يحشرون بعد الموت في شر يوم على الطغاة العصاة ، ويسألون عما كانوا يعملون {يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ} أي ظهروا للَّه على حقيقتهم {لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} . هذا بيان وتفسير لقوله تعالى : {يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ} .

{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} يسألون يوم القيامة ، وهم بارزون لفصل القضاء : لمن الأمر والحكم ؟ فيجيب سبحانه عنهم لأن الجواب متعين واقعا وحقيقة ، أوهم يجيبونه بلسان الحال والمقال : {لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ} فوق عباده {الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهً سَرِيعُ الْحِسابِ} واضح . وتقدم مثله بالنص في الآية 51 من سورة إبراهيم ج 4 ص 460 .

_______________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص441-443 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)

 

قوله تعالى : {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل} سياق الآية وما قبلها يشعر بأنهم يقولون هذا القول بعد استماع النداء السابق ، وإنما يقولونه وهم في النار بدليل قولهم : {فهل إلى خروج من سبيل} .

وتقديم هذا الاعتراف منهم نوع تسبيب وتوسل إلى التخلص من العذاب ولات حين مناص ، وذلك أنهم كانوا - وهم في الدنيا - في ريب من البعث والرجوع إلى الله فأنكروه ونسوا يوم الحساب وكان نسيان ذلك سبب استرسالهم في الذنوب وذهابهم لوجوههم في المعاصي ونسيان يوم الحساب مفتاح كل معصية وضلال قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص : 26] .

ثم لما أماتهم الله إماتة بعد إماتة وأحياهم إحياءة بعد إحياءة زال ارتيابهم في أمر البعث والرجوع إلى الله بما عاينوا من البقاء بعد الموت والحياة بعد الحياة وقد كانوا يرون أن الموت فناء ، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين .

وبالجملة زال عنهم الارتياب بحصول اليقين وبقيت الذنوب والمعاصي ولذلك توسلوا إلى التخلص من العذاب بالاعتراف فتارة اعترفوا بحصول اليقين كما حكاه الله عنهم في قوله : {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة : 12] ، وتارة اعترفوا بذنوبهم كما في الآية المبحوث عنها وقد كانوا يرون أنهم أحرار مستقلون في إرادتهم وأفعالهم لهم أن يشاءوا ما شاءوا وأن يفعلوا ما فعلوا ولا حساب ولا ذنب .

ومن ذلك يظهر وجه ترتب قولهم : {فاعترفنا بذنوبنا} على قولهم : {أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} فالاعتراف في الحقيقة مترتب على حصول اليقين بالمعاد الموجب لحصول العلم بكون انحرافاتهم عن سبيل الله ضلالات وذنوبا .

والمراد بقولهم : {أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} - كما قيل - الإماتة عن الحياة الدنيا والإحياء للبرزخ ثم الإماتة عن البرزخ والإحياء للحساب يوم القيامة فالآية تشير إلى الإماتة بعد الحياة الدنيا والإماتة بعد الحياة البرزخية وإلى الإحياء في البرزخ والإحياء ليوم القيامة ولولا الحياة البرزخية لم تتحقق الإماتة الثانية لأن كلا من الإماتة والإحياء يتوقف تحققه على سبق خلافه .

ولم يتعرضوا للحياة الدنيا ولم يقولوا : وأحييتنا ثلاثا وإن كانت إحياء لكونها واقعة بعد الموت الذي هو حال عدم ولوج الروح لأن مرادهم ذكر الإحياء الذي هو سبب الإيقان بالمعاد وهو الإحياء في البرزخ ثم في القيامة وأما الحياة الدنيوية فإنها وإن كانت إحياء لكنها لا توجب بنفسها يقينا بالمعاد فقد كانوا مرتابين في المعاد وهم أحياء في الدنيا .

وبما تقدم من البيان يظهر فساد ما اعترض عليه بأنه لوكان المراد بالإحياءتين ما كان في البرزخ وفي الآخرة لكان من الواجب أن يقال : {أمتنا اثنتين وأحييتنا ثلاثا} إذ ليس المراد إلا ذكر ما مر عليهم من الإماتة والإحياءة وذلك إماتتان اثنتان وإحياءات ثلاث .

والجواب أنه ليس المراد هو مجرد ذكر الإماتة والإحياء اللتين مرتا عليهم كيفما كانتا بل ذكر ما كان منهما مورثا لليقين بالمعاد ، وليس الإحياء الدنيوي على هذه الصفة .

وقيل : المراد بالإماتة الأولى حال النطفة قبل ولوج الروح ، وبالإحياءة الأولى ما هو حال الإنسان بعد ولوجها ، وبالإماتة الثانية إماتته في الدنيا ، وبالإحياءة الثانية إحياءته بالبعث للحساب يوم القيامة ، والآية منطبقة على ما في قوله تعالى : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة : 28] .

ولما أحسوا بعدم صدق الإماتة على حال الإنسان قبل ولوج الروح في جسده لتوقفها على سبق الحياة تمحلوا في تصحيحه تمحلات عجيبة من أراد الوقوف عليها فليراجع الكشاف ، وشروحه .

على أنك قد عرفت أن ذكرهم ما مر عليهم من الإماتة والإحياءة إشارة إلى أسباب حصول يقينهم بالمعاد والحياة الدنيا والموت الذي قبلها لا أثر لهما في ذلك .

وقيل : إن الحياة الأولى في الدنيا والثانية في القبر ، والموتة الأولى في الدنيا والثانية في القبر ولا تعرض في الآية لحياة يوم البعث ، ويرد عليه ما تقدم أن الحياة الدنيا لا تعلق لها بالغرض فلا موجب للتعرض لها ، والحياة يوم القيامة بالخلاف من ذلك .

وقيل : المراد بالإحياءتين إحياء البعث والإحياء الذي قبله وإحياء البعث قسمان إحياء في القبر وإحياء عند البعث ولم يتعرض لهذا التقسيم في الآية فتشمل الآية الإحياءات الثلاث والإماتتين جميعا .

ويرد عليه ما يرد على الوجهين السابقين عليه مضافا إلى ما أورد عليه أن ذكر الإماتة الثانية التي في القبر دليل على أن التقسيم ملحوظ والمراد التعدد الشخصي لا النوعي .

وقيل : المراد إحياء النفوس في عالم الذر ثم الإماتة ثم الإحياء في الدنيا ثم الإماتة ثم الإحياء للبعث ، ويرد عليه ما يرد على سوابقه .

وقيل : المراد بالتثنية التكرار كما في قوله تعالى : {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك : 4] ، والمعنى أمتنا إماتة وأحييتنا إحياءة بعد إحياءة .

وأورد عليه أنه إنما يتم لوكان القول : أمتنا إماتتين وأحييتنا إحياءتين أو كرتين مثلا لكن المقول نفس العدد وهولا يحتمل ذلك كما قيل في قوله : {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل : 51] .

وقولهم : {فهل إلى خروج من سبيل} دعاء ومسألة في صورة الاستفهام ، وفي تنكير الخروج والسبيل إشارة إلى رضاهم بأي نوع من الخروج كان من أي سبيل كانت فقد بلغ بهم الجهد واليوم يوم تقطعت بهم الأسباب فلا سبب يرجى أثره في تخلصهم من العذاب .

قوله تعالى : {ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا} إلخ خطاب تشديد للكفار موطنه يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون موطنه الدنيا خوطبوا بداعي زجرهم عن الشرك .

والإشارة بقوله : {ذلكم} إلى ما هم فيه من الشدة ، وفي قوله : {وإن يشرك به} دلالة على الاستمرار ، والكلام مسوق لبيان معاندتهم للحق ومعاداتهم لتوحيده تعالى فهم يكفرون بكل ما يلوح فيه أثر التوحيد ويؤمنون بكل ما فيه سمة الشرك فهم لا يراعون لله حقا ولا يحترمون له جانبا فالله سبحانه يحرم عليهم رحمته ولا يراعي في حكمه لهم جانبا .

وبهذا المعنى يتصل قوله : {فالحكم لله العلي الكبير} بأول الآية ويتفرع عليه كأنه قيل : فإذا قطعتم عن الله بالمرة وكفرتم بكل ما يريده وآمنتم بكل ما يكرهه فهو يقطع عنكم ويحكم فيكم بما يحكم من غير أي رعاية لحالكم .

فالآية في معنى قوله : {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة : 67] ، والجملة أعني قوله : {فالحكم لله العلي الكبير} خاصة بحسب السياق وإن كانت عامة في نفسها ، وفيها تهديد ويتأكد التهديد باختتامها بالاسمين العلي الكبير .

وقوله تعالى : {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر : 13 - 17] .

احتجاج على التوحيد وإنذار بعد تقسيم الناس إلى راجع إلى الله متبع سبيله ومكذب بالآيات مجادل بالباطل .

قوله تعالى : {هو الذي يريكم آياته} إلى آخر الآية المراد بالآيات هي العلائم والحجج الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية والألوهية بدليل ما سيجيء من تفريع قوله : {فادعوا الله مخلصين له الدين} عليه ، والآيات مطلقة شاملة للآيات الكونية المشهودة في العالم لكل إنسان صحيح الإدراك والآيات التي تجري على أيدي الرسل والحجج القائمة من طريق الوحي .

والجملة مشتملة على حجة فإنه لوكان هناك إله تجب عبادته على الإنسان وكانت عبادته كمالا للإنسان وسعادة له كان من الواجب في تمام التدبير وكامل العناية أن يهدي الإنسان إليه ، والذي تدل الآيات الكونية على ربوبيته وألوهيته ويؤيد دلالتها الرسل والأنبياء بالدعوة والإتيان بالآيات هوالله سبحانه ، وأما آلهتهم الذين يدعونهم من دون الله فلا آية من قبلهم تدل على شيء فالله سبحانه هو الإله وحده لا شريك له ، وإلى هذه الحجة يشير علي (عليه السلام) بقوله فيما روي عنه : {لوكان لربك شريك لأتتك رسله} .

وقوله : {وينزل لكم من السماء رزقا} حجة أخرى على وحدانيته تعالى من جهة الرزق فإن رزق العباد من شئون الربوبية والألوهية والرزق من الله دون شركائهم فهو الرب الإله دونهم .

وقد فسروا الرزق بالمطر والسماء بجهة العلو ، ولا يبعد أن يراد بالرزق نفس الأشياء التي يرتزق بها وبنزولها من السماء بروزها من الغيب إلى الشهادة على ما يفيده قوله : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر : 21] .

وقوله : {وما يتذكر إلا من ينيب} معترضة تبين أن حصول التذكر بهذه الحجج إنما هو شأن إحدى الطائفتين المذكورتين من قبل وهم المنيبون الراجعون إلى ربهم دون المجادلين الكافرين فإن الكفر والجحود يبطل استعداد التذكر بالحجة والاتباع للحق .

قوله تعالى : {فادعوا الله مخلصين له الدين ولوكره الكافرون} الأنسب للسياق أن يكون الخطاب عاما للمؤمنين وغيرهم متفرعا على الحجة السابقة غير أنه لا يشمل الكافرين المذكورين في آخر الآية وهم المكذبون المجادلون بالباطل .

كأنه قيل : إذا كانت الآيات تدل على وحدانيته تعالى وهو الرازق فعلى غير الكافرين الذين كذبوا وجادلوا أن يدعوا الله مخلصين له الدين ، وأما الكافرون الكارهون للتوحيد فلا مطمع فيهم ولا آية تفيدهم ولا حجة تقنعهم فاعبدوه بالإخلاص ودعوا الكافرين يكرهون ذلك .

قوله تعالى : {رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} إلخ صفات ثلاث له تعالى وكل منها خبر بعد خبر للضمير في قوله : {هو الذي يريكم آياته} والآية وما بعدها مسوقة للإنذار .

وقد أورد لقوله : {رفيع الدرجات} تفاسير شتى فقيل : معناه رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة ، وقيل : رافع السماوات السبع التي منها تصعد الملائكة إلى عرشه ، وقيل : رفيع مصاعد عرشه ، وقيل : كناية عن رفعة شأنه وسلطانه .

والذي يعطيه التدبر أن الآية وما بعدها يصفان ملكه تعالى على خلقه أن له عرشا تجتمع فيه أزمة أمور الخلق ويتنزل منه الأمر متعاليا بدرجات رفيعة هي مراتب خلقه ولعلها السماوات التي وصفها في كلامه بأنها مساكن ملائكته وأن أمره يتنزل بينهن وهي التي تحجب عرشه عن الناس .

ثم إن له يوما هو يوم التلاق يرفع فيه الحجاب ما بينه وبين الناس بكشف الغطاء عن بصائرهم وطي السماوات بيمينه وإظهار عرشه لهم فينكشف لهم أنه هو المليك على كل شيء لا ملك إلا ملكه فيحكم بينهم .

فالمراد بالدرجات الدرجات التي يرتقى منها إلى عرشه ويعود قوله : {رفيع الدرجات ذو العرش} كناية استعارية عن تعالي عرش ملكه عن مستوى الخلق وغيبته واحتجابه عنهم قبل يوم القيامة بدرجات رفيعة ومراحل بعيدة .

وقوله : {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} إشارة إلى أمر الرسالة التي من شأنها الإنذار ، وتقييد الروح بقوله : {من أمره} دليل على أن المراد بها الروح التي ذكرها في قوله : {قل الروح من أمر ربي : } الإسراء : - 85 ، وهي التي تصاحب ملائكة الوحي كما يشير إليه قوله : {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا} [النحل : 2] .

فالمراد بإلقاء الروح على من يشاء تنزيلها مع ملائكة الوحي عليه ، والمراد بقوله : {من يشاء من عباده} الرسل الذين اصطفاهم الله لرسالته ، وفي معنى الروح الملقاة على النبي أقوال أخر لا يعبأ بها .

وقوله : {لينذر يوم التلاق} وهو يوم القيامة سمي به لالتقاء الخلائق فيه أو لالتقاء الخالق والمخلوق أو لالتقاء أهل السماء والأرض أو لالتقاء الظالم والمظلوم أو لالتقاء المرء وعمله ولكل من هذه الوجوه قائل .

ويمكن أن يتأيد القول الثاني بما تكرر في كلامه تعالى من حديث اللقاء كقوله : {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } [الروم : 8] ، وقوله : {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ } [هود : 29] ، وقوله : {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } [الانشقاق : 6] ومعنى اللقاء تقطع الأسباب الشاغلة وظهور أن الله هو الحق المبين وبروزهم لله .

قوله تعالى : {يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء} إلخ تفسير ليوم التلاق ، ومعنى بروزهم لله ظهور ذلك لهم وارتفاع الأسباب الوهمية التي كانت تجذبهم إلى نفسها وتحجبهم عن ربهم وتغفلهم عن إحاطة ملكه وتفرده في الحكم وتوحده في الربوبية والألوهية .

فقوله : {يوم هم بارزون} إشارة إلى ارتفاع كل سبب حاجب ، وقوله : {لا يخفى على الله منهم شيء} تفسير لمعنى بروزهم لله وتوضيح فقلوبهم وأعمالهم بعين الله وظاهرهم وباطنهم وما ذكروه وما نسوه مكشوفة غير مستورة .

وقوله : {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} سؤال وجواب من ناحيته سبحانه تبين بهما حقيقة اليوم وهي ظهور ملكه وسلطانه تعالى على الخلق على الإطلاق .

وفي توصيفه تعالى بالواحد القهار تعليل لانحصار الملك فيه لأنه إذ قهر كل شيء ملكه وتسلط عليه بسلب الاستقلال عنه وهو واحد فله الملك وحده .

قوله تعالى : {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب} الباء في {بما كسبت} للصلة والمراد بيان خصيصة اليوم وهي أن كل نفس تجزى عين ما كسبت فجزاؤها عملها ، قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [التحريم : 7] .

وقوله : {إن الله سريع الحساب} تعليل لنفي الظلم في قوله : {لا ظلم اليوم} أي إنه تعالى سريع في المحاسبة لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى حتى يخطىء فيجزي نفسا غير جزائها فيظلمها .

وهذا التعليل ناظر إلى نفي الظلم الناشئ عن الخطأ وأما الظلم عن عمد وعلم فانتفاؤه مفروغ عنه لأن الجزاء لما كان بنفس العمل لم يتصور معه ظلم .

________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص255-261 .

 

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)

 

عندما يشاهد المجرمون أوضاع يوم القيامة وأهوالها ، ويرون مشاهد الغضب الإلهي حيالهم ، سينتبهون من غفلتهم الطويلة ويفكرون بطريق للخلاص ، فيعترفون بذنوبهم ويقولون : {قالوا ربّنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل} .

عندما تزول حجب الغرور والغفلة ، وينظر الإنسان بالعين الحقيقية ، فلا سبيل عندها سوى الإعتراف بالذنوب!

إنّ هؤلاء كانوا يصرون على إنكار المعاد ، ويستهزئون بوعيد الأنبياء لهم ، ولكن بعد توالي الموت والحياة لا يبقى مجال للإنكار ، وقد يكون سبب تكرارهم للموت والحياة ، أنّهم يريدون القول : يا خالقنا الذي تملك الموت والحياة ، أنت قادر على أن تعيدنا إلى الدنيا مرةٌ اُخرى كي نعوّض ما مضى .

ذكر المفسرون عدّة تفاسير حول المقصود من قوله تعالى : (أمتنا اثنتين) و(أحيينا اثنتين) ومن بين هذه التفاسير هناك ثلاثة آراء نقف عليها فيما يلي :

أوّلا : أن يكون المقصود من (أمتنا اثنتين) هو الموت في نهاية العمر ، والموت في نهاية البرزخ . أمّا المقصود من (أحييتنا اثنتين) فهي الإحياء في نهاية البرزخ والإحياء في القيامة .

ولتوضيح لذلك ، نرى أنّ للإنسان حياة اُخرى بعد الموت تسمى الحياة البرزخية ، وهذه الحياة هي نفس حياة الشهداء التي يحكي عنها قوله تعالى : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران : 169] ، وهي نفس حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) ، حيث يسمعون سلامنا ويردون عليه .

وهي أيضاً نفس حياة الطغاة والأشقياء كالفراعنة الذين يعاقبون صباحاً ومساءً بمقتضى قوله تعالى : {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر : 46] .

ومن جانب آخر نعرف أنّ الجميع ، من الملائكة والبشر والأرواح ، ستموت في نهاية هذا العالم مع أوّل نفخة من الصور : {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر : 68] . ولا يبقى أحد سوى الذات الإلهية (بالطبع على خلاف ما أوضحناه في نهاية الآية (86) من سورة الزمر بين موت وحياة الملائكة والأرواح ، وبين موت وحياة الإنسان) .

وعلى هذا الأساس فإنّ هناك حياة جسمانية وحياة برزخية ، ففي نهاية العمر يحل الموت بحياتنا الجسمانية ; لكن في نهاية العالم يحل بحياتنا البرزخية .

يترتب على ذلك أن تكون هناك حياتان بعد هذين الموتتين : حياة برزخية ، وحياة في يوم القيامة .

وهنا قد يطرح البعض هذا السؤال : إنّنا في الواقع نملك حياة ثالثة هي حياتنا في هذه الدنيا ، وهي غير هاتين الحياتين ، وقبلها أيضاً كنّا في موت قبل أن نأتي إلى هذه الدنيا ، وبهذا سيكون لدينا ثلاث موتات وثلاثة إحياءات .

ولكن الجواب يتوضح عند التدقيق في نفس الآية ، فالموت قبل الحياة الدنيا (أي في الحالة التي كنّا فيها تراباً) يعتبر {موتاً} لا {إماتة} وأمّا الحياة في هذه الدنيا فالبرغم من أنّها مصداق للإحياء ، إلاّ أنّ القرآن لم يشر إلى هذا الجانب في الآية أعلاه ، لإنّ هذا الإحياء لا يشكّل عبرة كافية بالنسبة للكافرين ، إذ الشيء الذي جعلهم يعون ويعترفون بذنوبهم هو الحياة البرزخية أوّلا ، والحياة عند البعث ثانياً .

ثانياً : إنّ المقصود بالحياتين ، هو الإحياء في القبر لأجل بعض الأسئلة ، والإحياء في يوم القيامة ، وإنّ المقصود بالموتتين ، هما الموتة في نهاية العمر ، والموتة في القبر .

لذلك اعتبر بعض المفسّرين هذه الآية دليلا على الحياة المؤقتة في القبر .

أمّا عن كيفية حياة القبر ، وفيما إذا كانت جسمانية أو برزخية أو نصف جسمانية ، فهذه كلّها بحوث ليس هنا مجال الخوض فيها .

ثالثاً : إنّ المقصود بالموتة الأولى ، هو الموت قبل وجود الإنسان في هذه الدنيا ، إذ أنّه كان تراباً في السابق ، لذا فإنّ الحياة الأولى هي الحياة في هذه الدنيا ، والموت الثّاني هو الموت في نهاية هذا العالم ، فيما الحياة الثانية هي الحياة عند البعث .

والذين يعتقدون بهذا التّفسير يستدلون بالآية (28) من سورة (البقرة) حيث قوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة : 28] .

إلاّ أنّ الآية التي نبحثها تتحدث عن إماتتين ، في حين أنّ آية سورة البقرة تتحدّث عن حياة واحدة وإماتة واحدة(2) .

يتّضح من مجموع التفاسير الثّلاثة هذه أنّ التّفسير الأوّل هو الأرجح .

ولا بأس أن نشير إلى أنّ بعض مؤيدي (التناسخ) أرادوا الإستدلال بهذه الآية على الحياة والموت المكرّر للإنسان ، وعودة الروح إلى الأجساد الجديدة في هذه الدنيا ، في حين أنّ الآية أعلاه تعتبر إحدى الأدلة الحية على نفي التناسخ ، لأنّها تحدّد الموت والحياة في مرّتين ، إلاّ أنّ أنصار عقيدة (التناسخ) يقولون بالموت والحياة المتعدّد والمتوالي ، ويعتقدون بأنّ روح الإنسان الواحد يمكن أن تتجسّد وتحل مرأت اُخرى في أجساد جديدة ، ونطف جديدة وترجع إلى هذه الدنيا .

من الطبيعي أن يكون الجواب على طلب الكافرين بالعودة إلى هذه الدنيا للتكفير عمّا فاتهم هو الرفض . وهذا الرفض من الوضوح بحيث لم تشر إليه الآيات التي نبحثها .

لكن نستطيع أن نعتبر الآية التي بعدها دليلا على ما نقول ، إذ تقول : {ذلكم بأنّه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يُشرك به تؤمنوا} .

فعندما يدور الكلام عن التوحيد والتقوى والأوامر الحقة تشمئزون وتحزنون ، أما إذا دار الحديث عن الكفر والنفاق والشرك فستفرحون وتنبسط أساريركم ، لذلك ستكون عاقبتكم ما رأيتم .

وهنا نطرح هذا السؤال : كيف نربط هذا الجواب مع طلبهم العودة إلى هذه الدنيا؟

إنّ الآية تفيد أنّ حقيقة أعمال هؤلاء لم تكن محدودة بزمن معين ، ولم تكن مؤقتة ، بل كانت دائمية ، لذلك فلو عادوا إلى الحياة مرّة اُخرى فإنهم سيستمرون على هذا الوضع ، أمّا هذا الإيمان والتسليم والإذعان الذي رأيناه منهم يوم القيامة ، فهو اضطراري وليس عن قناعة حقيقية .

ثمّ إنّ اعتقادات هؤلاء وأعمالهم ونياتهم السابقة تستوجب خلودهم في الجحيم ، لذا فلا يمكن عودة هؤلاء إلى الدنيا مع هذا الوضع .

وهذا الوضع يختص بالأفراد الذين تجذّر الكفر والشر والذنب في أعماقهم ، وهؤلاء هم الذين يصفهم القرآن بأنّ نفوسهم تشمئز عند ذكر الله تعالى وحده ، ويفرحون عند ذكر الأصنام : {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر : 45] .

إنّ هذا الوصف لا يختص بالمشركين في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب ، إذ يشهد زماننا مثل هؤلاء من ذوي القلوب الميتة ، الذين يفرون من الإيمان والتوحيد والتقوى ، ويقبلون على الكفر والنفاق والفساد .

لذلك نقرأ في بعض الروايات عن أهل البيت(عليهم السلام) ، في تفسير هذه الآية ، أنّها تختص بقضية (الولاية) إذ يتأذى البعض عند سماعها (أي الولاية) ويفرحون عند سماع أسماء أعداء أهل البيت(عليهم السلام) هذا التّفسير هومن باب انطباق المفهوم ، العام على المصداق ، وليس من باب تقييد كلّ المفهوم الذي تطوية الآية بهذا المصداق) .

وفي نهاية الآية ، ومن أجل أن لا ييأس هؤلاء المشركون ذوو القلوب المظلمة ، تقول الآية إنّ الحاكمية تختص بذات الله سبحانه وتعالى : (فالحكم لله العلي الكبير) إذ لا يوجد غيره قاض وحاكم في محكمة الآخرة ، ولا يوجد غيره على وكبير ، فلا يستطيع أحد أن يغلبه أو أن يؤثّر عليه أو على حكمه بفدية أو غرامة أو وساطه ، فالحاكم المطلق هو ، والجميع يطيعونه ، ولا يوجد طريق للهرب من حكمه .

وقوله تعالى : {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر : 13 - 15] .

 

ادع الله وحده رغماً على الكافرين :

هذه الآيات المتضمنة للنصيحة والتهديد والإنذار استدلال على المسائل المطروحة في الآيات السابقة ، فهي استدلال على التوحيد والرّبوبية ونفي الشرك وعبادة الأصنام .

تقول الآية أوّلا : {هو الذي يريكم آياته} .

فهي نفس الآيات والعلائم الآفاقية والأنفسية التي تملأ عالم الوجود ، وتستوعب بإشراقتها أركانه ، وتضع بصماتها وآثارها العجيبة على جدران الوجود وجميع أرجاءه .

ثم توضح واحدة من هذه الآيات : {وينزل لكم من السماء رزقاً} .

قطرات المطر تعطي الحياة ، ونور الشمس يحيي الكائنات ، والهواء سرّ الوجود والحياة ; حياة جميع الكائنات ، حيوانات نباتات ، أناس . . . كلّها تنزل من السماء . وتشكّل هذه الأثافي الثلاث فيما بينها قوام الحياة ، حيث تتفرع الأشياء الأُخرى من أصولها .

بعض المفسّرين أطلق على السماء اسم (عالم الغيب) وعلى الأرض اسم (عالم الشهود) ونزول الرزق من السماء إلى الأرض هو بمعنى الظهور من عالم الغيب إلى عالم الشهود .

ولكن هذا التّفسير فضلا عن منافاته لظاهر الآية ، لم نعثر له على دليل وشاهد ، صحيح أنّ الوحي والآيات ، هما غذاء الروح ، ينزلان من سماء الغيب ، وأنّ المطر والشمس والنور التي تعتبر غذاء الجسد تنزل من السماء الظاهرية ، وهما متناسقان مع بعضهما . ولكن ينبغي أن لا نتصوّر أن عبارة (آياته) التي نحن بصددها تشير إلى مفهوم أوسع ، أو تشير بالخصوص إلى الآيات التشريعية ، لأنّ عبارة (يريكم آياته) وردت مراراً في القرآن الكريم ، وهي عادةً ما تطلق على الآيات الدالة على التوحيد في عالم الوجود .

مثلا ، في أواخر هذه السورة (المؤمن) وبعد ذكر النعم الإلهية ، من قبيل الزواحف والفلك تقول : { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} [غافر : 81] .

إنّ تعبير {يريكم} ينسجم في العادة مع الآيات التكوينية ، بينما جرت العادة في الآيات التشريعية على استخدام تعابير مثل (أوحى) و(يأتيكم) .

من هنا يتبيّن أنّ اعتبار هذه الآيات بمعنى الآيات التشريعية ، وأنّها أعم من التشريعية والتكوينية ، كما يذهب بعض كبار المفسّرين القدماء والمحدثين إلى ذلك ، لا يستند إلى دليل ، ولا تقوم عليه حجّة .

ولكن من الضروري أن نلتفت إلى أنّ القرآن يختار الإشارة إلى آية الرزق من بين آيات الله المبثوثة في السماء والأرض وفي وجود الإنسان ، ذلك لأنّ الرزق هو أكثر ما يشغل البال والفكر ، واحياناً نرى الإنسان يستنجد بالأصنام من أجل زيادة الرزق ، وإنقاذه من وضعه المتردي ، لذا يأتي القرآن ليؤّكد أن جميع الأرزاق هي بيد الله ولا تستطيع الأصنام أو غيرها أن تفعل أي شيء .

وأخيراً تضيف الآية الكريمة : برغم جميع هذه الآيات البينات التي تسود هذا العالم الواسع ، وتغمد الوجود بضيائها ، إلاّ أنّ العيون العمياء والقلوب المحجوبة لا تكاد ترى شيئاً ، وإنّما يتذكر ـ فقط ـ من ينيب إلى خالقه ويغسل قلبه وروحه من الذنوب : {وما يتذكر إلاّ من ينيب} .

الآية التي بعدها ترتب نتيجة على ما سبق فتقول : (فادعوا الله مخلصين له الدين) إنهضوا واضربوا الأصنام وحطموها بفؤوس الإيمان ، وامحوا آثارها من ذاكرة الفكر والثقافة والمجتمع .

ومن الطبيعي أنّ وقفتكم الرّبانية هذه ستؤذي الكافرين والمعاندين ، لكن عليكم أن لا تسمحوا للخوف أن يتسرّب الى قلوبكم ، أخلصوا نيّاتكم : {ولوكره الكافرون} .

ففي المجتمع الذي يشكل فيه عبدة الأصنام الغالبية ، يكون طريق أهل التوحيد موحشاً في باديء الأمر ، مثل شروق الشمس في بدايات الصباح الأولى وسط عالم الظلام والخفافيش ، لكن عليكم أن لا تركنوا إلى ردود الأفعال غير المدروسة ، تقدموا بحزم وإصرار ، وارفعوا راية التوحيد والإخلاص ، وانشروها في كلّ مكان .

تصف الآية التي تليها خالق الكون ومالك الحياة والموت ، بعض الصفات المهمّة ، فتقول : (رفيع الدرجات) فهو تعالى يرفع درجات العباد الصالحين كما في قوله تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة : 11] .

وحتى بين النّبيين فقد فضّل الله بعضهم على بعض بسبب اجتيازهم للإمتحان والإختبار أكثر من غيرهم ، فأخلصوا لله تعالى بمراتب أعلى وأفضل : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة : 253] .

لقد استخلف الله الإنسان في هذه الأرض ، وجعل منه خليفته ، وفضّل البعض على البعض الآخر وفقاً لاختلاف الخصائص والقابليات لدى الإنسان : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام : 165] .

فإذا كانت الآية السابقة قد دعت إلى الإخلاص في الدين ، فإنّ الآية التي بين أيدينا تقول : إنّ الله تبارك وتعالى سوف يرفع درجاتكم بمقدار إخلاصكم ، فهو رفيع الدرجات .

إنّ صحة كلّ هذه المعاني منوطة بتفسير (رفيع) بالرافع ، إلاّ أنّ البعض ذهب إلى أنّ (رفيع) في الآية بمعنى (المرتفع) وبناء على هذا المعنى فإنّ (رفيع الدرجات) تشير إلى الصفات العالية الرفيعة لله تعالى ، فهو رفيع في علمه ، وفي قدرته ، وفي جميع أوصافه الكمالية والجمالية ، هو تعالى رفيع في أوصافه بحيث أنّ عقل الإنسان برغم قابليته واستعداده لا يستطيع أن يدركها .

وبحكم أنّ اللغة تعطي صلاحية متساوية للمعنيين الآنفين لكمة (رفيع) فإنّ التّفسيرين واردان ، ولكن لأنّ الآية تتحدث عن إعطاء الأجر لعباد الله الصالحين ، والذي هو الدرجات الرفيعة ، لذا فإنّ المعنى الأوّل أظهر .

لكن لا مانع من الجمع بين التّفسيرين ، لأننا نعتقد جواز استخدام اللفظ لأكثر من معنى ، خصوصاً في إطار الآيات التي تشتمل ألفاظها على معاني كبيرة وواسعة .

تضيف الآية بعد ذلك قوله تعالى : (ذو العرش) .

فكل عالم الوجود تحت حكومته وفي قبضته ، ولا منازع له في حكومته ، وهذا بحد ذاته ذليل على أنّ تحديد درجات العباد حسب أفضليتهم إنّما يتمّ بقدرته تعالى .

وبما إنّنا تحدثنا بالتفصيل عن {العرش} فلا حاجة هنا للتكرار .

وفي وصف ثالث تضيف الآية أنّه هو تعالى الذي : {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} وهذه الروح هي نفس القرآن ومقام النبوّة والوحي ، حيث تحيي هذه الأُمور القلوب ، وتكون في الانسان كالروح بالنسبة لجسد الإنسان .

إنّ قدرته من جانب ، ودرجاته الرفيعة من جانب آخر ، تقتضي أن يعلن عزّوجلّ عن برنامجه وتكاليفه عن طريق الوحي ، وهل ثمّة تعبير أجمل من الروح ، هذه الروح التي هي سرّ الحياة والحركة والنشاط والتقدم .

لقد ذكر المفسّرون احتمالات متعدّدة لمعنى الروح ، لكن من خلال القرائن الموجودة في الآية ، وممّا تفيده الآية (2) من سورة (النحل) التي تقول : {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل : 2] وكذلك ممّا تفيده آية (52) من سورة (الشورى) التي تخاطب الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضح له نزول القرآن والإيمان والروح بقوله تعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى : 52] من كلّ ذلك يتبيّن أنّ المقصود بالروح في الآية التي نحن بصددها ، هو الوحي والقرآن والتكليف الإلهي .

تفيد عبارة (من أمره) أنّ ملك الوحي المكلّف بإبلاغ هذه الروح ، إنّما يتحدث ويتكلّم بأمر الله لا من عند نفسه .

أمّا قوله تعالى : {على من يشاء من عباده} فلا تعني أنّ هبة الوحي تعطى لأي كان ، لأن مشيئته تعالى هي عين حكمته ، وكل من يجده مؤهلا لهذا المنصب يخصه بهذا الأمر ، كما نقرأ في الآية (124) من سورة الأنعام حيث قوله تعالى : {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام : 124] .

وعندما نجد بعض الرّوايات المروية عن أهل البيت(عليهم السلام) تُفسّر الروح في الآية أعلاه بـ {روح القدس} وتخصّها بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين من أهل البيت(عليهم السلام) ، فإنّ ذلك لا يتعارض مع ما قلناه ، لأنّ (روح القدس) هي نفس الروح العلوية المقدسة والمنصب المعنوي العظيم الذي يتجسّد كاملا في الأنبياء والأئمّة المعصومين(عليهم السلام) ، وكثيراً ما يتجلّى جزء منها في الأشخاص الآخرين الذي متى ما ساعدتهم فيوضات روح القدس فإنّه سيقومون بأعمال مهمّة ، وتنطق لسانهم بالحكمة . (لمزيد من التوضيح يمكن مراجعة تفسير الآية 87 من سورة البقرة) .

والملفت للنظر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن رزق الأجساد من مطر ونور وهواء ، فيما تتحدث هذه الآيات عن الرزق {الروحي} والمعنوي المتمثل في نزول الوحي .

والآن لنرى ما هو الهدف من إنزال روح القدس على الأنبياء(عليهم السلام) ، ولماذا يسلك الأنبياء هذه الطرق الطويلة المليئة بالعقبات والصعاب .

الإجابة يقدمها القرآن في نهاية الآية بقوله : (لينذر يوم التلاق) .

أنّه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بخالقهم . . .

إنّه اليوم الذي يلتقي فيه السابقون باللاحقين . . .

إنّه اليوم الذي يجمع على ساحة القيامة بين رموز الحق وقادته ، ورموز الباطل وزعامته وأنصاره . . .

إنّه يوم لقاء المستضعفين بالمستكبرين . . .

إنّه يوم التقاء الظالم والمظلوم . . .

هو يوم التقاء الإنسان والملائكة . . .

وأخيراً ، يوم التلاق ، هو يوم التقاء الإنسان مع أعماله وأقواله في محكمة العدل الإلهي .

إذاً ، هدف بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية هو تحذير الإنسان من يوم التلاقي الكبير . . . إنّه لاسم عجيب (يوم التلاق) الذي انتخبته الآية اسماً ليوم القيامة!

وقوله تعالى : {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [غافر : 16-17]

 

يوم التلاقي !

هذه الآيات والتي تليها ، هي توضيح وتفسير (ليوم التلاق) وهو اسم ليوم القيامة .

في هاتين الآيتين تمّ ذكر بعض خصوصيات القيامة وكلّ واحدة أكثر إثارة من الأُخرى .

يبيّن تعالى أن يوم التلاقي ، هو : (يوم هم بارزون) . . . إنّه اليوم الذي تزول فيه جميع الحجب والأستار ، وكتوطئة له ستزول الموانع المادية كالجبال الراسيات مثلا ، وتصبح الأرض (قاعاً صفصفاً) كما يصفها القرآن في الآية (106) من سورة طه) .

ومن جانب آخر سيخرج الناس من قبورهم ، ثمّ تنكشف الأسرار الباطنية والمخفية : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق : 9] .

ويوم تخرج الأرض ما تطويه في بطونها : {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة : 2] .

ويوم تنشر صحف الأعمال وينكشف محتواها : {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير : 10] .

في يوم التلاق تتجسّد الأعمال التي اقترفها الإنسان وتبدو حاضرة أمامه : {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ : 40] .

وفي ذلك اليوم تنكشف الأسرار التي كان يطويها الإنسان بداخله ويتكتم عليها : {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ } [الأنعام : 28] .

وفي ذلك اليوم المهول ستشهد الأعضاء على أعمال الإنسان ، وستشهد ـ أيضاًـ الأرض وتكشف ما ارتكب عليها : {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة : 4] .

في ذلك اليوم سيطوى الكون ، وسيظهر الإنسان بكل وجوده ، ويبرز الكون وما عليه ، ولا تبقى من خافية : {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا} [إبراهيم : 21] .

إنّهُ منظر مهول ومشهد موحش !!

وَيكفينا لتصور هول ذلك اليوم نتخيّل . . . ولو للحظة واحدة . . . منظر هَذِهِ الدنيا وقد حلّت بها شرائط القيامة؟ لنرى أيّ فزع سينتاب البشرية وتحل بها! وكيف تتقطع العلائق والروابط في ذلك اليوم لذلك على الإنسان أن يستعد ، وأن يعيش بشكل لا يخشى فيه انكشاف المستور من أوضاعه ، وأن تكون أعماله وأفعاله بحيث لا يقلق منها لو ظهرت وانكشفت أمام الملأ .

الوصف الثّاني لذلك اليوم المهول ، هو انكشاف أمر الناس بحيث لا يخفى شيء منها على الله تعالى : {لا يخفى على الله منهم شيء} .

بالطبع . . . في هذه الحياة لا يخفى من أمر الإنسان شيء على الله العالم المطلق ، إذ يتساوى لذى ذاته المطلقة غير المتناهية المخفي والظاهر ، والشاهد والغائب . فلماذاـ إذاًـ ذكر القرآن الجملة أعلاه على أنّها تفسير لجملة (يوم هم بارزون) ؟

إن سبب ذلك يعود إلى أنّ (البروز) في ذلك اليوم يكون مؤكّداً أكثر ، بحيث أنّ الآخرين سيطّلعون على أسرار بعضهم البعض . أمّا بالنسبة لله فالمسألة لا تحتاج إلى بحث أو كلام .

الخصوصية الثّالثة ليوم التلاقي هو انبساط الحاكمية المطلقة لله تعالى ، ويظهر ذلك من خلال نفس الآية التي تسأل عن الحكم والملك في ذلك اليوم : (لمن الملك اليوم) ؟

يأتي الجواب : (لله الواحد القهار) .

مَن الذي يطرح السؤال ، ومَن الذي يجيب عليه ؟

الآية لا تتحدّث عن ذلك ، والتفاسير مختلفة في هذا الصدد .

ذهب البعض الى أنّ السؤال يطرح من قبل الله جلّ وعلا ، أمّا الجواب فيأتي من الجميع ، مؤمنين وكافرين (3) .

وذهب آخرون الى أن السؤال والجواب كلاهما من قبل الخالق عزّوجلّ (4) .

قسم ثالث يعتقد أنّ (المنادي الإلهي) هو الذي يطرح السؤال ، وهو الذي يجيب عليه .

ولكن يبدو من الظاهر أنّ هذا السؤال وجوابه لا يطرحان من قبل فرد معين ، بل هو سؤال يطرحه الخالق والمخلوق ، الملائكة والإنسان ، المؤمن والكافر ، تطرحه جميع ذرات الوجود ، وكلّهم يجيبون عليه بلسان حالهم ، بمعنى أنّك أينما تنظر تشاهد آثار حاكميته ، وأينما تدقق ترى علائم قاهريته واضحه .

فلو أصحت السمع إلى أي ذرة من ذرات الوجود ، لسمعتها تقول : (لمن الملك) وفي الجواب تسمعها نفسها تقول : (لله الواحد القهّار) .

وقد نرى في هذه الدنيا نموذجاً مصغراً لذلك ، فعندما ندخل إلى بيت أو مدينة أو بلد معين ، فإنّنا نحس بقدرة شخص معين ، وبانبساط حاكميته ، وكأنّ الجميع يقولون ـ كلّ بلسان حاله ـ : إنّ المالك أو الحاكم هو فلان ، وتشهد على ذلك حتى الجدران !!

وبالطبع ، في هذا اليوم أيضاً تطغى الحاكمية الإلهية على كلّ شيء ، وتبسط قدرتها في كلّ الأرجاء ، لكن في يوم القيامة سيكون لها ظهور وبروز من نوع جديد ، فهناك لا يوجد كلام عن حكومة الجبارين ، ولا نسمع ضجيج الطواغيت السكارى ، ولا نرى أثراً لإبليس وجنوده وجيوشه من الإنس والجن .

الخصوصية الرابعة لذلك اليوم ، هو كونه يوم جزاء : {اليوم تجزى كلّ نفس بما كسبت} . أجل ، إن ظهور وبروز الاحاطة العلمية لله تعالى وحاكميته ومالكيته وقهاريته كلها أدلة واضحة على هذه الحقيقة العظيمة المخيفة من جهة ، والمفرحة من جهة اُخرى .

أمّا الخصوصية الخامسة لذلك اليوم ، فهي ما يختصره قوله تعالى : (لا ظلم اليوم) .

وكيف يمكن أن يحصل الظلم ، في حين أن الظلم إمّا أن يكون عن جهل ، والله عزوجل قد أحاط بكل شيء علماً .

وإمّا أن يكون عن عجز ، والله عزوجل هو القاهر والمالك والحاكم على شيء ، لذا لا مجال لظلم أحد في محضر القدس الإلهي وفي ساحة القضاء الإلهي العادل .

الصفة السادسة والأخيرة ليوم التلاقي ، هي سرعة الحساب لأعمال العباد ، كما نقرأ ذلك في قوله تعالى : {إنّ الله سريع الحساب} .

وسرعة الحساب بالنسبة لله تعالى تجري كلمح البصر ، وهي بدرجة بحيث نقرأ عنها في حديث : (إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر) (5) .

وأساساً فإنّه مع القبول بمسألة تجسّم الاعمال وبقاء آثار الخير والشر فإن مسألة الحساب مسألة محلولة؟ فهل أنّ الأجهزة المتطورة في هذه الدنيا التي تحسب مقدار العمل في اثناء العمل بجاجة الى زمان ؟!

وقد يكون الغرض من تكرار (سريع الحساب) في مواضع مختلفة من القرآن الكريم هوعدم انخداع الناس العاديين بوساوس الشيطان وإغوائاته ، ومن يتبعه من الذين يثيرون الشكوك بإمكانية محاسبة الخلائق على أعمالهم التي قاموا بها خلال آلاف سحيقة من السنين وعصور التأريخ .

إضافة إلى أنّ هذا التعبير يستبطن معنى التحذير لجميع الناس بأنّ ذلك اليوم لا مجال فيه للمجرمين والظالمين والقتلة ، ولا تعطى لهم الفرصة كما يحصل في هذه الدنيا ، حيث يترك ملف الظلمة والقتلة لشهور وسنين .

_______________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12 ، ص36-49 .

2 ـ احتمل بعض المفسّرين أنّ الآية أعلاه تشير إلى {الرجعة} إلاّ أنّ مراعاة عمومية الآية وشمولها جميع الكافرين ، وعدم ثبوت عمومية الرجعة لهم جميعاً ، يجعل هذا التّفسير قابلا للنقاش .

3 ـ مجمع البيان ، أثناء تفسير الآية .

4 ـ الميزان : ذيل الآية مورد البحث .

5 ـ في مجمع البيان ، نهاية الحديث عن الآية (202) من سورة البقرة .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .